هذا كتاب يمتزج فيه السردي بالواقعي والوثائقي والشعري في روايته لوقع إعصار جونو الذي ضرب عمان قبل عدة أشهر وتأثيره على البشر والأرض.

ساعات «جونو» العصيبة

مشاهدات وشهادات ووقائع

عبدالرزاق الربيعي


 

"لو كنت قاصا، روائيا، شاعرا، كيف يمر هذا الإعصار دون أن يمر بالمنجز الإبداعي والذاكرة من خلال نص؟ ترى كم أم انتظرت أبناءها خلف الأبواب؟ كم أب أخذه القلق في تأمين سلامة عائلته؟ حالة الصراع بين الحب والخوف.. كيف يمكن الكتابة عنها! "
                   الكاتب السعودي حسين الجفال من رسالة وجهها للمؤلف 




 المشهد الأول: كذب المنجمون ولو صدقوا
"على الطاولة
شمعة تضيء
اتجاه الحب
..........
تحت الطاولة
عشرات الأرجل
تهرول
باتجاه الرغبة
...............
بمحاذاة الطاولة
عشرات الأيدي
تتلامس
باتجاه القلب
.....
هب الاعصار
.....
هدأت الأرجل
.....
طارت الأيدي
.....
وانطفات الشمعة" 

عندما سمعت عن إعصار (جونو) ظهر يوم الاثنين الموافق الرابع من الشهر الجاري لم آخذ الأمر بجدية حيث أعاد لي حكاية الكاهن الهندي الذي قال لضابط مركز شرطة عمان السلطانية في القرم بمسقط ان صوتا غريبا سمعه خلال صلاته يقول بإن منطقة القرم سوف تغرق بالمياه بتاريخ 9/5 وهو الصوت نفسه الذي نبهه ـ كما أدعى ـ لإعصار تسونامي!!. فكتبت الصحف وانشغل الناس وغادر من غادر منهم مسقط متذرعا بأية حجة!! 

كارثة متوقعة
ومر تاريخ 9/5 دون أن يحصل شيء رغم إن الأرصاد الجوية كانت قد نبهت الى وجود تغييرات جوية حصلت قبل يومين من ذلك التاريخ لكنها تراجعت فيما بعد عن ذلك وصارت نبوءة الكاهن الهندي مزحة ثقيلة يتفكه بها البعض حين يقابل شخصا يقيم في منطقة القرم التي فيها سكني. هذه (الكارثة) المتوقعة التي مرت بسلام جعلت الناس يرددون (كذب المنجمون ولو صدقوا) فلم تترك لي مجالا لأخذ تنبؤات مركز الارصاد الجوية بجدية خصوصا ان الاجواء في السلطنة كانت طبيعية جدا وحرارة صيف (مسقط) اللاهبة كانت مبكرة هذه السنة بحيث بلغت الاربعين درجة مئوية والرطوبة كانت عالية فأية كارثة كانت تحصل أكبر من هذه!؟ 

جونو قادم
حين عاد مندوب جريدتنا "الشبيبة" ـ عيسى المسعودي ـ من المؤتمر الصحفي الذي عقده معالي الفريق مالك بن سليمان المعمري المفتش العام للشرطة والجمارك رئيس اللجنة الوطنية للدفاع المدني والذي أعلن به "ان السلطنة سوف تتأثر لمدة ثلاثة أيام باعصار "جونو" ـ واسمه يعني بلغة جزر المالديف (الحقيبة المصنوعة من سعف النخيل لأنه يتخذ شكلها) ـ القادم من غرب القارة الهندية" كان مصفر الوجه. فإزداد مزاحي. فقال لي "لاتمزح المسألة جادة وعرض وقائع المؤتمر الذي قال خلاله المعمري "ان الاعصار يتجه نحو أراضي السلطنة وتبلغ سرعة دورانه وقت انعقاد المؤتمر أكثر من 200 كيلومتر في الساعة بينما سرعة اقترابه من أراضي السلطنة تبلغ 18 كيلومترا في الساعة ومن المتوقع ـ كما قال المعمري ـ أن يبدأ تأثيره على سواحل السلطنة الشرقية اعتبارا من مساء الثلاثاء ويتوقع ان تكون هناك خطورة في ظل احتمالات ان يصل ارتفاع الامواج الى 10 أمتار" وأكد لي ان حالة التأهب كانت قائمة بشكل محدود منذ يوم السبت الموافق 2.6 ولكنها أعلنت لوسائل الاعلام بعد يومين حيث تاكدت الأرصاد الجوية من الخطر المحدق بالسلطنة ورغم انها شهدت أحداثا مشابهة من قبل حيث أن كبار السن يتحدثون عما يطلق عليه محليا بـ(جائحة السبعين) و(الجائحة)هي الريح القوية وقد أحدثت تلك (الجائحة) خرابا عند هبوبها سنة 1970 وخلفت أضرارا في الممتلكات وقيل ان اعصارا مدمرا ضرب مصيرة عام 1977.

