يكشف الباحث المصري في هذه الدراسة أهمية العودة إلى الدوريات الثقافية في عملية التأريخ الأدبي، وفي الكشف عن دور المعارك الأدبية في مسيرة التحولات الأدبية والنقدية، ويضيء لنا فيها بعض جوانب معركة (الديوان) في عشرينيات القرن الماضي، ودورها في ترسيخ مفاهيم جديدة في الشعر.

الشعراء الندابون

يسري عبد الغني عبد الله

بعد أن أنهى إبراهيم عبد القادر المازني معركته ضد الشعر التقليدي ممثلاً في شاعر النيل حافظ إبراهيم والتي بدأ مقالاتها من شهر يوليو 1913، على صفحات جريدة عكاظ، واصل العقاد حملته الشعواء على الشعراء التقليديين مؤكدًا بذلك هجمة المازني ومؤازرًا لها، وأطلق عليهم اسم (الشعراء الندابون)، كما نقرأ في صحيفة عكاظ في أعدادها الصادرة في 9 و 23 مارس، وفي 6 أبريل سنة 1914. وخص العقاد (حافظ إبراهيم) بقسط وافر من النقد، وكناه بأبي جهل، ولم يصرح باسمه، واكتفى باسم قصائده أو مناسباتها، وكذلك بالصفات الواضحة الدلالة عليه، بحيث يمكن عد هذه الحملة حملة من حملات العقاد على حافظ بصفة خاصة وعلى الشعر التقليدي بصفة عامة والذي كان يتزعمه في تلك الآونة أمير الشعراء أحمد شوقي.

وقد عني العقاد في عنوان مقالاته هذه أولئك الشعراء الذين يقفون في تحفز لرثاء كل ميت من ذوي الوجاهة والمكانة، كالنادبة التي ترى الندابة عملاً لها، وتحرص عليه كل الحرص، وتخلص له كل الإخلاص. ويصف العقاد خلة الحرص فيهم، فيقول: ما أبرع هؤلاء الشعراء والأقلام في أيديهم، والمحابر أمامهم، وهم جلوس على أهبة واستعداد كالتلاميذ في يوم امتحان الإملاء. ويصل بهم الحد إلى أنهم أدخلوا على الناس أن الشاعر والمغسل والحفار وقارئ السورة رصفاء يتعاقدون لئلا يسبق أحدهم صاحبه إلى المآتم والجنازات.

وقد دفع العقاد إلى هذه الحملة ما سمع منهم من شعراء الندابة في رثاء الشيخ الصحفي علي يوسف، صاحب جريدة المؤيد، والطيار العثماني فتحي بك وغيرهما، ومن ثم تجرد لهجمة ساخنة ضدهم. لقد عاد هؤلاء إلى نظم الشعر وقرع المسامع بذلك الكلام القديم البالي، والمعاني الأثرية، وإن في عودتهم لآية على شعورهم بموتهم، وعلى أنهم أصبحوا نسيًا منسيا، فأرادوا أن يطلوا من وراء الكفن الذي أذبله عليهم الشعر العصري والأدب الحي. ويسخر العقاد من حرصهم على الارتباط بالمناسبات التي لا تمت إلى صدق مشاعرهم بشيء، ويعجب من حافظ الذي لم يصرح باسمه، ودل عليه بقصيدته، لأنه كان يعد قصيدة لاستقبال فتحي بك الطيار العثماني عند قدومه إلى القاهرة، وجاء خبر نعيه من دمشق، فأوقف القصيدة وتحول إلى أخرى للرثاء، ثم عدل وعاد إلى الأولى فأكملها وحملها إلى الناس دون أن يوفق إلى تضمينها الأسف لفقد الطيار العثماني، وأنه كان يرجو أن يستقبله بالتهنئة فأخلف القدر ظنه!

