يكشف الباحث الفلسطيني المرموق هنا في دراسته لرواية الكاتبة السورية هيفاء البيطار كيف أن الرواية وقد انشغلت بثنائية العقل والجسد في تجربة المرأة، ظلت مضطربة في رؤية الأنثى لنفسها ولما يحيط بها، فلم تُحَقّقَ بطلتها حريّتَها ولم تنجحَ في الوصول إلى ما تبغي من أهداف.

اضطراب في رؤية الأنثى لنفسها ولعالمها

في رواية «امرأة من طابقين» لهيفاء بيطار

نبيه القاسم

"لكني الآن حرّة كغيمة، نقيّة كدمعة. ربّتُ بحنان على روايتي التي أوسَدتُها حضني- وأنا أجلسُ في المقعد الأمامي للسيارة، كنتُ أحسّ أنني أُربّتُ على كتف امرأة حرّة ونقيّة تصالحتْ مع نفسِها ومع العالم، ولم تعُد تشعرُ كما كانت تشعرُ دوما بأنّها إمرأة من طابقين." بهذه الكلمات تُنهي هيفاء بيطار روايتَها "إمرأة من طابقَين". والسؤالُ الذي يُطاردُ المنتهيَ من قراءة رواية هيفاء بيطار: أينَ هي الحريّة التي تتحدّث عنها؟ وأيّة امرأة نقيّة هذه التي تَدّعيها؟

أوّل الكلام:
هيفاء بيطار طبيبة عيون سورية، تُعتَبر من الروائيات البارزات في عالمنا العربي في الخمسة عشر عاما الأخيرة. صدرت لها العديد من المجموعات القصصية القصيرة وعدّة روايات تركت صداها القوي على الساحة الأدبية العربية لما تضمنته من آراء ومواقف جريئة تحدّت مفاهيمَ المجتمع وعاداته، ولمست اثنين من أقانيم المحرّمات الثلاثة :"الجنس والدين" وخدشتهما بقوّة قَصْدَ تمزيقهما، هذه الأقانيم التي كان الرجل يُطلُّ عليها برِفْق وهَيبة وخَوف، ويعودُ مسرعا ليتستّر بجلابيب العادات والتقاليد والمفاهيم السائدة القوية.

هذه الرواية جاءت لتُتَمّم ما كانت الكاتبة قد بدأته من ثورة الاعتراف ضدّ الواقع الإجتماعي والديني الذي عايشته وشقيت بسبب انصياعها كإمراة له في روايتها التي لفتت إليها انتباه النقاد والأدباء "يوميات مطلقة". الثورة التي أرادت منها أن تُعلن انعتاقَها من نير الرجل وهَيْمنة العادات والتقاليد والمفاهيم الإجتماعيّة والدينية التي كبّلتها. لقد استطاع الرجل منذ عرف المرأة وعايشها الحياةَ أن يؤطّرها ضمنَ صور ومفاهيم ثبّتَها ورسّخها، يتبنّاها المجتمعُ بمختلف مستوياته وثقافاته، حتى المرأة نفسها، أصبحت مساهمة في تأطير ذاتها في هذا المجتمع الذكوري الذي أصبح من الصعب عليها، إن لم يكن من المستحيل، أنْ تنجحَ في التخلّص من قيوده وسطوته وكسر مفاهيمه وتَغييرها.

هذه هي قصة نازك بطلة الرواية:
نازك شابة مسيحية عاشت في أسرة مثقفة لها مكانتها الاجتماعية، والدها حفيد كاهن، يفهم الكون كله من وجهة نظر الروم الأورثوذكس. تعوّدت منذ طفولتها أن تحضر اجتماعات الجمعية الأورثوذكسية في قاعة الكنيسة. وما حبّبها بهذه الجمعيات أنها كانت المكان الذي تلتقي فيه بأبناء الجنس الآخر الذكور. حبّها الأول كان لطالب جامعي يكبرها بسنتين شاركها في اجتماعات الجمعيات لكنه فاجأها بقوله بأنه اختار طريق الحب الإلهي، وأن المسيح هو طريقه. فكانت هذه "أوّل خيبة عاطفية تعيشها مع شاب خصاه إيمانه" كما تقول (ص 31).

لم تستسلم نازك لفشلها وانطلقت وراء شهوتها لتُغري أخ صديقتها الذي يصغرها بثلاث سنوات لتختلي به بعيدا عن رفاقها الذين ينشدون التراتيل الدينية، كانت مُذعنة لثورة الحواس وبعد اللقاء كان قرار صامت يتشَكّل في روحها بأنها تُريد أن تعيش بجسدها وروحها معا، متصالحين ومتساويين في القيمة والجوهر"(ص6). رفضها الأكبر للمجتمع ومفاهيمه كان خلال دراستها الجامعية وتعرّفها على صفوان الشاب المسلم الذي جمعها وإيّاه الحبّ. وتطوّرت علاقتهما وصارحا أهلهما برغبتهما في الزواج، فبينما رحبّ أهله بالزواج كان موقف والديها الرفض القاطع والتهديد بالقطيعة والهجر والغضب، فالتجأت إلى كاهن الطائفة لتعترف له وتستمع إلى نصائحه فأقنعها بالتّخلي عن حبيبها والقبول برغبة الأهل ، وكانت النتيجة أن قطعت علاقتها بحبيبها صفوان المسلم، وقبلت الزواج من ماهر الطبيب المسيحي الذي يقيم في باريس. وكانت صدمتها المفاجئة في باريس عندما ضبطت زوجها مع عشيقته الفرنسية عاريين في فراشها فغضبت وثارت وشتمت، لكن زوجها سرعان ما صارحها، بعد أن هدأت، بكلّ ما يعرفه عنها، أنها أحبت شابا مسلما وضاجعته، وأنها لم تخدعه بعذريتها الكاذبة يوم الزواج، وأنها ليست القديسة الضحية، فكلاهما ضحيّة لأهله ومجتمعه والعادات والتقاليد، فهو خضع لإرادة أهله مثلها. خلال الأشهر التي عاشتها نازك هاجرة لزوجها تعرّفت على كمّون المسلم التونسي وضاجعته، وعلى غيوم أستاذ التاريخ الفرنسي وظلّت تلوم نفسها لأنها لم تتابع معرفتها به. وبقيت حياتها مع ماهر زوجها مضطربة حتى جاءها يوما يُعلمها أنه ترك عشيقته الفرنسية ويرغب في بداية حياة زوجية جديدة بينهما. بعد تفكير قبلت وعادا ليعيشا معا وولد لهما طفل سمّياه "حبيب" رأت فيه نازك كنزها الوحيد ومنجاتها في حياتها فتعلّقت به وعزفت عن كل نوازع الجسد. لكن حبيب الصغير مرض وتوفي بسرعة مما دفع بنازك إلى اتخاذ قرارها الصارم بالطلاق من زوجها والعودة إلى وطنها وبلدتها لتكون محطّ اهتمام المعارف، ومَطْمَعَ العديد من الرجال، كونها امرأة مطلقة جميلة ومتحرّرة.

