يسلط البحث التونسي الضوء في هذا المقال على ظاهرة التقاطع بين التاريخي والمتخيل في الرواية العربية من خلال رواية (اخطية) للكاتب الفلسطيني إيميل حبيبي. ويسعى فيه لفهم النزعة التوثيقية التي تميز أعمال هذا الكاتب. وإلى التوقف عند مختلف العناصر المكونة لروايته تلك من الشخصيات، إلى الفضاء والزمان.

مظاهر التوثيق في رواية «إخطيّة» لإيميل حبيبي

مجد بن رمضان

تمهيد
لطالما استبعد الفنّ من دائرة الحقيقة واعتبر مجرّد نشاط لا يهدف إلى غير المتعة الحسيّة باعتباره خاليا من ضروب المنطق. ولأنّ الحقيقة لا يمكن استيفاؤها إلاّ من التصّور العلمي الخاضع لضوابط المنهج الصارم.(1) «فالأعمال الأدبيّة كغيرها من الفنون لا يمكنها إنتاج الحقيقة أو على نحو أدقّ نقلها، لأنّها تقع في دائرة العلوم الإنسانيّة وهذه الأخيرة لا ترتقي إلى مستوى الصرامة المنهجيّة على النحو الذي بلغته العلوم التجريبيّة. فالأدب باعتباره فنّا يمكن فقط معالجته عن طريق حكم الذوق»(2)، وهو حسب كانط شعور فردي لا واعي لا يمكن بالتالي تعميمه لينتج قاعدة عامّة. وقد تأثّرت مدارس النقد الأدبي الحديثة بهذا الموقف ووجّهت عنايتها إلى الشكل غير آخذة في الاعتبار ما يمكن أن يحيل عليه النصّ من حقائق.

غير أنّ الفلسفة الظاهرتيّة (الفينومينولوجيا)، قد أعادت الفنّ إلى دائرة الحقيقة خاصّة "مع هانس جيورج غادامير" في كتابه (الحقيقة والمنهج) الذي اعتبر العمل الأدبي والفنّي عموما متاحا له أن ينقل الحقيقة. خاصّة وأنّ "هيدغير" من قبله اعتبر الفنّ-مهما بلغ درجة قصوى من الخيال- يبقى تعبيرا عن تجربة وجوديّة خالصة(3). فالعمل الفنّي هو الذي يجعل المبدع يبرز باعتباره فنّانا وهو كائن تاريخيّ له وجوده الفعلي، وكذا العمل الفنّي يستمدّ وجوده من الذّات المبدعة في ظرف تاريخي محدّد. من هنا، فكلاهما يعبّر عن الآخر، وجودهما مرهون بوسيط آخر هو مادّة العمل الفنّي (اللّغة في العمل الأدبي) وهي سابقة عن وجودهما وهي ملكة ليست خاصّة بالفنّان أو العمل الفنيّ فقط، بقدر ما هي ملكة جماعيّة مع باقي أفراد المجتمع الذي أنتج فيه العمل الأدبي. فالعمل الفنّي عموما، "يتشكّل من خلال أشياء العالم مثل الأحجار أو الألوان أو الأنغام أو اللّغة"(4) في حالة العمل الأدبي. وبالتالي صار سؤال الحقيقة في النصّ الروائي أمرا مشروعا. لكنّه سؤال إشكاليّ، يترتّب عنه عدّة تساؤلات. من قبيل، كيف نقارب هذه الحقيقة؟ كيف يمكن التوصّل إليها؟  وما هي الوسائط الدّالة عليها؟ هل يمكن لنصّ روائي مثل رواية "إخطيّة" لـ"إميل حبيبي"  أن يعطينا حقيقة تاريخيّة ما؟ هل تكمن الحقيقة التاريخيّة في النصّ ذاته في الخطاب والحكاية؟ أم في ما هو خارج عن النصّ؟

