تنشر (الكلمة) هنا تأملات الناقد السوري المرموق في ذكرى رحيل المفكر والناقد الفلسطيني الكبير إدوار سعيد، وهي تأملات تتابع الحوار النقدي الخلاق مع منجزه النقدي، وتكشف عن أهمية سعيد الباقية، وكيف أن استبصاراته الفكرية والنقدية لاتزال قادرة على إضاءة ما يدور في عالمنا بعد رحيله.

إدوارد سعيد والمنفى البدوي

صبحي حديدي

صرفتُ الساعات الأولى من يوم أمس، الأحد، 25/9، مع الذكرى الثالثة عشرة لرحيل إدوارد سعيد (1935 ـ 2003)، فأكملت قراءة واحد من أهمّ الأعمال النقدية الأخيرة التي صدرت حوله (الكتاب الذي حرّره روبرت ت. تالي الابن، بعنوان «الميراث الجيو ـ نقدي لإدوارد سعيد: المكانية، الإنسية النقدية، والأدب المقارن»، والذي ضمّ 11 دراسة حول علاقات النقد والجغرافيا)، ثمّ عدت إلى لائحة تفضيلاتي من أعمال سعيد: فصل من سيرته، «خارج المكان»، وفصل من كتابه الأعمق، في نظري، «بدايات: القصد والمنهج»، ثمّ مقالته الأخاذة «ذهنية الشتاء: تأملات حول الحياة في المنفى».
وهذه المقالة نُشرت في مجلة «هاربر ماغازين» الأمريكية، في مثل هذا الشهر من عام 1984، وقد توقفت عندها في مناسبات سابقة، بينها محاضرة في «معهد العالم العربي» في باريس، سنة 1995، شارك فيها سعيد نفسه، صحبة تزفيتان تودوروف والياس خوري وشانتال توماس وكاتب هذه السطور، حين ابتهج الحضور، وابتهجت شخصياً، بتعليق من سعيد ـ كان وجدانياً، بالغ التأثير والصدق والحرارة ـ على ملابسات كتابة تلك المقالة اللامعة. أعود، هنا وفي المناسبة، إلى فقرات من «ذهنية الشتاء…»، تصف بعض خصائص المنفى من وجهة نظر سعيد:
1
ـ المنفى هوّة قسرية لا تنجسر، بين الكائن البشري وموطنه الأصلي، وبين النفس ووطنها الحقيقي، ولا يمكن التغلّب على الحزن الناجم عن هذا الانقطاع. وأياً كانت إنجازات المنفيّ، فإنها خاضعة على الدوام لإحساس الفقد.
2
ـ إذا صحّ هذا، فكيف تحوّل ذلك الإحساس بالفقد إلى دافع غنيّ للثقافة الحديثة؟ يجيب سعيد: «ربما لأنّ الحقبة الحديثة ذاتها مُتيتّمة ومغتربة روحياً، ويُفترَض أن هذا هو عصر القلق الشامل والحشود العزلاء».
3
ـ أنْ نفكّر في فوائد المنفى كباعث على الموقف الإنساني والإبداع، أمر لا يعني التقليل من عذاباته الكبرى. والمبدعون المنفيون يسبغون الكرامة على شرطٍ كان القصد منه، في الأساس، حرمانهم من الكرامة. باريس، على سبيل المثال، اشتهرت باجتذاب عشرات المنفيين من شتى أرجاء الأرض، ولكنها كانت أيضاً المدينة التي شهدت عذابات الآلاف من النساء والرجال، المنفيين المجهولين الذين لا نعرف أسماءهم وحكاياتهم.
4
ـ القوميات تدور حول الجماعات، بينما يدور المنفى حول غياب الجماعة الوضعية، المتموضعة في موطن أصلي. فكيف للمرء أن يتغلّب على عزلة المنفى، دون أن يقع فريسة لغة الفخار القومي والعواطف الجَمْعية ومشاعر الجماعة؟ المنفيّ لا يملك سوى القليل، ولهذا فإنه يتشبث بما يملكه ويدافع عنه بشراسة. وهكذا تتنامى مشاعر الانطواء والاستئثار والتضامن داخل الجماعة الصغيرة. ومن هنا أيضاً تولد تلك الحالة القصوى من مناخات المنفى: أي معاناة النفي، على يد فئة منفية أصلاً.
5
ـ المنفى تجربة يتوّجب عيشها بحيث تسمح بإحياء الهوية، وإحياء الحياة نفسها، والارتقاء بهما إلى وضعية أكثر اكتمالاً ومعنى. هذه النظرة الخَلاصية إلى المنفى دينية أساساً، رغم أنها صارت أطروحة للعديد من الثقافات، والإيديولوجيات السياسية، والأساطير، والتراثات. المنفى يصبح شرطاً سابقاً ضرورياً من أجل حالة أفضل، وهذا ما نعرفه عن نفي الأمم قبل أن تحرز كياناتها، ونعرفه أيضاً عن نفي أنبياء مثل موسى والمسيح ومحمد، قبل عودتهم الظافرة.
6
ـ المنفى ليس موقع امتياز يتيح للفرد ممارسة التأمل الذاتي، وإذا اختار المنفيّ الامتناع عن ممارسة النقد العميق، والاكتفاء بلعق جراحه على الخطوط الجانبية للحياة، فإنّ من واجبه أن يطوّر حسّاً معمقاً بالذات، من النوع الذي فعله الفيلسوف الألماني اليهودي تيودور أدورنو في عمله الهامّ Minima Moralia، والذي كتبه في المنفي واختار له عنواناً فرعياً هو «تأملات من داخل حياة مبتورة». ولقد رأى أدورنو أن الحياة تنضغط في أوطان جاهزة مسبقة الصنع، والواجب الأخلاقي يقتضي ألا يشعر المرء بالاستقرار في أي مقام. هذه هي المهمة الفكرية التي يتولاها المنفيّ.
7
ـ والمنفى، كما تحدّث عنه إريك أورباخ أثناء نفيه في تركيا خلال الحرب العالمية الثانية، هو تصعيد للحدود الوطنية أو الأقاليمية. إنه يتعلّق بوجود الموطن الأصلي وحبّه والارتباط به، ولكن ما هو حقيقي في كل حالة نفي ليس فقدان الوطن وحبّ الوطن، بل أنّ الفقد موروث في الوجود ذاته للوطن، ولحبّ الوطن.
8
ـ وينتهي سعيد إلى القول: «المنفى لا يمكن أبداً أن يكون حالة رضا عن النفس، واطمئنان، واستقرار. المنفى، بكلمات الشاعر الأمريكي والاس ستيفنز، هو ذهنية الشتاء حيث تكون عواطف الصيف والخريف، مثل العواطف الكامنة للربيع، قريبة، ولكنها ليست في المنال. المنفى هو الحياة خارج النظام المألوف. المنفى بَدَويّ، غير متمركز، طباقيّ Contrapuntal، ولكن المرء لا يكاد يتعوّد عليه، حتى تندلع من جديد قوّته غير المستقرّة».
وفي المقالة موضوعات أخرى لا تقلّ عمقاً، غنيّ عن القول، وتأملات سعيد حولها ثاقبة ومتبصرة كالعادة، لكنني أظلّ مفتوناً بالفقرات التي تخصّ تشريح حال المنفى وإهاب المنفيّ، خاصة وأنها صدرت عن فلسطيني مترحل، بدوي في دخيلة نفسه مثل أيّ منفيّ، ودائب الانشقاق والاختراق!

 

عن (القدس العربي)