شكّلت أحداث اليمن الّتي امتدّت بين عامي 1955 و1975 وصولاً حتى عام 1980، أو حرب «الجبهة»، زمن الرواية والسّرد في آن. تلك الحرب بين الدين والدولة، الّتي تضعِف الأوّل وتنفّر الإنسان من الثاني، هي واقع تعاني منه معظم البلدان العربيّة، من دون أن يفهم المنخرطون في هذه الحروب، والواقفون على جبهاتها، أسباب هذه المواجهة، بل انعدام شرعيّتها.

مروان الغفوري يروي ذاكرة اليمن حتى 1980

سارة ضاهر

الوصول إلى الإيمان يحتاج سلامًا. لا أسلحة، لا قوّة. هذه هي إشارات الكاتب والطبيب اليمني المقيم في ألمانيا مروان الغفوري، الّتي أرسلها عبر روايته الأخيرة «تغريبة منصور الأعرج» (دار الآداب). وفيها يتحدث ، عن منصور الأعرج الذي طاف بقدمه العرجاء أرجاء اليمن، يستمع إلى قصص الناس وحكاياتهم ومآسيهم وحروبهم. فالرجل الذي ولد في «الدكة» أعرج فقيرًا، يعيش مع أمّه «غزلان» وزوجها قاسم الحكيم، الذي كان كلّما أراد أن يُغضبها ناداها بأمّ الأعرج، «اذهبي إلى الأعرج، هل نام الأعرج؟»يعرض الكاتب من خلاله مفهوم الإعاقة في المجتمع العربي، ونظرة الناس إلى حاملها، كما لو أنها عارٌ يلاحقه مدى الحياة: «لقد كانت عرجته تسبق اسمه وتعرّف عليه دون أن ينطق باسمه». ليكتشف البطل أنّ «عرجته» بمثابة هويّة جديدة يصعب إخفاؤها، فلم يعد أحد يناديه باسم أبيه: منصور بن قاسم بن عبدالغني الحكيم. بل صار اسمه الجديد: منصور الأعرج.

شكّلت أحداث اليمن الّتي امتدّت بين عامي 1955 و1975 وصولاً حتى عام 1980، أو حرب «الجبهة»، زمن الرواية والسّرد في آن. يستحضر خلالها الكاتب شخصيّات- شكّلت مجتمعة بين معاكِس ومساعد- مجتمع الرواية. نذكر منهم: صهيب، زبيد، تهامة، الشيخ طه أبو علي الذي قاتل الى جانب النظام الحاكم، حتى أصبح قائدًا للجبهة الإسلاميّة، قاسم زوج أم الأعرج، غزلان والدته، الشيخ عبدالعليم الشامي، الشيخ معين، هزاع، الإمام يحيى حميد الدين، والمقدّم أحمد الثلايا قائد الفرقة العسكريّة التي انقلبت على الحاكم وأسرته في منزله لأيام، والكثير من الشخصيات الأخرى الّتي شكّلت محور الوقائع والأحداث.

تلك الحرب بين الدين والدولة، الّتي تضعِف الأوّل وتنفّر الإنسان من الثاني، هي واقع تعاني منه معظم البلدان العربيّة، من دون أن يفهم المنخرطون في هذه الحروب، والواقفون على جبهاتها، أسباب هذه المواجهة، بل انعدام شرعيّتها. وما غمز الكاتب إلى استخدام الدين إلّا نتيجة تأثيرات ما يجري على أرض الواقع أوّلًا، وبهدف خلق الفضاء الدلاليّ للرواية ثانيًا.

