يرى الناقد المصري أن قصص المجموعة تخلو مما يمكن أن نسميه (الحكاية). حيث تحولت القصة إلي حالة تغوص في داخل النفس. وتعتمد علي قواعد السريالية، القائمة علي الاستبطان، أو علي تقنية الحلم الغير خاضع لمنطق عقلي مباشر، وإن استخدمت عناصر الواقع، غير المترابط، لتخلق حالة ضاغطة، تحمل القارئ لاشعوريا، وتتقاذفه محمولا علي طرقات القدر الساحق، ضنين الإضاءة، ضنين الأمل.

اغتيال بنت الحكايات

شوقي عبدالحميد يحيى

في التاسع من أبريل 2016، نشرت صفحة أخبار الكتب بجريدة أخبار اليوم، خمس قصص قصيرة، لخمسة  كتاب شباب، ربما كانت قصصهم الأولي التي تنشر لهم. كان من بينها قصة بعنوان "البنت التي تغتال الحكايات" للشاب محمد علام. وفي ذات الصفحة وبتاريخ 23 أبريل 2016، كتبتُ معلقا عليها: ولنشهد أن محمد علام، قاص واعد، يملك من إمكانيات القص الكثير، خاصة في القصة القصيرة، التي توحي أكثر مما تصرح. حتي أصدر محمد علام مجموعته الأولي في نفس العام، حاملة ذات العنوان "البنت التي تغتال الحكايات". لتلفت الإنتباه بشدة إلي كاتب قصة قصيرة، تحمل من السمات، والبصمات، ما يفوق مرحلته العمرية. دون أن يقع في فخ الاستسهال الذي سلكه الكثير ممن يحاولون الكتابة في ذات النوع الأدبي تحت مسمي  ال( ق ق ج). وإن خلت القصة عنده مما يمكن أن نسميه (الحكاية). حيث تحولت القصة إلي حالة، وإن كانت تُصور الشكل من الخارج، إلا أنها تغوص في داخل النفس. ومع تجانس تلك الحالة عبر قصص المجموعة، لتعطي في النهاية إحساسا كليا، نستشعره عبر لغة تصويرية، في صور طازجة، قادرة علي تجسيد الخيال، ليتحول إلي حركة تسعي وتغلفنا بإشعاعات، منبعثة من كلمات، أو عبارات، إشعاعية، قل أن تختفي في بعض القصص، مثل الموت، الدموع، القدمين المضموتين إلي الصدر، يدفن رأسه بين ركبتيه، لتعيد الإنسان إلي لحظاته الذاتية، وكأنه يعيده إلي رحم الأم من جديد، أو إلي إنسانيته، منتَزَعاً من صخب الحياة وضوضائها. فقل الحوار، وتعاظمت الغربة، وتشتت الوجود، فكاد القارئ أن يتشتت، إن لم يحمل مصباحه، كي يري تلك الخيوط المتشابكة تحت السطح.

تعتمد المجموعة علي قواعد السريالية، القائمة علي الاستبطان، أو علي تقنية الحلم الغير خاضع لمنطق عقلي مباشر، وإن استخدمت عناصر الواقع، غير المترابط، لتخلق حالة ضاغطة، تحمل القارئ لاشعوريا، وتتقاذفه محمولا علي طرقات القدر الساحق، ضنين الإضاءة، ضنين الأمل.

فإذا ما أردنا أن نري ذلك تطبيقيا، لنذهب إلي آخر قصص المجموعة، وأقصرها مساحة كتابية، والتي يمكن أن تكون نموذجا لإسلوب الكاتب ولغتة وتقنيته، لنعيش معها الحياة بأكملها، قصة "مثلُ كل النهايات" حيث نرى خبطات الكاتب في غير اتجاه، وكأنه الأعمي الذي يبحث عن الطريق، ولا يري غير بصيص الأمل المتخفي في البعيد. فنري المرأة التي تنتظر تلك {الاحتمالات البعيدة لوصول خيوط الشمس عبر النافذة}. ونلمح ذلك الطائر الذي {هام علي رائحة دودة سكنت أحد أغصان الشجرة الكبيرة التي تنافس الحياة عبر الزجاج}.تلك الشجرة التي ركن علي جذعها ذلك الطفل {يتحسس أصابعه النافرة من الحذاء، يدفن رأسه بين ركبتيه}. ونري ذلك الكاتب الذي ظل يبحث عن لغته، وما أن وجدها، حتي فاضت روحه {دون أن يشعر}. ونري ملكة النمل التي ما كادت تعطي {إشارة التحرك للقطيع بخزين الشتاء} حتي داسته {جسد شاعر أفني عمرا يطارد المفردات ... غفل ... ونسي ... وسقط من قمة عالية}. ثم نري تلك العجوز التي تبحث عن حكاية لم ترو بعد .. فلا تلبث أن تجد {الحكاية مملة .. و مثل كل النهايات ... تنسي كل الحكايات}. لنلمس ذلك التشتت في الموجودات، وذلك البصيص الذي – قد – يبدو من بعيد، غير أنه غير ملموس، فتنتهي كل الحكايات، حكايات الحياة، التي لابد تنتهي دوما إلي اللاشئ، إلي اللاجدوي. وكأن الكاتب يضعنا في مواجهة مع عبثية الحياة. تلك الرؤية التي حيرت الفلاسفة، واستغرقت منهم عشرات السنين، ومئات الصفحات، ليجسدها محمد علام في بضع سطور، تحركت فيها الأخيلة، واختلفت كثافة الألوان، فمنحت الساكن حركيته، حاملة إياه علي مركبة فضائية متناهية السرعة، ليري الحياة من خارجها.

