يكشف الباحث المصري هنا عن آليات مساءلة الحياة والموت في ديوان أيمن ثابت، وعن غاية هذه المساءلة الشعرية والوجودية معا، وهي تتخلق عبر الوظائف المرنة للصياغة الشعرية والتشكيل السردي للمواقف والصور في البناء والرؤية، لتكشف لنا عن تبديات الحياة في جدلها المستمر مع الموت.

مساءلة الحياة والموت

في «الأول»

محمد سيد عبد المريد

يقسم الشاعر الواعد أيمن ثابت ديوانه "الأول"(*)، إلى أقسام ثلاثة، حملت الحياة ونقيضها في تركيبها الدلالي: الحياة بسيطة ومعقدة/ الذي بين الحياة والموت/ الموت هو من هو. وهذه العتبات النصية تحاكي الحياة والموت، من منظار التجربة الذاتية، بوعي ثوري في أحايين كثيرة، يتعمق من خلاله في المعاناة الجماعية؛ فالقسم الأول يحمل دالين متقابلين، أحدهما خبر للمبتدأ "الحياة" والثاني اسم معطوف على الخبر؛ إذن لا ينفصلان لغويًا أو دلاليًا عن دال الحياة، وهما يعبران بدقة عن التجربة الحياتية الذاتية بما تحمله من مفارقات وتقابلات لا تنتهي إشكالاتها المعقدة، والقسم الثاني يركز على تفاصيل دقيقة بين الحياة والموت، وهو ما يجعل القارئ يركز على دال الحياة، هل هو يدل على لحظة الميلاد أم أنه يعبر عن الحياة ذاتها؟، حينها يتساءل القارئ أيضًا: فما الذي بين الحياة والموت؟ والقسم الأخير يفرده للموت، للتعمق في تحققه بأشكال مختلفة في الواقع السياسي في أغلب الأحيان. وبالتالي يتبدى تقسيم الديوان واعيًا وحياديًا بين الدالين المتقابلين، ولكن الأقسام الثلاثة تتشكل في نسق واحد؛ لتشكلاتهم التعالقية، عبر نتاجات الواقعية والوعي الثوري؛ ومن ثم التقسيم لا يعبر عن الحدود النوعية، التي يجب أن تكون في التشكل البنائي لكل قسم على حدة.

وتتنوع التجربة الشعرية في طروحاتها النصية، معتمدة على توظيف الاتساق بين النصوص، بحيث تعبر جميعها عن بنية التجربة الأساسية، وستتناولها هذه القراءة من منطلق المساءلة، وهي مساءلة تتنوع في حركيتها ونتاجاتها، فليست تنطلق من المعنى الأنطولوجي الديالكتيكي فقط، وإن تماست مع بعض الجدليات التي يكتنزها التاريخ العام، عبر آلية التناص، بل تتعمق في تفاصيل الحياة والموت، من منظور التجربة الحياتية، بوعي كلي يتحرك من ممكنات اللغة الشعرية إلى التغلغل في النسق الذي يشكل ضغطًا متوالدًا على ذات الشاعر؛ ومن ثم تكون الحالة الشعرية – بتعميقها الانفعالي – متجسدةً بشكل واضح، في نتاجات التجربة المعرفية والوظيفية؛ وهذا من أهم دفوعات الاهتمام بالسياق العام للتجربة؛ لذا المساءلة – وفقًا لبنيتها التكوينية – لا تقف عند حد التعرية والكشف، بل تتجاوزه للتثوير والتغيير، والتجربة في تشكلها تعكس الحالة الثورية الدائمة، والتي تتساوق مع رؤية الشاعر حول نوعيـة المساءلة.