1)) الرّواية والتاريخ:
لطالما ارتبطت قراءة النصّ الروائي بغايات شتّى لا تقف عند حدود اكتشاف القيمة الجماليّة للنصّ، أو استنباط قصد المبدع من خلال ما كتبه. فقد يباشر المتقبّل النصّ وفي ذهنه أسئلة متعدّدة، تبحث عن حقيقة ما تقولها الرواية. ولعلّ أهمّ ما في ذلك الحقيقة التاريخيّة، أي في مدى ارتباط الملفوظ القصصي بوقائع ما حصلت في الماضي، وقام مؤلّف مثل إميل حبيبي بتحويلها إلى نصّ إبداعي أو استلهم منها ليكتب رواية. فالأدب، كما يراه رولان بارت «ليس مفهوما مفارقا للزمن، بل هو واقع ضمنه متحوّل وفق تحوّلات الحركة الاجتماعيّة. بمعنى أنّ الأدب مشروط بجملة من الممارسات في مجتمع معيّن».(5) فنصّ "إخطيّة" مهما بلغ درجة من الخيال يبقى ملازما "للواقع" في نواحي شتّى. (ونقصد "بالواقع" «الشيء الذي كان ملحوظا للشهود في الماضي»(6). والتاريخ أيضا لا يبتعد كثيرا عن الأدب فهو يعتمد على التنظيم العقلاني للسرد الذي يمنحه التوازن المنطقي. وبالتالي فلا يزيد عن الأدب أكثر من كونه مغامرة محكمة البناء. لذلك يمكن دراسته النصّ الروائي كما تدرس الوثيقة التاريخيّة.

لكن من الواضح أنّ «الهوّة بين الماضي الواقعي (التاريخ) والقصص غير الواقعي، هوّة سحيقة لا تردم»(7) خاصّة بعد أن أقرّت"البنيويّة" بأنّ النصّ الأدبي بما هو ملفوظ ينتمي إلى عالم المتخيّل، فهو يؤّل باعتباره منقطع المرجع لا يحيل إلاّ على ذاته «غير أنّ البحث الحميم لا يمكنه أن يكتفي بالبقاء عند الثنائيّة المبدئيّة بين الواقعي واللّا واقعي».(8) فالبحث في ثنايا النصّ يمكن أن يدلّنا على جزئيّات كثيرة نستطيع من خلالها الولوج إلى التاريخ. خاصّة وأنّ "بول ريكور" قد كشف عن جوانب كثيرة تربط السرد القصصي بالسرد التاريخي، وارتباط كلّ منهما -أي القصص والتاريخ- بالآخر. مما يجعل التاريخ حاضرا في القصص، والقصص حاضرا في التاريخ. فالبحث الدقيق في خطاب النصّ الأدبي يمكن أن يدلّنا على ممارسات مجتمع ما وعاداته في فترة تاريخيّة مضت. ولكن كيف السبيل إلى ذلك وواقع الحال أنّنا إزاء ملفوظ روائي يعسر فيه الفصل بين الخيالي والواقعي في أكثر من موقع؟ يضاف إلى ذلك تصريح المؤلّف نفسه في تصدير النصّ بقوله: «هذه الرواية بنت خيالي الشرقيّ المجنح».(9)

ولعلّ البحث عن الحقائق أو الوقائع التاريخيّة في رواية "إخطيّة" يكون بالنظر في مكوّنات النصّ ذاته والبحث في مظاهر التوثيق من خلالها. فنصّ "إخطيّة" عبارة عن مجموعة من الحكايات متباعدة ومختلفة وأحيانا متداخلة. تجمع بينها حكاية إطار، محورها السارد البطل، الذي استوقفه طابور طويل من السيارات عند مدخل المدينة. فبدأ بقصّ كلّ ما تستحضره ذاكرته من وقائع في الماضي البعيد والقريب وما يقع من أحداث في حاضر القصّ. و كلّها عبارة عن مشاكل الإنسان الفلسطيني زمن الاحتلال الإسرائيلي. مشاكل تتعلّق بكلّ فئات المجتمع مثقّفين وسياسيّين وعمّال وعامّة الناس. ويصف ممارسات الاحتلال مع الناس في زمن غير زمن الحرب، العنصريّة والاتهامات الباطلة وتلاعب وسائل الإعلام والبوليس بالحقائق.