ونستطيع أن نلمس ذلك الجو النفسي، المتأمل في الحياة والكون، شاملا ذلك الذي نعيشه في الحياة الاجتماعية، أو السياسية، أو الكونية، والمنتهية بالموت، الذي يأتي وكأنه أحد أحداث الحياة المعاشة ، وما نستطيع تلمسه في كل قصص المجموعة تقريبا، وما يمكن أن  يعكس رؤية الكاتب للواقع والمعيش. فتبدأ قصة "ميمي" – مثلا- :

{ إهداء .. إلي ميم (ي) التي نامت، ولما استيقظت ماتت .... لِماَ رَحَلْتِ؟} وكأننا أمام سؤال الحياة ، وكأننا في مقابلة مع مقولة علي بن أبي طالب ( الناس نيام.. فإذا ماتوا انتبهوا} حيث نري في كلاهما الموت كنقطة إنطلاق. فإذا كان علي بن أبي طالب يري فيه انطلاقا إلي حياة جديدة، فإن كاتبنا يري أنه رغم أن حياتها كانت نوما (معنويا)، وحين استيقظت منه ماتت، وكأنه يؤكد علي لحظية الحياة، أو عبثها، أو هبائها.  

 كما نري في قصة "ذات مرة علي جزيرة ما" تبدأ ب {لم أعد أقوي علي مزيد من الحياة .... قالها ومات..}. وفي قصة "قاهرة في رقة الدانتيلا" نقرأ { في شهر أغسطس تأبي كل الحيوانات أن تعود أدراجها، والأحزان أيضا ، حتي لا يظل لعيدي التاسع مكان، فيتقهقر بسلام، ويحتل (مرتبة الذكري الأليمة) ركنا في أرض الذكريات}.

وفي رؤية مكثفة للإنسان، وضآلته في عالم تديره مجموعة من الأزرار، يصوره الكاتب في قصة "الفضاء يُنبتُ زُهورا" { حاول كثيرا أن يكف عن اختبائه وراء الباب وبين المقاعد وتحت الأغطية وأحيانا تحت السرير، حاول كثيرا ألا يكون مجرد زر في مصباح أو ريموت كنترول، وللأسف فشل في أن يكون غير ذلك..}. تلك هي الأجواء العامة للمجموعة. فإذا ما دلفنا إلي أخوارها، كان علينا أن ندرس الإبداع من داخل المبدع.

محمد علام .. شاب لم يزل في مقتبل الحياة الإبداعية، ومن طبيعة الشباب، أن تجاربهم محدودة لم تزل، فالبحث عن الذات، ومحاولة إثباتها، هو أول ما يحاوله المبدع في بداياته، حتي أنه يكاد يصرح بذلك، عندما يذكر في نهاية قصة "ما زالت الأقدام علي الأرض": {كان ينظر إلي السماء "اللغز هو أنا" هكذا فكر الصبي}. كما أن القضايا الكبري، هي ما يشغلهم، والقضايا الكبري، قتلها الكتاب والباحثون والمبدعون، تناولا. إلا أن علام يغلف موضوعاته بالكثير من التهاويم، والإخفاء، لما قد يصل بقصصه حد الغموض، في شكل "تداعي المعاني" وما هو بتداعي المعاني، ولكنها جمل وفقرات، قد تفقد العلاقة السببية، أو المنطقية، وهو ما يثير الكثير من التساؤل لدي القاري غير المدرب، والذي قد لا يدرك تلك الإشارات، والشفرات التي يمنحها له، والتي يمكن أن تقوده للرؤية الكلية المتخفية وراء السطح.

