يرى الناقد أنه ليس هناك بناء حداثي لدى الطاهر بن جلون، بل هناك حكاية متقنة، ورؤيا ثاقبة، تستعير الرؤى الأسطورية والخرافية، حيث نجد أنفسنا أمام عالم من الجنّ والجنيّات، يعومون ويتحركون ويطيرون، في حيز واسع مؤسطر وميثولوجي، فيه متعة تخييلية، ومنغمس بمرويات البعد الشعبي للتراث الحكائي العالمي والإسلامي والعربي.

الطاهر بن جلون في «عشر ليالٍ وراوٍ»

التّناص الجمالي مع ألف ليلة وليلة وأقاصيص شارل بيرو

هاشم شفيق

للطاهر بن جلّون الروائي والكاتب المغربي الفرانكفوني، مؤلفات عدة صدرت له بالفرنسية، وتُرجم بعضها إلى العربية، لكن ما تُرجم هو تلك الأعمال التي تُخبر وتدور وتتحدث عن المغرب، إن كان على الصعيد الروائي أو السردي الأوتوبيوغرافي، وآخر عمل قرأته له وأحببته هو «تلك العتمة الباهرة». وهو كتاب مثير بمعلوماته، ولافت في حقل كتابة السجون، ولا سيما السجون العربية التي تتخطى البعد الإنساني المعمول به في السجون العالمية، فهي سجون أعدّت لإذلال الكائن العربي الذي رفض الرضوخ لقمع الحاكم وتحدى التابو، رافعاً يده محتجاً على القوانين البوليسية التي تنشئها غالبية الدول العربية ضد مواطنيها، وما «العتمة الباهرة» في هذا السياق، سوى وثيقة إنسانية وشارة حرية ترفع في وجه الشرطي الذي يحاول تعميم تلك العتمة قسراً، على المنادي بالحرية وبالشروط الديمقراطية التي تحترم الحقوق البشرية، وبهذا كان الكتاب بمثابة شهادات حقيقية على واقع مرٍّ وقاسٍ، لأحد السجون المغربية الشهيرة بقسوتها ضد نزلائه، ولشدة شهرته القمعية والتدميرية أغلق السجن من قبل السلطات المغربية الحديثة.
بيد أنّ الطاهر بن جلون في كتاب «عشر ليال وراوٍ» يقدم متعة جمالية مختلفة ومغايرة، وهي أيضاً مثيرة في فصولها، متعة أن تقرأ قصصاً لامعة ومشوقة وجذابة، في طريقة الصوغ الفني ومناحي التأليف الطفولي، وتركيب البنى التصويرية لفن التناص السردي، التناص المذهل الذي يجعلك أنت المبتكر الآخر، والمُكمِّل لصاحب العمل الأصلي، ومنتجه الأساسي، كالفرنسي شارل بيرو الذي عُرف بتلك الحكايات قبل أكثر من ثلاثمئة سنة، لتتوارثها الأجيال وتترجم لكل لغات العالم. لقد خلق شارل بيرو عملاً خالداً، لا يُطوى، مهما مرّت عليه السنون والحادثات والأزمنة، لا بل صار مثل كتاب سحري مؤبد، أزلي، مثل «ألف ليلة وليلة». لقد نهل الكاتب الفرنسي الكثير من عوالم «ألف ليلة وليلة» ليقدمها بطريقته الفنية هو، كمبدع وخلاق وساحر نصوص من طراز أول، وقد أفاد كذلك من أجواء «كليلة ودمنة» وذلك المُناخ الخرافي والطريف، ومن طريقة السرد، عبر لغة الحيوان والألاعيب التي يتقنها كاتب قدير مثل شارل بيرو، ليأتي بعد مرور كل تلك القرون كاتب عربي، متمكن وقصاص ممتع وناثر قدير، ليقدم صياغة جديدة، تحمل طابع التنصيص مع العمل القديم للكاتب الفرنسي، ساعياً إلى تقديمها في ملامح مشرقية، وعبر الالتفات إلى التراث العربي، من خلال «ألف ليلة وليلة» ليرتب مجهوده الخاص في عمل قصصي، يستوعب كل حكايات شارل بيرو، ولكن هذه المرة بطريقة شهرزاد ومداوراتها ومناوراتها مع شهريار، ليستأنف عالم الخيال والفن السحري في استنفار كل شؤون المخيلة، والمخيال العربي والإسلامي ليصوغ عالم «عشر ليال وراوٍ»، متذكراً، أي الكاتب والروائي الطاهر بن جلون، أسرار طفولته الأولى مع عمته التي كانت تقص لهم بعض قصص شارل بيرو، وربما خلطت شيئاً من شارل بيرو مع «ألف ليلة وليلة» لتحكي حكايتها لأولاد أخيها كما كانت تزعم تلك العمة «القصخونية».
