يكتب الشاعر العراقي هنا عن الكتابة النسوية وكيفية تجلياتها في قصائد الشاعرة العراقية ويتتبع مختلف استراتيجيات تقويض الوعي الذكوري السائد فيها، والتعبير عن رغبة المرأة في التحرر منه، وجوب شوارع أخرى لا يسود فيها الفقر المادي أو المعنوي على السواء.

الكتابة النسوية فـي الشـوارع المدلهمـة بالفقـر

قراءة اولى في قصائد ماجدة غضبان

ياسين طه حافظ

وأنا أقرأ لاول مرة نصوصاً للسيدة الدكتورة ماجدة غضبان المشلب، رأيت كتابةً حاصرت المسلَّمةَ الادبية والمسلَّمة الفكرية بخطاب نسوي. هذا الخطاب ما رسمته تراكيب لغوية طويلة، ولكن ضربات قصار، باشباه جمل هي عبارات أكثر مما هي جمل، يرتضيها النحو. القراءة الاولى كانت لنصوص نشرتها في "طريق الشعب"، وهناك انتبهتُ لها. سألت الاصدقاء عن الكاتبة، فعلمت انها سيدة بيت الصديق سامي النصراوي، فتحت الجوال عليه والتقفت منه رقم جوّالها. كانت تلك الساعة في لندن وفي ظرف رأيته غير ملائم لحديث الادب. قطعت المكالمة إلى وقت أكثر سماحة. بعد ايام سمعت صوتها ووصلتني نصوصها: مجموعات شعرية، لم تنشر! فأية غرابةٍ في النصوص فعَّلَتْ هذه الحماسة؟ أقول: هو خروج النص النسوي على التقليد الذكوري المالوف، وتميّز نبرة الهجوم على المضمون الذكوري والاجتماعي المساند، أو الخاضع، له. وذلك ما أنا معنيّ به متابعاً بذور التأسيس للحركة النسوية- باتجاهها العالمي- في العراق.

التحليلات التي نتجت عن نظريات الخطاب، بانحيازاتها الماركسية واللبرالية والدينية المسيحية، تقول ان الخطاب ترجمة للتاريخ هو يتضمن تفسيراً لعلاقات قوى السلطة. واشتباكات أو تواطؤات هذه العلاقات تُقرأ من خلال ظاهرة الخطاب المتيسّرة في كل مرحلة زمنية. ولأن الخطاب ترجمة للتاريخ الاجتماعي، فهو يكشف الاهتمامات الاجتماعية واساليب التحكمّ. وبهذا تتصل تحليلات الخطاب بالاهتمامات السياسية لزمن الخطاب. وبسبب ذلك أيضاً تشتمل المعرفة المدْرجَة في الخطاب على جملة مفاهيم وجملة عروض لتلك المفاهيم وهناك، بينها، يظهر الممنوع. إذن ثمة معركة بين المعرفة والسلطة في مدى الخطاب وحركته.

الفرص المتاحة للنساء في هذه المعركة (معركة الخطاب) هي أن يؤكدن فيها أنوثتهن، دورهن الاجتماعي، والمعنى الذي تتضمنه خبراتهن. هذه الفرص ليست كثيرة نسبياً وهي تتواجد في شبكة حاكمة من العلاقات يمكن ان تلحظ عبرها ترجمات متخفية للانثوية، منها التقسيم الجنسي للعمل والحركة في الحياة، كما تقررها قوة التأسيسات المنظمة للهيمنة والاختراقات الانثوية الدائمة، على قلتها، لتغيير هذه التقسيمات يقابلها العمل لحفظ الهيمنة ومن ذلك تحريك بعض مواد القوانين ثم ارجاعها. نحن إذن في حالة "حَرَج الفرص"، في حالة احتدام وقمع الخطاب، في حالة تسلل السلك الناري للقشرة الخارجية واختراقها.

