يتناول الكاتب الفلسطيني هنا فيلما فلسطينيا للمخرجة عزة الحسن عن ظاهرة المتعاونين من الاحتلال الصهيوني لبلادهم، ووضعهم الإشكالي، ومأزق وجودهم الإنساني.

أبوالريش: ودائما أتطلع في عيونهم

زياد جيّوسي

.

"دائما إتطلع في عيونهم"، هو عنوان الفيلم الذي أخرجته المخرجة الشابة عزة الحسن، وقد أثار هذا الفيلم الرغبة في الكتابة عنه، فحقيقة هناك الكثير من القضايا التي أثارها في ذهني، فقد تم تقديم الفيلم بالفقرة التالية "فيلم وثائقي يناقش مستويات الاتصال التي يستخدمها الفلسطينيين مع الإسرائيليين. يركز الفيلم على قصة جاسوس إسرائيلي يتجول في شوارع بيروت متظاهرا بالجنون، خلال عيشه بين الفلسطينيين واللبنانيين فانه يحطم إحدى قواعد الحرب الرئيسة التي تمنع الاتصال في وقت الصراع".  وفي الحوار بعد العرض اختصرت المخرجة الطريق على المشاهدين بقولها: "لا أؤمن أن الفيلم يجب أن يكون له رسالة، أنا اخرج الفيلم واترك لكل من يشاهده أن يفسر وأن يستنتج ما يريده". ومن هنا وجدت أنه لدي الرغبة بالحديث عن هذا الفيلم من خلال مناقشة تقديم الفيلم وفكرته في البداية، فالفيلم يقوم أساساً على "أسطورة" أبو الريش كنموذج لفكرة الفيلم، وأبو الريش شخص عرف عنه أنه معتوه ومجنون، ظهر في شوارع بيروت فجأة بملابسه الغريبة وبنيته الضخمة، وكعادة أهل المدن لم يتساءل عنه أحد، فهذه الظاهرة ليست غريبة أبدا، فاذكر أنه بعد نكسة حزيران ظهر شخص في عمان أيضا، كان يرتدي دوما ملابس جلدية باللون الأخضر، ويحمل آلة قديمة لجعل السكاكين والمقصات أكثر حدة، لم يكن يتكلم مع أحد أبداً، يمارس مهنته بصمت وبدون كلام، ويأخذ ما يدفعه له الناس بدون مناقشة، وكان الناس يلقبونه "الخضر الأخضر" بسبب ملابسه الغريبة، المهم أن هذا الشخص اختفى فجأة كما ظهر، وراجت الإشاعات وخلقت منه أسطورة في الأذهان، فقيل أيضا أنه جاسوس إسرائيلي، وقيل ذات يوم أنه سيعدم في ساحة المسجد الحسيني في عمان، حتى أن الإشاعة حددت الوقت للتنفيذ، وتدافع الناس للمشاهدة ولم يجدوا شيئاً، ولم تتوقف الإشاعات أبداً، وحتى قبل سنوات كنت ألتقي بعض من كبار السن الذين يذكرون هذه الإشاعة، ولكنهم يصرون أنها حقيقة مطلقة، وأن "الخضر الأخضر" جاسوس جرى إعدامه سراً، وهناك من نسج خيالة قصة أخرى، فقال انه جرى تبادله مع أسرى الجيش الأردني في نكسة حزيران.