(2) مظاهر التوثيق من خلال الشخصيّات :
أ- بنية الشخصيّات:
إنّ أوّل ما يعترضنا في رواية إخطيّة شخصيّاتها. وقد ضمّ النصّ شخصيّات من صنفين:

صنف أوّل، شخصيّات فاعلة أي تنتمي إلى النسيج الحكائي. أسندت إليها أدوارا في القصّة الإطار. وهي تنقسم بدورها إلى ضربين:

- شخصيّات طبيعيّة لا تختلف تركيبتها عن السائد والمألوف: السارد وهو البطل، والده، إخوته، أمّه، صحفي شاب، محامي. وقد أوردها في النصّ دون وصف ولم يعتن بملامحها البتّة. وقد يعزى عدم الاهتمام بتصوير ملامح الشخصيّات إلى التقليد الروائي الذي ينتمي إليه النصّ. وهو "التجريب"(10)؛ حيث لم تعد الشخصيّة حاضرة بقوّة كما كانت في القصّ الكلاسيكي من خلال الوصف المكثّف لهيأتها، بل من خلال ما تقوم به من أدوار في النسيج العام للنصّ.

- شخصيّات عجائبيّة موغلة في الخيال: "مخلوق من الفضاء الخارجي"(11)، "مخلوقات قزميّة طول الواحد منهم نحو الخمسة أشبار أو أربع".(12) وهذه الشخصيّات هي من بين أكثر العناصر التي تربط النصّ بعالم الخيال، وتقطع صلته بالمرجع. وقد نرجع سبب توظيفها في النصّ إلى مظاهر التجريب. ذلك أنّ الرواية التجريبيّة تضمحلّ فيها الحدود الأجناسيّة. وهي لا تعترف بالقوانين التي تميّز بين الواقعي والعجائبي والخرافي؛ بل لا تحتكم إلاّ لقانونها الداخلي الخاصّ.

صنف ثان، شخصيّات وردت في حديث السارد دون أفعال تذكر في القصّة الإطار. وقد استحضرها من حين لآخر في قصص مضمّنة من الدرجة الثانية، أو على سبيل استعراض معلومات أو للاستشهاد بها في بعض المواقع. دون أن يكون لها تأثير في أحداث القصّة الإطار. وهي أساسا شخصيّات تاريخيّة معلومة. أمثال: عالم الفيزياء " نيوتن"، الشاعر الجاهلى "قيس بن ساعدة"، الرحّالة" أبو الحسن علي بن حسين بن علي المسعودي"، "أرئيل شارون"، "بن غوريون". وهذه الشخصيّات مرجعيّة يمكن للقارئ التحقق من وجودها في الواقع. ولئن كانت غير فاعلة في أحداث النصّ، إلاّ أنّ حضورها في خطاب السارد له بعد توثيقي. فهي تؤشّر على شخصيّة المتكلّم كذات لها ذاكرة موسوعيّة في مجالات عدّة سياسيّة، أدبيّة، تاريخيّة. وتعطينا لمحة عن انتماءات المتكلّم ، فهو يستحضر بإعجاب شخصيّة الرحّالة "المسعودي"، والذي توصّل- حسب قوله- " قبل ألف سنة، في العام الهجري خمسة وثلاثين وثلاثمائة بالضبط، تعيين عدد السنين والأيام [...] وكان أبو الحسن متواضعا في العلم وأمينا على الحقيقة".(13) في حين يبدي سخريته من شخصيّات أخرى. يقول: "تصوّروا أرئيل شارون صغير ماذا سيبقى منه شكلا وقدّا؟"(14)

