يكشف الباحث الجزائري هنا عن مدى تهالك البنية السردية في رواية أحلام مستغانمي ونسجها لشبكة من أوهام السرد التي توقع القارئ في شراكها، دون أن تقدم له ما يقيم أود التوقعات التي أثارتها سواء على مستوى مقارعتها للمحرمات السائدة من جنس ودين وسياسة أو في رسمها للشخصيات.

أوشام الجسد .. وأوهام السرد

عند أحلام مستغانمي

محمد الأمين بحري

بشيء من النظر الموضوعي في محتوى الخطاب المستغانمي، لن يكون من المفاجئ للقارئ العربي، وقارئ أحلام مستغانمي على وجه الخصوص، القول بأن الروائية لم تشتغل على تيمة الجسد في روايتها سوى على مستوى العتبات (العناوين وخاصة روايتها الأولى)، ليكون ذلك الوسم بمثابة الوشم الخارجي الذي يوهم بخطاب بليغ على السطح الذي يقف على مسافة بينة من خطاب المضمون النصي الذي يبدو منشغلاً بمسائل/ بتيمات متعالية أخرى، فكانت هذه الحركة الفنية أولى مراوغة انطلت على فئة واسعة من القراء بدهاء روائي غالط المأخوذين بصدمة العنوان والمنتشين بشعرية اللغة، لكنه لم ينطل على بعض المحققين الناظرين في مكونات الخطاب ومساراته (إذ أخبرني مترجم رواية ذاكرة الجسد إلى الإيطالية [فرانشيسكو لوجيو] على هامش أحد الملتقيات العربية للرواية، بأنه تعرض للإحراج بسبب ترجمة رواية تحمل في عنوانها لفظة جسد لكنها لا تشتغل عليه في متناها كرهان أولوي). ولم تشتغل على الدين إلا  بشكل مظهري فضفاض، ولم تتحدث عن السياسة إلا بالأقنعة وفي زوايا قليلة ومعتمة. مما جعل ثالوثها المحرم [الدين والسياسة والجنس] الذي ذكرته في الصفحة [400] من ذاكرة الجسد، ثالوثاً ثانوياً ، بل وهمياً مقارنة بثالوث [ذاكرة التاريخ- الهوية-الوطن] الذي بدا أكثر بلاغة و مركزية.

1. الثالوث الفعلي والثالوث الوهمي:
في تأثيث معمارها السردي اشتغلت أحلام مستغانمي على ثالوثين متوازيين من التيمات السردية تم حبكهما على نحو متفاوت التركيز: الثالوث الأول وهو ثالوث مركزي: [الذاكرة- الرمز التاريخي-الوطن] وقد حظي بهذه المكانة المركزية نظراً لما أحاطته به الذات الكاتبة من تقديس مفرط لا حياد فيه. والثالوث الثاني هو ثالوث وهمي: [الدين- السياسة -الجنس] حيث أوهمت الروائية قراءها بأنه ديدنها في الثلاثية بداية من العنوان وانتهاءً بهذه الفقرة الشعرية: "سلاماً أيتها المدينة التي تعيش مغلقة وسط ثالوثها المحرم (الدين -الجنس- السياسة)" (ذاكرة الجسد ص400).

غير أن الاشتغال السردي لم يكن يرتكز إلا على الثالوث الأول الذي تم الاشتغال عليه بتركيز مضاعف في كل جزء من الثلاثية. دون الثالوث الثاني الذي ربما أدركت الروائية هشاشته وقلة شأنه فآثرت أن تخصه بهذه الإشارات في العتبة الأولى (العنوان) وفي الأنفاس الأخيرة لرواية (ذاكرة الجسد)، حيث تذكره بصورة مباشرة. مما أوهم الكثير من القراء بأنه مكرس وما هو بالمكرس إلا وهماً. وبقدر ما يعتبر هذا عيباً في تكريس ما ليس مكرساً، بقدر ما يحسب للروائية مكراً مبدعاً بترشيحه اللفظي دون توظيفه البنائي..