ويقول الشيخ نور الدين السالمي (1286) ـ (1332هـ) في كتابه (تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان) الذي يعتبر أشهر مؤرخي عمان في العصر الحديث "في بعض التواريخ لما كان الاحد لثلاث ليال خلون من جمادى الاولى سنة احدى وخمسين ومائتي نزل امر فظيع ببدبد وقيقا والباطنة وسمائل ودما وصحار نزل عليهم في الليل وثمارهم متعلقة في نخيل محدقة فجاءهم دوي وظلمة وهواء وهول مفظع وامر مطلع فعناهم في ذلك بحيح وصياح وعجيج واستهلت السماء فأدفقت عليهم من الماء فبينما هم كذلك وأمرهم على ذلك وهم في شدة من الفرق وخوف من الغرق ومنهم من أيقن بالمنية والحتف والقضية اذ جاءتهم السيول فأحدقت عليهم في المسائل أو دقت وهم في منازلهم خائفون مما نزل عليهم فقلعت السيول والمنازل والأموال وغرقت النساء والرجال فغرق الرجل وعياله وتخرب منزله وماله فاصبحوا في ليلة واحدة اصواتهم خامدة ومنازلهم هامدة فهدمت السيول مساكنهم واخرجتهم من اوطانهم وحملت الى البحور ابدانهم وقلعت الاشجار واغارت الانهار فاصبح السالم الموسر منهم فقيرا". 

حلم لم يطل
في المساء كنا مشغولين بمهرجان شعري تشكيلي أقامته اسرة الشعر بالنادي الثقافي حمل عنوان "حلم بين ريشة وقصيدة" وكنت مستمتعا بأمسية أحيتها كل من: بدرية الوهيبي وفاطمة الشيدي وعائشة السيفي وريم اللواتي وشميسة النعماني وخلال الأمسية وقد اعتدت ان اضع الموبايل على الصامت خلال الفعاليات لأبقى على تواصل بالمسجات مع الجريدة وصلني مسج من القاصة بشرى الوهيبي تبلغني عن ضرورة حضوري لقاء مع الصديق القاص محمد اليحيائي المقيم في واشنطن والذي يعمل في قناة "الحرة" حيث يقوم بزيارة لبلده وكان موعد اللقاء في مقهى زاخر بالخوير الساعة الثامنة من مساء الثلاثاء 5.6 ابتسمت وثبت الموعد وواصلت متابعتي للأمسية بعد قليل اهتز الموبايل ثانية وبدون اسم. كان المسج من المديرية العامة للطيران المدني والارصاد الجوية قرات كلماته التي تقول "اعصار مداري من المتوقع أن يؤثر على المنطقة الشرقية (رأس الحد ومصيرة) خلال 30 ساعة القادمة مصحوب بعواصف رعدية شديدة ورياح قوية وأمواج عالية جدا"!!

أجلت نظري فيما حولي وجدت الوجوه هادئة مستمتعة بالأمسية وكانت هواتفهم النقال تهتز بفعل المسج الذي وزع على جميع المشتركين بالخدمة ورغم ان الخطر لم يكن قريبا الا انني تذكرت بقوة نبؤة الكاهن الهندي الذي كذبه الجميع فاحتشدت السماء لتؤكد صدقه!!!  