هنا، صرتُ تماما في مدى النص، في المدى الحسيّ والفكري الذي نقرأ فيه شعر ماجدة غضبان، وقد بدات نصوصها تكشف بعضا من معركة الخطاب، بعضا من الكراهية المستساغة على مضض:

عيناها

قبران هائلان

فُتحا حديثاً

فكم استوعبت هاتان العينان من موت، من دفن، من زمن، مدمَّرٍ وحياة؟

ترى اين ذهبت

عظام

من دُفنوا احياء

في رطوبة محجريّ؟

ولكي نفهم ما يتولد من سيرة الخطاب وعمل العلاقات، علينا أن نفهم الشبكة الداخلية لتلك الخطابات ونعرف الجوانب المتصلة بها والأشكال المُنْتَجة مؤسساتيا من خلالها. فكل هذه لا تترك الخطاب نقيّاً، لا تترك الانثوية حرة الحركة فيه. هي تعدم المساواة في فرص الكشف. في احسن الأحوال يفقد الكشف الانثوي عنفوان تحرّكه. ما يتضح هو إعاقات السلطة الذكورية في تقليديتها، هي تعمل على صنع العثار، تربك الخطاب أو تحرفه فلا يبقى انثوياً "قحُّاً"!

هو من يدعني

ارتدي نفسي

لأُمزّقها صباحاً

حتى تتمرّغ العيون

على جسدي

ثمة مساومة لكي تستمر الحياة. هو العيش ضمن الإقرار بالواقع: تتمرّغ العيون على جسدها بعد ان تمزق نفسها التي ارتدتها صباحا. هذا هو طريق العيش: التضحية بالذات وتحمل شراهة عيون تريد لحمها. الروح محاصرة في زاوية تريد حماية، تريد الاحتفاظ بمعناها. الانسانية محاصرة برداءات الطريق إلى الخبز. وما ان تتم قراءة ذلك المقطع حتى يفرض التقليد أنماطه، فيغيّب الصوت النقي والمباشر الذي كان وراء السائد والمصنوع:

هل ستحمل الأشعار

جرحي الغائر

في جسد الساعات؟

لقد عرف التقليدُ واللاحقيقي، كيف يُسرّب نار المقطع الأول: الساخن هو من يدعني، لنجد انفسنا امام كلام هلامي عليه برودة التقليد. لكن ما يظل مشتعلاً هو المقطع الأول الانثوي الصادق والحاسم

هو من يدعُني ارتـدي نفسي لأمزقـها

صباحا حتى تتمرغ العيون على جسدي.

هناك نجد ماجدة غضبان الانثى المتوهجة والساخطة على الرداءة حولها. ولكي نستكمل عرض الإشكال الانثوي في الخطاب، لابد من معرفة صورة المرأة من خلال تاكيد "النقد  الانثوي" على حضور المرأة في الرواية وفي بعض الشعر والسينما والاعلام. صعوبة تحليل النص في الشعر تبدو أكثر. لكن النقد الانثوي حقق نجاحات في فرز النصوص الانثوية الشعرية وتحليلها. وقد صدرت اعداد طيبة من هذه الدراسات والكتب، احدها ترجم إلى العربية وهو "الصوفية النسويه" الغوص عميقا والصعود إلى السطح"... لكارول كويست وبترجمة الاستاذ مصطفى محمود عن افاق المصرية. صحيح ان هذه مسالة يشترك فيها النساء والرجال ولكن تحليلات النصوص الشعرية الانثوية لا يسندها تاريخ طويل، جديدة هي علينا. الخلفية ذكورية. لكن هذه الحقيقة لم تحل تماما دون ظواهر جديدة تفرض حضورها وتسهم في التحولات التي نشهدها في السرد وفي الكتابة الشعرية وفي الرسم لحد ما. ان عنوانات صحفية مثل "الجنس والسياسة" و"النساء الاديبات" و"التفكير في المرأة" تعني ظهور الحراك إلى السطح وانه صار يكتسب شعبية Popularity وما كان ذلك يظهر بقوة ويتسّع لو لم يتضمن فعلا سياسيا مساعدا. اعني اتصال المضمون الانثوي بالسياسي، وكلاهما باتجاه التغيير. هنا اصبحت قضية الحرية مشتركة.