وإذ تكتشف موهبتها الأدبية ورغبتها في الكتابة تصارح صديقَها وصديق والدها بما يعتمل في داخلها وبالفعل يقوم هذا بتعريفها بكاتب البلاد الشهير ابن الخامسة والسبعين الذي سرعان ما يأخذ في استغلالها كامرأة مندفعة نحو الشهرة ليُفرغ رغباته الجسدية العاجزة لديها. وتكون النهاية بتقديم الكاتب لها للناشر الكبير الذي يهتم بكيفية اصطيادها ومضاجعتها قبل أن يهتم بما تكتب، فتقبل اقتراحه بمرافقته إلى بيروت لحضور مؤتمر الناشرين، وما بين الجلسات يحاول الناشر الإيقاع بها، لكنها تتمنّع، وإذ يُدرك استحالة استجابتها لرغباته يُعلن لها أنْ لا أمل في نشر روايتها فتتركه وتعود إلى بيتها مُحْبطة، ولكن بمشاعر النشوة والانتصار، لتُؤكد لنفسها أنها تحرّرت وأنها غدت امرأة حرّة نقيّة.

مبنى الرواية ولغتها
نستطيع أن ندرج رواية هيفاء بيطار "إمرأة من طابقين" ككثير من روايات الكاتبات العربيات ضمن الرواية السير ذاتية لاتخذاها جانب البوح الذاتي والتفريغ بكل الهموم التي عاشتها لترميها في وجه المتلقي. فنازك هي بطلة الرواية وهي كاتبتها وراويتها. نازك الكاتبة تقدم لنا نفسَها وقصتها مع كاتب البلاد والناشر بضمير المتكلم وبلغة سردية عادية تنقل بواسطتها وقائع ما حدث بالتفصيل والبساطة. بينما ينتقل الحديث بضمير الغائب عندما تروي لنا نازك الكاتبة قصة ما حدث لنازك الشخصية الروائية التي تكتب عنها رواية. وتتوزّع الرواية لتكونَ روايتين ضمن واحدة، الأولى قصة نازك الكاتبة ومعاناتها مع كاتب البلاد والناشر اللذين استغلا تلهفها واندفاعها لتكون كاتبة معروفة ليستحوذا على جسدها الجميل. والثانية قصة نازك الشخصية الروائية التي تروي نازك الكاتبة قصتها التي ترغب في نشرها والوصول بها إلى الشهرة وتَبَوّء المكانة الأدبية الساميّة. وفي هذا القسم الثاني ترقّ اللغة وتقتَربُ، في الكثير من المشاهد، إلى الشاعرية الإيحائيّة كما في مناجاتها لطفلها حبيب الذي مات: "الموت يا حبيب هو تحقيق للحبّ العظيم، الآن أتفرّج على بركان الحبّ المُلتهب يفور في صدري. كم أنتَ بداخلي يا حبيب أكثر من كلّ الأحياء، سأكتبُ آثامي كلّها لأتطهرَ، لأصيرَ لائقة باحتضانك حين تجمعني بك هوّة الموت، لنصعدَ منها إلى أبديّة الحبّ"(ص148).

وتنشطر الشخصية إلى اثنتين تحاور الواحدة الأخرى وتتصادم معها في المواقف "لم تستقم حياتك بالحيلة والغشّ يا نازك، ها أنتِ ضحّيْتِ بالحبيب، الذي تكونين بين ذراعيه أنتِ ذاتك، ورميْتِ نفسَكِ في أحضان غريب، بأيّ حقّ يلمسك هذا الغريب الذي لا تشعرين نحوه بأيّة عاطفة؟! أليسَ ما تُمارسينه عهراً! ما هو العهر سوى ممارسة فعل الحبّ دون حبّ؟ فكيفَ وأنتِ متيّمة بآخر"(ص95). وتعود أحيانا لتستعيدَ مَواقفَ بعيدة من الماضي تركت أثرَها وَوجّهت مصيرَها وحكمت عليها "استدعت صُورَهم إلى سجن روحها في باريس وسمعتهم جميعا يقولون: إيّاكِ والفضيحة، المهم السترة، تذكّرت جملة سمعتها أو قرأتها، لم تعد متأكّدةً، انثالت على ذهنها: في الشرق العربي الزّنا مشكلة إذا لم يَسْتَتر، والشرق يخشى الفضيحةَ ولا يخاف المعصيةَ"(ص103).

لغة الرواية تحافظ في معظمها على مستواها العادي السردي، ولا تختلف لغة مواقف الحوار عن لغة السرد، وقد يكون التشابه في مواقع شخصيات الرواية، كونهم من المتعلمين المثقفين السبب في عدم التنوّع في مستويات اللغة. وكان للحوار حظه البارز في الرواية، فهناك الحوار الذي كانت نازك الكاتبة الراوية تجريه مع كل من الكاتب والناشر. والحوار ما بين نازك الشخصية الروائية وكل الشخصيات التي عايشتها وتعرّفت عليها. والحوار ما بين نازك الكاتبة التي تهتدي بعقلها ووعيها ونازك الكاتبة الراغبة في الشهرة المندفعة وراء نوازعها العاطفية الرّغَبيّة، هذا الحوار الذي تجلّى في أجمل درجاته وصَخَبه وشحناته ما بين النازكتين في مواجهة اندفاع الناشر لإيقاعها في حبائله أثناء وجودهما معا في بيروت.

مُنطَلق ثورة هيفاء بيطار
حدّدت الكاتبة في أكثر من حوار معها المنطلقَ الذي دفعها لثورتها التي عبّرت عنها في روايتيها: "يوميات مطلقة" و "إمرأة من طابقين" فهي تقول:" كانت روايتي الأولى (يوميات مطلقة) بمثابة أخذ بالثأر من مجتمع ذكوري ، حكيتُ فيها عن مُعاناتي مع المحاكم الروحيّة المسيحيّة التي حكمت علي بالهجر لمدّة سبع سنوات قبل أن أحصل على الطلاق" (مجلة جميلة أيار 2006). وتقول: "أعترف أنني عشتُ سنوات الغضب الدّفين والمَكبوت، ولم أستطع البوح به في وقت مضى. والآن وجدتُ نفسي أتحدّث عنه. وهذا أرجعه إلى التربية التي تلقيتها منذ صغري، ولي قناعة تامّة أنّ تربية الفتاة تعتمدُ على كبتِ المَشاعر، على عكس الذكر الذي يحظى بحريّة القول والتصرّف".

وتُحدّد القضيّة الأساس أكثر في قولها: "فيما يتعلّق بالتربية الدينيّة، فرغم مستواي العلمي ودراستي للطب في الجامعة وجدتُ أنّ علاقتي الدينيّة كمسيحيّة لا يجب أن تلتقي مع مسلم وهذه رغبة والدتي، التي تقول لي بإلحاح دائم: إيّاك أن تُحبّي مسلما، فهذه التربية أعتبرها نوعا من الاضطهاد للبنات، فإمّا أن نُساير رغبات الوالدين لنحصل على كل شيء وإمّا نُعارضهم فنفقد كلّ شيء." (جريدة الفجر 20.1.2007). وتحدد الشق الثاني في منطلق ثورتها بقولها: "هناك زيف الشهرة الذي نقلته في الشق الثاني من رواية (إمرأة من طابقين) وناقشت في هذا الموضوع تجاوز فكرة وجود شهرة نعيشها". وتقول إنها وجدت في الكتابة عمّا يعتمل في داخلها من ثورة "طريق الخلاص الوحيد من الهلاك"(ص70).

