هنا إحساس عميق بانسراب الأيام أمام المرآة، وتداعيات يبوح بها الكاتب وهو يشير لأخاديد محفورة على محياه، في الوقت الذي يستدعي فيه التحولات التاريخية، والمصائر وتقلبات الأحوال، ليترك في حاضره فسحة إيمان ومحبة، ورصيد ذكريات شباب، وموروث من ثقافة المقاومة.

على مشارف السبعين.. صدمة المرآه

عيد اسطفانوس

عندما تصدمنا المرآه بالحقيقة المرة نبدو مشدوهين، وكأنها ليست صورتنا، وكأن هذه التضاريس الخشنة على وجوهنا بفعل عوامل التعرية هي لغيرنا، وكأننا فوجئنا بانصرام ستة عقود، والسابع ولى أو على وشك انفراط عقده عدا حبة أو حبتين نتشبث بهم وكأنهم آخر زادنا، وينفجر بركان التساؤلات الغاضبة: أين ذهبت هذه السنين؟ ومن سرقنا في وضح النهار؟ وكيف هرمنا بهذه السرعة المذهلة؟ وما هو الانجاز الخالد الذي حققناه؟ وهاكم الحصيلة: أخاديد عميقة، وجه متغضن، جلد ضامر، بقع سوداء، وذكريات مجرد ذكريات، وعضوية فخرية دائمة في نادي القلوب الحزينة والنفوس الحزينه، الحزينة على ماضاع ومضى ولن يعود، الحزينة على المجهول القاتم القادم قدرا وقسرا، الحزينة بعد أن تكاسلت القلوب والعقول والكلي والعيون، الحزينة بعد أن تآكلت المفاصل والذكريات، الحزينة بعد أن ضاعت الأحلام والأماني والأيام والأسنان، الحزينة بعد أن تساقط الأحبة والخلان، الحزينة بعدأن مات الأمل في مجرد رؤية لمحة أو تذوق نكهة أو الإحساس بلمسة أو سماع نغمة من أيام كنا نعتقد في صبانا أنها مخلدة، وأن الزمن سيتوقف عندها لأجل خاطرنا عن السريان وكنا واهمين، الحزينة بعد أن مات الأمل في صفح من ظلمناهم ورحلوا وفي الصفح عمن ظلمونا ورحلوا أيضا، الحزينة بعد أن مات الأمل في نظرة ولو من بعيد على أماكن محيت معالمها، ووجوه نشتاق لرؤياها ولم نعد نعرف حتى موقفها في سجلات الأحياء، الحزينة بعد أن مات الأمل في نصر حاسم في المعركة الأزلية مع الزمن نبتلع كل صباح حبات العقاقير السامة لعله يهدأ قليلاً، لكن هيهات.

وأزعم أن هذه المشاعر تعتمل في قلوب كل أو جلّ (سبعيني) ولد في منتصف القرن الماضي، وأنا هنا أتحدث من المحروسة، حيث وضعت الحرب الثانية أوزارها ولم يكد الناس يتنفسون الصعداء حتى ثار الضباط على الملك، وانقلبت الأحوال رأساً على عقب، وكمثال لازلت أتذكر آثار تحولات دراماتيكية طالت حياتنا، حيث كان جدي وأبي يمتهنون إدارة الاقطاعيات الكبيرة الشاسعة لحساب ملاكها كبار الأعيان والباشوات، لكن تقلصت المساحات بقرارات التأميم وضمرت المداخيل وتدهورت الأحوال.

ولعل السماء رأفت بي وجنبتني تجربة فقد شريك الحياة، واكتفت بما خصني من الأحزان حيث فقدت أمي في نهاية العقد الأول، وفقدت أبي في نهاية العقد الثاني، ولعلمي بقسوة التجربة أشفق علي رفاق الرحلة ممن ابتلوا بهذه التجربة الأليمة مبكراً، وعانوا ألم الوحدة اللعين بعد ترك الوظائف والمناصب واستقلال الأبناء وصخب الحياه، وقد دعوت وأدعو الخالق كل يوم أن يجنبني هذه الجرعة من الألم لأني رأيت أثرها على وجوه أحبة كثيرين، حيث يصبح الانسان كورقة نقد كبيرة نصفها مفقود.

رحلة طويلة خاضها هذا الجيل استهلكنا فيها ملك وخمسة رؤساء وحروب وثورات وتحولات جذرية في كل مناحي الحياه تعليم وثقافة وفنون واجتماع واقتصاد.

في التعليم نلت تعليماً أساسياً معتبراً بكل المقاييس من معلمين رقيقي الأحوال، ورقيقي الطباع، نبلاء الخلق متمكنين من علمهم ورغم مرور سته عقود، ولازلت أذكر أسمائهم ومظهرهم، وقد انهارت هذه المنظومة في منتصف السبعينات وأصبحت مستنقع آسن عفن تقذف الى الشوارع كل عام مئات آلاف الجهلة الأميين المتعصبين.

وفي الثقافة والفنون كانت مصر نقطة اشعاع حضاري على كل محيطها سينما ومسرح واذاعة وكتب وموسيقى ومعارض تصوير ونحت وعمارة في طول البلاد وعرضها. وفي نفس التوقيت وعندما طفح الزيت في شرق الأحمر وتم تديين كل شيء، وغزتنا ثقافة البوادي وتصحرت الواحة الزاهرة وزحفت عليها الرمال تكاد تخنقها، وبسبب جذور حضارة مدفونة من آلاف السنين لازالت مصر تقاوم رغم الوهن الذي أصابها.

في الاجتماع انهارت قيم المصريين وودعوا قيم سكان الضفاف واستبدلوها بسلوكيات سكان الخيام وذهبت الإلفة والتراحم والمشاركة والتعاطف والإيثار والسماحة وحل محلها تعصب وفرز وتمييز وعنصرية وجرائم غريبة واستئساد على الضعيف وجشع ورشا واغتصاب.

أما عن الاقتصاد فقد جرت تحولات عميقة طالت كل الانشطة زراعة وصناعة وتجارة وانهارت المنظومة بالتدريج حتى وصلنا الى ما وصلنا اليه ولسنا في حاجة للاستطراد.

ولولا مسحة ايمان وشريك حياه محب مخلص صبور وبسمة حفيد ورصيد ذكريات الصبا الجميل المحفور في عظام الجمجمة وموروث حضاري وجيني من ثقافة المقاومة والقتال والأمل وحب الحياه، لرفعنا راية الاستسلام مبكراً، لكن اللقب السامي يحاصرنا، وكنت أتمنى لو كنت نبات أو جماد حتى أتجنب هذه النعوت المقيتة: رجل مسن رجل عجوز، لكنني أفتخر أنني استطعت العبور في هذه البحار الهائجة ووصلت الى مشارف السبعين.