النص الانثوي استوعب الفهم السياسي للهيمنة وللتحكم البطرياركيين، وفهم العلاقات الكامنة والمعلنة في الشبكة البطرياركية، بطبقاتها المتراكمة. تفاوت الاستيعاب كان سببا رئيسا لاختلاف الخطاب النسوي من واحدة إلى اخرى. كما ان هناك اختلافات في نتائج الخطاب عند التطبيق السياسي- عبر التجمعات والتنظيمات الشعبية- وعبر المؤسساتية شديدة الانتباه لما يستجد .. يمكن ملاحظة هذا الاختلاف حتى في العمل الواحد للكاتبة أو الشاعرة الواحدة. التفسير بسيط بالنسبة للنظريين: هناك اختلافات في استيعاب الشان الانثوي وهناك اختلافات بين فصائل حركة حرية المرأةWomen Liberation Movement، وهي ما كانت متحدة يوما، كما لم تكن متشابهة اشكال التطبيق . بتبسيط أكثر، هناك اختلافات في التوجهات السياسية ضمن الحركة واختلافات بين دعاة الانثويات. الراديكالية، اللبرالية والاشتراكية الماركسية، كما ان الكنيسة لم تتخل حتى الان ولها من يعمل برؤيتها.

هذه الاختلافات اعطت سعة حققت فيها الانثويات تصفية لمفاهيم الجندر، ومدت حدود القضية لتقتحم، بدرجات متفاوتة، التطبيقات الاجتماعية. صار الحديث عن عمل النساء في العائلة وفي الانتاج الثقافي وفي النضال من اجل الحريات العامة، اطارا لحرية المرأة. صارت المطالبة بالحرية العامة نتيجة لمطالبتهن بالحرية الانثوية وعلى عكس ما تفترضه الماركسية. وهنا وجب التنبيه إلى الفارق، الذي صار يزداد وضوحا، بين المطالبات الانثوية بالحرية وبين حرية المرأة. المفهوم الاخير صار كلاسيكيا، أو محافظا بالنسبة لتطور مضامين الحركة- لهذا السبب صار الخطاب الروائي- المعني بالتفاصيل، أكثر وضوحا وحظي باهتمام واسع في الدراسات. بينما ظل الشعر النسوي الانثوي في مناطق الدراسات الحرجة لكونه مثقلا بالتقليدي فضلا عن المؤثرات العامة. وما صدر حتى الان من دراسات في الشعر الانثوي، والتي اشرنا اليها، لم تعط ما اعطته الدراسات في الرواية. وثمة مسالة ما تزال فاعلة فالرومانسية ما يزال لها عالمها، وهي مساندة للفردية- والبطولات القومية- ذوات النزوع الفردي. وهذه تستند إلى تاريخ طويل من التسلط الذكوري، قربها للشعر حتى الان أكثر من قربها من الرواية. في هذا طبعا اضعاف للعنصر الانثوي الجديد النامي. هي تضيّع زخَمَهُ في مدياتها الواسعة. أثر ذلك عادة يكون ابلغ على النساء فيزيد من المَحْق والمصادرة وإيذاء الوعي ويسهم في استمرارية القتل للانثوية:

لا تلوموني

لاني اتحدث عن الموت حسب

فانا لم ار سواه

منذ الطفولة

نكشف أكثر:

سريرة شهريار

لكل يوم قصيدة

وانا مداد الموت.

هذا كشف نسوي، صرخة. لكنه يفتقد الثورية، يفتقد الاحتجاج الايجابي- الهجومي كما تريد الحركة النسوية المناضلة والتي تصارع الانظمة والمؤسسات في العالم. المرأة هنا ما تزال

تتضاجع

في إناء استجدائها

براعة التعبير وقوته لا تغيران من حقيقة الأقرار بالواقع. والاعتزاز الانثوي في النص منكسر في داخل قائلته وهي ما تزال في مرحلة استرضاء الذكر وتزييف الحاجة. انه الاعلان تحت وطاة الهيمنة:

باذخة الجمال

وعطرها يفوح.

يتأوّه الرجال على بابها.

وفي داخلها

تموء دون توقف

هريرة جائعة.