ومن ثم يمعن العقاد في سخريته من هؤلاء الشعراء، ويرى أنهم انحطوا بحرصهم وشعرهم إلى عادات وسجايا الفراشين في السرادقات، ويقول عن حافظ في موقفه السابق الذي حرص فيه على قصيدة المدح الذي كان قد نظمها من قبل: إنه يشبه أن يكون فراشًا قد جهز سرادق العرس، فبسط الطنافس، ومد الخوان، ونصب تخوت المغنيين، وأوقد السرج والمشاعل حتى إذا لم يبق إلا الزفاف، مات العريس، فأبى الفراش إلا أن يمضي في زينته ضنًا بما أنفقه في سبيل الزفاف، ولئلا تدركه الحسرة على فوات الفرص من نعيه، ولم نسمع نحن أن فراشًا سقطت به رداءة الذوق، ونضوب الحياء هذه السقطة، ولكن سمعنا ذلك عن شاعر يقول الشعر منذ عشرين عامًا، واللهم رحمتك في بلد شعراؤه أردأ أذواقًا، وأقل حياءً من فراشيه.

ويخاطب العقاد الشعراء الندابين قائلاً لهم: أيها الشعراء الندابون لكم شعركم وللعصر شعره، فقروا في قبوركم، وتزملوا بأكفانكم حتى إذا أنهدم جدار، أو اصطدم قطار، أو وقع طيار، هنالك يثوب الداعي بكم فانبعثوا وقولوا ما شئتم، ولكن لا تفاجئونا، يرحمكم الله، ويطيب ثراكم.

ويثير العقاد في هذه المقالات قضية الوحدة العضوية في الشعر، أو في الشعر العصري، فينحي باللائمة والتقريع والسخرية على أولئك الشعراء المقلدين الذين يفهمون أن وصف المخترعات الحديثة هي العصرية، ثم أخذ مقاييس العصرية في تناول المخترعات الحديثة ووصفها.

*

في الكتاب الصغير الحجم العظيم الخطر، والأثر المسمى بـ: (بالديوان في النقد والأدب) كانت قمة العراك الأدبي، والشخصي بين المجددين والمحافظين من جهة، ومن ثم بين المجددين أنفسهم من جهة أخرى. كتاب (الديوان في النقد والأدب) مكتوب على النسخة التي معي تأليف عباس محمود العقاد بالاشتراك مع إبراهيم عبد القادر المازني، وهذه الطبعة صادرة عن دار الشعب المصرية بالقاهرة، وغير مكتوب عليها تاريخ نشر، هذا الكتاب جاء في موعده من تطور نهضتنا الأدبية أو الثورة الأدبية، التي لم يكن من قبيل المصادفة مصاحبتها للثورة السياسية (نقصد ثورة 1919)، فإن مصر كانت بحاجة إلى كل هذه الثورات، وكما أن الثورة المصرية جاءت بعد أسبابها التي هيأت لها، وجعلتها ضرورة لا محيص عنها، كذلك جاء هذا الكتاب.

كتاب (الديوان) يعد أحد أدوار جهاد حركة التجديد وقد لخص العقاد في مقدمة هذا الكتاب، قلنا العقاد ولم نقل المازني، لأنه يغلب عندنا أن مقدمة الجزء الأول من صناعة العقاد، إذ تبدو عليها آثار أصابعه، حيث يشهد بذلك أسلوبها وفكرتها فيما يخيل إلينا، وفي الوقت نفسه فإن مقدمة الجزء الثاني يغلب عندنا أنها للمازني لنفس السبب. العقاد يقول: إن موضوع كتاب الديوان هو الأدب عامة، ووجهته الإبانة عن المذهب الجديد في الشعر والنقد و الكتابة، وقد سمع الناس كثيرًا عن هذا المذهب في بضع السنوات الأخيرة، ورأوا بعض آثاره، وتهيأت الأذهان الفتية المتهذبة لفهمه والتسليم بالعيوب التي تؤخذ على شعراء الجيل الماضي، فنحن بهذا الكتاب، نتمم عملاً مبدوءًا، وأوجدوا ما نصف به عملنا، أنه إقامة حد بين عهدين [الديوان: 1/ 1].