ونقف على منطلق مهم دفعها ولا يزال للثورة، هو مطالبتها، ككثيرات غيرها من المبدعات العربيات، بحرية المرأة في سلوكها وفكرها وعلاقاتها وبناء مستقبلها ورسم أحلامها والتصرّف بجسدها. والسؤال الكبير: إلى أي مدى استطاعت هيفاء بيطار في المحافظة على مواقفها والدفاع عنها؟

الأهدافُ والشعاراتُ التي تَتهاوى
أوّلُ هدف وضعته نَصْبَ عينَيها وأعلنت حَرْبَها ضدّه كان: عادات المجتمع وتقاليده والتربية الدينيّة: كانت مواجهتها لعادات المجتمع وتقاليده عندما واجهت نفسها بسؤال حاد: "مَنْ أنا!؟"، وانكشافها على الحقيقة المؤلمة بأنّها "مُركّبة قطعة قطعة، وفكرة فكرة من قِبَلهم، وبأنّ أفكارَها منسوجة من خيوط أفكارهم". وأعلنت رفضَها لأناها الذي شَكّلوه هم. كما وأعلنت رفضَها للتعليم الديني الذي أرهقَ روحَها وأعصابّها بمفهومَي الحَرام والحلال.(ص33). هذه التربية الدينيّة التي عانت منها في تربيتها البيتيّة والكَنَسِيّةِ وفي المجتمع ككل. فقد رأت في التربية الدينية البذورَ الأولى والخطيرة والمدمرة للمجتمع الواحد وللإنسان كإنسان. فهي كفتاة ولدت في بيت مسيحي أورثوذكسي محافظ وسط مجتمع متعدد الأديان والمذاهب اعتادت أن تسمع ما تستغربه من والديها. "فوالدها كان حفيد كاهن، يفهم الكون كله من وجهة نظر الروم الأورثوذكس، حتى علاقات الكواكب مع بعضها كان ينظر إليها نظرة دينيّة، كان يكره كلّ الأديان الأخرى، والطوائف المسيحية أيضا. كان يتهم الموارنة بالتسلط، والبروتستانت بالكذب والسطحيّة، وأنهم حينما يحلفون بالصدق فهم كذّابون"(ص23). ولاقت الأمَرّيْن من الضغوطات والموانع والتنبيهات والتحذيرات ومن ثم العقوبات. فالزواج من رجل غير مسيحي مُحَرّم لا يقبله الربّ ولا الكنيسة ولا الأهل ولا المجتمع. والعقوبة على المخالف تكون في البداية بالتوعية والتنبيه والتحذير، ومن ثم بالقسوة والظلم والعقاب والهجر والإبعاد والتكفير والإلغاء. ويؤكد لها موقفَ أهلها الصارم  ما فعلوه مع ابنة عمّة لها تزوجت من شاب مسلم ، كيف قطعوا كلّ علاقة معها، وحتى بعد موت ابنها وقد بلغَ السابعة من عمره لم يعطفوا عليها وظلّوا على موقفهم الرافض لها.(ص96).

كان صوت والديها يلاحقها دائما: "نتمنى لو يموت أولادنا ولا يتزوجون خارج دينهم. نحن نحتقر كلّ مَن يتخلّى عن شخصيته ودينه، ويترك نفسّه يذوب في الآخر" (ص85). وتذكر كيف أجابتها أمّها عندما سألتها: "ماما لو تقدّم عبد الحليم لخطبتك قبل أبي أما كنتِ توافقين؟ كيف ضجّ الجميع بالضحك وأجابتها أمها بوضوح: بالطبع لا لأنه مسلم. وضغطت على أمّها: ولكنك معجبة به كثيرا. فحسمت أمها بجوابها القاطع: لكنه مسلم". (ص85)

ولم تجد التّفهمَ لدى الكاهن الذي حدّد لها الفوارقَ بين المسيحي والمسلم بشكل لا يمكن التّلاقي أبدا، واستطاع إلى حدّ كبير التأثير عليها وجعلها تنصاع لحكم الكنيسة والأهل والمجتمع. فقد تركته، بعد أن جاءته لتجد عنده الملجأ، وكلماته القاطعة تتردّد في مسامعها: "المعموديّة هي الولادة بالمسيح، إنها الولادة الثانية بالروح، لأنّ المسيح يدخل بواسطتها في تفاصيل حياتنا اليوميّة، إنّها ولادة الروح يا نازك، وهي أكثر أهميّة بما لا يوصف من ولادة الجسد. لو استطعتِ أن تخلقي مسافة بينك وبين حبّك للمسلم، وأن تتأمّلي هذه العلاقة بعين المعموديّة أو الولادة الثانية بالروح، سيروعك الفرق بينك وبينه، إنّه غيرُ مُعمّد، المسيح لا يدخلُ جوهرَ حياته مثلك، المسيح كالهواء، كالماء، بلا لون ولا طعم ولا رائحة، ومع ذلك فلا حياة بلا ماء وهواء. المسيح قَدَّسَ العلاقةَ الزوجية وربطها مع الله: ما جمعَه اللهُ لا يُفرّقه إنسان، والرجلُ رأسُ المرأة كما المسيح رأسُ الكنيسة، لكن عند المسلمين يقولون: تَزَوّجوا مَثنى وثلاث ورباع. أنتِ غافلة عن الجوهر يا نازك، وقد يَعمي الحبُّ بصيرتَك، الجنسُ عند المسيحيين قربان، وعند المسلمين نَهَم. الجنسُ بين المرأة والرجل المسيحيَين هو حضور إلهي، أمّا عند المسلم فهو مجرّدُ متعة. المال والبنون هما زينةُ الحياة الدنيا عند المسلم، أمّا عند المسيحي فأساسُ الزواج هو الحبّ وليس الأولاد."(ص75-76).

كان لكلمات الكاهن تأثيرُها القَويّ على نازك فقد "كانت مَساماتُها تمتصّ كلماته الهامسة، لشدَّ ما أحسّت براحة وهي تسمعُها، حَسَدت نفسَها كونها لا تزال واقفةً على برّ الأمان ولم تتزوّج المسلم بعد. ياه كم كانت غافلةً عن هذه الحقائق."(ص76). وتوارى وجهُ صفوان الحبيب أمام كلمات الكاهن المقنعة المؤثّرة ليتقلصَ في كوْنه مسلما فقط. وتترك الديرَ والكاهنَ وهي تعَدُه : "أعدُك أنْ أبترَ علاقتي مع المسلم. (ص77) خرجت وقد استقرّ رأيها على ترك حبيبها صفوان لكونه مسلما، لقد استطاعَ الكاهن في أقلّ من ربع ساعة أنْ يقلبَ كيانَها وأنْ يستَفزّ ذاكرةً مُخَدّرة عمرُها سنوات، خرجت مُلتهبة بقرارها الذي أضاء في روحها ستبترُ علاقتَها بالمسلم، وتساءلت: عجبا كيفَ طوّحتُ بسمعتي عَرض الحائط، ترى ألن تؤثّر هذه العلاقةُ على زواجي من مسيحي في المستقبل؟ ولأيّام عاشت حرّةً من أشواقها للمسلم، لم يعُدْ اسمُه صفوان، بل المسلم" (ص78-79).