فإذا أخذنا علي سبيل المثال قصة "العالم لا ينتهي أبدا"، سنجد قصة تبدو علي السطح كالحكي العادي، ولكنها تأبي علي الإفصاح بمكنونها، إلاعبرطريق الشفرات التي تبدأ باسترجاع الثيمة الأساسية في رواية يوسف إدريس "الحرام" والتي أصبحت شبه مثل يقال، أو أيقونة صارت علي ألسنة الناس، وهي زر البطاطا، التي كانت بداية الخطيئة، أو الاغتصاب الشهيرة في الرواية. والتي يستعيرها الكاتب هنا لتصبح  هنا أيضا رمزا للخطيئة (العامة) أو الإنسانية. فنتعرف علي إمرأة مكتنزة، لزوج مريض، ورغم مرضه، يحاول استخدام حقه الزوجي منها، غير أنها تمنحه ظهرها، وعندما تصل حد الملل تمنحه نفسها، دون أن تغير وضعها، وتستغرق العملية نحو الساعتين. الأمر الذي يمنحنا فرصة التفكير بأن الوضع غير طبيعي، أو أن الزوج غير قادر علي إتمام العملية. وهو ما يوحي بأن العملية أقرب للإغتصاب منها للعملية الطبيعية. ويمكن أن تقودنا لتعرض المرأة لعملية إغتصاب، حيث وضعت الأم ابنتها بعد سبعة شهور من تلك الواقعة. يساعد في ترجيح هذه الرؤية، ما يسوقه الكاتب بعد ذلك، حين يغازلها أحد العاملين معها (كاذبا) فيثير انتباهها، - أو يوقظ الرغبة لديها – فتتجه إلي الحمام {تنتف الشعر من بين حاجبيها وحول فمها وتحت الأذنين}. خاصة أنها{ داست قدمها علي ثمرة بطاطا مقشرة علي البلاط، وسقطت علي وجهها، وجلست بسبب ذلك أسبوعا بدون عمل}.دون أن يشير الكاتب لنا من أين أتي زر البطاطا، وربما ليربط الواقعة بزميل العمل الذي راح يكذب عليها، وبين عدم ذهابها إلي العمل لمدة أسبوع. وأيضا حينما رأت الإبنة المريضة نفسيا (عقليا) وذلك المشهد الذي رأته عبرالشباك ، حيث { ما زالت تضحك وتضرب الأرض بقدميها من أثر المشهد الخرافي الذي رأته للرجل وهو غائص في كرش زوجته المتكورة علي سرير ذي أربعة أعمدة نحاسية}.كذلك من الإشارات الدالة، أن المرأة عندما ولدت ابنتها وعلمت بأنه (بنت) { أغمي عليها، وتطلب إفاقتها صفعة من يد أب يمارس زراعة البطاطا منذ الثالثة من عمره}. كما أن البنت {كانت تجمع أكوام البطاطا المقشرة، وتصنع لها عيونا وأفواها، تؤدي بهم مسرحيات خيالية}. وكأنه يربط لنا بين البشر المولودين من الخطيئة، وبين البنت ذاتها. خاصة أن البنت {كانت تلهو باصطياد نملة من وسط السرب لتضعها علي الباسطة، فأكملت النملة تسلقهاعباءة الأم السوداء حتي رقبتها ولدغتها}.وكأن البنت تعاقب الأم علي خطيأتها. وقد كانت البنت تبكي وتحبس دموعها {(لكنها لن تحبس صوتا مرة أخري)}. وكأن سرا لن يمكنه الاختباء مدي الحياة، إذا ما عدنا إلي عنوان القصة " العالم لا ينتهي أبدا"، وكأنه يريد القول بأن عالم الخطيئة لا ينتهي أبدا.

ثم تأتي النهاية بملاك أبيض للمرأة .. تسأله عن الزوج .. أين ذهب؟ فيجيبها ب{أن من حمل في قلبه دفء العالم لا يتيه، ومن أحب ألا يكون وحيدا فلن يكون، ستشاركه الطبيعة كلها..}. وتسأله عن الإبنة .. أين ذهبت؟ فيجيبها { ربما نهض شارع ملآن بوجع أقدام الناس كلها ليتبادل معها حديثا طويلا، يحكي لها عن الشجر الذي غُرس في قلبه علي مر العصور، وكيف كان جميلا مغريا، عن بتلات الورد التي كانت تتراقص في الهواء، وتدور قبل أن تلثم سطحه، وتحط في رفق، عن الحب الذي يشعر به. وعن البشر الذين كنسوا سطحه، وقطعوا أشجاره، وألقوه وحيدا وسط قاذوراتهم وفضلاتهم}. ولينهي الملاك حديثه إليها، وكأنها الإجابة عن سؤال الوجود والواقع، يأتي من السماء{ لاشئ سيزعج العالم بعد اليوم، ولن يضطر أحد أن يدير ظهره للآخر، ويلوي شفتيه إمتعاضا} وكأنه يعيدنا للمشهد الأول . مشهد الجماع بين الزوجة المتبرمة، والتي أعطت زوجها ظهرها، وكأنها تمتعض منه ومن مرضه، فأنبتَ بنتاً مريضة ، لم يكن ذنبها، فهي المجني عليها، ولم تجن علي أحد {(يا إلهي ماذا فعلتُ كي أنال كل هذا؟)}.. فيحدثنا عن الأشجار التي قطعها البشر، وعن البتلات .. أو البراعم المتفتحة، إذا ما تغيرت الأمور وسارت بالحب من البداية.. لتغيرت الرؤية للحياة.. ولتحولت رؤية الكاتب إلي الدعوة للحياة وللأمل.. وليعيدنا إلي ما سبق وأكدناه من أن البنت.. لم تكن هي التي اغتالت الحكايات، وإنما الحكايات هي التي اغتالتها.   

 وقد وضع الكاتب بعض الجمل بين القوسين، لو تأملناها مجتمعة سنجد، عند الحديث عن زميل العمل (كاذب)، وعند الحديث عن الجار (موظف مرتشي)، وعند الحديث عما يحدث للبنت المشوهة عقليا (يا إلهي ماذا فعلت كي أنال كل هذا؟). وكأنه  يزيد الجو فسادا، أو يؤكد علي أن الجو كله ملوث.

وأيضا استخدم الكاتب تواريخ محددة باليوم والشهر والسنة، وهي ما استقينا منها أن البنت ولدت عن سبع شهور، وإن كان ذلك يحدث، عادة، إلا أن حدوثه غالبا ما لا يكون طبيعيا. إلا أن باقي التواريخ لم يكن لها مدلولات محددة، اللهم إن كان قد أراد بها إضفاء صفة الواقعية علي قصته.