يتضح لمن يقرأ أو يتعرف على هذا الكتاب أن هجمة الديوان على الشعر والشعراء، كانت ذات بعدين:

أحدهما: التوجه بالنقد إلى الشعر المحافظ أو التقليدي ممثلاً في أمير الشعراء أحمد شوقي،

بينما يتجه البعد الأخر: إلى رفيق الأمس رائد التجديد الشاعر الخلوق عبد الرحمن شكري، وسبحان الله مقلب القلوب!

إن كتاب الديوان يعتبر بحق قمة الهجوم الأدبي من جبهة المجددين أو فلنقل العقاديين على المحافظين أو الشوقيين، وقد اختار هذا الكتاب أقوى النماذج الأدبية في الاتجاه المحافظ، وهو الشاعر الكبير أحمد شوقي، وحاولت الهجمة النقدية أن تلقي بهذا الشاعر العملاق إلى مهوى من الأرض سحيق في عنف بالغ. وقد يسأل القارئ العزيز: ولماذا لم يكن الشاعر موضع النقد والهجوم في هذه المرة هو شاعر النيل أو الشعب حافظ إبراهيم، كما كان من قبل في عامي 1913 ـ 1914؟

والجواب عن ذلك يسير، لأن شوقي الأمير، دون سواه، سيد الاتجاه المحافظ أو الكلاسيكي وأمير دولته، وشوقي في هذه المرة أصبح خالصًا لنفسه وللنقاد، فلم يعد في حماية الخديوي أو القصر الملكي كما كان من قبل، لقد عاد الأمير من منفاه الاختياري في أسبانيا أواخر عام 1919، بعد أن كان قد نفي في 5 أغسطس سنة 1915. [ماهر حسن فهمي، أحمد شوقي، ص 99 و ص 115]. عاد الأمير من المنفى ولم تعد أقفاص الذهب تغل حركته، وتدفع الأيدي عنه، وفي هذا الوضع الجديد سبب مشجع ومقنع لأن يتوجه النقد إليه.

ولكن هناك أسبابًا أخرى يمكن أن تتعاون مع السبب السالف الذكر، وترجع في جملتها أن النقاد المجددين أو العقاديين يرون أساليب شتى، لا ترضيهم ولا تروق لهم، تلعب دورها في إفساد الحياة الأدبية بوجه عام، وهذه الأساليب تتجمع أهم خيوطها وأخطرها في يد أحمد شوقي وأتباعه، نظرًا لمقدرته الشعرية الغالبة في هذا الاتجاه من ناحية، ثم لمكانته الاجتماعية والمادية من ناحية أخرى، ولقد أستطاع شوقي ـ كما يذكر العقاد، في توطئة كتاب (الديوان) أن يشتري الأقلام والصحف، وأن يوظف لها ولكتابها هبات محسوبة ومحبوسة عليهم [الديوان: 1 / 3 ]. وهذا أمر يشهد به خلصاء شوقي الأمير، إذ يقررون أنه على عظيم مكانته ورسوخ قدمه في فنه الشعري، كان لا يستقر ولا يهدأ من التردد على دور الصحف لينال مدحها، ويتقي نقدها، وها هو رجل من أخلص خلصاء شوقي، وهو أحمد محفوظ في كتابه (حياة شوقي)، يقول لنا: إن مائدة شوقي لا ترفع أطباقها أبدًا، ولا يسبل (لا يطوى) غطاؤها، وهي دائمًا محفوفة بالصحفيين وغيرهم ممن يخشى أقلامهم ويخاف نقدهم. وكان أحمد فؤاد صاحب مجلة (الصاعقة) تلك المجلة التي بدأت سنة 1897، وأغلقت سنة 1909، وكذلك الشيخ فهيم صاحب جريدة (عكاظ)، التي بدأت سنة 1913، وأغلقت سنة 1920، ابرز رجلين من عملاء شوقي (إن جاز التعبير العقادي).