هو صوت المرأة الشرقية الذي عرفناه والذي يماثل صوت الغربية قبل بدء الحركة النسوية. هو الصوت الذي رفضته الحركة وتمكنت من التحرر منه لتبدأ في المطالبة الواسعة والمنظمة بالخلاص من الضغوط الاجتماعية الكثيرة، بحرية الجنس وحرية الانجاب ... الخ التضاد واضح وقاس في الخطاب: يتاوه الرجال على جسدها وفي داخلها تموء هريرة جائعة.. رغبة معلنه ورغبة مقموعة لا يعرف بها احد غير صاحبتها. هذا واقع النساء الشرقيات بخاصة الجميلات اللائي يتشاههن الرجال وهن يتابين تحت واقع حرماني يسنده نظام صارم.

مسالة غير منطقية بالنسبة للحياة. كل الحيوانات لا تعاني من هذا التضاد، القطة، العصفور، الصرصر، حيوانات الغاب .. ميزة الانسان العقلية والتنظيمية موكل اليها وضع الامور بحال منظم ومحترم افضل. مطلوب اعادة القوانين اعادة تنظيم الحياه لما يحترم الانسان... المجتمع بنظامه الحالي قسم الوضع إلى اثنين محرومين، كل في جهته، الرجل يتشهى والمرأة مقموعة عن الاستجابة.

والقوانين المنظمة ذكورية اضطهادية ما حقه لمزايا الطرف الثاني الخاصة. الفكر أولاً ثم الادب بدءا بالهجوم على اللامنطقي وبدءا الاحتجاج الموجوع على المعاناة. العلاقات مع الرجال، كما هي موصوفة، تضع حدودا لما يجب أو لا يجب ان تكون عليه المرأة. الدين، بلطف، وضع حدودا لما يجب ان يكون عليه الرجال.  لكن السلطة العامة والقوانين والانظمة الاجتماعية والتربوية، ذكورية! النساء رُبيّن وصُوِّرن وأُعطِين من الحرية قدر ما يريح الرجل. ومثلما في الرواية اليوم يشجع قراء النساء على الانسجام مع جندر الانثوية التقليدي المألوف والمطلوب ذكوريا، في الحساسية والسلبية واللامنطقية، في الشعر يراد لهن كتابة تقليدية في تراكيب لغوية مألوفة وفي مضامين "مُرضية" أيضاً. النتيجة انهن ناجحات وموضع حفاوة وثناء بالقدر الذي يصبحن فيه "وسائل" لتصوير الذكورية. وهذا ما نراه بوضوح في روايات الاثارة الغربية وفي الشعر الشعبي العراقي البائس في الاستجداء والتخاذل والشكوى الذليلة والانصياع. واذ تحضر المرأة في مناطق اثارتها واغوائها، يحضر الرجل بسلبيته وتوسلاته. لا قوة رفض ولا صيحة أو صفعة على عرف أو على نظام. وللاسف نجد مثل هذا في كثير من القصص والروايات العراقية وضمنه ما تكتبه كاتباتنا، وانا آت على ذلك في بحث اخر. وبالنسبة لما تكتبه شاعراتنا وهن بضع شاعرات فاما تقليدي، ذكوري التراكيب والمضمون، واما متجاوز لا ينتبه اليه احد وكثيرا ما يُتَّهمَ بانه يتم بعون رجال وهذا نتاج غَيْرهٍّ ذكورية من جودة لا يتصورونها تصدر من سواهم. حتى اغبياء الرجال، حتى البله المغفلون يظنون انفسهم اذكى واقدر من النساء. غباء مضاعف على أي حال!.

قد نحتاج إلى التحليل النفسي للكشف عن الحاجات القابعة في الذكور وفي الاناث، وكذا لمعرفة اسس المُعْلَن منها. وما نراه من سعة الحكم البطرياركي والمساحات الشاسعة من المحكومين والمحكومات، يحيلنا إلى تنظيمات ومجتمعات القرون الوسطى. والطبقة المتقدمة عندنا لا تتجاوز، في احسن احوالها، القرن التاسع عشر. في الحالين، شعر النساء ما يزال موجوعا من البعد عن القرن العشرين. من هنا، ولهذا السبب يعلو ترحيبنا بالصيحات التي تتسم بالتجاوز بالاخلاص الكافي لانوثتهن. هذا هو مكمن وسبب الاعجاب، التطور النظري والنقد الانثوي المصاحب واللاحق له، اعطيا وثبة لتحليل النتاجات الثقافية النسوية وتطبيقاتها. ولعل من الاعمال المهمة في هذا الصدد كتاب رغبة الانثى "Female Desire" لـروزالند كوارد Rosalind Coward الذي حددت فيه بشكل حاسم ان:

المواقع الانثوية هي حصيلة

المباهج التي يقدمنها. وان

ذواتنا تتشكل في ضوء

الرغبات التي تطوقنا

فحصة المرأة من الواقع هي بقدر وجهها المكشوف، ولا تنال الا اجر إمتاع. الباقي للالغاء، للدفن. وهذا ما قالته ماجدة بوجع وبغضب:

ليس سوى وجهي

مزّق الكفن!

تحددت المشكلة اذن وامام ضخامتها وقدمها، لابد للانثى، لرغبة الانثى، ما يحرفها لصالح الذكر وان ترضى بوحشية خشنة جائرة في العصر المتحضر:

جبار هو

ساعة يختلي بجسدي

دون رأس!

وحال أخرى:

اشرقت

وبدا الليل زائغ العينين!

كم اشعر بالإكبار الآن لماجده: احييك سيدتي من بُعْد!

هو دون رأس، يختلى بجسدها هي اشرقت هو ليل زائغ العينين. تلك هي الضربة الانثوية سددت بمهارة وبنفاذ يفضح ويؤدب! الادانة التي اعقبت الهيمنة "جبار" هي "دون رأس" و"زائغ العينين" سلاما لك د. ماجدة على هذا التسديد المحكم والذكي. لقد تغير الخطاب النسوي في الكتابة عن الخطاب العملي في الحياة اليومية لم تعد رغبات الانثى كلها تتمثل في الملابس، الماكياج، اثاث المطبخ والصالة واطباق الطعام والعطور. هذه استمرت لكن صحبها، اعلى منها، ارقى واكثر اصالة خطاب الاحتجاج، الرفض المكتوب والمعلن. لم يعد الماكياج للرجل، صار لسعادتها الشخصية، لم تعد العطور للرجل، صار لانعاش الروح، تعتني بوجهها وثيابها لمحبتها واحتفائها بالجمال الانساني المؤتَمَنة عليه. كان الخطاب اليومي الأول يقوّي البطرياركية، الخطاب الثاني المتطور والارقى يُضعفها، يزعزع الهيمنة الذكورية ويسقِط مضمونَها. والان كاتبات وشاعرات بواسل، يقدمن ثمنا باهضا في المنزل وفي المجتمع ولكنهن يحققن انتصارات باهرة ويفتحن الطريق إلى المستقبل!

بمثل هذا صار الادب الانثوي النسوي، لا كل ما تكتبه المرأة كما يظن السذج من الكتاب، المقصود بالنسوي الان الكتابات التي تحمل حسا نسويا، انثويا، ثوريا، الكتابات التي تحمل بذور التاسيس للحركة النسوية بامتدادها العالمي. والادب الانثوي هو الذي يحمل ميزاته الخاصة والطارئة على المالوف. هذا هو الجديد، وهذا هو المرحب به في الثقافة التقدمية وهو من الجانب الرجعي والمحافظ، المُنّتقَص والمُتَّهم باصالة انتاجه. العيون الذكورية لا تريد ان ترى ما يحصل في العصر. وعوام الثقافة يشككون بجدواه ويشككون بقدرتهن على انتاجه. هذا ما نسمعه دائما من رعاع الادب! ان هذا النوع من الكتابة الجديدة ينبع من الذات الانثوية ومن الامتياز النسوي الذي اجترح قشرةَ العصر وبدأ يعلن افضليته وجدارته وابتئاسه مما وممن يهيمن:

خلف شهوتها

رجل اعمى

واخر احمق!

هذا خطاب نسوي لن يفوه به رجل:

اسبلت طفولتي

جفنيها

ونضت عن القبلات

اثوابَ حدادِها

وانتصب

سريرُ المعهر!