خاصة وأن الكاتب استخدم ما يشابهها في قصة "إعترافات أخيرة قبل أن أكذب" حيث استغل التوقيت الذي يبدأ من الساعة الخامسة صباحا ، ليمر الوقت حتي نجدنا في الساعة الحادية عشر مساء ، ثم يتكثف الوقت وتتسارع الوقائع لنصل إلي السادسة صباحا. لنتلمس ذلك الذي يعيش حالة من اللايقين، فنراه يقول:{لم أشك مرة في  وعيه وقدرته علي .. كلا بل شككت في ذلك}، {كلا أنتم تكذبون.. لم أقل أنني رأيته، أنا ربما .. ربما أشعر بوجوده فقط}. فإذا ما حاولنا أن نعثر علي (حكاية) محددة، فلن نصل، وإنما نجدنا أمام حالة سوف تتكشف في آخر القصة، وكأنها لحظة التنوير في عُرف النقد التقليدي، فنقرأ نهاية القصة {حينها أحسست ب(الإسبازمودايزبام) فقد بدأت تنتشر في عروقي. وفجأة .. أظلم وعيي تماما.. وسقط لساني}.

ولأني لم أكن سمعت بهذا (الإسبازمودايزبام) من قبل، فقد استعنت بتوضيح الكاتب له في الهامش، حيث ذكر: (الإسبازمودايزبام) مادة مهدئة تخفف من الانفعالات النفسية والسلوك الهيجاني. لنكتشف أن صاحبنا طوال القصة، كان يهذي، وأنه واقع تحت تأثير مخدر ما، استمر تحته لنحو أربع وعشرين ساعة. ولنعلم أن كاتبنا الشاب، ما أراد إلا أن يقدم لنا تجربة حية لواقع معاش، يعيش فيه كثير من الشباب. إما بتعاطي الحبوب التي أصبحت منتشرة بينهم، وإما بمأساة الواقع الذي يعيشونه. خاصة إذا ما تأملنا العنوان مرة أخري "إعترافات أخيرة قبل أن أكذب" وكأنه يصم الواقع المعاش ويصفه كله بالكذب، وأن السارد، كممثل للشباب، تحت تأثير المخدر، ينطلق لسانه بالصدق، يُخرج ما بداخله بصراحة، وما أن يفوق من المخدر، حتي يسقط في مجال الكذب.وهو ما يتوافق مع ما أكدناه في قصص أخري من المجموعة، وما سيتضح أكثر عندما نتحدث عن العتبات، من المقابلة بين طرفين في العنوان، وفي متن القصص، وهو ما يخلق حالة من الحركية في المجموعة.

التلاعب بالضمائر

إذا كانت النقلات السريعة، والمتنوعة، هي أحد عناصر القص عند محمد علام، والتي قد تسبب بعض الاضطراب لدي القارئ غير المتمرس، فإن استخدامه للضمائر أيضا ما يمكن أن يصنع ذلك. فإذا ما تأملنا علي سبيل المثال قصة "مازالت الأقدام علي الأرض" والتي يؤكد فيها استمرار العلاقة بين الفتي والفتاة، ما عاش البشر علي ظهر الأرض. فبينما السرد يسير بضمير الغائب: {احتكاك خدها مع كتفه الصلب يدغدغ زغبا في وجهها، فتغمض عينيها وتبتسم، بينما يتابع هو :

  • من حينها لم يتساءل أين ذهبت البنت، واكتفي فقط بأن ينتظرها.. كأنها اكتشفت شيئا صادما، تنهد هو، فتساءلت:
  • وأين ذهبت؟
  • لست أدري}

حيث يقدم ما يمكن أن يكون تحولا في الضمير المستخدم،  ففي الجملة الأولي نجد الضمير (هو) في جزئها الأولي، بينما في جزئها الثاني نجد الضمير (هي).  وإذ يتوقع القارئ بعد {بينما  يتابع هو:.. أن يأتي السرد بضمير المتكلم. لكنه يفاجأ بأن السرد لم يزل، بضمير الغائب. ثم يتساءل {وأين ذهبت؟}  لتأتي الإجابة وكأنها من شخص آخر، وكأننا أمام متحاوين، بينما الكاتب هو الذي قسم الذات إلي ذاتين وجسدهما، مثلما يجسد في الكثير، غير المرئي ليكون مرئيا. وهو ما يتضح من الفقرة التالية أيضا، والتي يبين أن السرد فيها يسير بضمير المتكلم:

 {فرقت بيننا الحياة أكثر مما يفرق الموت.. نعم النساء أكثر شجاعة من الرجال، نحن بارعون فقط في الوقوع في الحب، في تأمل السماء، نحن نكتب الروايات، نبدأها.. وهن يغتلن الحكايات...} ليدخل بجملة توضيحية، يستخدم فيها ضمير الغائب {ثم ضحك ضحكة قصيرة، وقال: ... } بينما ما قاله بعد ذلك يأتي بضمير المتكلم {هكذا هن النساء، يأتون ويرحلون، حتي وإن لم نستطع أن نعرف إلي أين يذهبون}. ففي الجملة التوضيحية إستخدم (قال)، بينما في متن المقولة  يستخدم .. لم نستطع ، نعرف.

ثم يتأرجح السرد بين ضميري المتكلم والغائب، في فقرة واحدة، دون أن يفصل بينها سوي الفاصلة. وهو الأمر الذي يثتطلب اليقظة من القارئ، خاصة أن الكلمات غير مُشَكَلةٍ { كان كل ما يريده بعد كل هذا .. كل ما أريده لك هو أن تعاني مثلما أعاني، لقد رأي قلبها وكان يريده.. أريد القلب الذي في صدرك لأشعر لعلك تموتين، أتمني أن تموتي أينما تكونين. وأمضي ليلة بعدها تخل عن كل أوهامه.. ذلك لأنه ليس لأحد في العالم سأعطي قلبي}. حيث يكثر المحذوف بين الكلمات، أو تكثر الفراغات التي تتطلب من القارئ ملآها ، وهو ما يعتبر ثقة من الكاتب في قارئه.