كما تعتمد التجربة على القصيدة الدوّارة، أو الممتدة سياقيا بتداعيات دورانها، وهي التي تتسم بالاتساق البنائي والتتابعية الدالة المتضامة في جسد القصيدة، وهو ما يوضح للقارئ مدى سعيه لتشكل القصيدة ووضوحها، أو تشريحها ذاتيًا، ومدى استيعابه لبنيات النص في تكوين البنية الأساسية للقصيدة، وهذا يتطلب المزيد من التأمل في نسقية القصيدة أثناء تشكلها. كما تتشكل المساءلة في سياق المغايرة، أي تنطلق من خصوصيتها في ترسيم الرؤية الفنية؛ وبذلك تبين عن القدرات الدلالية للشاعر، وعن مقاصد نتاج تجربته الشعرية.

تنطلق المساءلة في ظل رحابة الذات الشاعرة، نحو الخصوصية الدالة في إعادة الرؤية حول العالم الفعلي، كما يقول في نص "الأول":

لم أقصدْ إهانةَ آدمَ البشريّ

لكنّي سألْتُ عن الخليفةِ..

قيلَ لي : طينٌ ،

ولي رأيٌ

يخصُّ كرامةَ النَّارِ الّتي انطفأَتْ

ليلمعَ طينُهُ فِيها ..(ص60)

هنا تتعمق المساءلة في تجاوز اللاوعي الجمعي المستقر في التاريخ، من خلال التعمق في التكوين الأولي للبشرية، موضحًا خصوصيته "لي رأي" التي تعيد صياغة التاريخ، في تغيير الجانب السلبي عن النار بما ترمز إليه، من خلال مرجعيتها الدالة، معتمدًا على محاكاة الفخار في التشكل، فالنار هي التي تصنع لمعانا وجمالا خاصًّا للفخار، وكذلك يصبغ رأيه بهذا التمثيل الدال، فلولا النار التي انطفأت كرامتها؛ لما كان الإنسان خليقًا بالبروز، في تشكل كرامته الخاصة، ومن حق القارئ أن يطرح تصوره في هذا السياق، بأن الإنسان بارز بسبب روح الله التي تجلت فيه، وليست بمعصية إبليس، ولكن السياق الجمالي لا يتعارض مع هذا التصور، وإنما يوظف الشاعر الترميز برؤية مغايرة؛ ليتجاوز هذا الإشكال ويعبر عن مماثلات رمزية غير مألوفة، والتحليل الجمالي يدرك سياق هذا النص، من خلال الدالين المتقابلين: الانطفاء/ اللمعان، والذي يمكن أن نرصد معادلهما الموضوعي المنطقي: الشر/ الخير، ويبدو الشر دافعًا للخير ومبرزًا له بانطفائه، لكن هذا التحليل الجمالي يتشكل بالمغايرة؛ وفقًا للتغير الحاد في سياق النص، والذي يبرز البنية النصية العميقة بشكل مباشر في هذا السطر الدال:

وطينُهُ شرّ من النّارِ الّتي انْطفأتْ ..(ص61)

هكذا يبدو الإنسان أكثر شرورًا من إبليس رمز المعصية والتمرد، ومن ثم تتبدى المساءلة في نسقها الكاشف؛ لتمهد للتثوير حضوره الدال في حدية المغايرة، كما يقوده النسق إلى نتاج موازٍ أو رمزي لقصة الخلق، بحيث تتجاوب الذات مع قيم هذا النسق، وتتماهى في حدية المغايرة، فيتبدى للمتلقي المعنى السطحي للقصيدة وهي قراءة قصة الخلق، والمعنى العميق الذي يتخذها قناعًا؛ لتعرية الواقع الفعلي بمرونة المساءلة النتاجية. فالنسق التقليدي للقصة أو الثابت، يبرز تحدي إبليس لله ولآدم من أجل ذاته، مستعدًا لأي عقاب يناله، وهنا تتبدى المساحة التي يستغلها الشاعر في تخلق النواتج الدلالية، والتي تتعمق في الحياة تعمقًا فلسفيًا ذاتيًا:

إذن سيكونُ ما سيكونْ:

كلُّ ابنِ أنثى مَيتٌ،

وأنا الوحيدُ على رياحِ اللهِ.

حي لا أموتُ،

ولم أكنْ في وضعِ مجنونٍ

لأقبلَ بالرتابةِ تلكَ

في أحداثِ سيناريو الحياة،

فقلتُ..