بسبب هذا الإفساد أراد العقاد أن يرد على الحياة الأدبية والفكرية في مصر كرامتها، وأن يعطي لشوقي من جنس عمله بعد أن يعرف بدور الصحافة المأجورة، يصرخ العقاد: وا خجلةُ مصر! من الذي يصنع ذلك فيها؟! شعراؤها، الشعراء في كل عصر عشاق المثل الأعلى، وطلاب الكمال الأسمى، لا يرضون بما دونه غاية، الغايات مطمحًا لإعجابهم، وقبلة لتزكيتهم. ويضيف العقاد: إلا أنه والله لعار وشر من العار، وقد استخف شوقي بجمهوره، واستخف، حتى لا مزيد، ما كفاه أن يسخر الصحف سرًا لسوقه إليه، واختلاب حواسه واختلاس ثقته، حتى يسخرها جهرة، ولئن لم يعرف شوقي مغبتها أدبًا زاجرًا، وجزاء وفرًا، يعلمه الفرق بين سوق البقر وسوم البشر، ليكونن بلدنا هذا بلدًا يجوز فيه كل شيء، ولا يؤنف فيه من شيء. [الديوان: 1/ 5]. إذن فقد جد الجد لدى العقاد، لأنه على قدر استفاضة الشهرة المدحوضة يكون نفع النقد ولزومه، فإن أبلغ ما يكون العيب إذا كان فاشيًا، وأضر ما يكون إذا كان متخذًا نموذجًا للإحسان، وقياسًا للإتقان.

ولكن لماذا لم تسلك هذه الحملة النقدية الشعواء سبيل الاحتيال باللين والمداراة على القارئ ليقتنع؛ ما دام الأمر برمته هو مجال الإصلاح الأدبي، ومن منا يرفض الصلاح والإصلاح؟! ولماذا فضلت أن تغلظ البلاغ للأمير، وأن تصخ صخًا شديدًا، على حد تعبير العقاد نفسه في بداية مقدمته للديوان في الجزء الأول منه؟ إن القارئ لمقدمة كتاب (الديوان)، والذي صدر الجزء الأول منه في أول شهر فبراير سنة 1921، وطبع طبعة ثانية في شهر أبريل من نفس العام، التي كتبها العقاد نجد سببًا مهمًا قد أبرزه الأستاذ، ألا وهو: أن عقيدة أدبية تلح على ضمير العقاد، وقلبه وفكره، إلحاح أصحاب المبادئ والدعوات الإصلاحية الكبرى، التي يرخصون حياتهم والحياة من حولهم في سبيل عقيدتهم.

فإذا أضفت إلى هذه الحقيقة معرفتنا بالعقاد، عرفنا أي هول وأي جهاد مرير صابر وقادر سوف يفعله هذا العملاق من أجل معتقده الفكري! إن عباراته في مقدمة الديوان تدلنا على مكانة هذه العقيدة الأدبية في نفسه، وعلى صفة صاحبها. يؤكد العقاد على أنه من ذلك الفريق الذين إذا أذروا شيئًا لسبب يقنعهم، لم يبالوا أن يطبقوا الملأ الأعلى والملأ الأسفل على إعلانه ومحاربته! كلام آخر نقرأه معًا في مقدمة العقاد للديوان، يكشف لنا عن قيمة عقيدة العقاد الأدبية وأهميتها، حيث يقرر أننا إذا استطعنا أن نهدي الطبقة المتأدبة من أمة إلى القياس الصحيح في تقدير الشعر، فقد هديناهم إلى القياس الصحيح في كل شيء، ومنحناهم ما لا مزيد لمانح عليه، فليس إصلاح نماذج الأدب بالأمر المحدود أو القاصر على القشور، لكنه من أعم أنواع الإصلاح وأعمقها.