وقد بث الكاتب في هذه القصة أيضا من روح العنوان الرئيسي للمجموعة، حيث نري (البنت) هنا أيضا وهي تبدو في عين الفتي (فاعلة) تغتال الحكايات {وهن يغتلن الحكايات} وهن اللائي لا يقرأن الشعر {أنا لاأقرأ القصائد يا أبي، ولا أمي، ولا أختي، ولا حتي خالتي} وكأنهن لا يتعاطين الوعود، ومعسول الكلام، بينما هي التي منحته اللحظة التي سعد بها، ولم يعطها غير الحكايات ، بينما هي المأخوذ حقها، حين تثور في وجهه محتجة{ أنت لا تفكر سوي بنفسك وفقط .... أنت أناني .... لأنك حضنتني أو قبلتني تظن أن لك الحق في مطاردتي طالبا تفسيرات؟ أية تفسيرات؟ أنت حتي لا تعرف كيف تقبل الأنثي، مازال أمامك الكثير لتتعلمه يا فتي..}وكأنها تعلن أن لها رغبات أخري، ومن حقها أن تحققها، أو لتعلن أنها ليست هي التي تغتال الحكايات، وإنما هي التي تُغتال في الحكايات.

العتبات المتحركة

بقدر قدرة الكاتب علي اختيار عتبات نصوصه، بقدر ما يساهم في مساندة القارئ في سيره عبرها لدهاليز تلك النصوص، وكشف ما هو مستتر وراء الكلمات. وقد نجح محمد علام كثيرا في اختيار عتباته، في التعبير عن عوالمه التي تتستر كثيرا، وتراوغ القارئ، قبل أن تسلم له قيادها.

فعلي الرغم من اختفاء الحكاية التقليدية ، وبالتالي  اختفاء التتابع المنطقي، والذي يُظهر القصة، وكأنها سطح ساكن. إلا أن ما صنعه من ديناميكية في العناوين، ما يقود القارئ للبحث عن تلك الديناميكية في القصص نفسها.

فإذا ما بدأنا بالعنوان الرئيسي للمجموعة "البنتُ التي تغتالُ الحكايات"، فنلمس تلك الحركية المتمثلة في (فعل) "الاغتيال"، والذي يلقي بظلاله علي التفكير والتدبير والاحتيال، الذي بالضرورة يسبق عملية الاغتيال، أو القتل. ثم ( اغتيال الحكايات)، وما به من تجسيد أو تشييئ لغير الملموس، وما يحيله إلي المادة - وهي الأمنية التي نُسبت لعلي بن أبي طالب (لو كان الفقر رجلا  لقتلته)، حيث تمني تجسيد المحسوس – وهو ما يُخرِج الباطن إلي الظاهر، حيث يجسد الأمنية التي تعتمل بداخل الإنسان، إلي واقع ملموس. كذلك المقابلة أو المفارقة التي تجعل من البنت (فاعل / تَغتال) بينما يسري في ثنايا القص أن البنت (مفعول به / تُغتال). حيث البنت رمز العذرية، ورمز الطفولة، ورمز القابلية للإخصاب والإنماء، ونراها في معظم قصص المجموعة طفلة (أو طفلا) مفعولا بها لا فاعلا، وكأن الكاتب أراد أن يصنع منها شهرزاد جديدة، والتي تحولت علي أرض الواقع (المحكي) من مفعول به (متعة شهريار، وقتلها في نهاية الليلة)، إلي فاعل (استطاعت أن تقاوم القتل، وتتغلب علي شهية شهريار). وبذلك جاء العنوان معبرا عن روح المجموعة، شكلا ومضمونا، وتجسيدا لروح الحكاية المتخفية وراء السكون الخادع.

فإذا ما تأملنا قصة "ميمي" {التي نامت ولما استيقظت ماتت..} سنتعرف علي تلك التي تعمل لدي السيدة "سوزي" .. التي راحت تحلم بفستان مخدومتها، وتحلم بالشاب الأسمر الذي يعمل أيضا لدي السيدة "سوزي"  الذي يحلق في المرآة المشروخة، فتأمره السيدة "سوزي": {دعك منها الآن... فأمامنا الكثير من الأمور....  يغادران تاركي المرآة ترقد في ألم .. تبكي من جرحها.. ستصرخ، لكن لن يسمعها أحد .. ولو سمعها أحد سيكون أقل ما تفعله بها مدام سوزي هو أن تهشمها كما فعلت بالتي قبلها}. لتتحول المرآة إلي معادل للفتاة (مكسورة الخاطر) تتألم وتبكي، ولن يسمعها أحد، وإن سمعتها المدام .. لهشمتها مثلما فعلت مع (الشغالة ) السابقة.  فإذا كانت القراءة العاجلة تقول بأن البنت هي التي كَـَّسرتْ المرآة، أي أنها فاعل، فإن القراءة المتأملة تقول بأن البنت هي المفعول به، فهي التي تكسرت.