أخترعُ الحياةَ (ص ص63،62 )

إن رفض الرتابة أو الجمود الذاتي الجبري، قاد إبليس إلى التمرد؛ لكي يخترع الحياة كما يشاءُ، واصفًا أن الذي يقبل بوضع الرتابة مجنون، وهذا يعد إسقاطا مائزًا على التجربة الحياتية الخاضعة للرتابة والجمود، أي حياة الإنسان الذي قبلَ كل أحداث سيناريو الحياة؛ فغدا غير مؤثر؛ لفقدانه لحريته. أما إبليس الذي رفض الجبرية، استطاع أن يعيش حتى يوم القيامة، وأن يخترع الحياة كما يشاء؛ ولقد أورد الشاعر عبر صور شعرية متوالية وموغلة في الواقعية، ما يبرز للمتلقي ما اخترعه إبليس - ولكن بصيغة تهكمية شديدة - تتراوح بين كوارثه وكوارث الطبيعة وكوارث السياسة؛ فتطرح التساؤل من جديد، حول دور إبليس في الحياة البشرية، بالمعنى السطحي لدلالة النص، أما المعنى العميق فهو تعمق في الحياة البشرية، كمسؤولية جسيمة تقع على عاتق العالم بأسره عامة، ومسؤولية الوطن التي تقع على عاتق المواطنين خاصة.

وهذا الكشف الصريح، يقود إلى التثوير وفعلنة التمرد والرفض، ومن ثم ينكشف قناع إبليس بالكامل؛ لتتبدى الحقيقة بكل ما تحمله من مفاجأة المغايرة:

"إبليسُ" ليسَ اسمي،

ولكنَّ الرواةَ الأقدمينَ

مُراوغونَ على الحقيقةِ،

كاذبونَ،

ومدَّعو أسطورةٍ،

ومحرّفونَ،

وخائنونَ،

ولا حقيقةَ في كلامِ النَّاسِ عنِّي،

والحقيقةُ أنه:

في البدء كانتْ ثورةُ الإنسانِ،

والإنسانُ فكرةُ ربِّهِ.

وصَنيعَتي. (ص67)

يتبدى الختام مدركا للسياق الثوري المغاير، الذي يطمح إلى التغيير الجذري، حتى في أبسط تصورات اللاوعي الجمعي، التي تدور حول اسم إبليس، وما يعلق به من صفات، حيث تتبدى مفردة "صنيعتي" مرتبطة بسياق التمرد الذي قام به إبليس، ومن ثم تتبدى ثورة الإنسان وليدة هذا التمرد، وهنا تنعتق دلالتا اللمعان والانطفاء عن تشـكلهما الضمني.

وكما لاحظنا أن المساءلة هنا في صياغتها الشعرية، تعتمد على البساطة الفنية والتناص غير المباشر، في تخلق المغايرة التصورية، كما تتبدى الواقعية الشديدة بمركزيتها البنائية، ومن ثم تنخرط المجازية في تبيان الحالة الثورية والمغايرة؛ وفقًا لهذه التفاعلات البنائية الأخرى، التي تتضام معها أحيانًا، أو تقلصُ من حضورها أحيانًا أخرى. كما أنه ينوع في الصياغة الشعرية، بما يتناسب مع المعطيات الرؤيوية، فيوظف آلية القصيدة الدوارة، والتي تخلق سياقا لغويا متعمدا، يعبر عن التشكل البنائي المختلف، الذي يشتبك مع التشكل البنائي الشعبي الموروث ، يقول في نص "بداوة":

والبداوةُ ..

رحلةُ المتسائلينَ عنِ الحقيقةِ

في بوادٍ عُشبُها الغزلانُ،

والغزلانُ تُولدُ من زجاجةٍ،

الزجاجةُ مثلُ نجمٍ

طلَّ في ليلِ البدائيينَ – عصريًا-،

وأهداهُمْ قصيدتَهمْ، وليلتَهمْ،

وسمّى نفسَهُ "البنت" ..