أسوق هذه القصة التي عايشتها للانطلاق إلى "أسطورة أبو الريش" التي استند عليها الفيلم، فكل ما أضيف على شخصية أبو الريش، أجزم انه لم يكن إلا من نسج الخيال الشعبي، فالمذكور جرى التحقيق معه أكثر من مرة بسبب الشك في شخصيته، ولم يتبين أي شيء يخصه، سوى أنه مجنون ومعتوه، وكان قد أقام له "عريشة" في منطقة المنارة، لا تقي من حر صيف ولا من برد شتاء، كان يجول الشوارع في منطقة الحمراء وفردان والرملة البيضاء، يأكل مما يتصدق به عليه الناس، تختل لديه قدرة الإحساس بحكم فقدانه العقل، فتراه في الصيف الخانق والمشبع بالرطوبة يرتدي المعاطف الثقيلة ويشعر بالبرد، وفي الشتاء القارص يتخفف من ملابسه ويشعر بالحر، وهذا يذكرني بمجنون آخر ظهر في عمان أيضا بنفس المواصفات الجسدية ونفس السلوك، واختفى فجأة أيضاً، ودارت حوله الإشاعات عن سر اختفائه، فمن يدري فربما كان هو نفسه أبو الريش، وحين اختفى أبو الريش في بداية الاجتياح سرت الإشاعة، وهناك من أكد أن أبو الريش شوهد بلباس جنرال في الجيش الإسرائيلي ويقود قوة عسكرية، وأصبحت هذه الإشاعة حقيقة في الأذهان، فنجد أكثر من شخص في الفيلم يؤكد هذه القصة، ويستند إليها للتدليل على الاختراق الأمني للعدو الصهيوني لبيروت قبل الاجتياح، ولو ناقشنا بمنطق عقلي أنفسنا لوجدنا أن القصة تنفي نفسها بنفسها، فلو كان أبو الريش جاسوساً فهو سيكون ضابط مخابرات وليس ضابطا في الجيش، وضابط المخابرات لا يقود قوات عسكرية في معركة شرسة، بالكاد يقودها الضباط المحترفين، ومهمة ضابط المخابرات أن يحصل على المعلومات فقط وإحالتها لقيادته، التي تدقق فيما يمكن الاستفادة منه وإحالته إلى القيادة العسكرية، هذا من جانب.. ومن جانب آخر فإن العمل العسكري يحتاج إلى ما يسمى عملية إعادة التنشيط للقدرات والمعلومات العسكرية باستمرار، وهذا النظام معمولا فيه في دولة العدو، فنجد أن قوات الاحتياط ملزمة بالخدمة مدة شهر في العام، في عملية إعادة للتأهيل والبقاء على تماس مع تطورات الجيوش، فكيف يمكن لشخص مثل أبو الريش يغيب سنوات طوال في مهمة تجسس، وبعدها يقود قوة عسكرية مباشرة وبدون إعادة تأهيل؟

وقد سألت العديد ممن كانوا في بيروت بفترة الحصار، ومنهم من هو شخص متقدم بالقيادة السياسية في هذه الفترة، وكان قائد ميدانياً أثناء حصار بيروت، وأكد لي أنه شاهد أبو الريش في منطقة الحمراء بفترة الاجتياح، وأكد لي ضابط قريب جدا مني وكان من القادة الميدانيين أيضا، أن أبو الريش كان يتواجد دوما في منطقة فردان والرملة البيضاء، ولم يشاهد أبداً في مربع الفاكهاني وهو مركز المقاومة الفلسطينية في بيروت، فما المعلومات القيّمة التي يمكن أن يحصل عليها شخص بمثل هذا الوضع؟.. أعتقد جازماً أننا خلقنا هذه "الكذبة" وصدقناها وحولناها إلى أسطورة، لنبرر كم المعلومات التي يمتلكها العدو عنا، بحيث أنه قصف أكثر من بناية تواجدت فيها القيادة الفلسطينية، وبشكل خاص الرئيس الشهيد أبو عمار، ولكن يصدف أن الرئيس يكون قد غادر قبل القصف، بدقائق لا تسمح بإيصال المعلومة الجديدة من الجواسيس، وقد يكون أبو الريش قد قتل في القصف الشديد، ودفن في المقابر التي يدفن بها الموتى المجهولين، بدون أن يشعر به أحد في ظل المعارك والقصف الجوي والبري والبحري الهائل، فما زال العديد من الأشخاص مصنفين كمفقودين، فلم يعرف أنهم قتلوا أو اسروا، وما زال أهاليهم يتمسكون بالأمل أنهم أحياء رغم مرور ربع قرن على حصار بيروت.