لعلك ترى معي أن العنف كان واضحًا في هدم العقبات المطروحة أمام القصيدة الجديدة أو فلنقل الأدب الجديد أو الفكر الجديد، وهو في حد ذاته غاية ووسيلة، العقاد يشير إلى ذلك فيقرر أن التاريخ قد مضى بسرعة لا تتبدل، وقضى أن تحطم كل عقيدة أصنامًا عبدت قبلها، وربما كان نقد ما ليس صحيحًا أوجب وأيسر من وضع القسطاس الصحيح وتعريفه في جميع حالاته، فلهذا اختار العقاد أن يقدم تحطيم الأصنام الباقية على تفضيل المبادئ الحديثة، هكذا قال أساتذتنا الذين عاصروا العقاد ودرسوه حق دراسة واستوعبوا فكره حق استيعاب. سبب ثان يجيء بعد فكرة القصيدة الأدبية، وأعتقد أنه سبب شخصي مهم وخطير، لأنه أدى إلى تحولات غير سارة في جهود وصداقة الثالوث العظيم: العقاد، وعبد القادر المازني، وعبد الرحمن شكري، ذلك أنه كان للاتجاه المحافظ أصبع قوية في تعميق هوة الخلاف بين شكري والمازني، مستغلاً موقف شكري من سرقات المازني الأدبية، وكان العقاد قد تمكن سنة 1917، من لم الشمل، وجمع الكلمة، ولكن دور المحافظين قد تمكن من الحيل الظاهرة والباطنة من بعث الخلاف من جديد وتطويره، فقد تحول الأخوة الأصدقاء إلى أخوة أعداء.

واشتعلت المعركة حين اضطر شكري المثقف الصريح الواضح، والصابر المثابر، والذي لا قبل له بالمؤامرات أو بالحيل أو بالألاعيب إلى ممالأة الاتجاه المحافظ في هجومه على المازني الصديق القديم، ثم على العقاد أيضًا الزعيم العنيد، لهذا كله هاجم العقاد بشدة وعنف الاتجاه المحافظ ممثلاً في شوقي الذي سحبت منه السجادة الفخمة التي كان يمشي عليها. أقول لك: لقد راج كتاب الديوان رواجًا كبيرًا، وبيعت منه آلاف مؤلفة من النسخ، والعقاد يرد على رواج كتاب (الديوان) إلى ما يعرفه القراء من جملة الأسباب الشخصية التي تقف وراء ظهوره، وقد قرر العقاد ذلك بصراحة شديدة على صفحات صحيفة (الرجاء) سنة 1922، وكانت هذه الصحيفة تقوم بنشر سلسلة من الرسائل تحت عنوان (رسائل العقاد)، وذلك في رسالة كتبها العقاد إلى صديق له في عدد (الرجاء) الصادر في 25 مايو سنة 1922. يقول العقاد لصديقه: إنه لا يكتمه أنه ارتاب في علة رواج كتاب (الديوان)، فيرى أن حب الأدب وحده لم يكن أقوى البواعث على لفت الأنظار إليه، وهو يسأل صديقه: هل ترى الكتاب كان يحدث هذه الزوبعة التي أحدثها لو خلى من حملة معروفة الهدف، شديدة الرماية؟!

أستاذنا العقاد يقرر بنفسه أن هذا العمل أي كتاب (الديوان) طور طارئ دعته إليه الحاجة، ولكن لا يمكن استمراره، إذ لا يحتمل كاتب أن يقصر قلمه على مثل ذلك، وإذا كان ذوق الجمهور لا يستقر بغير هذه الوسيلة فهل تفيد المجاراة فيه؟ وإن أفادته فهل يحتمل كاتب أن يقصر قلمه على هذا النوع أو اللون من الكتابة؟ وتحت عنوان: (الشعر في مصر) كتب الأستاذ العقاد مجموعة من المقالات المهمة سنة 1927، على صفحات جريدة (البلاغ الأسبوعي)، هذه الجريدة التي استمرت من سنة 1926 إلى سنة 1929، وفي هذه السلسلة من المقالات تعرض لهذه الحملة التي شنها على أحمد شوقي من خلال الديوان، وقد أوضح العقاد ما اعتمد عليه في فكرتين:

الفكرة الأولى: عقيدة العقاد الأدبية.

الفكرة الثانية: كيد شوقي وأتباعه في إفساد الحياة الأدبية.