إعلان حالة الطواريء
وخرجت الصحف العمانية يوم الثلاثاء الموافق 5.6 بعناوين بارزة تتحدث حول الاعصار على صفحاتها الأولى ومنها جريدتنا "الشبيبة" التي كان "مانشيتها" الرئيس هو "السلطنة تعلن الطوارئ لمواجهة إعصار "جونو" ومما جاء في صفحتها الأولى "تم إجلاء سكان ولاية مصيرة بالكامل تحسبا للاعصار بينما شهدت القرى الساحلية الممتدة على الشريط الساحلي من نيابة رأس الحد وحتى القرى الواقعة جنوب نيابة الأشخرة والبالغة أكثر من 30 قرية عملية نزوح غير عادية للسكان كما تم إخلاء المواطنين بالمناطق الساحلية بجعلان بني بوعلي بينما رفض المواطنون في ولاية جزر الحلانيات ترك مساكنهم. وحث المفتش العام للشرطة السكان على الانتقال من المناطق المعرضة للخطورة نتيجة الأعصار خاصة جزيرة مصيرة وجزر الحلانيات الى مناطق أكثر آمنا مؤكدا جاهزية شرطة عمان السلطانية وبالتعاون مع الجهات الحكومية الأخرى لتوفير المأوى لهم والغذاء طوال الفترة الحرجة حتى مرور الاعصار.

واشار الى أنه تم اعلان حالة الطوارئ في قوات السلطان المسلحة وشرطة عمان السلطانية وبقية الجهات الأخرى موضحا أن شرطة عمان السلطانية قامت بنشر سيارات الدفاع المدني في المناطق المتوقع تعرضها للاضرار وستقوم قوات السلطان المسلحة بالتنسيق مع الجهات الحكومية الأخرى مثل الصحة والتعليم والكهرباء والاتصالات والمواصلات باستعداداتها فيما يمكن توفيره في مثل هذه الظروف. ومن جهة أخرى أفاد بيان صادر عن المديرية العامة للطيران المدني والارصاد الجوية أن صور التوابع الاصطناعية والتنبؤات العديدة في بحر العرب تشير الى استمرار تحرك الاعصار المداري تجاه السلطنة بسرعة 18 كم في الساعة مصحوبا بأمطار رعدية غزيرة ورياح شديدة تتراوح سرعتها حول مركز الاعصار بين 100 و110 عقد (185/205 كم) ساعة وتؤدي الى هيجان البحر بأمواج عالية جدا. وأضاف البيان أن آخر خرائط التنبؤات العددية تشير الى استمرار تحرك الاعصار المداري باتجاه سواحل السلطنة ومن المتوقع ان يبدأ تأثيره على سواحل المنطقة الشرقية خلال الساعات القادمة".

بانتظار البرابرة
كنت مستمتعا بإنشغال الناس بهذا الحدث القادم وتحضيراتهم له من باب ان الناس نسوا في زحمة هذا الانشغال بالحدث الجلل همومهم اليومية الصغيرة التي كانت تتركزحول التسابق باقتناء المواد الاستهلاكية من المعارض او مشاكل خادمات المنازل او في احسن الاحوال الحديث عن إجازة الصيف وأين يمكن لهم ان يقضوها!!. واعتبرت ايضا ان مثل هذه الاحداث يمكن ان تغير من إيقاع الحياة الرتيب والممل أحيانا. الملل الذي يدخل أيامك في دائرة التكرار بل ان أمر الاعصار بدأ يأخذ شكل الترقب الذي تحدث عنه (قسطنطين كانافي) في قصيدته (بانتظار البرابرة)!! التي قرأناها بترجمة بديعة للشاعر سعدي يوسف وفي بعض مقاطعها يقول:

ما الذي ننتظره مزدحمين؟
البرابرة سيصلون اليوم.
ولمَ مجلس الشيوخ معطل؟
الشيوخ لا يشترعون القوانين
فلِمَ هم جالسون هناك إذن؟
لأن البرابرة يصلون اليوم.
أي قوانين سيشترعها الشيوخ الآن؟
عندما سيسنون هم القوانين.
لمَ يستيقظ إمبراطورنا، مبكرا هكذا؟
ولِمَ يجلس الآن معتليا عرشه، معتمرا تاجه
عند البوابة الكبرى للمدنية؟
لأن البرابرة يصلون اليوم.
والإمبراطور ينتظر استقبال قائدهم.
والحق أنه تهيأ ليوجه إليه خطبة
خلع عليه فيها كل الأسماء والألقاب.
.....
لمَ لمْ يأتِ الخطباء، المفوهون، هنا، كالعادة
ملقين خطبهم، قائلين ما ينبغي أن يقولوا؟
لأن البرابرة سيكونون اليوم، هنا
وهم يسأمون البلاغة والفصاحة.
لمَ هذا الضيق المفاجئ، والاضطراب؟
لمَ غدت عابسة وجوه القوم؟
لمَ تخلو الشوارع والساحات، سريعا؟
والكل يعود الى داره، غارقا في الفكر؟
لأن الليل قد هبط، ولم يأت البرابرة.
ولأن أناسا قدموا من الحدود
وقالوا أن ليس ثمة برابرة. 

والآن... ماذا نفعل بدون برابرة؟
لقد كان هؤلاء نوعا من الحل.

لكن إنتظار الإعصار لم يطل طويلا!!! لقد جاء أسرع مما كنا نتوقع!!

بل وأكثر قسوة!! 

المشهد الثاني: مدن تئن وذكريات تغرق
لا تخافي علي ّ
من نفخات الأعاصير
وفيضانات الأودية
والأمطار المرّة
* * *
لا تخافي عليّ
من الحروب الدائرة رحاها
في السماء السابعة
ومن حجارة الطير
* * *  
لا تخافي عليّ من الصواعق
والغياب الأبدي للهواء الطلق
الذي بدأ ينفد من رئة الشجرة
لا تخافي عليّ
من السحاب الثقال
* * *
لا تخافي
فقلبي مترع بالعواصف
منذ أن طوقته ب(طوق الحمامة )
منذ ان.....
أليس حبك
أقوى إعصار قوّض مدني الآمنة!!؟ 

كانت إرشادات الدفاع المدني قد بدأت تمارس دورها في نشر التعليمات الواجب اتباعها لتقليل الأضرار التي يسببها الاعصار وذلك أثناء مرور موكبه المبجل!! وطلبت الشرطة من الذين يسكنون على بعد كيلومترين من البحر ترك منازلهم سكني يقع على بعد كيلومتر واحد!!ـ و قد أكدت هذه التعليمات على ضرورة اللجوء إلى المباني المناسبة التي تستطيع الصمود في وجه الرياح، مع تدعيم النوافذ والفتحات في هذه المنازل وعدم الخروج من المنازل إلا بعد إنتهاء الإعصار بشكل تام والإحتفاظ بمصابيح يدوية وشموع في المنازل تحسباً لإنقطاع التيار الكهربائي والإبتعاد عن الأشجار العالية خشية سقوطها و عدم إبقاء المركبات قريبة من الأشجار قدر الإمكان وإغلاق جميع النوافذ والأبواب والفتحات لمنع تسرب مياه الأمطار إلى المنازل قدر الإمكان والإحتفاظ بالأدوية الضرورية للأطفال والمرضى الذين يعانون من أمراض مزمنة وفصل التيار الكهربائي في المنازل أثناء مرور الإعصار عن الأدوات الغير ضرورية بالمنزل وتثبيت الأشياء المتطايرة في المنازل والحدائق وخاصة صحون الإلتقاط الهوائي (الدش) وعلى الشركات المنفذة للأعمال الإنشائية التأكد من ثبات مواد البناء في موقع الإنشاء وعدم إستخدام الهاتف النقال أثناء حدوث الصواعق. 

مزحة ثقيلة
كان زميلي في الجريدة الفلسطيني بشار أبو صلاح يعيد على مسامعي صباح الثلاثاء هذه التعليمات وكنت بيني وبين نفسيـ أكاد أن أنفجر من الضحك خصوصا انه كان يتكلم بانفعال شديد وبأداء مأساوي!! فالأمر بالنسبة لي لم يكن أكثر من مزحة ثقيلة من مزح الطبيعة!! ولكنني بعد أقل من عشرين ساعة تذكرت وصاياه وأنا أرى الماء من نافذة الطابق الثاني من المنزل وقد وصل الحزام وكانت قد بركت سيارة كبيرة أمام بيتنا وتسلل الماء الى الداخل وعلى وجه السرعة استعان ركابها بسيارة أخرى (ذات دفع رباعي) فاستطاعت بعد اكثر من ساعة من المحاولات اخراجها.

