هل فتح الرسم أما الفتى المترع بالرغبة والعنفوان أبوابا جديدة للتعبير غير تلك التي انتهجها لنفسه في أحراش عالم يحرمه من أبسط الأمور؟ هذا ما يدعونا محرر باب سرد في (الكلمة) إلى تأمله في قصته التي تكشف لنا كيف ينقذ الإبداع الإنسان من قلب المحنة.

أرسمْ.. أرسمْ

سلام إبراهيم

لم أهدأ في طفولتي لحظة واحدة. لم تكن الأرض تسعني. كتلة مشتعلة، متحركة تملأ الصف ضجيجا ما أن يخرج المعلم، وتشعل الساحة وقت الاستراحة بين الدروس باللعب والصراع والمزاح. لا أهتم لعقوبةٍ، ولا أسمع نصحاً، ولا أركن إلى الصمت والتأمل أبداً، لكن معلم الرسم "كريم" الهادئ الوديع، طويل القامة، قليل الكلام تأمل طويلاً ما أرسمه، واصطحبني عقب الدرس إلى مشغل المدرسة، الذي أتذكر أنه كان خلف ستارة قاعة المسرح المفتوحة. بابها على مدخل المدرسة الفسيح المواجهة للباب الرئيسي. أجلسني إلى طاولة ووضع أمامي ورق أبيض سميك وحزمة ألوان وقال لي:

- سلام أرسم ما يخطر ببالك؟

ومنذ ذلك اليوم شغلتني فكرة الرسم، فرسمت عشرات الصور والأفكار ولونتها إلى أن وجدتني يوما أضجر من فكرة جلوسي الساكن. كانت بي طاقة مشتعلة جعلتني أغادر المرسم إلى ساحة المدرسة لألعب مع التلاميذ الضاجين وأتصارع وأضحك.

لا أعرف سبب عداوتي مع تلميذين أخوين هادئين مؤدبين شاطرين، مرتبي الملبس تجلبهم سيارة كل يوم، وكان في حقيبتهما لفات ملفوفة بكيس. يخرجانها في الاستراحة ما بين الدرس الثالث والرابع ويأكلان في الرواق. كانت رائحة اللحم المخلوط بالبهارات والخضر والملفوف في رغيف تشعل شهوتي للأكل، فأكاد أنقض عليهما وأنهب. لكني اكبح نفسي مفكراً في عواقب الأمر. لا أتذكر كيف تجرأت أول مرة، لكنني أحرز رائحة اللحم المشوي الذي ضرب أنفي وأوحش شهوة الأكل حينما كانا إلى جانبي في الساحة لحظة أخراج الرغيف الملفوف من الكيس، فلم أجد نفسي إلا وقد خطفت رغيفيهما، فحاولا استعادتهما دون جدوى. كنت شرساً قوياً جريئاً، صفعتهما بكفي الأخرى فصرخا باكيين وهرولا باتجاه الإدارة، أثناء ذلك كنتُ قد أكلت الرغيفين مثل جائعٍ مجنون وسط ضحك زملاء الصف. في الإدارة عاقبني مدير المدرسة الصارم بأربع ضربات قويات بعصا غليظة على راحتي، ونذرني بعقوبة أشدّ لو كررتها. ظللت أغلي مثل فرنٍ وأكبح نفسي مخافة العقوبة، لكنني لم أحتمل كررتها مع ضربٍ مبرح لهما وتحذير من الذهاب إلى الإدارة. لكنهما كانا مسالمين ولا حول لهما ولا منقذ سوى المدير، فركضا نحو الإدارة باكيين بينما كنتُ ألتهم الرغيفين بلذة المتشفي هذه المرة، وكأنني انتصرت على المدير والمدرسة والحياة التي حرمتني من اللحم وطعمه في البيت. تضاعفت العقوبة، ضربني حتى لم أعد بمستطاعي مدّ ذراعي وفتح راحتي التي التهبت وكأنها حُرِقَتْ بالنار، فأمرني بالغروب عن وجهه محذراً بأنهُ سوف يسلخ جلدي لو كررتها.

لم أكف!.