البناتُ إذنْ صدَى ذكرَى

تدُسّ "أكونُ" في "كنت" .. (ص ص48،47)

وهذا السياق اللغوي لتتابعه وتكثيفه، أنتجَ إشكالا في التلقي، فالصورة الكلية تتبدى من خلال هذه التفاعلات البنائية المتعددة، في تخلق رحلة المتسائلين عن الحقيقة، عن طريق ما يوازيه من رحلة لغوية، في سياق الجدل الإشكالي العميق، وفي تخلق الرؤية حول مفهومي البداوة/ الحقيقة؛ ومن ثم تكون المساءلةُ متعمقة في العلاقة بينهما، ومتسمة بانفتاحية التأويل.

والمتتبع لخطوط المساءلة الدلالية، يدرك على الفور معاناة الشاعر، وآليات الواقع المتعددة في صياغة الحياة، في سياق التسلط، يقول في نصه "المدينة":

بلَونِ المدينةِ تَرسمُ

وجهًا عجوزًا

تحاولُ أن تتذكّرَ كيفَ استقلْتَ

سيحبو المساء إلى ناظريْكَ

ليشهدَ بوحَ المياهِ المقيمةِ في المقلتينِ

ستمضي وحيدًا ..

وحيدًا إلى شرفةِ الموتِ،

تُلقي الحكايةَ فوقَ رؤوس الطيورِ

لكي تستريحَ ..

فهل تستريحُ الطيورُ؟

وهل تستريحُ المدينةُ؟ (ص16)

إن هذا التدفق الوجداني يبين عن حجم المعاناة الذاتية، والتي تجسدت بشكل مباشر، كما تنعتق العلاقة بين الحياة والموت؛ بسبب تضخم المعاناة التي قادت المخاطَب أو القرين، إلى التنبؤ بالوحدوية "ستمضي وحيدًا"، ولا تقف عند هذا الحد، بل تتجاوز المعاناة هذه الوحدوية من نطاق الحياة إلى نطاق الموت، ومن ثم تتبدى المجازية في تمثيل المساءلة كتنبؤ أمثولاتي، يساهم في تبيان أبعاد المعاناة والنتائج الحتمية لها. وهذا يقوده إلى الاستغراق الكلي في صياغة السؤال بشكل مباشر، عبر دلالات متدفقة متعمقة، تشيح عن الرؤية وتستمد بعدا توليديًا، في نتاج التوقعات المستقبلية. والمدينة عند الشاعر كما هي متداولة في المشهد الشعري العام، تتبدى بكل ثقلها المعنوي والمادي، وما تحمله من مرجعية ثرة متوترة، ومن طغيان دائم ومتوالد، وهذا يتمثل في طروحات المساءلة بشكل مباشر وحاد، يعمق لنا دلالة الحياة المركبة والمعقدة، ولا شك أن المعاناة هي التي أنتجت هذه المساءلة بحسها الواقعي.

ولا شك أن الشاعر يتحرك عبر مرونة المساءلة، إلى تشكل رؤية كاملة، تجمع بين الماضي والحاضر، عن طريق المقارنة، كما يقول في نصه "مشهد من القاهرة":

(أتذكّرُ الأجدادَ

كم كانوا كبارًا! كمْ!

همُ المتشابهونَ على ضفافِ النَّهرِ

كلٌّ يكتبُ التاريخَ

معتمدًا على عُكَّازِهِ،

امرأةُ الصباحِ تُطالعُ اللغةَ القديمةَ

تنشدُ الأذكار:

سمَّيْناكِ ربَّتَنا، وآثرنا الصعودَ

على جناحيْكِ/ السماء إلى السماء .. ) (ص27)

الأجداد متشابهون على ضفاف النهر/ النيل؛ وهذه الوحدة فُقدتْ في الحاضر، الذي يتعمق في الخداع والمناورة، يقول في ختام النص:

تُهدي ليَ البنتُ المحجّبَةُ الخليعةُ

وهي تدخلُ بارَ عاشِقِها الغنيِّ

حجابَها وشبابَها

 

ألقي السلامَ على المقامِ

ولا كلامَ سوى كلامِ الشيخِ

عن حظرِ الحرامْ (ص28)

فهذا كشف للواقع وتعرية له، من خلال المقارنة بين الماضي والحاضر؛ لتتبدى المأساة الواقعية جلية في بناء النص، والشاعر معني بوحدة الوطن والسلام. ولقد بنى نصه "أعشق مصر، وأكره مصر"، على هذا المنوال القائم على ممكنات التقابل الدلالي المستنبط من النص السابق، أما في هذا النص يعتمد على التقابل الدلالي بين العشق والكره، في إنتاج سياقين ممتدين متقابلين؛ ومن ثم يتبدى الاستدعاء التقابلي بين المفردات اللغوية بنيةً مركزيةً للنص.

كما أن المساءلة الواقعية/ التعمق الواقعي، قادته إلى تجريب الجمالية الصوتية، في نصه "ش" حيث تحتوي مفرداته اللغوية جميعُها على حرف الشين، والواضح في سياق هذا النص الحسُّ الثوريُّ، والذي ينتج المساءلة؛ وفقًا لكشف وتجاوز الواقع السياسي المتردي:

ش

والشمسُ مشنقةُ الشهيدِ

وشوقُهُ للمشي /

تشْويشًا على الشَّاشاتِ،

والبشرِ المشاهيرِ

القشورِ

الشاردين(ص56)

إن هذا التجريب الذي يعتمد على أحد الحروف المهموسة، التي تتسم بالرقة والتعبير عن متكامنات الذات، والبوح التأثيري الذي يستمد من تتابعية الحرف وتكراره، وفي تخلق التراكيب الشعرية بهذا الشكل المتعمد، يجذب انتباه المتلقي إلى التجريب الصوتي وما يدل عليه من مغايرة في التشكيل وفي الرؤية، وفي تفاعلية الصوت مع السياق الدلالي المضمر. ومن الطبيعي أن تتأثر الرؤية باللغة الكاشفة؛ لذا تتبدى الواقعية معلنة، كما أن البنية الضمنية والتي تدل على الثورة، التي يمكن التماسها من خلال هذا التشـكل البنائي/ التجريبي:

ش

والشمسُ تُرشدُ شعبَها للشَّطِّ /

شِعرًا ..

يشربُ الشمسَ الشديدةَ ..

أشرقتْ ، أو أشركَتْ ..

هي أشرفَتْ،

شفَّتْ، وشابتْها الشفاهُ،

وشيَّبَتْ شَعرًا،

وشلَّتْ شاعرًا .. (ص57)

تهيمن الجمل الفعلية على هذا التشكل البنائي/ التجريبي؛ مما يمنح النص الحركية المواكبة للفعل الثوري، كما تتبدى دلالة الشمس معبرة عن الثورة، التي تراوحت بين دالين حيوين يمثلان الواقع الملتبس الذي آلت إليه: "أشرقتْ ، أو أشركتْ .."، ثم يتراجع الشاعر إلى القول بأنها أشرفت وشفت، لكنها رغم هذا تتعمق الأفعال الماضية " شابتها ، شيبت ، شلت" في حضورها المؤلم، وليس هذا التناقض هو الذي سبب إشكالا في التلقي، بل لأن الواقع في الأساس متناقض، والثورة طموح الشاعر يود لها أن تشرق. ورمزية الشمس هذه مستنبطة من نص سابق في ترتيب الديوان، وهو نص "مانديلا"، الذي يقول فيه عن هذا البطل الثوري:

مانديلا ليسَ سجينًا،

بلْ شمسًا تُشرقُ كلَّ صباحٍ حُرّ

فوقَ رؤوسِ النبلاءِ الأحرارْ (ص40)