فإذا ما انتقلنا إلي مفتتح المجموعة، والذي لم يزد عن سطرين اثنين، جسد فيهما الكاتب ذات المقابلة المتمثلة في كسر أفق التوقع لدي القارئ، أو المفارقة بين البداية والنهاية، والتي تُحدث الاندهاش لدي القارئ، وتثير انتباهه، بما يوحي ويشير إلي الحركة. حيث نقرأ:

{ذات مرة عرض ولدُ علي بنت ما الزواج، فرفضت....... فعاش الولد سعيدا إلي الأبد..}

فضلا عن استخدام (ذات مرة) والتي تمنحنا جو الحكاية في ألف ليلة وليلة (يُحكي أن) وبما تبعثه من إحساس بالخيال. إلي جانب تعبير الجملة عن رؤية السارد للفتاة، والتي تتضح بصورة جلية في قصة "مازالت الأقدام علي الأرض".

ثم نقرأ العناوين الفرعية (عناوين القصص) لنجد "الفضاء يُنبت زهورا"، و "في حضرة الخوف" ، "سيمفونية صمت"حيث يتجسد الفضاء ويتجسد الخوف  في صورة آدمية. والمقابلة بين السيمفونية والصمت. وهو ما نجده بصورة جلية بين ثنايا القصص.

في قصة "قاهرة في رقة الدانتيلا" والتي نستطيع أن نتعرف فيها علي ذلك التقابل الذي انتهجه محمد علام، بين ما يوحيه العنوان، وما تقول به القصة، وكأنه يصنع السخرية المريرة، حيث نري ما يوحيه من شاعرية في العنوان في "رقة الدانتيلا" ونعومتها، وبين تلك الحالة التي عاشتها القاهرة في السنوات الأخيرة، معبرا برؤية إبداعية عن ذلك القتل المجاني الذي تثيره الجماعات الإرهابية، بين البشر، لتنهي حياة (إنسان)، وكأنها تنهي حياة الطفولة، وحياة البراءة. فيستعرض من خلال القصة  التي تتكون من  أربع مقاطع، يستعرض فيها الكاتب سيرة الحياة، والتي يمكن أن نري لها شعارا ينبثق من رؤية السارد، "لا شئ يهم". يستعرض في المقطع الأول، بدايات الطفولة، عندما ينتزع الأب الطفل بغلظة من بين أحضان الأم. ويلقي به في به في المجهول. ويتعرف في الطفولة المتأخرة نسبيا في المقطع الثاني "صيف 1970" علي الزعيم المجهول الذي يمر بالقطار وسط الجموع المتلاحمة، دون أن يتمكن الطفل من رؤيته، ثم يستعرض فترة الصبا والشباب، التي يلتقي فيها بالجنس الآخر في مقطعه الثالث "الصدي". لنصل إلي المقطع الرابع "الحياة باتساع" علي نهاية الرحلة، حيث تموت الطفلة ، طفلة الحكاية، وطفلة الحياة، تلك الطفلة التي { كانت تحلم والحلم رؤية، تضم ركبتيها إلي صدرها ويدها ممدودة للدمية، تأتيها من أرض اللعب لتضمها، تخلصها من وحدة الحلم واتساع السرير، رغما عنها نامت، ولما أتيتُ بالدمية كانت قد ماتت..}، والتي يلخصها  {في الطريق إلي المستشفي مسترخيا في مقعد القيادة و يوسف إلي جواري متهاويا، عيناه في السحاب شاردتان تجوبان السماء، وسرب الحمام بحركاته البهلوانية يهاجر من أرض إلي أرض، نهاجر معه ... والسماء واحدة!} وكأن الطريق هو الحياة.. والسير نحو المستشفي .. السير نحو النهاية .. حيث تموت الطفلة.. والحمامات، ليست إلا الملائكة تحوم في كل بقع الأرض، فأينما ذهب الإنسان ، ف السماء واحدة. ليتساءل السارد بعدها .. أكان لابد أن آتي .. ما دمت سأذهب ، وما دام {لاشئ يهم، لاشئ ينفع، لاشئ يفيد}؟. فقد جاء وذهب .. ولم يشعر به أحد. حيث يشير في المقطع الأول ، عندما كان طفلا إلي ذلك في {خرجنا من الحارة دون أن يهتم  أحد لخروجنا، ودخلنا حارة أخري دون أن يهتم أحد أيضا لدخولنا، الناس المتشبثون بورشاتهم وعربات الفول لا يجدون الوقت كي يركزوا نظرهم مع الداخلين والخارجين}. ثم يعود لنفس الرؤية في المقطع الأخير، في عملية وصل بين المقاطع في {الجميع هنا لهم حياتهم الخاصة التي يعيشونها، ويلتقون بي علي هامشها ... لا شئ يحتفظ بي في ذاكرته...}.

وأيضا عندما أشار إلي ياسمين، الطفلة زميلته في اللعب، والتي راح يبحث لها عن الدمية، ولما أتي بها .. كانت قد ماتت {لم أعرف ماذا كانت تصنع ياسمين في هذه الأوقات؟ هل سألت عني فانزوت في غرفتها حزنا علي غيابي؟ لا أعلم إن كانت فكرت في ذلك} ولتصبح ياسمين، الطفلة، هي الرابط – أيضا -  بين مقاطع القصة الأربعة، بوجودها المباشر في المقطع الأول والأخير، وغير المباشر في المقطعين الأوسطين.