وخلال ذلك اتصل بي الأخ بشار ليطمئن على انني نفذت كل وصاياه فأكدت له انني نفذتها بحذافيرها!! لذا فأنا في منجى من (الطوفان) القادم فأبلغني ان مجموعة من العراقيين تسكن على بعد أمتار من بيتنا بدأت تستغيث وانه اتصل بالطواريء وبالفعل تم اجلاؤهم من المكان في هذه الأثناء بعد جلاء الغمة وانا أسرد هذه الوقائع مساء الأحد الموافق 10.6وصلني (مسج) يقول " ترجو وزارة الصحة من المواطنين الكرام عدم الشرب من مياه البرك والمستنقعات نظرا لخطورتها البالغة وتدعو كل من يستخدم مياه البرك تسخينها قبل الاستخدام والمحافظة على النظافة الشخصية منعا لانتقال الأمراض".

وقبل قليل جاءني الصديق الشاعر فيصل العلوي قادما من (السويق) حاملا لي كارتون مياه الشرب التي اشتراها من تلك المدينة التي لم يصل اليها ذراع الاعصار وكل هذا حصل لأني لم آخذ الأمر بجدية لذا وجدت نفسي (كساع الى الهيجا بغير سلاح) ولم اخذ الاحتياطات اللازمة لمواجهة حدث كهذا!!! 

طائر القلق
في الوقت الذي نزح الكثيرون عن المناطق المنخفضة والقريبة من السواحل الى المناطق الآمنة متتبعين ارشادات الشرطة السلطانية بقيت في سكني بمنطقة القرم التي كانت مركز نبوءة الكاهن الهندي وهي التي تعرضت كثيرا للأودية لقربها من البحر بل لم أخذ مؤونة كافية من الطعام والشراب بل حتى لم أشحن (اللاب توب) و(الموبايل) ولم اشتر الشموع تحسبا لانقطاع التيار الكهربائي عند هبوب الاعصار ولم نخزن المياه بل كان كل شيء بالنسبة لي طبيعيا في وقت بدأت به السحب بالاحتشاد في سماء مسقط وعشش طائر القلق على رؤوس الجميع وبدأت اتلقى اتصالات من اصدقائي في الخارج يطلبون مني الابتعاد عن الاماكن التي يطالها الاعصار وكنت أكرر على مسامعهم: لا تقلقوا نحن العرافيين اعتدنا على الكوارث واعصار كهذا هو بمثابة طبق (سلطة) ازاء كوارث عشناها وأردد:

مرت عليّ مصائب لو أنها
مرت على الأيام صرن لياليا 
كوارث عراقية

والحقيقة إن كوارثنا نحن العراقيين من نوع آخر فلم ار على إمتداد عمري الذي بلغ السادسة والاربعين كارثة من الكوارث الطبيعية سوى الاحساس بخطر الفيضان دجلة لم اكن قد ولدت عن وقوع فيضان 1954 واذكر في مطلع السبعينيات كثر الحديث عن عامة الناس عن قرب حدوث فيضان لنهر دجلة واشيع حينها ان الفيضان سيصل الى قامة رجل!! فانتشر الذعر بيننا وكنا نشعر اننا هالكون لا محالة فقاماتنا كانت لاتصل الى نصف قامة رجل فكيف يمكننا النجاة!! ثم مر الامر بسلام ولم يحصل الفيضان وخلال ادائي للخدمة العسكية في معسكر تدريب الموصل عام 1987 أخذونا الى نهر دجلة لملء العديد من (الجواني) بالتراب ورصفها على امتداد النهر والمكوث طوال الليل في حراسات مناوبة لمتابعة ارتفاع منسوب المياه ولم يفض النهر!!.