هذه نقطة أولى، وأما النقطة الثانية فهي عبارة " فانه يحطم إحدى قواعد الحرب الرئيسة التي تمنع الاتصال في وقت الصراع"، وهذه مسألة غريبة وغير مفهومة، فلو كان "أبو الريش" جاسوساً كما الإشاعة، فمهمته هي الاتصال للحصول على المعلومات، وإلا انتفت مهمته من جذورها، ومن يمكنه أن يقول أن الاتصال مع العدو في وقت الصراع، هو تحطيم لقاعدة منع الاتصال، وإذاً كيف نفسر الاتصالات التي أجراها كل من المرحومين الدكتور عصام السرطاوي وسعيد حمامي وعز الدين القلق، مع العدو وبتعليمات من قيادتهم السياسية، واتصالات أخرى جرى الكشف عنها لاحقا وأخرى لم يكشف النقاب عنها، فأحد القادة السياسيين المعروفين اعترف مرة أمامي، ومرة أخرى في ندوة في رام الله، أنه أجرى اتصالاً مع قيادات من العدو العام "1980" وطبعا بتكليف من قيادته المباشرة.

إن مناقشة هاتين النقطتين بمنطق عقلي، ينسف الأساس الذي قام عليه الفيلم، ويحيل المسألة إلى محاولات فردية من أناس عاديين للتحدث مع أفراد من العدو وردود فعلهم على ذلك، وهنا لدي ملاحظات أخرى أيضا، فالمحاولة جرت على بوابة جدار الضم والاستيطان الذي يلتهم أراضي بلدة جيوس، للتحدث مع جنود العدو المدججين بالسلاح، ومن المعروف أنه يحظر على الجندي أن يصرح بأي تصريح لوسائل الإعلام والصحافة، فكيف يمكنه أن يتحدث مع المخرجة وزملائها وهو يشاهدهم يحملون كاميرات التصوير؟ والمنطقة التي جرى بها التصوير يتواجد بها باستمرار العديد من الأجانب لمراقبة ممارسات الاحتلال، وخاصة لمساعدة أسرة وحيدة يقع بيتها خلف الجدار في الوصول لبيتها، حيث دأب الاحتلال على منعها من الوصول في غياب الأجانب، ومن هنا كان ظن الجندي أن عزة وزملائها هم من الأجانب، وحين اكتشف أنهم فلسطينيون قام بطردهم. في المقابل نجد محاولة اتصال أخرى مع عجوز يهودي مغربي، يرفض أن يقول أنه من أصول عربية، وهذا منطق طبيعي ضمن عقلية التفكير اليهودي والتي سأشير لها لاحقاً، فهذا العجوز قدم لعند الفلسطينيين لإصلاح سيارته من أجل التوفير في التكلفة، وليس صورة من صور التعايش أو الاتصال، وكان المشهد، وتناثر الأحاديث يبتعد تماما عن فكرة محاولة الاتصال التي يطرحها الفيلم.