يقدر العقاد أن الناس كانوا يوافقونهم في مجمل الرأي، ويطلبون منهم أن يتخذوا للنقد لهجة غير التي اتخذوها، ليدفعوا مظنة التحامل على شوقي، والنظر إلى شخصه، وكان العقاد يرد عليهم: بأن مثل شوقي في أحابيله التي ينصبها لترويج أمره، والكيد لغيره، لا يستحق منهم غير تلك اللهجة التي قاسوا عليها قياسًا يلائمه كل الملائمة، ويطابقه أعدل مطابقة. والعقاد يؤكد أنه يعرف كيف يختار طريقته في النقد الأدبي، وكيف يضع أقواله بوضعها في الكلام، فظهر له أن قراءه الآن لا يخلون من فئة قيمة تعرف ذلك أيضًا، وتعرف الفرق بين لهجة التحامل ولهجة التأديب، وإنه كان على صواب حين رفض أن يفسر خطأه في النقد أنفة أن يعد ذلك استجداء لإقناع المتثاقلين باقتناعهم، أو تلمسًا لرضا الذين لا يرضيهم انحناؤه على ما هو به حقيق.

وفي كتابه (ساعات بين الكتب)، أمامي طبعة 1929، والطبعة البيروتية سنة 1969، يقرر العقاد: إن الناقد يجوز له من الصرامة أحيانًا ما يجوز للقاضي، وأن الحق يحق له أن يخشن في موضع الخشونة، ويلين في موضع اللين، وأن إحساس العدل هو الذي سوغ للعقاد أن يقرر الحقائق ويبسط الآراء بلهجة توائم الرجل الذي قيضته المناسبة لتقرير تلك الحقائق، وبسط تلك الآراء.

*

أقول لك: بعد هجمة (الديوان) الذي ظهر الجزء الأول منه في طبعته الأولى في شهر يناير سنة 1921، وأعيد طبعه في شهر أبريل من نفس العام، وظهر الجزء الثاني في شهر فبراير سنة 1921، ويبدو أن نفس الجزء أعيد طبعه هو الآخر في شهر أبريل من نفس العام. بدا العقاد بعد هذه الهجمة الديوانية قوة مرهوبة الجانب، قادرة على الثبات بل الهجوم الساحق الماحق، وقد أثار عليه هذا الكتاب جبهات وأقلامًا، وأدى هذا الكتاب وحده إلى مجموعة مهمة من ردود الأفعال المضادة، نجم عنها مواقف من الصراع الحاد الظاهر تارة والمستور تارة أخرى، بين شوقي الأمير وأنصاره من جهة، والعقاد وأنصاره من جهة أخرى. ومهما يكن موقف النقد الأدبي والصحافة الأدبية بعد ظهور الديوان، مهما يكن من هجوم حاد على الديوان وتعنيف في بعض الأحيان دون فكر نقدي، أو لهجة سباب تمثلها الصحافة المأجورة لصالح أو لحساب شوقي وأتباعه ومريديه؛ أو تأييد كامل ومطلق للديوان في عنفه وفكره وإنكار لعنف النقد بل في دعواه أنه جديد من الأساس، مهما يكن من أمور فقد كان العقاد كما قرر لنا من قبل في مقدمة الجزء الأول من كتاب الديوان قد عقد العزم تمامًا على أن يصخ الاتجاه القديم أو العتيق في فهم الشعر، وقد قرر أن يصخه صخًا عنيفًا، مغلظًا له البلاغ. أنت تعلم معي أن العقاد اتخذ أحمد شوقي أمير الشعراء الرمز والأنموذج لهذا الاتجاه الذي يحاربه، باعتباره زعيمه الحق، والعقاد الثابت على المبدأ دائمًا وأبدًا أكدت الحوادث والأخبار أن الرجل لم يتخل أبدًا عن عزمه الذي عقده، فقد ظل الأستاذ يتابع المناهضة لشعر شوقي في الشعر الغنائي ولأسلوبه الشخصي الذي تجلى في محاولاته للسيطرة على زمام الحياة الأدبية، ولم يرفع العقاد قلمه عن شاعر العروبة أحمد شوقي حتى انتقل إلى جوار ربه راضيًا مرضيًا.