وتعذّبت لأيّام، وعاودها الشوقُ لصفوان حبيبها الوحيد، لم تُشفها منه الصلوات ولا السجود، رفعت صوتها المتمردَ مُعلنة: لستُ خاطئة، لماذا يُريدون سَحْقَنا أمام الإله؟ لا تغفر لي يا ربّ فأنا لست خاطئة". وانفجرت باكية مُوزّعة بين عواطفها وعقلها، لماذا لا تستطيعُ أنْ تطوّحَ بأفكار أهلها وتتزوّجَ مَنْ تُحب؟ في أعماقها كانت تُدرك عجزَها عن ذلك الفعل الثوري العظيم، إنهم جذورها، تُحسّ بالشلل لو انسلخت عنهم أو عارضتهم، لكن ما دواء حبّها؟ إنّها تموت عشقاً؟! ستظلّ على مَسيرتها التائهة إلى ما لانهاية، حتى يبتلعها الموت، ياه أحيانا يكون الموتُ حلاً. كانت تُدركُ حقيقةَ ذاتها في تلك اللحظات، فهي غيرُ قادرةٍ على اتّخاذ قرارٍ أبداً، ولن تستطيعَ الانسلاخَ عن مشيئة أهلها، وفي الوقتِ نفسِه لا تملكُ شجاعةَ بَتْرِ علاقتها مع صفوان" (ص81-82).لكن حبّها لأهلها يُعذّبُها، صورة أمها وهي تخيط لها ثيابها الجميلة تجعلها تحسّ بانقياد تام لمشيئتهم، والثفة التي يُغرقونها بها تُربكها لأنّها تعني أنّها يجب أن تكون كما يشتهون لتظلّ محافظة على ثقتهم.(ص86-87).كانت تحسّ أن حياتها تتحوّل سيف ذي حدّين، مسَلّط عليها، الحدّ الأوّل أهلها، والثاني صفوان.(ص90).

ويتهاوى شعارُها الأوّل الذي رفَعَتْهُ ضدّ عادات المجتمع وتقاليده، بانصياعها لمشيئة أهلها، وبذهابها إلى الطبيب ليُعيدَ لها عذريتَها التي وهبتها لحبيبها صفوان خوفَ أنْ يكتشفَ عريسُها الموعود عدمَ عُذريتها وتكون الفضيحة، وضدّ التربية الدينية المعادية للآخرين. وتخضع لرغبات أهلها وأحكام الدين والمجتمع، وتتخلّى عن حبيبها المسلم صفوان الذي لم تستطع مواجهته، وانتظرت حتى سافر إلى الولايات المتحدة لمتابعة دراسته لتفجعه بقرارها عبر الهاتف: "لا أستطيعُ الزواجَ منكَ لأنّك مسلم". وعندما صرخَ فيها رافضا كلامَها قالت: "يجبُ أنْ نُصغيَ لصوت العقل." وإذ بكى وتَساءلَ: "والحبّ الذي." قاطعَتْهُ لتُخبرَه: "يُفَضّلُ أنْ تسمعَ منّي، سأتزوّجُ طبيبا مَسيحيّا." وصرخ ماذا!؟ فوضّحتْ كلامَها بإصرار: "أرجوكَ يا صفوان، أنتَ ستتَزوّجُ فتاةً تُناسبُك، أميركا ستُساعدك لتنساني." فما كان منه إلاّ أنْ صرخَ في وجهها بكل ألمه وحقده وغضبه وجرحه: "أنتِ قَحبة." (ص101-102).

وتتزوج نازك من ماهر الطبيب المسيحي كما أرادَ لها أهلُها والكاهنُ والمجتمعُ، ونزفَتْ بِضْعَةَ قَطراتٍ من دم لتَفي بالتزامها تجاه زوجها وأهلها والناس، وتعترفُ بأنّها لا تستطيعُ إلاّ أنْ تكونَ كما قال لها الكاهن: "مَنْ تكونُ ابنةَ أسرةٍ مسيحيّةٍ مثالية مثل أسرتك، يستحيلُ أنْ تخونَ المسيح."(ص77). ويسقطُ شعارُها الكبير. وتُفاجأ نازك بعد شهر من زواجها بأنّ ابنة عمّها تزوجّت بمُباركة الأهل من أخ وزير مسلم، بينما كانوا قد تبرأوا من ابنة العمّة التي تزوجت منذ سنوات من شاب مسلم عاديّ، وعندما مات ابنها في السابعة من عمره اعتبروا موتَه عقابا من الربّ على زواجها من المسلم. وقد برّر أهلها مباركتهم لزواج ابنة العم من أخ الوزير بأن الوضع مختلف ولا يمكنهم رفض طلب الوزير. بينما اعتبرت هي عملهم هذا عملا انتهازيّا دافعُهم كان المصلحة المادية الشخصية. واكتشفت زيفَ أهلها الذين اعتقدت أنّ إصرارَهم على مُعاقبة ابنة العمّة ورفضهم لزواجها من صفوان كونهم مسيحيين حتى العَظم. وعَذّبَها الندمُ على الانصياع لهم، وعَدم الزواج من صفوان. ولكنها اتّخذت من حيث لا تدري قرارَها بأنْ لا تقبلَ بعد اليوم بنصيحة أحد، ولن تفعلَ إلاّ ما تُريدُه هي.

الهدف الثاني كان التحرّر من سَطوَةِ وقُيود الرجل:
تقول في مقابلة لها: "أنا أعتقد أنّ المرأةَ ضحيّة للرجل". هكذا بوضوح تام تتّهمُ هيفاء بيطار الرجلَ وتُحمّله مسؤوليةَ تَراجُعِها وضَعفِها واضطهادِها وتهميشِها. فمعظمُ الرجال في رأيها، كما يبدون في الرواية "هاجسُهُم الأوّلُ حالما يتعرّفون بامرأة مُتحرّرة، خاصة إذا كانت تتعاطى بقضايا الفكر، وتُؤمنُ بالمساواة بين المرأة والرجل، هو مُضاجعتها". وأنّ "مشكلةَ الرجل أنّه تَكَوّنَ عَبْرَ أجيال وأجيال أنْ ينظرَ للمرأة كموضوع متعة، ما كان يعرفُ كيف سيتجوّلُ في غرفِ الروح الخصوصيّة والرائعة والعميقة للمرأة." (ص37). و "أنّ عقلَ الرجل بين فَخْذَيه" (ص41). وتتهم الرجل، من خلال اتهام الرجال الذين عرفتهم "كانوا هم أصحاب الوجوه التي أحبّها وتُعذّبُني بحبّها المَشروط، والوجوه التي أرادت امتصاصَ نَداوةِ شبابي وأنوثتي وجَعْلي سلعةً، أُضَلَّلُ بين مَفهومَي الحرية والعُهر، كانوا جميعا يحفّون بي، محاولين إسقاطي في شرك حبّهم أو مَطامعهم" (ص181).