ب-  مظاهر التوثيق في خطاب الشخصيّات:
ما من شكّ في أنّ الشخصيّات الفاعلة في الحكاية منقطعة الصلة بالمرجع، أي أنّها من محض خيال المتكلّم. إلاّ أنّ خطابها موصول بواقع ما تاريخي فالشخصيّة ما تلبث أن تتكلّم حتى تعلن عن انتماء الملفوظ إلى بيئة ما وفي زمان محدّد. ونأخذ مثلا خطاب السارد البطل الذي سيطر على مجمل النصّ. فقد أتاح لوالده في بداية النصّ التدخّل ليسرد حكاية من الدرجة الثانية وهي عبارة عن لغز طلب في نهاية كلامه من أبنائه المجتمعين حوله فكّ طلاسيمه. يقول: «كان والدي يدقّ الأرض بعصاه، إيذانا بانتهاء الحدّوثة، ثمّ يلقي علينا السؤال: كيف اهتدى قريّد العشّ إلى لونها؟»(15) والمهم بالنسبة إلينا ليس فحوى اللّغز، وإنّما رمزيّته كعادة عربيّة شرقيّة تدخل ضمن مكوّنات الثقافة يلجأ إليها العربيّ قصد التسلية في وقت لم تكن فيه وسائل الترفيه الحديثة متاحة لكلّ الناس.

ثمّ يعود خطاب السارد ليهيمن على معظم النصّ. ويمكن وصف هذا الخطاب بأنّه مزيج من الحكايات التي لا تنتهي. بعضها عجائبي من ذلك قوله: «هل تصدّقونني إن أخبرتكم --وها أنا فاعل- بأنّ مخلوقا من الفضاء الخارجي أوقف سيّارتي في طريقي، ليلة، وأنا عائد من عكّا إلى حيفا؟ كان شاهق القامة رأسه في الغيوم وقدماه منفرجتان على عرض الطريق عبرت من تحتهما دون أن ألوي على شيء".(16) هذا المقطع السردي يورد حدثا خياليّا بعيدا عن ضروب المنطق فلا يمكن أن نجد له مثيلا أو صورة في الواقع. وفي مقاطع أخرى يعود الخطاب إلى الواقعيّة. أي إلى سرد وقائع ممكنة الحدوث. كقوله: «أعرف عن صديق اصطدمت سيّارته، وهو يسوقها، بسيّارة انقضّت عليه مواجهة، أنّه أغمي عليه. فلم يستيقظ إلاّ بعد مرور عدّة أيّام على الحادث.»(17) وقد ورد في النصّ أيضا على لسان البطل ضروب شتى من أجناس الكلام بعضها على هيئة "الخبر" تعلقت بالرحالة العربي "المسعودى" أو بالشاعر الجاهلي "قيس بن ساعدة".

وقد نستنتج من خلال خطاب المتكلّم في النصّ- سواء تعلّق الأمر بالسارد أو المؤلّف الذي من دون شكّ يقف خلفه و يسيّره- نستنتج أنّه متجذّر في التربة العربيّة، متمسّك بتراثه القديم وفي الآن نفسه منفتح على العالم. ونلمس استنكاره الشديد للحالة التي تعيشها فلسطين تحت وطأة الاحتلال خاصّة في خطابه الساخر من بعض رموزها الذين قزّم صورهم، وجنودها الذين وصفهم بالديدان. وقد يعبّر ذلك لا عن شعور المتكلّم فقط وإنّما عن الموقف العام لجميع الفلسطينيّين. وهي حقيقة لا يمكن إنكارها.

ومن حين لآخر يتيح السارد للشخصيّات التحدّث بلسانها على سبيل المثال الحوار الدائر بين محققي الشرطة الإسرائيليّين ومحامي فلسطيني موقوف. يستجوبونه للحصول على معلومات حول أحد الفدائيين.

" هل شاهدته؟

-     من المحتمل

-     حدّد إجابتك

-     أنني متأكّد من شيء واحد وهو أنه من المنتسبين إلى جبهة الرفض

-     فهل تستنكر فعلته

-     نحن ضدّ الإرهاب من أيّ جهة جاء

-     حدّد إجابتك

-     نحن ضدّ هذا العمل الإرهابي

-     حدّد إجابتك

-     نحن ضدّ هذا الفلسطيني الملثّم، والمسلّح الذي ظهر في عزّ الظهيرة في شارع هحالوتس." (18)