سوى هاتين المواجهتين الباردتين مع الطبيعة لم أشهد شيئا لذا لم اتخيل أن الطبيعة الحانية على أبنائها يمكن لها أن تغضب بهذا الشكل المدمر وتحدث كل الخراب الذي أحدثته في شوارع مسقط الجميلة النظيفة التي بدت صبيحة اليوم التالي من هبوب الاعصار كأنها مدينة مهجورة فأشجارها السامقة التي كانت تحف بالشوارع سقطت مجدلة على الارصفة وانهارت بعض الشوارع الإسفلتية وكسر تيار الماء العنيف الجاري من الاودية مئات المحلات وسحب محتوياتها ليرميها على الارصفة وارتفعت تلال الاطيان لتصل الى سقوف هذه المحلات التي وصل الماء فيها الى الطابق الثاني كما اكد لي احد رجال الشرطة الذين كانوا يحرسون هذه المحلات من اللصوص الذي يستغلون هذه الكوارث فينهبون ما لم تطله يد الاعصار الذي وانا ارى اثارة الآثمة لم اصدق انه يمكن ان يكون بهذه القسوة وان الطبيعة يمكن لها ان تتحول برمشة عين من ام حانية على ابنائها الى وحش كاسر ينشب انيابه في جسد الجمال بكل شراهة وقسوة وبرودة دم. 

الدولة الأولى الأكثر أمنا في الشرق
فالسلطنة التي نشرت يوم الاثنين الموافق 4 من الشهر الجاري أي قبل يوم واحد من هبوب الإعصار على صفحاتها الأولى نتائج دراسة اعدها مؤشر السلام العالمي (جلوبان بيس انديكس) نبأ اختيارها الدولة الأولى الأكثر أمنا في الشرق الاوسط وشمال افريقيا واحتلت المرتبة الثانية والعشرين على مستوى العالم بينما جاءت الولايات المتحدة الامريكية بالمرتبة (96) وبلدي العراق بالمرتبة الاخيرة وهي (121).

ولكن الطبيعة التي لا يمكن لنا أن نحرز تقلباتها لها كلمتها الثقيلة والموجعة والتي تخل بكل الموازين والتوقعات من خلال إعصار (جونو) الذي لم يحصل شبيه له الا في عام 1947 بل زاد عليه فارتفاع منسوب المياه بلغ 600 ملم والمياه بلغت في بعض البيوت الى الطابق الثاني فاستغاث سكانها برجال الشرطة الذي سارعوا الى انقاذهم من موت محقق وقد حالت جاهزية رجال شرطة دون وقوع العديد من الخسائر في الارواح بلغت الخسائر حتى كتابة هذا المقال 45 شخص و25 مفقود ما تزال طائرات الهليكوبتر تحلق فوق رأسي بحثا عنهم في منطقتنا ـ القرم ـ التي تضررت كثيرا من الاعصار ولم تكن هذه الاضرار تذكر بالنسبة للأضرار التي سببها الإعصار في ولاية (صور) في المنطقة الشرقية.

(صور العفية) تئن
اذ تلقت مدينة صور التي تلقب ب(صور العفية) كناية من العافية ضربة موجعة حيث ذكر مراسل جريدتنا في صور مبارك المعمري في آخر تقرير أرسله قبل قطع الاتصالات " شهدت حالة الطقس منذ الصباح الباكر ليوم الثلاثاء تغيرات واضحة في الاجواء من حيث السحب التي غطت السماء وهطول الامطار الغزيزة على الولاية وفي بعض الاحيان تصعب الرؤية بسبب الرياح والامطار الغزيرة وبصورة متقطعة مما أثر ذلك على هيجان البحر وارتفاع الامواج عند العيجة ونعمة والشريه والرصافة وبربويرة مما صعب من مهمة التنقل على الشارع العام المؤدي لمنطقة الغليلة في إتجاه الغرب حيث موقع الشركة العمانية للغاز الطبيعي المسال والشركة العمانية الهندية للسماد ومع غزارة الامطار وتأثر حالة الطقس بفعل اعصار (جونو) لا تزال الأوضاع في صور خلال اليومين الماضيين صعبة وسارع المواطنون والمقيمون الى شراء المستلزمات الضرورية وخاصة المواد الغذائية تحسبا للظروف الصعبة كما ان الوقود قل في محطات تعبئة البترول بسبب الازدحام حيث ترك السكان منازلهم وتوجهوا الى المناطق البعيدة مثل جعلان واستراحة القابل وابراء والبعض منهم غادر المنازل القريبة من الشاطئ والتي تبعد (2) كيلو متر وأكثر الى الشقق الفندقية البعيدة تلك كانت بعض التأثيرات التي تسبب فيها الاعصار المنتظر وصوله في الجانب الآخر فإن الامطار تراوحت بين الشديدة والتي تعذرت معها الرؤية والخفيفة وكانت مصحوبة بالرعد والبرق مما أدى الى صعوبة التنقل.