لكنّ صرخةَ هيفاء بيطار المتّهمة سرعان ما أخذت تضعف وتتوارى أمام الحقائق التي تظهر في كل مشهد وخلال كل لقاء بين المرأة والرجل. فنازك الشخصية الروائية، بطلة هيفاء بيطار، منذ بداية وعيها لوجودها وتفتّح جسَدِها اعترفت بكلّ جوارحها أنّ حرمانَها من اللقاء بالذَّكر هو الجُرمُ الكبير. وكانت تسعى بكل جوارحها للقاء به واستكمال وجودها بوجوده. هكذا طاردت الطالب الجامعي الذي كان يحضرُ للجمعيات المسيحية لإرشاد الطلاب. وعندما صارحته بحبّها له، وصدمها بقوله إنه اختار طريقَ المسيح غضبت عليه ووصفته بالرجل المَخصي وسخرت منه. كذلك هي التي أغوت أخَ صديقتها الذي يصغرُها بثلاث سنوات ومتّعت جسدَها بجسده على صوت التّراتيل الدينيّة التي يُردّدها زملاؤُها في الليل. ونازك هي التي كانت تُلاحق صفوان وتتحدّى المجتمع والعادات والتقاليد وتتخفّى أثناء ذهابها للقائه في غرفته حيث سلّمَته نفسَها ووهبَتْه عُذريّتَها. وهي التي أغوت الشابّ التونسي كمون، وزارته المرّات العديدة في غرفته، وأشبعتْ شَبَقَ جَسدِها معه. وهي التي حزنت وندمت على تمزيقها لرقم هاتف مُدرّس التاريخ الشاب الفرنسي، ونازك هي التي تعذّبت وهي ترى اهمال ماهر زوجها لها بعد عودته إليها، وكيف على مَدار أكثر من شهر يُهملها وينامُ بعيدا عنها. وهي تتعذّبُ وتنتظرُ مبادرتَه نحوَها.

ولم تختلف نازك الكاتبة والراوية في تصرفاتها، فقد اعتمدت على كونها امرأة جميلة ومُطلقة ومُثيرة لتحقيق حلمها بأن تصبحَ كاتبة مَعروفة يُشارُ إليها بالبنان. ولم تستثن أيّا من الرجال الذين عرَفتهم من محاولة اغوائهم وإسقاطهم في شِباكها. وذلك من مُنطلق اعتقادها أنّ الرجلَ لا ينظرُ إلى المرأة إلاّ بكونها جسدا جميلا للمتعة واللهو. فحتى صديق والدها الذي حافظ على صداقته لها احتراماً لذكرى والدها، تُشّكّكُ به وتقول: "فكّرتُ أنّ هذه الصداقةَ تعمّقت بحادثتين جوهريتَين، الأولى وفاة والدي والثانية طلاقي، ورجّحْتُ أنّ السببَ الثاني أقوى من الأوّل. لو لم أكن مطلّقةً لما تعمّقت صداقتي مع الرجل الرمز صديق والدي" (ص8).

وقرّرت من أوّل لقاء لها بالكاتب أنْ تقومَ بإغرائه وإيقاعه في شباكها. فما كادت تسمعُ صديقَها يُخبرُها أنّه والكاتب الكبير في انتظارها حتى تركت كلّ شيء ونسيت جوعَها، وأخذت تلبس ثيابَها الأكثرَ أناقة، وتُجَدّدُ خطّ الكُحل على عينيها وتنظرُ إلى صورتها في المرآة وتحاورُ نفسَها: "هل يهمّكِ أنْ يَراكِ كاتبُ البلاد العجوزُ جميلةً؟ إنّه يكبُركِ بأربعين عاما على الأقل! أجابتني المرأةُ التي أخذ وجهُها يتوهّجُ طاردا سحنة البَلادةِ: تحبّ الأنثى لفتَ نظرِ الرجل حتى لو كان على فراش الموت، بالتأكيد سيسعدُ الكاتبُ أنْ يتأمّلَ وجها جميلا لامرأة تَتَقصّدُ أنْ تتعرّفَ إليه" (ص8). وتبوحُ بصدقِ مَشاعرها كامرأة "وأتاني إلهام أكيد أنّ المطلّقةَ تتمتّع بسحر وجاذبيّة لا تُقاوَمان بالنسبة للرجال، وبأنها من غير أنْ تعلمَ تمتلك مَوهبةَ الرّقة والرّهافة بعد تحرّرها من أسْرِ رجل، كان يُعرقلُ انطلاقَ كلّ مَشاعرها العفويّة والإيجابيّة في الحياة، وبأنّها تعلّمت بعد طلاقها كيف تُعطي ذاتَها بسخاء وتَواضع" (ص8). وتعترف أنها فرحت لإعجاب الكاتب بها بقولها "لاحظتُ أنني وقعتُ وقعا حسَناً في نفسه، جلستُ مقابله مستمتعة كونه رَمَقَ ساقي بإعجاب لم يتعمد إخْفاءَه" (ص10).

وتعترفُ بما كانت تُخَطط له في علاقتها بالكاتب "سأثبتُ موهبتي الأصيلة للكاتب الكبير، سأحاصرُه بموهبتي من جهة، وأنوثتي- من جهة أخرى- التي أثارت أمواجاً من الحنين لشبابه، عندها سيضطرُ لمساعدتي."(ص17). وتبدأ خطتَها بكتابة رسائلها الشبقة له "لا أعرف أيّة نجاسة كانت مختبئة في روحي حينَ أخذَتْ كتابتي له تأخذُ مَنْحى غزَليّاً عِشْقيّاً، صرتُ أبثّهُ أشواقا لا أحسّها، وعتابات مفتعلة كونه لا يتصلُ بي ولا يكتب" (ص20). وتتصرّف كمراهقة غبيّة تقصد تأجيجَ مشاعر حبّه لها وتقوم برشّ قبلها الحارة في رسائلها التي تكتبُها له (ص21).

كانت خطواتُها المتتاليةُ لإيقاع الكاتب في حبّها مدروسة وواعية، تقول نازك الكاتبة "عجيب أمري، عجيب أمر الأنثى القابعة في أعماقي، لماذا أريد أن أبدو بأجمل صوَري أمامه؟ هل أحاولُ أن أغوي رجلا تجاوزَ السبعين؟ هل يُحرّكني فضولُ تأمّل شيخٍ عاشقٍ أو مُثار؟ ترى هل يشعر رجل تجاوز السبعين بالشهوة رغم السنوات التي هزمتْ رجولتَه، أحسستُه يُطلّ عليّ من سنواته السبعين وأنا بعيدة بعيدة في الضفّة الأخرى من الحياة، حيث يختالُ شبابي كطاووس مُتغَطرس، لبستُ فستاناً طويلا من الحرير الأزرق، مفتوح من الأمام بصف من الأزرار، وتعمّدتُ أن أتركَ الأزرارَ الأخيرةَ مفتوحةً، تعطّرتُ بكثافة، وتأنّيْتُ في رسم المكياج على الوجه الذي فتنَ كاتبَ البلاد، أخيرا اتصلتُ ببائع الزهور ليُعدّ لي باقةَ ورد، أقدّمها للكهل المفتون"(ص42-43).