يتيح لنا الحوار بين الشخصيّات الابتعاد نسبيّا عن خطاب السارد. ويكشف بالتالي تفاعل الشخصيّات فيما بينها في الحكاية ونوع العلاقة بينها ونيّة كلّ شخصيّة. فالمحامي المُستجوب يبحث عن تخليص نفسه بأسرع ما يمكن من هذا الموقف. ونلاحظ ذلك من خلال الأجوبة السريعة غير المركّزة. فهو لا يثبت على موقف واحد بل يغيّر الإجابة رغم أنّ الطلب مكرّر. أمّا المحقّقين فغايتهم ليست الحقيقة، بل يبحثون عن إجابة بعينها، انتزاع اعتراف بالإدانة للعمل الفدائي من قبل الفلسطينييّن أنفسهم. وقد وضّح السارد هذا بقوله بعد انتهاء الحوار: «وظهرت الصحف في اليوم الموالي بعناوين صارخة عن المواطن العربي الأول في إسرائيل المحامي الشجاع الذي استنكر علنا عمليّة الإرهاب.(19)

(3) مظاهر التوثيق في فضاء النصّ:
يمثّل الفضاء جانبا مهمّا في البناء القصصي، ولا يمكن لأي نوع سردي مهما أختلف شكله أن يوجد بدونه. فهو الإطار الحاضن للأحداث والشخصيّات، وقد يكتسي أبعادا رمزيّة ووجدانيّة حسب طرق توظيفه من قبل المتلفّظ. وفي رواية" إخطيّة"، يعتبر الفضاء أكثر عنصر يشدّ النصّ إلى الواقع التاريخي. حيث وظّف إيميل حبيبي أسماء مدن وشوارع حقيقيّة مرجعيّة من قبيل مدينة عكا ومدينة حيفا، شارع هحالوتس. وقد كان الفضاء ملتحما بحركة الشخصيّات ومعبّرا عن الانتقال من حدث لآخر. فكلّ تغيير للفضاء هو تحوّل في نسيج الأحداث. يلوح ذلك منذ بداية النصّ حين نزح السارد رفقة عائلته «من القرية إلى المدينة»(20) وهذا الانتقال له بعد فنّي، فهو الحركة الأولى التي تعقبها حركات أخرى وفق تسلسل العلّة والمعلول. وكذلك يمثّل الخروج من وضع الاستقرار الأوّل والدخول في حالة الاضطراب. وله بعد رمزي حيث يفقد الكائن مكانه الطبيعي في القرية حيث الهدوء والسكينة والحياة البسيطة، ليدخل إلى عالم المدينة المليء بالحركة وعدم الاستقرار والمعاناة اليوميّة. كما يمثّل أيضا على صعيد الواقع اللّقاء بالآخر. هذا اللّقاء مليء بحالات الرفض المتبادل. فالوافد الجديد إلى المدينة لا يتوصّل إلى بناء علاقة مع أبناء الوطن المنتمين لطبقة بعينها. يقول: "كانوا يقطعون الجسر بسيّارات آبائهم عابسين. فلمّا ضجّت الأرض والسماء بلهونا وضحكنا، في عرس واحد منّا، عبسوا واستشاطوا غضبا، معتبرين عرس الفقير تطفّلا على ما خصّ به الله أولاد النعمة."(21) أمّا العلاقة مع الآخر الأجنبيّ فهي صداميّة. يقول: «لم أكن أختار طريق حيفا التحتا المكتظّة بالسيّارات في النهار إلاّ في أيّام السبت، حين يتركوننا نسرح ونمرح فنقع فرائس سهلة، سارحة ومارحة لكمائن شرطة المرور التي لا تشاء أن تكمّن لنا إلاّ في أيّام السبوت.»(22) إنّ علاقة الشخصيّة بالفضاء من خلا هذا المثال تكشف عن نوع العلاقة مع الآخر الإسرائيلي. فالصراع الدائر بين العربي والإسرائيلي هو صراع وجود في المكان. فصاحب الأرض لا يتمتّع بحريّة الحركة فيها إلاّ في المناسبات الدينيّة اليهوديّة. وهي حريّة ليست تامّة بل مرهونة  بما يضمره الآخر من كمائن في الطريق. حيث تتحوّل الشرطة من عنصر يحفظ الأمن إلى ميليشيات وقطّاع طرق تقتات من المواطن القابع تحت الاحتلال .