فالحالة الثورية حالة ممتدة في الديوان، تمثلت في نصوص كثيرة عبرت عن معاناة الثورة في التحقق؛ مما جعلت الصياغة الشعرية مباشرة ومتدفقة، متعمقة في الواقعية، كما وضحنا سابقًا، ومن ضمن النصوص الأكثر التحامًا مع الواقع، نص "فيس بوك" حيث تختفي المجازية أمام حديةِ الواقع:

(فيس بوك)

الله منتظرٌ هناكَ

يتابعُ الأحداثَ عن كثبٍ هنا،

الأنبياءُ جميعُهم ماتوا،

وليّ الأمرِ نخلعه متى شئْنَا

وإنْ شئنا نحاكمُهُ .. نحاكمُهُ،

ولن نعفو، ولو مرّةْ (ص32)

إن حدية الواقع في عدم العفو عن ولي الأمر؛ قادت الشاعر إلى هذه الصياغة المباشرة والحادة، كما أن التفاعل مع أحداث الثورة المضطربة والحادة، كان له دور في تشكل الصياغة، فهذا التغلغل الواقعي المباشر غير مستحب في البناء الشعري، الذي يعتـمد على آليات المجاز في نتاجاته المتنوعة. لكنه يستعيضُ أحيانا عن المجاز بإمكانات السرد، وبالارتكاز على تكرار حرف معين – قد يكون الارتكاز غير مقصود – في تعميق المباشرة الشعرية، كما يقول في نصه "ضريبة الهلوكوستْ":

الرصاصُ على البلادِ

على طريقةِ " ليلةِ البيبي دول " :

النازيةُ السوداءُ

تشعلُ باليهودِ قطارَها نحوَ السيادةِ ..

ثمّ أمريكا تسدِّدُ

كي تنالَ سيادةً فوقَ السِّيَادةِ،

كلَّ سِنْتٍ في خزائنِها

وكلَّ مسدَّسٍ، ومقدَّسٍ وحبيبْ

لو لليهودِ ضريبةُ " الهلوكوستْ " ..

إذنْ، يافا لتلِّ أبيبْ (ص ص71،70)

إن حرف الصفير "س"، يتكرر بشكل ملفت للانتباه، في إنتاج الصراع السياسي الصهيو-أمريكي، ضد فلسطين والوطن العربي، بإيقاع ذي نبرة شجية، كما أنه يستدعي في بداية النص، فيلم السيناريست عبد الحي أديب "ليلة البيبي دول"، الذي يتفاعل مع طرح هذا الصراع السياسي، ويعمقه بما يحويه من أحداث صراعية مختزنة في عقل المتلقي، وكل هذا يتفاعل مع البنية العميقة للعنوان.

وإمكانات السرد تمثلت في نصوص عديدة، كان أهمها نص "من البيت إلى السجن"، الذي يعتمد فيه على المشهدية والواقعية، عوضًا عن المجاز الشعري، في إنتاج المعاناة الذاتية الباحثة عن الحرية، والتي تواجه القمع، يقول في المقطع الثاني للنص:

 -2-

 يفتتحُ الزقازيقَ الصغيرةَ سجنُها

والسجنُ ..

(في نزلائه خلفَ الحديدِ)

يسلّمُ الشبّانَ للعرباتِ،

تحملُهم إلى كليةِ الآدابِ ..

في كليةِ الآدابِ سجنٌ آخرٌ

نزلاؤهُ خلفَ الحديدِ،

ولستُ منهم ..

إنما إني إليّ،

وهم كما كتبوا لأنفسِهم

 

أطيرُ إذنْ بعيدًا عن حدودِ السجنِ

والأصحابِ،

أدخلُ قلبَ بنتٍ ..

ليتَ أعرفُ أنّهُ سجني الأخير.(ص54،53)

بهذا التشكل السردي النمطي، في بناء مشهدية النص الشعري بشكل واضح، والذي يبدأه بتقديم المفعول به على الفاعل، وعبر هذا التقديم الذي يمنح للفاعل/ السجن سلطة مركزية طاغية، والذي يلحق به ضمير الغائبة المتصل، وفي الوقت ذاته، يتبدى المفعول به/ الزقازيق، عبر الصفة النحوية/ الصغيرة هامشيًا وخاضعًا لهذه السلطة المركزية.