بعض المؤن أستنفدت خاصة الخبز والذي كان يباع في طوابير ومن خلال الحجز.

الوضع كان مرعبا بالنسبة للمقيمين على أراضي صور ومناطق مخا ونعمة والشريه والرصاغ (المرتفعة) القريبة من الشواطئ كانت شبه خالية بعد انتقال الأهالي الى المناطق الاكثر أمنا وكانت السحب كثيفة وأصحاب السفن والقوارب الصغيرة كانوا في حالة هدوء قبل امس الاول نقلوا سفنهم وقواربهم الى اماكن اكثر أمنا مثل ميناء الصيد البحري بصورة وخور الصط فهذه الاماكن تمثل هدوءا ولن تتأثر بما يحدث في عرض البحر.

شرطة عمان السلطانية تقوم بدور كبير على الشواطئ والطرقات والأودية حيث نزل وادي الجنية والذي يصب في بحر الرضاغ وفي حالة شدته يصعب التنقل ما بين وسط المدينة ومناطق الجنية والبر وحي الشروق لساعات طوال وكان الهواء شديدا من جهة الغرب وكان يغير اتجاهه فيأتي من جهة البحر. ومنذ الصباح وعند الساعة العاشرة صباحا من يوم الثلاثاء أغلقت المحلات التجارية. 

ذكرياتنا تغرق
فندق شاطئ صور عزل وتم إيقاف الانترنت والفاكس فيه وتم نقل المقيمين فيه الى أماكن اكثر أمنا بسبب قربه من البحر وارتفاع الأمواج وهذا الفندق هو الفندق الذي أقمنا به مرتين الأولى كانت عند انعقاد مهرجان الشعر العماني الخامس حيث جمعتنا جلسات طويلة مع الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي والشاعر اليمني الراحل محمد حسين هيثم والتونسي نور الدين صمود والشعراء العمانيين سعيد الصقلاوي وحسن المطروشي ومحمد البريكي وآخرين. والمرة الثانية خلال اقامة الملتقى الأدبي الثاني عشر صيف العام الماضي ـ وكنت عضو لجنة تحكيم الى جانب الناقد المغربي الدكتور علال الغازي الذي انتقل الى رحمة الله صبيحة عيد الفطر بعد تعرضه الى حادث سير مؤسف ـ وحين علم بوجودنا حينها الصديق الفنان سالم بهوان حيث ان والده صاحب الفندق اتصل بادارة الفندق لتضع في غرفتي باقة أزهار جميلة ولم يكتف بهذا اذ زارنا في اليوم الأخير من الملتقى.

عادت الى رأسي هذه الذكريات وأنا أتخيل الخراب الذي أصاب الفندق اليوم!! هذا الخراب انتقل بعد ساعات من ذلك الى مسقط وأي خراب!!!!؟  

المشهد الثالث: حبل الفجيعة يلتف على عنق (مسقط)
تحت ضربات سياط الإعصار
أتذكر أمي
كم كانت ستقلق
لو كانت...!!!
ربما أكثر منك
أو أقل
وفي كل الأحوال
أكثر مني بالتاكيد
كم كانت ستقلق لو كانت...!!!
....
لكن
لحسن الإعصار
انه تأخر
حتى أخذها
إعصار الموت  

كنت قد ذكرت إنني نهضت فجر الأربعاء على صخب المطر فأدركت حينها ان الواقعة وقعت!!!

وبسرعة البرق هرعت الى التلفزيون وكان المطر قد أثر على البث فتوقف النايل سات بالكامل وكذلك الهوت بيرد وحين حدث خلل في الفضائية العمانية تنقلت بين القنوات فعثرت على الفضائية العراقية وكان بثها طبيعيا مثل بقية الأيام قلت ربما سمعت خبرا عما يحصل في السلطنة من نافذة العراق!! وبينما كنت أتتبع احصائيات عدد القتلى في الحوادث اليومية بشريط الأنباء المتحرك رأيت برنامجا جديدا عنوانه (تحت نصب الحرية) أعادني العنوان الى ديوان صديقي الشاعر عدنان الصائع فتابعت (تايتل) الاسماء فوجدت اسم الصديق الشاعر وجيه عباس مقدما ومعدا له فانشددت أكثر الى الشاشة ملقيا خبر الاعصار ونبوءة الكاهن الهندي خلفي!! 