ويعبّر الصراع على الأرض في النصّ عن حقيقة الصراع في الواقع. فقد أورد السارد ما قام به المحتلّ من تغيير لأسماء الشوارع والساحات العربيّة واستبدلها بأسماء عبريّة. يقول: «سمّوا هذا الشارع باسم هحالوتس ومعناه الطليعي فلا يجوز لنا تاريخيّا ترجمته إلى اللّغة العربيّة كما فعل إخوتنا اليهود بالعديد من الأسماء العربيّة العريقة في هذه المدينة أو بدّلوها تبديلا، حتى أصبح شارع الناصرة شارع إسرائيل بار يهود وأصبح منبعه شارع الملك فيصل شارع خطيبات جولاني.(23)

يتّضح من خلال هذا المقطع طبيعة الصراع مع الآخر الذي يسعى إلى نفي صاحب الحقّ من الجغرافيا أوّلا، والتاريخ ثانيا، من خلال التضييق عليه في المكان، وكذلك من خلال الاعتداء على إرثه التاريخي. هذا الإرث الممتدّ إلى قرون طويلة خلت، يحاول المحتلّ محوه من خلال لعبة الأسماء. فمن الواضح أنّ المعتدي يدرك بأنّ اللّغة هي أقوى الأسلحة. فبمجرّد تغيير الأسماء تتغيّر هويّة الأرض في ذهن الإنسان. لذلك يراهن إميل حبيبي على جعل نصّه ذاكرة جماعيّة. فهو يثبّت ما أتلف ويرمّم ما هُدّم ويحاكي التاريخ بل ويحاكمه.  فنصّ "إخطيّة" "يقوم بتصحيح ما جاء به المؤرّخون ويذكر ما امتنعوا عن قوله".(24) فالرواية أصبحت بالتالي شكلا من أشكال التّأريخ. فالإبداع الأدبي مرتبط بالتاريخ، لأنّه «يمتح من الذّات الجماعيّة في صيرورتها وتحوّلها»(25)

(4) مظاهر التوثيق في الزّمن:

تدور أطوار الحكاية المرويّة في نصّ "إخطيّة" كما أسلفنا الذكر ضمن إطار زمني عام هو زمن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينيّة. ولكنّ السارد يخرج أحيانا عن هذا الإطار فيعود إلا التاريخ القديم البعيد منه والقريب. فهو لا يتقيّد بخطّ كرونولوجي تعاقبي في عرض الأحداث. لكنّ التوثيق يلوح من خلال سرد أحداث مع تثبيتها بالزمن الموضوعي. كقوله: اختفى "التين الغزالي ذو الفم الذي يسيل عسلا ... بعد العام 1967".(26) وهو تاريخ له بعدان. الأوّل توثيقيّ، ينزّل أحداث الحكاية في إطارها التاريخي، ونفهم منه الزمان الذي عاش فيه المتكلّم. والثاني رمزيّ، يحيل إلى الهزيمة التاريخيّة للعرب في صراعهم مع العدوّ الإسرائيلي، وتداعيّاتها السلبيّة على الاقتصاد والإنسان بصفة عامّة. «أصبح صراع البقاء في بساتيننا موجّه نحو الأفضل في التصدير وفي صناعة العملة الصعبة» (27) فلم تعد القضيّة هي تحرير الأرض أي فلسطين بل أصبحت في مجال أضيق لا يتجاوز البستان. بل وحتى البستان ليس هو القضيّة فقد انشغل الناس بعد هذا التاريخ بالبحث عن أسباب الربح وتوفير العملة الصعبة على غرار ما يحدث في باقي أصقاع العالم تأثّرا بالنموذج الرأسمالي الغربي. فهزيمة 1967 ليست فقط انتصارا للإسرائيليّن على العرب، بل أيضا انتصار لأيديولوجيا غربيّة وبداية نظام عالمي جديد.