نقطة أخرى أثارها الفيلم وهي نقطة الشك بالآخر، فقد تعرضت المخرجة لوابل من الأسئلة من أكثر من شخص عما تفعل في البلدة، ومسألة الشك والتخوف من الغريب لم تكن مسألة طارئة أو مرتبطة بالاحتلال فقط، فهذه مسألة معروفة في القرى والبلدات التي يعرف الكل فيها الجميع، وبالتالي يثير فضولهم وتخوفهم وجود شخص غريب غير معروف، يقوم بالتجوال في البلدة أو القرية، ولعل مرد ذلك يعود لفترة الحكم العثماني لبلادنا، حين كان يفرض التجنيد على الشباب إضافة لفرض الضرائب، وأذكر وأنا ابن بلدة جيوس التي جرى التصوير فيها، أنني حين قدمت إليها بزيارتي الثانية، بعد فترة ثلاثون عاما من الزيارة الأولى، أنني كنت أتعرض لهذه الأسئلة أثناء تجوالي في البلدة وحقول الزيتون المحيطة، وطبعا أضطر للتعريف على نفسي ابن من وباللقب المنسوب لوالدي أكثر من التعريف باسمي الرسمي، وعندها فقط كنت أجد الاحتفاء بي والترحاب الكبير والسلام بالأحضان، ولا أنفي دور الاحتلال بزيادة حالة الشك في نفسية المواطن، وهذا ما نلمسه من التخوف أن يكون الغريب جاسوساً، قد يهدف لتحديد مكان أحد المطلوبين لقوات الاحتلال، متستراً بشخصيته الأجنبية، أو أنه يعمل بالسينما أو الصحافة أو غير ذلك، فليس هناك مواقع حساسة يخشون من تصويرها، بمقدار الخوف على أبناء البلدة المطلوبين أمنياً، وهذا لمسناه بشخصية سائق العربة التي يجرها حمار، حين قال للمخرجة "صوري ووديها لبوش"، بينما لا نلمس ظاهرة الشك بوضوح "وان لم تنتفي تماماً" في المدن، وخاصة المدن المفتوحة في العلاقات مثل رام الله وبيت لحم والقدس.

نقطة أخرى أثارتها المخرجة من خلال السلوك العصبي لفتاة من طاقمها ظهرت بشكل مفاجئ، وعزت هذه الحالة إلى مشاهدة الجنود، ورغم ما يثيره مشاهدتهم من توتر، إلا أنه ليس كل شيء، فالناس تحت الاحتلال وبمشاهدة يومية لقوات الاحتلال، ورغم ذلك فالحياة تسير، ولعل التوتر المباشر وردة الفعل لدى الناس حين مشاهدة دورية لجيش الاحتلال في قرية أو مدينة، هو المسارعة بقذفهم بالحجارة، وليس العصبية والثورة على الزملاء كما شاهدنا بتصرف الفتاة مع زملائها.  أعود لمشهد من بداية الفيلم وهو مروي على لسان الكاتب إميل حبيبي، حين فكر بمغادرة بيته والهجرة عام 1948، لكنه غير رأيه وعاد لبيته، ليجد يهودي ألماني قد اقتحم البيت فجلس قبالته بدون أي كلام لعدة ساعات، غادر على إثرها اليهودي البيت بدون أي كلمة، بحيث أن الحوار كان فقط بالعيون المحدقة ببعضها، ومن يدري ما الذي كان يدور بذهن المستوطن بلحظتها، فربما وصل إلى قناعة أن من يجلس قبالته يريد البيت أيضا، أو انه يهودي شرقي بسبب الملامح الشرقية، وبالتالي لا يريد أن يشاركه البيت والبيوت التي تم تهجير أهلها كثيرة، ومعروف حجم التحسس بين اليهود الغربيين والشرقيين.

مشهد آخر عكس بعفوية واقع الطفل الفلسطيني تحت الاحتلال، من خلال شخصية الطفل من بلدة جيوس والذي تحول بالصدفة إلى الشخصية الرئيسة بالفيلم، فهذا الطفل الذي بحدود العاشرة من العمر، كان يتصرف بتلقائية وعفوية كبيرة، ولعل مخرجة الفيلم كانت محظوظة بهذه المصادفة غير المخططة، فقد تمكن أن يعكس الكثير بعفوية وبساطة عن ظروف الطفل تحت الاحتلال، حين يشير لرفضه لقوات الاحتلال ورفضه للجدار الذي سرق الأرض، وحتى في لعبه مع الأطفال كان يلعب لعبة الجيش الذي يعتقل المواطنين، مما يشير بوضوح كبير إلى استلاب الطفولة والبراءة من عيون الأطفال، ومشاهد الطفل كانت من المشاهد الموفقة في الفيلم بشكل كبير، وإن كنت أختلف مع الذين حاولوا تفسير مشهد منادة الطفل للكلب باللغة العبرية، بأنه حتى الكلاب ترفض العيش مع المحتلين، فهذا الكلب الفار من سيارة مستوطن، تربى على المناداة عليه باللغة العبرية، وبالتالي استمر الطفل بمناداته بنفس اللغة، فلو كان الكلب قد تربى عند عائلة إنكليزية، لكانت الحاجة للمناداة عليه بنفس اللغة التي اعتاد عليها.