وتتابع نازك خطتها في إغراء الكاتب، فعندما يشكرها على باقة الورد قائلا: لماذا تُعذّبين نفسَك يا حبيبتي؟ "تُسارع لتُحسّسَه برَغبتها فيه" كنتَ تقول لي، يا ابنتي، والآن يا حبيبتي! "وتُعلّقُ: "أسعدني مُراقبةُ شيخٍ مُتَصابٍ مَفتون بامرأة. كنتُ أتسلّى بإغواء عجوز والتّفرّج عليه كيف يفرحُ بالفتات. ضبطتُه كيف يتأملني بشَبَق وأنا أصبُّ لنفسي الكأسَ الثانية. جلستُ مُقابله بعد أن استأذنتُه في إطفاء بعض أنوار الغرفة، لم أبالِ أنّ الفستانَ إنحسرَ كاشفاً ركبتي وجزء من فخذي، أحسستُ نظراته تَتمَغْنَطُ حول ركبتي، وعندما قال بصوت تغزوه النشوةُ تدريجيّاً: ركبتُك مضيئة وبياضُك آسِر يا ابنتي، فعلا، أنتِ أجملُ امرأة رأيتُها في حياتي. تساءلتُ: إلى هذا الحدّ هو مَفتون بي؟! لكنْ أسعدني، وربما أرضى غروري أنْ أحسّ شهرتَه تجثو عند ركبتي." (ص43-45).

وتُتابع لعبتَها معه مُظهرة إعجابها بقصيدة قديمة له ترغبُ في سماعها، وتشربُ الخمرَ وتنساقُ وراء لمساته وقُبَله ليدها وتشعر بالارتخاء وخَدَر الحواس والنّشوة والكاتب من جهته استغل لحظات نشوتها "فأسند يدَه على ركبتي، تحسّسها كشيء ثمين يكتشفُه ويتعشّقُه، تركتُه من باب الشفقة، ارتعشَتْ أصابعُه وهي تتحسّسُ بحَذَر فخذي، كان ينظرُ إليّ نظرةَ وَلَهٍ مُستميت، وأنا أردتُ من باب الفضول أنْ أشاركَه اللعبةَ، رميتُه بنظرةِ غوايةٍ قاتلة، سمعتُ لهاثَه المُتزايدَ، إنّه صريعُ الشهوةِ. تركتُه يتحسّسُ بقُدْسيّة وشَبقٍ عارمٍ ركبتي وفَخذي، كان يشحذني، يتوسّلُ إليّ أنْ أتركَه يلمَسُني، بنظرته، بلمساته الحذرة، قرّرتُ أنْ أكونَ كريمةً من باب الفضول والإحسانِ معاً، أريدُ أن أتفرجَ على كهل، كيفَ يُودّعُ أقوى غريزة في الحياة، كيف سيلمسُ آخرَ امرأةٍ في حياته، وكيف سيتوسّلُ للحياة أن تسرقَ له تلك اللحظات من القَدر." (ص48)

وبمنتهى الجرأة تُتابع لعبتَها مع الكاتب المُنْشَدّ إليها، "طلبَ إليّ أنْ أجلسَ في حضنِه، ترَدّدتُ لثوان، لكنني أذعنتُ ، أحاط خصري بذراعَيه، ودفنَ وجهَه في صدري، أهديتُه السعادةَ التي يستنشقُها ويتحسّسُها من جسدي. حاولَ أنْ يفك أوّلَ زر من فستاني، فلم يفلح، ففككتُ له الزرّ، شهق بشَهوةٍ استحوذتْ على روحه وهو يُطلّ علي قبتي الفضة، وقد انعكست عليهما زرقةُ الفستان، رفع عينين تتوسّلان أن أسمحَ له بلمس نَهْدي. كنتُ راغبةٍ أن أتفرّجَ على كَهْلٍ يَتعبّدُ عِشْقا لامرأةٍ شابّة، انغرستْ يدُه بين حمّالة النّهدين السوداء والنَّهد، طعنَت الحلمةُ راحةَ يده بتَحدّ صريح، وحين أخرج الكنزَ من مَخبئه، شهق بشَبقٍ لا محدود، أحسستُ أنّه سوف يموتُ من الإثارة. كنتُ جالسة في حضنِه أُطلّ على سنواته التي تجاوزت السبعين. كان يتأمل بافتتان نَهْدي، قال: نهدُك رائعٌ، مدهشٌ، فاتنٌ. لم أرَ نَهدَين بجمال نَهدَيك، إنّهما ثروة. ضحكتُ باستهتار قائلة: ثروة قوميّة."(ص49).

هكذا انساقت نازك الكاتبةُ والرّاويةُ في علاقتها مع الكاتب، وغايتُها أنْ يكونَ سُلّمَها للشهرة في عالم الأدب والإبداع، ولكنّه كما يبدو، كان أذكى منها، فقد مَتّعَ غرائزَه من شبابها ، ولمّا شعر بالاكتفاء قرّر إحالتَها إلى صديقه الناشر ليُتابعَ هذا طريقَه معها. نازك في اختيارها طريقَ "الغاية تبُرّرُ الواسطة" في الوصول إلى هدفها سقطت في سلوكها وفشلت في رَفعِ شعارها المُتّهم للرجل، ورغم كل ما كانت تُصرّحُ به من حقد على الكاتب، واحتقارٍ له، وسُخرية منه، وشَفَقَةٍ عليه، ورغبتها في تَحَدّيه في ما اشتهرَ به، وهو الإبداع الأدبي، إلاّ أنها كانت الخاسرةَ وكانت السّاقطةَ، لأنها شَهَرَتْ في وجه الرجل ما اتّهَمَتْهُ به، وأثبتَتْ أنّها لا تقلّ عنه دونيّة، فهي أيضا عملت على استخدام أنوثتها وجمالها وشَبابها للإيقاع بالرجل للوصول إلى مُبْتَغاها. لقد غاب عن نازك، أنّها من حيث لم تدر تبنّت ما ادّعته من رُؤية الرجل للمرأة كوسيلة للمُتْعة وتَفريغ الشّبق، فقد لعبت مع الرجال الذين عرفتهم دورَ الأنثى المُغرية، وأظهرت أنوثةً أساسُها الجسد الذي يفتقرُ للقيمة الإنسانيّة ، أنوثةً خاويةً تَسْعى للإغراء وحبّ الظهور، بعيدةً عن كلّ مَشاعر إنسانية وأحاسيس مُطَهّرة عن شَبق الجسَد. ولمّا فشلت صَبّت كلّ غضبها وحقدها على الرجل، بينما كان الأجدر بها أن تعترف بمسؤوليتها هي عمّا أوصلتْ نفسَها إليه.