المكان هو قرية حذران في اليمن، والبطل هو منصور بن قاسم بن عبدالغني الحكيم، أو منصور الأعرج، الذي ولد في السهل. وللمكان، أو لمجموعة الأمكنة المتناغمة أو المتنافرة، دلالة على وضاعة نسب البطل، ونظرته، على طول الرواية، إلى الجبل المهيمن على كلّ شيء، صاحب القرار والقوّة. كذلك للإعدام في «تعز» دلالة أخرى، تستشرف ما تخبّئ الأوراق المتبقيّة من الرواية، حيث يشهد منصور الأعرج الذي ذهب إلى «تعز» ضمن وفد برئاسة شيخ قريته، إعدام شخص مارق. منصور الأعرج الّذي يخاطب الشمس معتبرًا أنها أمّه، وأنّ النهر البعيد والقريب في آن هو أبوه، يسأل: ما الذي يدفع المرء إلى القيام بأعمال يمكن أن تؤدي إلى سقوط رأسه؟

طريق الموت

كتابات مروان الغفوري من النوع الّذي يقلق القارئ، تكشف له حقيقته. فتُظهِره فاشلًا أحيانًا، وغبيًّا أحيانًا أخرى، بخاصّة من خلال طرح الكاتب قضايا أصبحت من المسلّمات لدى مجتمع معيّن. فالغفوري لا يطرح القضايا الاجتماعيّة، إلا إذا كانت بالغة الأهميّة والخطورة. ولا يطرحها بأسلوب سرديّ بسيط، وإنما يشكّل طرحه صفعة تدعو إلى الاستيقاظ.

«تغريبة منصور الأعرج» هي رواية الغفوري الثانية بعد «جدائل صعدة» (2014). يحارب فيها منصور الأعرج مع الإسلاميين، ويقاتل نجيب الأدرد، إحدى شخصيّات الرواية، إلى جوار الشيوعيين. تتطرّق الرواية لحروب المناطق الوسطى، وكيف أصبح منصور الأعرج، الرّجل المسالِم، المستهتِر بسلاحه، مقاتلاً في صفوف «جيش الله» أو جيش الشيخ طه أبو علي، وقد سمع الجميع كيف دعا هذا الشيخ إلى مواجهة نجيب الأدرد ومجموعته التي لن تكتفي بقتل الرؤساء والشيوخ، بل سوف تعمد إلى سبي النساء...

أصبح منصور قائد مجموعة تخصّصت في الألغام، وكان صديقه نجيب الأدرد قد أصبح قائداً في جبهة الشيوعيين. كانا يفكران بعضهما ببعض. خصمان يجمعهما الفقر وسلوك طريق الموت بسبب هذا الفقر. كيف لا، ولا يدفع ثمن الحرب سوى البسطاء والفقراء! اصطفّ المشايخ والأغنياء في مواجهة أشخاص فقراء معدَمين يطالبون بحقوقهم في الحياة والعيش الكريم. فتمّ تخوينهم وتكذيبهم، من دون الالتفات إلى مطالبهم المحقّة، سواء تحت راية الجهاد، أو تحت راية الإخلال بالأمن وتهديد النظام.

أما منصور، فلم تعد الحرب بنظره ذات معنى، بعدما جاء المحاربون من كلّ مكان للقضاء على الجبهة الوطنيّة. لقد تعب من الحرب، وجاء الوقت ليغتسل من آثامها ببحر عدن، لكنّه لا يعرف أين هذه عدن؟ في ذمّار سيقولون له: إنها في الجنوب، وإنها بعيدة، بعيدة جدا، ودخولها لن يكون يسيراً.

منصور الأعرج الذي لم يبق في جبل الملك، بقي في تجوال دائم من بلدة إلى بلدة ومن جبل إلى جبل. فالحياة علّمته الكثير والأمثلة التي سمعها أفادته. ويشكّل الذهاب إلى عدن هاجسه القوي. هل تحمل منطقة «عدن» رمزًا الى «جنة عدن» وما يرفضه الدين من عنف واقتتال وخراب؟ عدن التي توجّه إليها ببندقيّته وثيابه الثقيلة من دون طعام، توقّف ليشرب في أحد الأماكن فما كان من غريب إلا أن أعطاه رغيفين وبعض النّصائح عن عدن وحرارتها المرتفعة. فينتهي به المطاف إلى عدن، ليكتشف أنّه لا يمكنه دخول هذه المدينة حاملًا سلاحَه: هل استطاع الأعرج، رمز الإنسان الناقص بخطيئته أن يستغني عن سلاحه وقوّته وأملاكه المشار إليها باللباس، ويدخل هذه البلاد ؟

 

جريدة الحياة