جيرانداين جوزبري Gerandins Jewsbury تشرح لجين كارلايل Jane Carlyle: «نحن ما كشفه تطـور النسوية، النسوية التي لـم تنتظـم بعـد. انها لحد مـا، قوى تكونت توا لتجري وتتخلل المجتمع لكننا ما زلنا ننظر ونحاول ونجدّ. ان قواعد الحاضر الموضوعة للنساء، لن تصدنا بعد اليوم. اننا نحتاج إلى شيء افضل واقوى لحياتنا. وان نساء يأتين وراءنا سيقتربن من اكتمال القانون الذي يليق بطبيعة المرأة. انا ارى نفسي مجرد اشعار، بداية فكرة لانواع معينة، لامكانات اعلى مما تمتلكه المرأة اليوم.»

(A literature of their own by Elaine Showalter p.100)

وما تقوله المؤلفة شوولتر في هذا الصدد: «ان كتابـات النساء تحتاج إلى الحميمية مـع النساء الاخريات، للايحاء وللصداقة المتعاطفة.»

هذا الطلب، في رايي، ليس لاسناد الكتابة ولكن للتعاون على فرز المشاعر المستباحة أو المعتادة ومن اجل التعاون الروحي والجسدي على كشفها- واظنني الان دخلت في الممنوع! دوريس لسنج تقول في الدفتر الذهبي The Golden Notebook وهي تخاطب الانثى: «باية الطرق تختلفين؟ هل تقولين لا توجد فنانات من قبل؟ الا توجد نساء مستقلات؟ الا توجد نساء يؤكدن على الحرية الجنسية؟ اقول لك: هناك خط طويل من النساء تجاوزنكِ متوغلات في الماضي. عليك البحث عنهن وايجادهن في نفسك وان تكوني واعية بهن!»

ولنكمل: اقرأي ما يحتجب في عالمك وطقوسه، اقرأي ما وراء الاحتفالات ونقلك اسيرة في موكب. هي ليست حريتك. هي عبودية ثانية والاحتفال في حقيقته ليس لك. هكذا، مثل هذا، حديث النسوية اليوم. هن يعطين الفرح والحياة لغيرهن، ويبقين حزينات في ظلمات الغابة:

اننا نقيم

تحت لحاء الشجر

يعود باخضرار ثوبهِ

منا الربيع

ولا يسمعُ انيننَا الخجولَ

حارسُ الغابة

لقد تغير الخطاب النسوي. الثورية الان طاغية فيه والكشف في الشعر وفي الرواية دقيق فاضح وصفته العظيمة، فضيلته المعاصرة، هي الاصطدام مباشرة بالجدار الاسود وهذا الجدار، كما يبدو بدأ يتشقق. العصر يقول ذلك. الفكر الرجعي لن يستطيع الصمود وما يُظهر من مقاومة في طريق الانتهاء مع الانظمة التي تسنده. وما يبدو ضئيلا في الحياة الشاسعة يحتدم في داخل الانثى، هذا الداخل الذي دفنت فيه الكثير من الرغبات واصوات الرفض ... ردُّ الفعل الانثوي اكبر اضعافا من الفعل:

في بيت صغير

فقط

تعرف العاصفة

معنى الاعاصير

الوعي الانثوي يتآزر ووعي العصر ومنجزه الحضاري. والعلم يعمل بقوة لتصحيح وكشف الأكاذيب. سيكولوجيا المرأة معروفة اليوم وسيكولوجيا الرجل والنفعية الذكورية وراء الانظمة والقوانين الاجتماعية. واستناد البناء الفوقي إلى الاقتصاد يؤكد هذا ولا يقلل من صحته. ونحن تاريخيا، نعرف ان احداثا فكرية لعبت دورا حاسما في تكوين العقل الجمعي ولها تبنيات وان نتائج تلكم الافكار الأساسية كانت قابلة للتطبيق وملزمة. وان الافكار في التطبيق تعمر وتكتسب ديمومة وراء زوال الظروف المنتجة لها. لهذا اورثت من بعد تقاليد وعادات واعرافا، حتى صارت هذه الثلاثية المريبة مصدرا دائما للقوة السلفية المعيقة للتقدم. قوة الماضي ما تزال فاعلة كجبهةٍ ضد هذا الحراك النسوي الجديد. لكن الحراك الجديد امتلك نظريات وتنظيمات وقوى فاعلة في الشارع وفي الدراسات وفي الاعلام.