لقد اجتهدت نازك في علاقتها مع الناشر أنْ تكونَ أكثرَ ذكاء وحذَرا، فرغم أنها سمحت له بلمس يدها واسماعها كلام الغزل، وحتى قبلت بدعوته وسافرت معه إلى بيروت، وأنْ تكونَ غرفتُها في الفندق مُجاورةً لغرفتِه، إلاّ أنها نجحت في صَدّه، وأبعدته عنها، ورفضت كلّ إغراءاته وفضّلتْ صونَ كرامتِها على الوقوع مرّة ثانية في ما حصل لها مع الكاتب. لكنّ المحصّلة كانت من وراء كلّ سعيها مع الكاتب والناشر، أنْ خرجت خاسرةً الكثيرَ من كرامتها وشخصيتها وأنوثتها وجمالها، والأهمّ من كل ذلك، أنها فشلت في أنْ تُحَقِّقَ غايتَها بأنْ تكونَ كاتبةً مشهورةً، فقد عادت وهي تحملُ روايتَها بين يديها، وتُعَزّي نفسَها بأنّها تشعر بأنّها امرأةٌ حرّةٌ ونَقِيّةٌ.

ولم تنجح نازك الكاتبة أن تقنعنا بطهارتها وترفّعها عمّا اقترَفته مع الكاتب ومن ثمّ مع الناشر، رغم كثرة تلك الحالات الخاصّة التي كانت تُصيبُها بعد كلّ عمليّة إغراءٍ تقومُ بها مع الكاتب تستجيبُ فيها لنزواته الجنسيّة، فمثلا بعد أن استجابَت لطَلبه وجلسَتْ في حضنه وسمحتْ له أنْ يهتكَ جسَدَها، فجأةً شعرتْ بقَشعريرةِ اشمئزاز وهو يُقَبّلُها، فقذَفت بنفسِها من حِضنه ووقفتْ صارخةً به: كفى. لكنّها بسرعة شعَرت نحوَه بالشّفقةِ والعَطف وهي تَراهُ يرتجفُ ويَتقلّصُ منَ الخَجل، فسارعتْ لتُهَوّنَ عليه وسَألتْهُ عن موعد الغذاء، وبعد فترة أمسكت يدَه بحنان، رفعتها إلى شفتَيها وقبّلتها، ثم قامت بطَبْعِ قُبلة حارة على شفتَيه اليابستين الضامرتين.(ص50).

وتكشفُ بعد عودتها إلى البيت عن مَشاعر القَرف التي أحسّتها وهي تُجالس الكاتبَ في بيته، "كانت رائحةُ شَعري لا تُطاق، حتى ثيابي الداخليّة كانت مُضمّخةً بدخانه رميتُها جانبا، وددتُ لو أملكُ النشاط َ لأستحمّ، عَكَسَتْ مرآةُ غرفة النوم صورةَ نَهْدَيّ الفَتيّين، صَعَقَني خيالي بصورة يدَيه المُبَقعتَين ببُقَع الشيخوخة البنيّة تُداعبُهما، وصوته الرّخيم يقول بشَهْوة كالفَحيح: يا للنهدَيْن المُنْتَصبَيْن الرّائعَين. عجَبا كيف سمحتُ للعجوز أنْ يلمسني، ألأنّه كاتبٌ مشهور"(ص54).

وتعترف برغبتها البعيدة في الكاتب "تذكرتُ ذلك اليومَ البعيدَ يوم فتنتني روايتُه الأولى التي كتبها بصدق وإحساس مُرهف، وأفكارٍ واضحةٍ نقيّةٍ، يومها كان فقيراً، وصاحبَ مبادئ، حلمتُ يومها كآلاف المُراهقات أنني أتعرّفُ بالكاتبِ وتنشأ بيننا قصّةُ حبّ، لكنني ألتقيه الآن عجوزا ثَريّاً، خَرِفاً، مَهووساً جنسيّاً، لا يخجلُ أنْ يحلّ سرواله أمام امرأةٍ يدعوها للمرّة الأولى إلى بيته، ويبكي عَجْزَه الجنسيَّ أمامها، عَجبا كمْ تآلفْتُ مع شعوري بالهزائم، إنّ خيبات الأمل صارت شيئا رتيباً بالنسبة إليّ، كأنّها هي القاعدة، لم أعد أعرفُ من أينَ تبدأ الخطوةُ الصحيحة؟! أما كنتُ أعتقدُ أنّ التّعرّفَ بكاتب البلاد الشهير هو أهمّ خطوةٍ لي في طريق الكتابة؟! لكن ها هو ينتهكُني بسنوات شُهرته، بسلطة شهرته، الشهرة تغتصبُ كالقوّة تماما، وربّما اغتصابها يكونُ مُدمّراً أكثر."(ص55).

ففي هذه الاعترافات تكشفُ عن رَغبة بعيدة رافَقتها طوالَ حياتها بإقامة عَلاقة حبّ مع الكاتب الشهير لتكونَ طريقَها للشهرة، وهذا ما يُفَسّر سببَ لهفتها واندفاعِها عندما هاتفَها صديقُها بأنّه والكاتب في انتظارها، واستعدادها بكامل زينتها لتَقعَ وَقْعاً حسنا في نظره (ص8)، ولكنها في تَبرّمِها وقَرَفها من انتِهاك الكاتب لجسدها تكشفُ عن خَيبة أملها من تَحطيم حلمها، فقد أرادت أن يكون كاتبُها رجلا قويّا فتيّا يستحقّ حبّها، ولكنها قابلته عجوزا عاجزا قد أنهكته السنون، لا يستطيعُ تحقيقَ حلمها بقصة حُبّ عنيفة تُباهي بها وترفعُها إلى مَصاف الشهرة التي تُريد.

وخيبة أملها من الكاتب كانت الدّافعَ لِتَمَنُّعِها على الناشر، فإذا كان الكاتبُ الذي حلمت بلقائه سنوات عمرها قد خيّب أملَها، وظهر على حقيقته الشريرةِ من خلال محاولة صديقه الناشر التّشهير به وتَقبيح صورته أمامها، بما نقَله لها من كلام الكاتب عنها ووَصْفه لها، فكيف سيكونُ هذا الناشر الذي يغدرُ بصديقه الكاتب الذي أمّنَهُ عليها، وكيف سترضى أنْ تُسَلّمَه نفسَها وهي تَراه على هذه الصورةِ القَبيحة من الغَدر والفسوق والدّناءة؟! فحالتها ساعة عودتها من سفرتها مع الناشر خائبةً فاشلةً تحضُن روايتَها وتُربّتُ عليها بحنان لم تكن كما صوّرتها وأرادت أنْ تقنعَنا بها "امرأة حرّة ونقيّة" وإنما كانت امرأةً مَهزومةً فاشلةً خسرَتْ أقوى معاركها كأنثى مع الرجل، حيث فشلت في أن تجعلَه يحترمُها كامرأة لها كيانُها وشخصيّتُها وموهبتُها وحقّها، فقد ظلّ يراها فقط في صورة الجسَد الجميل الفاتن والمتعة العابرة. وكانت هي في تصرّفاتها واندفاعاتها وحتى أفكارها السبب في قوقعة نفسِها على هذه الصورة في ذهن الرجل.