كما أن مفردة السجن تتكرر في هذا المقطع خمس مرات، وهو ما يعبر عن تمركز المعاناة حول حضوره الدال، ولا سيما حين يتم خروج الشبان من السجن إلى سجن آخر في كلية الآداب، والتي تعد سجنًا آخر مطابقًا تمامًا، عن طريق تكرار "نزلاؤه خلف الحديد"، إلا أن المتكلم/ الذات الشاعرة يغايرهم في هذا المصير القمعي، إلى مصير آخر ملتبس، فتغايرُهُ دفعه إلى تجاوز حدود السجن والأصحاب؛ ليدخل في قلب بنت، وتتبدى الرمزية هنا في مفردة بنت، التي تتجه نحو استغلاق سياق النص، حيث تبرز العلاقة العاطفية السطحية بينه وبين قلب بنت – الذي يزداد استغلاقا بسبب النكرة -، أو العلاقة العاطفية العميقة بينه وبين الوطن، والتي تتساوق مع التمني في السطر الأخير الكاشف.

وفي سياق مساءلة الموت، الذي تمركز في القسم الأخير، تتمادى الصياغة الشعرية بوظائفها المرنة السابقة، في دمج المساءلة مع الواقع الحياتي، بالإضافة إلى توظيف التلاعب اللغوي، في إنتاج الرؤية الفنية، كما يقول في نص "بئري مُشققةٌ":

الموتُ لا يجدي احتيالٌ فيهِ،

أو يُثنيهِ ..

عن تنفيذِ حُكمِ الوقتِ بالإعدامِ

والقبرِ المؤبّدْ

 

كمْ ساعةً ضيّعتُ أنتظرُ الصحابةَ،

والصحابةُ تائهونَ،

ويبحثونَ عن الطريقِ ..

ولا طريقَ سوى التشرّدْ (ص75)

إن المعاناة الذاتية التي تنتجها الترابطات الدلالية، والتي تتساوق مع بنية العنوان الدالة، بالإضافة إلى هذا التلاعب أو التوظيف اللغوي "حكم الوقت بالإعدام ، القبر المؤبد"، وقافية الدال المقيدة/ الساكنة، تتعمق في إنتاج اللبس، الذي يلازم الموتَ دائمًا، والذي يلازم هنا أيضًا "الصحابة تائهون"، في بحثهم عن الطريق، ولقد عمق الإيقاع الرؤية، التي برزت في السطر الأخير المعبر عن المعاناة الذاتية والجماعية.

وهذه المعاناة تتمادى في حضورها الواقعي، أي في إنتاج ديمومتها، حيث تنتقل من الأب إلى الابن بشكل واضح، يقول:

"أنا حاملٌ" قالت امرأتي

فقلتُ : إذن نُعدُّ المأتمَ الموعودَ

لابنٍ ما قليلِ الحظِّ في الدنيا مهدّدْ (ص76)

ولا شك أن هذه المعاناة الواقعية، والتي تمركزت في معظم نصوص الديوان، دفعته إلى صياغة دعاء – أو رجاء - لله، يتمحور حول دلالة الموت ومركزيته، في نص "هناك":

يا الله ..

لا تحملْ على أكتافنا الخضراء

إصرًا ..

يرهقُ الثمرَ الخفيفَ

ويُعلنُ الموتَ المؤقّتَ سيدًا ..