2. في معيار خطاب الجسد:
وتبدو المسافة باهظة إذا ما قيست فاعلية تيمة الجسد عند أحلام مع مواطنيها بوجدرة أو أمين الزاوي أو حتى فضيلة الفاروق، أو عربياً لدى سلوى النعيمي (سوريا) أو مسعودة بوبكر (تونس) أو لينة كريدية (لبنان). بل إن المقارنة تبدو باطلة بينها وبين هؤلاء، نظراً لضمور الجسد المستغانمي في حضرة بروزه الطاغي وتعدد أصوات خطابه المتمرد في نصوص من ذكرنا من روائيين جزائريين وعرب. وغير خفي تميز الجسد المستغانمي بالعفة والطهر والأصالة، أكثر منه بالدنس والشهوانية الجسدية (le charnel) التي تسم الروايات الإحساسية التي تخاطب قارئها بتيمة الجسد، عبر مختلف أشكال انفلاتاتها عن أطواق الحظر الاجتماعي والعقدي، وهو مسار عريق في الرواية العالمية والعربية. وقد تكشف مقارنة غير متكافئة كهذه عن عدم مراهنة الكاتبة على هذه التيمة التي على الرغم من هامشيتها وضآلتها عملياً، إلا أن الكثير ما زال يلصقها بأعمالها جزافاً، مأخوذين ببلاغة العتبات النصية لرواياتها.

3. البديل الأهوائي للوهن البنائي:
عمدت الروائية إلى فكرة الترميز بالجسد كوشم خارجي لرواياتها، إيهاما بالشهوانية الغائبة، فوقعت على بديل أخف وطءاً حين نزعت إلى بلورة مشاهد (محتشمة) للحب (مع تبئير كلمة حب في رواياتها بمعدل تكراري شاهق قد يعوض الخصاص الشبقي للجسد المضمر)، غير أنها لم تصنع ذواتاً تمثيلية قادرة على أداء لعبة الحب في غياب فاعلية الجسد، لذلك فإن الخطاب بكل فواعله وعناصره قد آل إلى مستوى ثالث أقل قيمة إحساسية من الشهوانية، وجنون الحب، وهو ما أطلق عليه الناقد السيميائي "جاك فونتاني- Jacques fontanille"  تسمية الأريج الخطابي "le sentueur discursif". الذي يتغنى لفظياً بالأهواء والشهوانية الجسدية في تعابيره دون أن يحققها خطابياً أو يشغّلها بنائياً في النص، كالتغني بالحب على مستوى العبارة، دون أن تغذيه تحفيزاته تبلغ به مصاف الإثارة. ليبقى دائراً في مستوى بلاغة شعرية "تبتعد عن شر (الحب والجسد) وتغني له".

4. استلاب الجسد/ استلاب البطل:
لعل ما فاقم من ضمور خطاب الجسد عند أحلام مستغانمي هو طريقة بنائها للشخصيات. وأقصد هنا البناء الداخلي. ويتضح ذلك مع أول أبطالها خالد بن طوبال الذي (وبالنظر إلى خطاب أهوائه) لم يحمل أيٍ من سمات الرجولة المفترضة، في الفكر والرأي والجسد، والحزم في الرأي والقوة في العلاقة العاطفية التي لا شذوذ فيها ولا ثورة ولا تمرد، بل على العكس تماماً لم يبد رجلاً إلا في شكله ولباسه، بينما كان في تركيبته الذهنية والنفسية والعاطفية امرأة بأنوثة جلية، إذ تميز ذوقه الفني بالسلاسة والخنوع، ووظيفته السردية بالسلبية والاستكانة، وعلاقاته العاطفية بالنكوص والتردد الأنثوي، إذ بدا في كل حركاته وحواراته كثير التردد والتوجس، وغزير التساؤلات الباطنية وجس النبض قبل مخاطبة أو مكالمة محبوبته بكلمة ما فتئ يحسب لها ألف حساب، ويضع لها عالي الهواجس والاحتمالات. وحين يفشل تراه يركن مستسلماً إلى قارورة الشراب أو المرسم الوديع؟ دون أن يظهر جنونه أو ثورته أو تطفح بلواه الرجالية على امتداد كل روايات أحلام. ولا أعتقد من وجهة نظر سيكولوجية بأن باطن خالد بن طوبال الأنثوي لم يكن نموذجاً لأي شخصية أخرى سوى أحلام مستغانمي نفسها.

ومع أن الشخصية السلبية هي بنية سردية قائمة بذاتها وتفرض وجودها الفني على نطاق واسع في مختلف الروايات العربية والعالمية إلا أن سمات كهذه لا يمكن أن تبني نموذجاً لـلجولة، و بالأخص (الرجل العربي، مهما بلغت ضآلة رجولته) وهو الوصف الذي تطلقه الروائية (بكل مفارقة) على شخصياتها الرجالية التي لا أثر لمفهوم الرجولة فيها، وقد تكون هذه رؤية مشروعة للعالم من طرف الكاتبة، بإنزالها لمؤشر الرجل قيمة و فكراً في استراتيجيتها السردية.

 

ناقد و أكاديمي جزائري.