الأهداف والشعارات الأخرى:
لقد سعتْ نازك الشخصيةُ الروائيةُ بعد سقوط شعارها ضدّ عادات المجتمع وتقاليدِه، وضدّ التربية الدينية، أنْ تقبلَ بما فُرِضَ عليها من قِبَلِ الأهل، وهو أنْ تكونَ الزوجةَ للذي اختاروه لها. ولكنها سقطت في الامتحان الأول عندما ضبطته مُتَلبسا بالخيانة مع عشيقته الفرنسية. ورغم أنه أطلعَها على كلّ ما يعرفُه عنها في علاقاتها السابقة مع الشاب المسلم صفوان، وأنها لم تكن عذراء، وأنّه قبِلَ بها زوجة نزولا عند رغبة أهله، تماما كما حصل لها. إلاّ أنها رفضت مسامحتَه وطلبتْ هجرَه، ولم تتوقف عند الغضب والهَجْر وإنّما انساقَتْ في خيانته مع الشاب التونسي، وكأنها بذلك تريد الانتقامَ، بينما الحقيقة أنها أرادت اشباعَ نَهَمِها الجسَدي، وكانت ستفعلُ ذلك مع الفرنسي الذي حزنت لتمزيقها رقم هاتفه. وحتى بعدما عاد إليها ماهر زوجها طالبا استئناف الحياة الزوجيّة ورضيت، لم تنجح في حياتها كزوجة، وسقطت في الامتحان الثاني بعد موت ابنها، فتركت زوجَها وعادت للوطن لتعيشَ وحيدةً بين مَطامع الرجال المحيطين بها.

وكما فشلت أنْ تكونَ زوجة، فشلت أنْ تكونَ أمّا، فبعد صدمتها الكبيرة بموت وحيدها حبيب، رفضت نصائحَ الأهل لها بأن تنجبَ ولداً آخر. وأيضا فشلت أن تكون عشيقةً، فرغم كثرة تجاربها مع الرجال إلاّ أنها كانت تنطلقُ من كونها أنثى مُطارَدة مرغوبة من قِبَل الذكر، وهدفُها يتمحورُ في إشباع شَبَقها فقط، بعيدا عن المشاعر الرائعة في الحب بين اثنين. وإذا كانت مثل هذه المشاعر عاشتها في علاقتها مع صفوان، إلاّ أنها هي التي تنازلت عنها أمام ضغوط الأهل والمجتمع والدين. ولم تُحِسّ بها ثانية مع أيّ من الرجال. ولهذا لم تنجح في أنْ تشدَّ أيّا من الرجال إليها ليكونَ عاشقَها الذي يسعى للبقاء إلى جانبها ويطلب يدَها. فكمّون التونسي الذي وصفته بأفيون حياتها، كانت تنظر لعلاقتها الجسَديّة معه باحتقار وتُسمّيها "علاقة اللحم" أو "علاقة الشهوة"(ص122). وتنظر لنفسها كزانية وهي تُضاجعه (ص121). ولم تُقدّر علاقتَها به حقّ قَدْرها حتى غابَ وعاد إلى بلاده. والكاتب بعد أنْ امتصّها تركَها للناشر. والناشر بعد أن تعبَ في مطاردتها طرَدها ورفضَ نشرَ روايتها.

حتى الحريّة التي طالما تغنّت بها وسعت لتكونَ من حظّها جَبُنَتْ عن بلوغها والتمسّك بها، فقد اعتقدت أوّلَ حياتها، كما أوهمها أهلُها، أنّ حريّةَ الفتاة تتحقّقُ بمتابعة دراستها الجامعيّة، وبلباسها الأنيق. لكنّ ذلك انتهى مع رفضهم زواجها من صفوان. وفي باريس بعد اكتشافها لخيانة زوجها وقرارها بهجره قرّرت أن تتقيّأ كلّ أفكار وكلمات أهلها، وأنْ تبني نفسَها من جديد، لم تعُد باريس مدينة الضياع، بل صارت فضاء النجاة، فتنها نمطُ الحياة الباريسيّة، الحريّة بلا حدود، صارت تلبسُ كفرنسيّة، تلبس الشورت مع بلوزة ضيّقة تكشفُ عن جزء من بطنها وتجلس في مقاهي الرصيف تشرب النيسكافيه والبيرة، وتُدخّن السجائر خفيفة النيكوتين، إنّها منتشية بشبابها وحريّتها، بولادتها الجديدة من قاع اليأس والضياع، ياه لم تُحسّ أنّ الحياةَ تمجّدُ الشبابَ كما أحسّت في تلك الفترة"(ص122).

لكنها سرعان ما شعرت، خاصّة بعد ترك كمّون لها وعودته لبلاده تونس، بخواء حياتها وضياعها وتفاهتها، وافتقادها لوَهَج الحريّة المزيّف الذي خدعَها لفترة من حياتها. تخافُ أنْ يُضيّعَها تيّارُ الحريّة المنفلشة في باريس، تخشى أن يجرفها كقشّة صغيرة، وأصبحت تخاف أن يُطلقها زوجها ويعلم أهلها ومعارفها أمر افتقادها لعُذريتها. تمنّت لو يقبل زوجُها ماهر أن يُتابعا حياتهما دون أن يفتضح أمرهما، كانت على استعداد للتوسل إليه ألاّ يكشف أمر عملية إعادة العُذرية" (ص108). كانت على استعداد أن تعطي ذاتها كليّا لزوجها وتبدأ معه بداية جديدة ماحية من ذاكرتها كل ما مرّ معهما. فهو زوجها أمام الجميع" (125-126).

أخيرا
نجحت هيفاء بيطار من خلال الشخصيتين: نازك الشخصية الروائية، ونازك الكاتبة والراوية أنْ تُقَدّمَ صورةً للمرأة بشَطريها العقلي والجسَدي، وذلك من خلال تصرفهما الفعلي وبإقامة هذا الحوار المستمر ما بين الشطرين المُتواجهَين. ورغم أنها اهتمت في نهاية الرواية أنْ تُؤَكّدَ على انتصار العَقل على الجسد والغريزة برفض نازك لمغريات الناشر. إلاّ أنّ النتيجة التي خرجنا بها هي أن نازك بطلة رواية هيفاء بيطار "امرأة من طابقين" ظلّت أسيرةَ القَوالب التي حَدّدَها المجتمع للمرأة، بما فيه من رجال ونساء ومَفاهيم دينية، بكونها عضوا مُهَمَّشا يتحدّدُ دورُها في ما رسمَه لها المجتمعُ من أدوار. وطالما ظلت المرأةُ مُتقوقعَةً في نظرتها إلى نفسِها كأنثى تعشقُ ذاتها حدّ النرجسيّة، ولا ترى في علاقتها مع الرجل إلاّ علاقة الجسد، وظلّت مضطربة في رؤية الأنثى لنفسها ولما يحيط بها، فلن تُحَقّقَ حريّتَها ولن تنجحَ في الوصول إلى ما تبغي من أهداف.

 

* هيفاء بيطار. إمرأة من طابقين. رواية. مكتبة بالميرا. اللاذقية _ سوريا . طبعة أولى 1999.