معي الآن صحيفة (الرجاء) التي ظهرت سنة 1922، لمدة عام واحد تقريبًا، وهي أول صحيفة نسائية ظهرت آنذاك، لصاحبتها الأستاذة ليلى عبد الحميد الشريف، وكانت هذه الصحيفة تحتفي بالعقاد احتفاء كبيرًا يليق بعبقرية العقاد الفكرية، فهي تقدم مقالاته على صفحاتها بقولها: (للأستاذ الجليل والشاعر العبقري)، وبقولها: (لزعيم المذهب الأدبي الحديث). في صحيفة الرجاء هذه، كتب العقاد مقالاً نشر في العدد الصادر في 16 مارس 1922، أي في الوقت الذي لم يهدأ فيه بعد لهيب هجمة الديوان، أو تخف حدة آثارها في الواقع الأدبي، كما أن جراحها بنفس شوقي وحواريه لم تندمل بعد، ولكن العقاد يمضي كالإعصار لا يلوي على شيء، ويكتب مقالته التي هاجم فيها أمير الشعراء تحت عنوان (الشوقية الصحراوية) أو (الحقائق الشعرية).

وقصيدة شوقي التي هي موضوع نقد العقاد هي قصيدة (على سفح الهرم)، ونجدها في الجزء الأول من الشوقيات، ومطلعها:

قف ناج أهرام الجلال وناد

هل من بناتك مجلس أو ناد؟

يشير العقاد في بداية حديثة أمر مهم ألا وهو أن شوقي ظن حين أنكر العقاد عليه تفاهة المعاني، والتهافت على التقليد للأقدمين، أنه يأخذه بألا يقول إلا جديدًا، وألا يطرق معنى طرقه الشعراء من قبل، وأن العقاد من وجهة النظر الشوقية يدعو إلى نبذ كل قديم، والتعلق بكل جديد، فلا يقر للمتقدمين بفضل، ولا يرى للمحدثين عيوبًا. وكلام العقاد هذا قاله ردًا على الأمير الذي دافع عن نفسه في هذه القصيدة، حيث يقول:

والشعر من حيث النفوس تلذه

لا في الجديد ولا القديم العادي

ويرد العقاد سائلاً أحمد شوقي: من أي موضع جاء بهذا الرأي؟ ومن أي موضع من كلام العقاد أخذ هذا الرأي؟ ويأبى العقاد إلا أن يعيد على شوقي ما سبق أن هاجمه به في الديوان، ثم يذكره بما سبق أن أوضحه له، ثم وضع مقياسًا بسيطًا لسلامة الشعر وصحته بأنه لا يريد من الشعر إلا الصدق والجمال، ثم ما شاء الشاعر بعدهما فليقل، فإنه لا يقول إلا ما يروق السمع، ويعجب النفس، ويرضي الفكر. ثم خاض العقاد مع شوقي نقد قصيدة (الشوقية الصحراوية)، وأخذ يكشف له عن وجود العبث والتلاعب والمغالطة في مذهبه الشعري.

ويثير العقاد قضية مهمة وأقصد بها قضية (الشعر والتاريخ) أو (الأدب والتاريخ)، وبمعنى آخر موقف الشاعر من القضايا العلمية والتاريخية، وإلى أي مدى يحق له الخروج عليهما أو التقيد بهما؟ لقد سخر العقاد من المدافعين عن شوقي، وسماهم بجماعة (المتحذلقين) و بـ(الببغاوات). أعود لأقول لك: إن ما انتهى إليه العقاد بعد المناقشة يعد من الحقائق المهمة، وأنه يجب ألا يخالف الشاعر ظاهر الحقيقة إلا ليكون كلامه أوفق لباطنها، فأما أن يتخبط في أقاويله يمينًا وشمالاً مخالفًا ظاهر الحقيقة وباطنها مدايرًا أحكام الحس والعقل والصواب لغير غرض تستلزمه من خدمة الحقائق النفسية أو تصوير الضمائر الخفية فذلك هو السخف الذي لا يطاق! العقاد لا يسكت إلا متوعدًا متحفزًا حيث يختم مقالته على صفحات (الرجاء) قائلاً: وفي هذا الكفاية الآن!