أفردت المخرجة مساحة زائدة للحوار مع المناضلة ليلى خالد، وهذه المناضلة ارتبط اسمها بعمليات خطف الطائرات في أواخر الستينات من القرن الماضي، وحين استخدمت ليلى خالد تعبير "دايما إتطلعي بعيونهم"، وهو الذي أصبح اسماً للفيلم، كانت تتحدث عن مسألة أمنية في التعامل مع رجال الأمن أثناء التوجه لتنفيذ عملية من العمليات التي قامت بها، فالنظر في عيني رجل الأمن يعطي انعكاسا مباشراً أن الشخص المقابل ليس خائفاً، وبالتالي ليس هناك من شيء يثير الشبهة كما لو كان مرتبكاً، وليس المقصود عملية محاولة الاتصال بالآخر.  أعود من جديد لفكرة عملية الاتصال مع العدو التي يطرحها الفيلم، والى عقلية اليهودي وكيفية نظرته إلى الآخر، وليس أدل على ذلك من الاستشهاد ببعض مقاطع من كتاب "للانتصار على هتلر"،  فمؤلف الكتاب هو أبراهام بورغ الذي شغل مناصب هامة للغاية في إسرائيل وفي الحركة الصهيونية، إذ رأس إدارة المنظمة الصهيونية العالمية، ورأس كذلك الكنيست الإسرائيلي, ونافس أيضا على رئاسة حزب العمل الإسرائيلي, وكاد ينتخب رئيسا له, قبل أن يترك النشاط السياسي, أقدم هذه المقاطع من خلال العرض الذي قدمه الزميل محمود محارب للكتاب: يقوم المؤلف في الكتاب بتحليل وتشريح وتوجيه نقد لاذع للأفكار العنصرية المنتشرة في صفوف اليهود ويحاول أن يحلل أرضيتها الفكرية والسياسية.

[ "التمييز العنصري والاستعلاء مغروس بنيويا في النفس اليهودية, وخطر استمرار انتشار هذه الأفكار العنصرية على مستقبل إسرائيل واليهود يكمن في أنها تنزع إنسانية البشر وتحولهم إلى مخلوقات من الحيوانات يجب التخلص منها" ينتقد أبراهام بورغ بشدة الفكر الديني اليهودي المتطرف والمسيطر على فئات واسعة من المجتمع الإسرائيلي, خاصة في أوساط حاخامات المستوطنين وفي صفوف اليهود "الحرديم", ويتهم طلائع وقادة هذا الفكر أنهم طوروا وبلوروا نظرية العرق اليهودي الحديثة. في هذا السياق, يعطي بورغ الكثير من الأمثلة على عنصرية فكر هؤلاء الذين طوروا هذه النظرية، فالحاخام يتسحاق غينزبورغ أكثر الحاخامات تأثيرا على الراديكالية الدينية العنصرية في إسرائيل، يتبنى أفكاراً عنصرية علانية ويدعو إلى التمييز بين دم اليهودي ودم غير اليهودي. ويعتقد هذا الحاخام أن اليهودي يتفوق على غير اليهودي لكونه يحمل الجينات اليهودية والدم اليهودي, وأن العربي مهما اجتهد وطور من ذاته, حتى وإن أصبح بروفيسور, فسيبقى أقل درجة من اليهودي أياً كان اليهودي.  وليس هذا وحسب, فالحاخام يتسحاق غينزيورغ يدعو إلى تطهير الشعب اليهودي من "الشوائب والزبالة البشرية" التي أصابته جراء الاختلاط مع غير اليهود ليؤسس ويقيم من جديد الحاجز بين اليهودي وغير اليهودي.  وبعد تطهير الشعب اليهودي من هذه الشوائب، بالإمكان تركيز كل الجهود ضد الآخر لتوسيع الحدود، واستكمال الطريق للوصول إلى "حدود الأمان" في الدولة المقدسة.