ليس هناك بناء حداثي لدى الكاتب الطاهر بن جلون، بل هناك حكاية متقنة، ورؤيا ثاقبة، تستعير الرؤى الأسطورية والخرافية، حيث نجد أنفسنا أمام عالم من الجنّ والجنيّات، يعومون ويتحركون ويطيرون، في حيز واسع مؤسطر وميثولوجي، فيه متعة تخييلية واسعة، يلعب فيها الخيال الدور المؤسس لهذا العالم الشبيه بعالم الطفولة واللهو والملهاة والمنغمس بمرويات البعد الشعبي للتراث الحكائي العالمي والإسلامي والعربي، وقد نستدل على ذلك ونلمسه بفرح طفولي وبهجة شيقة، في قصص بدت مثل حياكة متمكنة ودقيقة للسجاد، كما مرَّ ذلك في القصة الأولى، حيث قصة حياة الخادمة «مندوبة» التي تحيك السجاد للملك في غرفة معزولة، لتنسجَ كل حكاية في نسيج السجادة، إنها الحياكة اللغوية والسردية التي حيكت مثل الخيوط، وتشابكت بإتقان الصانع الماهر، فمندوبة تحيك وابنة الملك جوهرة تواجه مصيرها بالإغماء الأبدي، والذي سيطول لمدة مئة عام تقريباً.
على أن أسّ الحكاية وجوهرها الفني يكمن في بعدها الرؤيوي، كما أسلفنا، فالطاهر بن جلون الكاتب الشهير والملم بصنيعه، يعرف كيف يقدم وهو يعيش في عالم الغرب مخياله العربي، ورؤيته للحياة أيضاً كمثقف فرانكفوني. فالحكاية تحمل في باطنها فكرتها الإنسانية، وهي سياسة عدم التمييز في اللون الذي تبناه الإسلام كدين جديد منذ انطلاقته الأولى في أرض العرب، والبلاد التي أصبحت فيما بعد إسلامية، وما قصة بلال الحبشي إلا الدليل الساطع على تبني الإسلام منهج إلغاء العنصرية، كما سنلمس ذلك في قصة «جميلة الغاب النائمة»، تلك الأميرة التي ستغرم فيما بعد، أي بعد إفاقتها على يد حبيبها المخلّص وهو فتى أسود اللون، مما يحدو بالملكة إلى تدبير المقالب والمؤامرات لكي لا ينجح هذا الحب، ومن ثم الزواج بأسود ذي أصول غير مِحتدَّة، حسب زعم الملكة وسيدة القصر. والشيء الثاني الذي تظهره القصة، ويحمل دلالته البليغة، أن الشرّ شرٌّ، وليس هناك فرق بين الكائن القبيح والجميل الذي سيحمل هذا الشر. كما يظهر أيضاً عامل الحرية، لدى الأميرة التي تسعى إلى التخلص من العبودية الملكية التي تخطط لها الملكة وهي أمها، ذلك أن الجمال الإنساني وعامل الخير إذا ما توفرا معاً، في شخص ما، فإنّ حتى الغول الذي يعتاش من أكل الذئاب وأكباد البشر وقلوبهم سيرضخ له، وينحني وينهار، مولياً الأدبار، أو أنه سيتخلى عن مهمة الشر التي ودَّ القيام بها تحت طائلة أوامر الملكة وسيدة القصر الشريرة.
إذاً كل قصة في الكتاب تحمل جوهراً ما وتخبر عن حكاية سلسة، وآسرة، وإننا لو تجاوزنا قصة «فتاة البرقع الأحمر» بسبب حكايتها فهي جدّ معروفة وتُذكر بحكاية «ليلى والذئب»، رغم كونها تحمل فكرتها النيِّرة عن المنافقين، سنلتقي بقصة «الرجل أبو لحية زرقاء»، وهي تروي بطريقة سردية نادرة، قصة خديجة التي تحكي في حمام النساء القصص وتذهل بها صاحباتها، فتبدأ بنفسها كيف تزوجت زوجها، ابو ليحة زرقاء الذي يصبغها وهو رجل ثري وتاجر ويدّعي التديُّن، ولأنه كذلك، فهو يتصور أن بإمكانه أن يشتري بماله كل شيء ومن ضمنه الحب، رغم كونه أصلعَ وبكرش كبير وسمين، ويحمل بين ساقيه عضواً صغيراً بالكاد يُرى، ولا يفي بالغرض المطلوب للمعاشرة الزوجية، كي تحمل منه خديجة وتنجب الأولاد. إنها قصة مغامرات وحبكات بوليسية، مؤثرة وجميلة.