على اية حال، نحن لا نريد ان نظل في حدود المحلي، المسالة التي تعنينا أكثر كم هي الحركة النسوية الجديدة في المدى الثقافي الاوسع وكم هو حضورنا فيها. ولماذا نبحث كثيرا لنجد صوتا نسويا "حديثا" يبهجنا في الكتابة؟ نحن نعرف جيدا صعوبة انبثاق صوت جديد يحمل امتيازه الانثوي من تراكمات هذا الوباء الذكوري المستفحل والذي صادر منطقية الاشياء وطبيعة الحياة السليمة. ان اضرارا جسيمة لحقتنا حتى من المراحل التطورية. ذلك لان هذه المراحل عاشت في كنف الهيمنة الذكورية وتغذت عليها.

ويمكن ان ناخذ الرومانسية مثلا مع متضمناتها القومية الفرد البطولي، الفذ، الضرورة التاريخية: هتلر، ستالين، الاباطرة الصغار في البلدان الاصغر وادباء ومفكرون من هذا النمط، أو في خدمته ... اولاء اكدوا الذكورية ورسخوا قواها الحاكمة ومن بعد استحوذوا على دور النشر والمسارح والمناهج التدريسية. ذكورية كاملة وشديدة الانغلاق سادت. ولانها قلقة، الذكور الافراد كانوا يواجهون الانكسار فيها، فكيف بامراة تريد ان تكتب، ان تكشف، ان تتوغل عميقا وتخرج بملكوتها للسطح؟ كيف تخرج تاريخها الانثوي من الظلمات وتصيح بالعالم ان يفسحوا له الطريق؟ ما حصل من بعض النسوة البواسل هو انهن استطعن بمحض الخطاب ان يلقين المدفون باوجه "الراسخين"، راسخي الافكار المضادة لحرية الإنسان وحقوقه والحياة السليمة..

صارت القناعة النسوية ان عليهن ان يحاولن بهدوء، باصرار وبنوع من العنف اذا اقتضى الامر. ولم ينته نصف القرن حتى احدثن صدوعا في الجدار يدخل منها الضوء! الصيحات الانثوية وان بدت بسيطة، هي تحمل ضربات مطرقة: هذا صوت ماجدة غضبان، الغاضبة غضبان:

من يبيح لي ان اهجو

كل الكائنات

وكل قوانين البشر

وكل ما صنعته

خناجر الرجال؟

هذه المرأة المحتدمة استياء وغضبا تدرك جيدا ما عليه نسويتها وقد ضاقت ذرعا بهذا الخارج المدان، حتى تدين نفسها الراسخة تحت النير لارضاء ذكورية باتت انظمتها تتفسخ وسط العصر:

امراة للمرايا

وضجة الالوان الماجنة

وفحيح الرجال

ودموع غارقة بكحلها

تزايد الوعي والغضب اكثر:

بين اربعة جدران

وسقف

يمكن للمراة ان ترى

كل قبور الارض..

هو العصر الثقافي، العلمي، هو الوعي الجديد افرز مثل هذه المشاعر النسوية باتجاه فكري وبتنظيم ثوري. النظم الاجتماعية والقوانين كانت هدفا أولاً لهذا الصوت النسوي وعلاقاتهن مع الرجال كانت هدفا والمقارنة العلمية بين البيولوجيا والارث الفكري كانت هدفا ثقافيا. وعلى خلاف ما يقال عن هذه الحركة، لم تقل أي من التنظيمات النسوية: الراديكالية، اللبرالية والاشتراكية الماركسية أو ذات الارتباط المسيحي بانهن سوف يتجنبن كل العلاقات مع الرجال. لكنهن يتفقن على ان يعشن ويفكرن ويحددن الواقع من دون انصياع استسلامي لما يقوله الرجال. وثمة شعور يتزايد بانها حياة فارغة تلك التي تدور في المنزل والانجاب وان قيما جديدة يجب ان تحل محل القيم التقليدية ونضالهن سيستمر بهذا الاتجاه:

"اننا نتحرك في العصر الصاخب، وتضيع فيه ارواحنا بحثا عن نقاط اليقظة عن البقاع البريئة التي تحتفظ بنقاء الإنسان، التي نجد فيها انفسنا ونتفهمهما. آن الاوان لارباك التيار القديم الذي يحملنا في مجراه حيث شاء، لما في ذلك المجرى من بؤس واوبئة اخلاقية..."