بل تَوحشتُ، كل يوم أضحيت أسلب رغيفيهما وأنهال عليهما صفعاً مبرحاً وهما يركضان أمامي في الساحة ولا أقف إلا وهما يدخلان الباب المؤدي إلى غرف المعلمين لأجد نفسي بعد وقت قليل في غرفة الإدارة الساكنة والتي سأتذكرها وأنا في غرفة التعذيب في أول اعتقال بعد خمس سنين من هذا الوقت حينما بدأت التورط في السياسة من أجل حياة أفضل.

لم تنتهِ هذه الدوامة. صار الأمر يومي، تجنن المدير، ولم أعرف أبدا ولحد الآن وأنا في هذا العمر، ما القوة الغامضة التي تدفعني في اللحظة التي انقض فيها على الأخوين المسكينين لأنهب رغيفيهما، وانهال عليهما صفعاً، متناسياً العقوبة التي أتجرعها بجلد جعل المدير في المرات الأخيرة على وشك الانهيار حتى أنه عاد يصرخ:

- جننتني.. جننتني ولك!.

في أخر مرة، قادني بواب المدرسة "شعلان" طويل القامة القاسي من ذراعي إلى المدير "سيد صاحب" بعد أن طلب مني حمل كتبي معي. لم أكن أمتلك حقيبة. أوقفني وغادر الغرفة. لم يكن المدير يحمل عصاه. تأملني طويلاً حتى أرهبني الموقف فجعلتُ ارتجف. أمعّنَ في الصمت قبل أن يقول بهدوء:

- لا حل لدي، خذ كتبك وأذهب إلى أبيك ولا تعود إلا معه!

انخسفت بيّ الدنيا. وندمتُ لكل فعلٍ أتيته، فماذا أقول لأبي الرهيب الذي مجرد خاطره يفزعني، هذه مصيبة ما بعدها مصيبة. ولما كنت ذو كبرياء تحملت كل هذه العقوبات ولم تكف عن فعلٍ يجعلها تشعر بالتوازن فقد حملت بصمتٍ حزمة كتبي وسرتُ أجرجر قدميّ المنهكتين ببطء شديد حتى عبرت حديقة المدرسة الأمامية، وما أن جاوزت الباب الرئيسي العريض حتى خانتني قواي، فتهالكت جوار جدار المدرسة الواطئ مدركاً الهول الذي وقعتُ فيه.

تبعثرت كتبي جواري على التراب وأنا أسند ظهري إلى حجر الجدار غارقاً في بكاء من ضاقت الدنيا به، فكيف أذهب إلى أبي وأقول له ما فعلت، كيف يا إلهي سيهري جلدي ما أن يسمع القصة. فتخيلت ما سيحدث وكان ذلك يزيد من بؤسي. يا إلهي كيف انقلب العالم في عيني، وكيف خفت وهجي بغتة، وذهبت طاقتي ولم يعد بمستطاعي حتى لمَّ كتبي المبعثرة حولي، لا أدري كم أمضيت من الوقت لصق الجدار أبكي والأبواب كلها مغلقة في وجهي.. لا أدري. وفيما كنتُ في قاع ذلك البئر المظلم ضاما رأسي بين ساقي المثنيتين والمضمومتين إلى صدري سمعت صوتاً دافئاً خافتاً حنوناً يقول:

- ها أبني سلام أش بيك.. ليش جالس هنا.. ليش تبكي؟!.

رفعت رأسي وفتحت عيني، مسحت الدمع فرأيت معلم الرسم "كريم الصافي" ينحني عليّ ويدعوني للمّ كتبي والوقوف وأخباره بالأمر. أشعرني صوته وكفه الحانية الممسكة برسغي بالأمان، فأخبرته بالقصة كلها وبصدقٍ سوف يطبع حياتي لاحقا ويجلب لي الكثير من المتاعب، لكنه سيشعرني براحة داخلية لازالت تلازمني حتى الآن. أخبرته كيف جرى الأمر من أول مرة وحتى طردي. تأملني طويلاً، وكما قلت كان قليل الكلام. سحبني من ذراعي حتى المرسم، واخرج مني صندوق خشبي حزمة أوراق. طلب من رسم ما يخطر ببالي قائلا:

- ارسم سلام.. وأحل الأمر!.

لم أكن مصدقاً. لكن أتاني بعد ساعة ليقول:

- خلص تقضي الاستراحة معي بالمرسم!.

لحظتها أحسست أنه منحني جناحين.

أخرجني من بئر.