لكن من أطرف القصص والتي تتحلى بالظرف والمرح والدعابة، قصة «الهر أبو جزمة»، أنها تروي حكاية تاجر فاضل، لا يكذب في حياته ولم يجمع مالاً، فجأة توفّي التاجر وترك لأولاده الثلاثة طاحونة وحماراً وهرّاً نباتياً، فابنه الكبير ورث الطاحونة، والأوسط الحمار والأصغر وهو رشيد، ورث الهر الذي لا يأكل الفئران. راح رشيد يندب حظه أمام الهرّ الذي خاطبه، فهو يتقن اللاتينية والعربية وبعض اللغات الأخرى، بأنه سيساعده لو وفرّ له جزمة وكيساً لكي يسعى من خلالهما إلى جلب الأرانب وصيدها من الغابة، سيده سيوفر له ذلك، فبعد صيد الأرانب يذهب لصيد طيور الحجل، ومن ثم راح يفكر بطرق فيها احتيال ومكر وخديعة، مثل إغراء الأمير بإنقاذ رشيد من نهر القرية التي مر فيها الحاكم، فبكى أمام الحاكم فأنقذت حاشيته رشيد، إذ مُنح ثياباً جديدة، كانت الأميرة وهي ابنة الحاكم معه، فأعجبها الهرّ وسيده، فأغرمت ياسمين في الحال برشيد وبالهر، لم يجد الحاكم بدّاً من دعوة رشيد إلى الغداء في القصر. تمر في القصة عدة أحداث مغرية وسريالية في أحداثها ولا سيما حين يقتحم الهر وسيده بيتاً مسكوناً، تعشعش فيه العناكب وكل شيء فيه حتى البشر كانوا قد تحولوا ومنذ زمن بعيد إلى نُصُب من رماد، بعد معاناة وحوادث طريفة، وربما قصص وحكايات توم أند جيري هي مستقاة من قصص شارل بيرو، ولكن الجميل في الأمر أنّ في قصص الطاهر بن جلون يتجلى الذكاء عالياً، حين يُؤيِّن القصص ويجعلها قصصاً آنية، وخاضعة لكل زمان ومكان، ومنها اللحظة الحالية والآنية للزمن العربي الذي يمر بأحداث جسام.
أما إذا اقتربنا من عالم الجن والسَّحّرة والكهان والغيلان وعالم اليوتوبيات الذي يحلم به الفقراء، كما كان في «ألف ليلة وليلة»، حيث تلك القصص التي تتناسل، لتلد قصصاً أخرى، عبر رحمها الخيالي الكبير والواسع والحابل بالمرويّات والحكايات الطريفة، منها الشرِّير والخيِّر، منها المُخيف والمُداعب، ومنها اللطيف والكابي، ومنها البديع الذي يحاكي المشاعر الإنسانية بطريقة دافئة، تجعل من الشرير الممتلئ بالحقد في النهاية، كائناً مرهفاً ووديعاً، كما توضحه قصة «الجنيّات» وهي تُخبر بأسلوبها الظريف، حكاية موت حميد الحِرفي فجأة، ليخلف وراءه زوجته القبيحة خنسة وابنتيه، واحدة جميلة وهي كنزة، وأخرى قبيحة وتشبه أمها وتحمل اسم جميلة.
فكنزة « كانت تشبه والدها، وهي مثله ذات حسٍّ فني، ومزاج حالم، تُحبُّ الناس ولا تُقصِّر في مساعدتهم عند الحاجة».
وحين تحاصر الأم والأخت هذه الصبية الحسناء، نتيجة الحسد والغيرة من جمالها، فهي تُعامل في البيت كالخادمة، إذ ترسل إلى النبع لجلب الماء وعمل كل شيء فيه سُخرة وخدمة، حتى تظهر إحدى الجنيات العجائز لتنقذ الصبية الحسناء كنزة من شر الأم والأخت الكبرى، وحين يبتسم الحظ وتنفتح الأبواب الجميلة لكنزة، وبعد أحداث مشوقة تمر في سياق القصة، يتزوج أمير البلاد من كنزة التي ستجرى لها، من قبل إحدى الجنيات، عملية تطهير للذاكرة من الذكريات السيئة، ونسيان الماضي التعيس، لكي تليق بمقامها الحياة الجديدة.

الطاهر بن جلّون: «عشر ليال وراو»
دار الساقي ـ بيروت، 2016
صفحة.222

جريدة القدس العربي