هلا فتحتَ الباب ،

لا وقت هناك ولا نموت .(ص86)

إن دال إصرًا يعبر عن حجم المعاناة الذاتية، الذي يرهق الثمر الخفيف – الذي يعبر عن الحياة وعطائها الذاتي -؛ ومن ثم إعلان سيادة الموت المؤقت. كما تتمركز دلالة الموت حول الواقع السياسي، الذي يهيمن على تنويع الصياغة الشعرية، ولا سيما في اهتمام الشاعر بالقضية الفلسطينية، ففي عنوان نص "وصية الشهيد ما بعد الأخيرة"، الذي يغاير المألوف في التصور، حيث دلالة "ما بعد الأخيرة"، تعبر عن حضور الشهيد القوي بعد استشهاده، وتتبدى رسالته الثورية متجسدة في النواتج الدلالية، ولكن الشاعر يصوغ النص، من خلال ذاته الشاعرة، بحسه الواقعي والثوري:

قُلْ إنّما أنا صاحبُ الموتِ القديمُ ..

يدايَ لم تخترْهُ عن عمدٍ ،

ولكنّي وُلدتُ

على يدِ الجرحِ الفلسطينيّ في المستشفياتِ ،

ولم تقلْ عني إذاعاتُ العدوّ :

" فريسةٌ أخرى ستدركُها بنادِقُنا الحديثةُ "(ص88)

 ويتعمق في المساءلة الواقعية، عن طريق المقارنة وتمثلات التناقض الدلالي؛ ليدل على نزعته الإنسانية، التي تبدت في صيغ الأسئلة المنتوجة من قبل المقارنة:

أنتَ تقولُ لابنِكَ : عِشْ عدوًّا للعدوِّ

لِمَ العداوةُ ؟ .. ، ما العداوةُ ؟

سلْ صغيرَكَ : منْ عدوّكَ ؟

لن يقولَ : عقيدةٌ أخرى

ولا لغةٌ ولا لونٌ غريبانْ

أما أنا فأقولُ لابني :

منْ لهُ طفلٌ جميلٌ مثلُ طفلي ؟

  • هل له وطنٌ جميلٌ يا أبي

أبدًا لهُ وطنٌ جميلٌ يا بُنيّ ،

فكنْ كبيرًا حينَ تُسأَلُ "ما بلادُكَ ؟"(ص91،90)

هكذا تكون الصياغة الشعرية عميقة بما تحتويه من إمكانات شعرية وسردية، وتشكل عبر بساطتها الفنية التشكل التأويلي، أو لديها القدرة على توجه التأويل إلى مساق معين، يتبدى في تشريح الرؤية ذاتيًا، ولا شك أن المعاناة هي التي تحدد تشكلات هذه الصياغة، في سياقاتها التفريعية المشكلة لبنية المساءلة، بما يتلاءم مع التحقق الجمالي للتشكل الشعري.

فالمعاناة الذاتية التي تعمقت في حالته الثورية، كانت ذات درجة عالية من التدفق الوجداني والتشكل الدقيق البالغ؛ ففي سياق مطارحة دلالة الموت، مشتبكًا مع عالمه الذاتي، يقول في نص "موت النبي":

خَلِّ اغترابَكَ في اقترابِكَ

منْ عيونٍ لم تمتْ

خل السجائرَ للقصيدةِ

قانعًا أن الحبيبةَ لم تمتْ(ص80)

وبنية هذه المساءلة أو المطارحة، تحققت بأشكال مختلفة، عبر لغة مرنة تستوعب التحقق المجازي والرمزي؛ ومن ثم تكون تبديات هذه البنية متفهمة للوعي المسائل المنتج، فقد تم توظيف دلالة الموت عبر عدة صيغ أسلوبية، حققت الموازاة للتيمات النصية، وكشفت المعاناة الإنسانية بشكل صريح، فحينما يطرح في ختام نصه الأخير "المسرحية" قائلا:

الحبّ في هذا الزمانِ وظيفةُ الموتى ..

فهل ستموت ؟ (ص99)

تتبدى غايته من هذه المساءلة الفعالة، وهو يعاني تنويعا معنويا وماديا للموت، وهذا يحيلنا إلى تنويعاته أيضًا عن تبديات الحياة؛ ليتجلى لنا عالمه الشعري - والذي أفرط في الصياغات المباشرة الحادة - بما احتواه من تكوينات ثرة في التشكل البنائي والرؤية.

 

(*) الأول، شعر، أيمن ثابت، الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2014 م .