والوسيلة لتحقيق ذلك هي الحرب التي "لا متعة تضاهيها"، فلا يمكن تحقيق الأهداف وطرد العرب وفق غينزبورغ دون أن نعرف كيف نكون سيئين.. وممنوع أن نسلك الطرق السلمية وإنما علينا أن نبعد كل ما هو غير يهودي من "حدودنا". يؤكد أبراهام بورغ أن الحاخام غينزبورغ لا يمثل ظاهرة منفردة, لأن أمثاله كثيرون, ويعطي العديد من الأمثلة لحاخامات يتبنون الفكر العنصري, وأبرزهم الحاخام عوفاديا يوسف زعيم حزب "شاس" الذي يوصف بأنه "كبير حاخامات العصر", الذي اعتاد أن يطل على أنصاره بين الفينة والأخرى بأفكار عنصرية ضد العرب. ولكن "العنصرية اليهودية" كما يقول بورغ لم تقتصر على العرب بل تعدتهم إلى السود في أميركا. ففي سياق تعليق الحاخام عوفاديا يوسف على إعصار نيو أورلينـز ذكر أن هناك "يوجد الزنوج، وهل يتعلم ويلتزم الزنوج بالتوراة؟ الرب جاء بالإعصار وأغرقهم. مات عشرات الآلاف وأصبح مئات الآلاف دون مأوى, لأنه لا يوجد لهم رب". ولا يقدم "كبير حاخامات العصر" لا تعزية ولا رحمة ولا يحزن بل يتشفى.

كما يؤكد المؤلف أن جذور التمييز بين ما هو يهودي وغير يهودي موجود في التراث والتقاليد والتثقيف والصلوات اليهودية، فاليهودي في صلاة الفجر يستهل يومه بشكر الخالق لأنه "لم يخلقه غوي" أي لم يخلقه غير يهودي. وعبر الأجيال يستند التثقيف اليهودي على أن اليهود هم "الشعب المختار"، يصلي قائلا: "أنت اخترتنا من كل الشعوب وأحببتنا وأردتنا ورفعتنا فوق كل الشعوب"، وفي كل سبت يقدس اليهودي في صلاته السبت ويقول "لأنك اخترتنا نحن وقدستنا نحن من بين كل الشعوب". ويغرس هذا الفكر عند انتهاء السبت بالقول "تبارك.. الذي يميز بين المقدس وغير المقدس بين النور والظلمة وبين إسرائيل والشعوب".

يستخلص أبراهام بورغ أن التمييز العنصري والاستعلاء مغروس بنيويا في النفس اليهودية, ويحذر من خطر استمرار انتشار هذه الأفكار العنصرية على مستقبل إسرائيل واليهود، لأنها تنزع إنسانية البشر وتحولهم إلى مخلوقات من الحيوانات يجب التخلص منها.  ومن ضمن الأمثلة التي يذكرها قول رئيس الأركان الإسرائيلي الأسبق رفائيل آيتان, الذي شبه الفلسطينيين "بالصراصير المسممة داخل قنينة"، ويقول إن هذا التشبيه يذكره بالدعاية النازية التي دأبت على تشبيه اليهود بالفئران التي تجب إبادتهاٍ ].  فإذا كانت هذه العقلية وهذه التربية هي التي توجه اليهود المحتلين، وعلى لسان شخص مسئول ومعروف، فأي محاولة للاتصال تلك التي يبحث عنها الفيلم؟ وخصوصا أن المحاولة لم تتعدى الجندي والعجوز. المخرجة عزة الحسن بذلت مجهودا تشكر عليه في عملية التصوير لمشاهد الفيلم، لكن الفكرة التي أرادتها ضاعت بين هذه المشاهد، وتحولت إلى مسائل أخرى أبعدت الفيلم عن الفكرة التي طرحت منذ البدء، وهي الاتصال مع العدو في وقت الصراع.