الحركة النسوية اليوم تطرق ابواب برلمانات العالم وجمعياته ولافتاتها في الشوارع والساحات.

ان ضوءا قد يبزغ في داخلها

وضوءا قد يبزغ في داخله..."

المساواة وحدها توفر فرصا تظهر فيها المشاعر السليمة للطرفين.. السعي النضالي، روح التمرد والفلسفات الجديدة، جعلت الخطاب النسوي مسموعا ومقنعا. وهي حساسية عصر ومخيلة عصر وثقافة عصر جعلت شاعرة مثل "ماجدة غضبان" تصف مشاعرها بدقة لم تالفها الكتابات النسوية الا نوادر في الكتب القديمة .. أنظروا بأي اشمئزاز واي رفض تعلن ماجدة، وباي ادب جم ترسم احتجاجها:

تحت لمسات

اصابع باردة

تتجعد

كصفيحة فارغة

وينطوي لحمها

كثوب عتيق!

اود الان ان انهي كلامي بمقتبس من الاين شوالتر Elain Showalter ومن كتابها "ادبهن الخاص" أو "الادب الخاص بهن" The Literature of Their Own «لا تعاني الكاتبات الانجليزيات من نقص الجمهور القارئ ولسن بحاجة لانتباه الدارسين والنقاد. هنالك الكثير من المعنيين بهن، لكننا لسنا متأكدين بعد مما يوحدهن بوصفهن نساء، وان كن يشتركن بميراث عام يرتبط بنسويتهن.» وقال سيتوارت مل (1869): «النساء يحتجن إلى نضال شاق ليتغلبن على النفوذ الادبي للرجال». ومل يرى «لو ان النساء عشن في بلد مختلف عن بلد الرجال، ولم يقرأن ايا من كتاباتهم، لكان لهن عندئذ أدبهن الخاص بهن. اما والامر غير ذلك، فسيبقين دائما مقلدات ولسن مبدعات». لكن العصر اثبت غير ذلك. الوعي الخاص لشؤونهن ولمشاعرهن الخاصة انتجا ادبا نسويا خاصاً حتى صرنا اليوم نميز جيدا بين الادب العام الذي تكتبه النساء و"الادب الانثوي".

الاخير عرّفَهُ جورج هنري لويز G.H. Lewes: «بأنه الادب الذي يكتب بقصدية انثوية والذي يرتبط بالتجارب الانثوية والذي يقود نفسه بنبضه الانثوي الخاص».

أظننا وجدنا مثل هذه الصفات في كتابات الدكتورة ماجدة غضبان، وكان شعرها الانثوي واضحا وبانثوية خالصة، اثار فرحي، انا المعنى بالحركة النسوية، واعتقد باننا اليوم نقرا شعرا نسويا انثويا خالصا لشاعرتين من العراق هما ايمان الفحام التي لم اجد سطرا في ديوانها الاخير خارج قضيتها النسوية، وشاعرتنا اليوم ماجدة غضبان التي قرات لها عدة مجموعات مخطوطة ليس فيها الا مقطوعات قليلة خارج المدى النسوي، وهذه المقاطع القليلة ذات نفس انثوي أيضاً واغلب قصائد هذه المجموعات التي لم تطبع لا تفارق صميم موضوعها النسوي. لماجدة سعة الوعي وسعة التجربة وهذان معاً منطلق جيد لكل شعر جديد. يحزننا جداً، ان الشاعرة التي نرفع الثناء لشجاعتها وجمال شِعرها وصوتها النسوي الذي أُجِلّ، تعاني منفردةً و

تحتفي بغربتها

الشوارع

المدلهمة بالفقر!

هو بدء الطريق على كل حال...