غير أن المقطع الأخير، يفجر لنا الرؤية المجتمعية المعاشة، بعد أن عشنا معها الرؤية الإنسانية العامة، وإن كان قد بث في ثنايا المقاطع السابقة ما يؤهل لتلك الرؤية المجتمعية ، حين أشار إلي ذلك الزعيم، راكب القطار، والذي لم يره أحد من الزحام. وكأنه يستدعيه، أو يعلن عن الحاجة إليه في الوقت الراهن، وفي عملية ربط أيضا بين تعامله مع تلك الجماعات التي تظهر علي السطح، في المقطع الأخير، وفي الوقت الأخير بالقاهرة. وكذلك عندما أشار إلي تلك المظاهرات، التي اندلعت في التحرير، والتي استعاض عنها ب {وقف أبي عند ناصية قهوة في باب اللوق} لينبئنا عن الزمان والمكان، وليوحي لنا أنه عن ثورة يناير يتحدث، ويصف ما حدث  { ثم فجأة تعالي الهدير، واقترب جمع من الناس يهرعون بشدة من الخوف، وصوت طلقات شق هدوء السماء، والغازات المسيلة للدموع عبقت المكان، واستولت علي شاشة الرؤية لدي ففقدت البصر، وتوقفت تطوحني أقدام المارة يمينا ويسارا، حتي سقطت علي وجهي، ومن جديد نهضت، ثم سقطت علي ظهري..........}. لنعود في المقطع الأخير لنجد أن المظاهرات تعوق خروج جثة الطفلة عن الخروج من المستشفي وأنت تعلم أن المظاهرات في كل مكان، لم يعد هناك آمان..}. وفي خارج المستشفي، يشير لنا السارد إلي تلك المنتقبة تنتحب، وليسأل السارد { ما آخر ما توصلوا إليه في شأن الذين يُقتلون باستمرار علي الطريق خلال هذه الأيام؟

سكت برهة ، ركز خلالها النظر علي المرأة وزوجها بلحبته وجلبابه القصير يغادران المستشفي، ثم قال:  الخطأ ليس خطأ هذا أو ذلك، إنها كلها أوضاع وظروف حرب العصابات واختراق القوانين وسفك الدماء... ثم استأنف حديثه  بصوت منخفض مقتربا من أذني: لكن من الذي أنشأ العصابات أولا؟ من الذي أراد الحرب الأهلية؟}. وليدلي السارد بدلوه ويزيدنا إضاءة {بات واضحا أنه خلال العامين الماضيين قد أُرتكبت آثام وسرقات وجرائم قتل دون سبب .. قليل فقط من الناس هم الذين ألقي بهم المستبدون علي الطريق ليقضوا نحبهم، ثم ماذا؟ كيف سارت الأمور؟ فقد توقفت حالة الاستعداد للطوارئ وصدقوا الطغاة السابقين الذين أصبحوا – الآن وبعد أن تزول الغمة ، وتحل الأزمة،  يخرجون من البارات والفيلات، ويُهتف باسمهم في الميادين وأعلي منصات الإعلام والجوامع..}. وكأني بالكاتب يقول أن كل ذلك لم يأت بنتيجة، و كل ذهب هباء ف { لاشئ يهم، لاشئ ينفع، لاشئ يفيد}. وليتوحد الخطان ويتداخلا .. ويصبح (الإنسان) والحياة الإنسانية، هي ضحية ذلك الذي حدث، ويصبح ضحية صراع القوتين.

وإلي جانب ذلك أيضا، يبث لنا الكاتب أبعادا أخري، يمكن قراءتها علي مستوي آخر، لتتعدد الرؤي، وهو ما يزيد القصة ثراء. فنستطيع الولوج إلي أعماق ذلك الطفل، المشمول بالأمل والحب والجمال. فبين زحام القاهرة، وضوضائها، ومشاجراتها، وحاراتها المتشققة الجدران، والأب المنصرف بلامبالاة، وترك طفله في سوق الحياة، نلمح تلك الإشارة التي قد تبدو عابرة، غير أنها تغوص إلي الأعماق، ويصورها في {تدريجيا انفلتت يدي من قبضته}- ولنتأمل كلمة (انفلتت) وما توحيه من انسحاب مترقب وخائف، وما يؤهل للنظر إلي ما بعدها من قبضة الأب، التي يمكن أخذها علي النحو المباشر لليد، ويمكن أخذها علي النحو المعنوي، بما توحيه قبضة الأب من صورة للسلطة بكل صورها، وبما يوحيه الأب من تاريخ وماض جاثم - ويكمل{ورحت أهرول بعيدا، دائما ما يزوغ بصري، وتنجح أشياء حولي في جذب انتباهي، عبرت الشارع، ووقفت أمام زجاج محل متوسط الحجم، أرتوي ببهاء تلك الألات الموسيقية التي تزين واجهة العرض في حضور جلي، لا شئ يضاهي ذلك البيانو الراسخ في الجوار، كنت دائما أتساءل هل بوسع هذه التجميعات الخشبية أن تكون ذات نفع في زمن صارت فيه الموسيقي تبث من كتل السيارات الحديدية، ومن الشقوق المعدنية في أجهزة الكومبيوتر والموبايل؟}.وقد رأينا أن داخل هذا المحل شاب يعزف علي البيانو، ما لبث ان انتهي من العزف، حتي تركه وودعه (صاحب المحل)، ثم نظر (التاجر) زاجرا إلي الصبي الواقف بواجهة المحل. لنري دقة الكاتب في اختيار الكلمات ذات الدلالة المقصودة، والموحية. فبينما استخدم (صاحب المحل) مع الشاب بالداخل، استخدم (التاجر) مع الفتي الواقف متطلعا ومنبهرا بآلات الموسيقي، بما يوحيه لفظ التاجر من مادية ، وربما الجشع، في مقابلة مع حلم الفتي بالموسيقي وما توحيه من رومانسية وبهاء وروحية. وهو ما يمكن أن ينعكس كرؤية عامة علي القاهرة، بما يشيع فيها من قتل في الطرقات، ومن اغتيال حلم الفتي بالجمال والسلام.