خاتمة:
اعتنى هذا البحث الوجيز بتتبع مظاهر التوثيق في رواية من روايات "إيميل حبيبي" وهو واحد من أبرز الوجوه الممثّلة للثقافة الفلسطينيّة والعربيّة. وقد يبدو من الوجاهة القول بأنّ رواية "إخطيّة" تحمل في ثنايا سطورها ما يحيل على التاريخ. ولكنّه تاريخ من منظور خاصّ، لا يدّعي الموضوعيّة (l’objectivité)، فالموضوعيّة تطلب من المؤرّخ لا من الأديب المبدع. وقد يبدو من الوجاهة القول أيضا، أنّ النصّ الروائي والفنّي عموما ليس ملحقا سلبيّا بالتاريخ أو مجرّد تابع له أو موضوعا من موضوعاته. بل هو وعاء للتاريخ، له قدرة على سدّ الفجوات التي يخلّفها المؤرّخون. فقد اعتنت الكثير من الدراسات بتاريخ الصراع العربي الفلسطيني، وكان اهتمامها ينصبّ على ما هو سياسي بالدرجة الأولى وما ارتبط بالصراع المسلّح. لذلك عمد "إيميل حبيبي" إلى التأريخ لما هو يومي وعابر ومهمل وربطه بالأحداث "الكبرى" من قبيل "هزيمة 1967"

باحث من تونس

 

المصادر والمراجع:

(1) Hans-Geor Gadamer, "Vérité et méthode": les grandes lignes d’une herméneutique philosophique, Traduit de l’allemand par Jean Grondin, Gilbert  Merlio et  Pierre Fruchon, édition du Seuil, paris,1997

1)          يشير غادامير في مقدّمة كتابه إلى أنّ بحثه ضمن التأويليّة الفلسفيّة يبدأ بنقد الوعي الجمالي، لكي يدافع عن تجربة الحقيقة التي تأتي إلينا من خلال عمل الفنّ، ضدّ النظرة الجماليّة التي ترهن نفسها بتصوّر علمي عن الحقيقة.

2)          انظر إيمانويل كانط،"نقد ملكة الحكم"، ترجمة غانم هنا، المنظّمة العربيّة للترجمة، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 2005، ص 101 .  يقول كانط:لكي نميّز الشيء هل هو جميل أو غير جميل، فإنّنا لا نعيد تمثّل الشيء إلى الذهن من أجل المعرفة، بل إلى مخيّلة الذات وشعورها باللّذة أو بالألم،  ومن هنا فإنّ حكم الذوق ليس حكم معرفة، وبالتالي ليس منطقيّا بل جماليّا، ونعني بذلك أنّ المبدأ الذي يعيّنه لا يمكن أن يكون إلاّ ذاتيّا.  

3)          انظر مارتن هيدغير،" أصل العمل الفنّي"، ترجمة، أبو العيد دودو، منشورات الجمل، 2003

4)          نصر حامد أبو زيد، "إشكاليّات القراءة وآليّات التاويل" المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب الطبعة السابعة، 2005

5)          رولان بارت،"درس في السيمولوجيا"، ترجمة، عبد السلام بن عبد العلي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الثانية، 1986، ص-34

6)          بول ريكور، "الزمان والسرد الجزء الثالث"، ترجمة سعيد الغانمي، دار الكتاب الجديد المتحدة، طرابلس، ليبيا، الطبعة الأولى، 2006، ص-235

7)          المرجع نفسه، ص148

8)          المرجع نفسه، ص148

9)          إميل حبيبي، "إخطيّة"، مؤسّسة،بيسان برس لصّحافة والنشر والتوزيع، قبرص، الطبعة الأولى، 1985   

10)        راجع : محمد رشيد ثابت، التجريب وفنّ القصّ في الأدب العربي الحديث، ابن زيدون للنشر والتوزيع، تونس، الطبعة الأولى،2005

11)        المصدر ص، 14

12)        المصدر ص،15

13)        المصدر ص-33

14)        المصدر ص- 15

15)        المصدر ص- 11

16)        المصدر ص-14

17)        المصدر ص- 13

18)        المصدر ص- 47

19)        المصدر ص- 48

20)        المصدر ص-11

21)        المصدر ص-12

22)        المصدر ص- 21

23)        لمصدر ص-21

24)        فيصل درّاج،"الرواية وتأويل التاريخ"، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى، 2004 ص-6

25)        سعيد يقطين، "الأدب والمؤسّسة والسلطة"، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى، 2002، ص-22

26)        المصدر ص-19

27)        المصدر ص-19