ولا يكف الأستاذ العقاد عن مواصلة كتابة المقالات الفنية في نقد الشعر، وفهم حقائقه في تلك الآونة، وكانت بعض هذه المقالات في صحيفة (الرجاء)، ومنها على سبيل المثال مقالته المنشورة في يوم 23 مارس 1922، تحت عنوان: (الوضوح والغموض في الأساليب الشعرية)، وكذلك مقالته المنشورة في يوم 31 أغسطس سنة 1922، والمعنونة بـ(الوصف الشعري). العقاد المتجدد دائمًا بهذه المقالات وغيرها كأنما كان يرد الهجمة الكلاسيكية التي كانت تزعم دائمًا أن كتاب (الديوان) هو كتاب هدم لا بناء، وفي ذات الوقت كان الرجل يفي بوعده، الذي وعدنا به في مقدمة (الديوان)، حيث أوضح وأكد أنه سيبدأ بالهدم لأنه واجب، ثم يثني بوضع المقاييس وتقديم النماذج التي يجب أن تراعى وتلتزم في قول الأدب وفهمه.

وفي عام 1922 أيضًا سارع في إخراج كتابه (الفصول)، والدارس للعقاد يلاحظ بالمطالعة السريعة لهذا الكتاب أن بعض مقالاته نشرها العقاد من قبل في صحيفة (الرجاء) سنة 1922، والتي كلمتك عنها من قبل. وختامًا لهذه الجزئية أذكر أنه وقع في يدي كتاب بعنوان (المقالة في أدب العقاد)، تأليف الدكتور عبد القادر رزق الطويل، صدر عن الدار المصرية اللبنانية، سنة 1987، ويبدو أن الكتاب كان رسالة جامعية، أو ما شابه ذلك، ونحن الآن ليس في مقام نقد هذا الكتاب وسلبياته الظاهرة، ولكن الذي لفت نظري أن المؤلف عند ذكره في نهاية كتابه ثبتًا للصحف والمجلات التي كتب فيها الأستاذ العقاد، تجاهل عددًا من هذه الدوريات، ومنها دورية (الرجاء) التي كتب فيها الأستاذ مقالات جادة ومهمة، أعاد نشرها في كتابه (الفصول) الذي صدر في نفس السنة تقريبًا، ويبدو من كتاب الدكتور الطويل أنه لم يطلع البتة على هذه الدورية، رغم ما يوحي به كلامه في المقدمة من أنه عانى الأمرين في الاطلاع على كل الدوريات التي كتب فيها العقاد، ولسان الحال يقول لنا: لا تصدقوا أيها القراء المساكين كل ما يقوله أهل التأليف من الكتاب، سائلين الله العفو والعافية.

لقد عاش الباحث سنوات وسنوات في قسم الدوريات بدار الكتب المصرية، وعرف كل المعرفة كل دورية أدبية أو ثقافية في القديم أو الحديث، وشم بعمق رائحة ترابها، وأكل من غبارها سنوات وسنوات، وعليه فليس كل إنسان يصلح لأن يخوض غمار الدوريات أو يتعامل معها، وعلى الله قصد السبيل، سائلين الله التوفيق للجميع. المهم قبل أن أتركك فإن كتاب (الفصول) به إلى جانب مقالات الفكر والفلسفة والاجتماع والتاريخ مقالات وكلمات تتناول جوانب فنية مهمة من الشعر، مثل: الوضوح والغموض في الأساليب الشعرية، والغزل الطبيعي، والأدب المصري، والوصف الشعري، والعصرية في الشعر، أستحلفك أيها القارئ المفضال أن تعود لهذا الكتاب وتحسن قراءته فستعم عليك فائدة كبيرة وجليلة، وإنني على ثقة أنك لن تندم.

وأخيرًا ففي كتاب (الفصول) لا يفوت العقاد أن يذكر لنا تعليله للرواج الكبير الذي حظي به كتاب (الديوان)، وشكه في أن يكون ذلك مرجعه إلى حب الأدب وحده، ويرى أن الحملة المعروفة الهدف الشديدة الرماية والتي استفزت ذوق الجمهور، كانت أقوى بواعث رواجه، ويرى العقاد أن ذلك ليس بالأمر السهل الذي يحتمل الأديب المفكر أن يحبس قلمه عليه.

 

باحث وخبير في التراث الثقافي

Yusri_52@yahoo.com