ورغم كل تلك الإيحاءات التي تفجرها القصة، ومن أبعاد في الرؤي، يختم القاص قصته بما يوحي بالأكثر في أعماقه، حين يتصور أنه يروي لصديقه فيخبره {كنت أود أن أبوح لك بالكثير عما بداخلي يا صديقي، لكن حتي معك .. لا أستطيع ذلك}.

إلي جانب الاختيار الموفق، لتلك الإيحاءات، والكلمات المشحونة بالمعاني، استخدم الكاتب الكثير من الجمل والفقرات المبتكرة والطازجة، والتي توحي بالدقة في استخدام الوصف، كأحد عناصر السرد الأساسية ومنها:

{دار مفتاح الباب، وانشقت عن باطنه جثة الضوء المرابي لساقين مسبوكتين داخل زوج من ذوي الكعوب البيضاء، تلثم الأرض في تلقائية من يعرف المكان، ولم أمنع عيني المرتكنة عند إحدي الزوايا من تشييد تمثال لها تمركز في ذاكرتي كعبة ستطوف حولها –فيما بعد- الرؤي والكوابيس}{واتكأت علي حديد النافذة مراقبا ذلك الأب – المدكوك قي الجلد السميك، المعجون بسمرة الشاي ورائحة السجائر – يطرقع أحجار الدومينو من غير رحمة}. {وغاصت شفتاي الصغيرتان داخل شفتيها، فكنت كما فراشة سقطت في بحر العسل، فلا هي غرقت ولا استطاعت أن تحلق مرة أخري كما كانت}{وعلي الرصيف الذي ينبض باللحم} {نتخلل بين أجساد الناس بصعوبة والصدمات من هنا وهناك}.

وعودة إلي القصة التي منحت المجموعة اسمها قصة "البنت التي تغتال الحكايات". تبدأ القصة بداية صادمة " كحي دائما لا يموت" فتوحي علي الفور بأنه الله، فهو الوحيد "الحي دائما ولا يموت، غير أنه يكمل الجملة، "أطفأ النور" ليدخلنا في تيه، لم تخرجنا منه باقي تفاصيل القصة التي ترمي إلي ما هو أبعد من كلماتها الظاهرة، فتعيدنا إلي زمن الحاكم بأمر الله الذي حرم علي المصريين أكل الملوخية من خلال رجل يجلس أعلي البرج وينظر للأسفل بمنظار مكبر، لتعود بنا إلي جملة البداية، فتضعنا في مواجهة الحاكم، وكأنه الحاكم بأمر الله، وهو ما يصل إليه حين تطارده الأحلام واللعنات، في زمن لا يعني سوي الجنون، واللامعقولية. فيه التطلعات تفوق الإمكانيات. حتي أنه حلم بزرافة، بما تعنيه من ارتفاع الرقبة، والقدرة علي الرؤية للأبعد، غير أنه لم يجد سوي غزالة شاردة. بما تعنيه "الغزالة" من رومانسية، وهو ما يتناسب مع طبيعة السارد الجالس في الأعالي. ويري الأشياء من أعلي. رؤية تقود للربط بين المفردات. فإذا ما ربطنا بين الحاكم بأمر الله وجنونه حين منع أكل الملوخية علي المصريين، وبين أحلام الناس في الشوارع، لنسحبت الرؤيا إلي الواقع المعاش،مشيرة إلي الحاكم الذي لايقدم إلي الناس غير الوعود، غير الأحلام، ومعسول الكلام، بينما الشعب يعاني الحرمان، ويعاني الديكتاورية، فيتحايل علي تحقيق الرغبات، حيث تصنع الأم، البنت التي كانت، لتصنع لولدها مايشبه الملوخية، غير أنها لم تكن ملوخية. وكأن البنت التي تغتال الحكايات، ليست سوي الأم التي اغتالت الأحلام، أو الأمنيات، رغم بساطتها. وكأن الكاتب يبتلع الكثير ولا يستطيع البوح إلا بالعناوين. لنعيش معه واقعا غير مكتمل وغير واضح المعالم. وكأن الرومانسية لا تقود امما. ولنشهد أن محمد علام، قاص واعد، يملك من إمكانيات القص، الكثير، خاصة في القصة القصيرة، التي توحي أكثر مما تصرح.

       تكثيف، وتصوير، وحركة، ولغة إيحائية، استطاع بها محمد علام أن يضع بها قدمه علي سلم كتاب القصة القصيرة بجدارة، في مجموعته الأولي اللافتة، اغتال بها كل الهواجس التي قد تثور داخل القارئ، عندما يتناول أولي أعمال مبدع جديد علي الساحة الأدبية، وتعلن الترقب، لما سيأتي بعدها.

   محمد علام – البنت التي تغتال الحكايات – مجموعة قصصية – دار ميم للنشر – الجزائر – ط 1- 2016 .-