رشقات مطرية
وبعد أن انتهت الحلقة أردت أن أحيي صديقي وجيه على برنامجه عبر رسالة أوجهها عبر الايميل. فتحت جهاز الكمبيوتر وشغلت (الانترنت) لكن كانت الشبكة ضعيفة وهنا صاحت زوجتي التي كانت تنظر الى الشارع من خلال النافذة. فهرعت اليها لأجد عمود الكهرباء استلقى على بيت الجيران بفعل قوة الاعصار وخلال متابعتنا للمشهد رأينا الماء قد بدأ يتدفق الى بيتنا من خلل ثقوب الابواب والنوافذ حيث كانت رشقات المطر تصطدم بها!! اخذنا نزيح الامطار بكل ما امتلكنا من آنية وقطع قماش نردم بها الشقوق دون جدوى وعندما سيطرنا على الموقف عدت انظر الى عمود الكهرباء المستلقي على بيت الجيران وحين سألناهم هن الحال أجابوا:ان الكهرباء قد قطعت عن المنزل  قلت: يمكننا مساعدتكم بتزويدكم بالماء البارد ويمكننا فتح الثلاجة لأطعمتكم فشكرونا وكنت أعرف إن هذا لا يكفي فالتيار الكهربائي يمثل عصب الحياة في منطقة الخليج لارتفاع درجات الحرارة والرطوبة التي تجعل حتى التنفس صعبا!! وعدت الى الكمبيوتر فوجدته مطفأ وكذلك جهاز التكييف والتليفزيون قلت لزوجتي: قولي للجيران لقد تساوينا في البلاء" المشكلة إن كل تفاصيل حياتنا تدخل الكهرباء في تشغيلها من أدوات الطبخ الى آلة الحلاقة وفرشاة الأسنان. 

توقف نبض الحياة
بعد قليل اتصل بي الأستاذ (مجدي الشاذلي) مدير تحرير جريدتنا "الشبيبة" من مكتبه ليقول لي إن الجريدة لن تصدر غدا ويمكنني إبلاغ محرري القسم وكانت أوامر الادارة قد ابلغتنا ان الجريدة تصدر الخميس الا في حالة حدوث ظروف قاهرة تمنع المحررين والفنيين وعمال المطبعة من الوصول الى مقر الجريدة رغم تمتع القطاعين العام والخاص بإجازة رسمية تمتد لغاية نهاية دوام السبت القادم بأوامر عليا حيث جاء في نص البيان "بناء على الاوامر السامية لحضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه ونظرا لتعرض السلطنة للاعصار المداري (جونو) خلال هذه الفترة والذي من المتوقع ان يستمر خلال الايام القليلة القادمة فقد تقرر ان تكون اجازة رسمية لكافة وحدات الجهاز الاداري للدولة اعتبارا من يوم غد (الاربعاء) 20 من جمادى الاولى سنة 1428 ه الموافق 6 من يونيو سنة 2007 م وحتى نهاية يوم السبت 23 من جمادى الاولى سنة 1428هـ الموافق 9 من يونيو سنة 2007 م"

عندها أدركت ان الواقعة قد وقعت بالفعل وإن نبوءة الكاهن الهندي في طريقها الى التحقق رغم تأخر حدوثها لمدة شهر كامل البعض فسر هذا التأخر بأن الكاهن الهندي قرأ النبوءة قراءة رقمية عكسية فبدلا من أن يقرأها 5.6 انقلبت عنده فقرأها 9.5 وهذه من عجائب الأرقام!!! فالاعصار دخل السلطنة يوم 5.6 وغرقت منطقة القرم وحين مررت على مركز الشرطة الذي سجل به ذلك الكاهن القضية وجدته غارقا بالماء كما تنبأ!!! ـ

تذكرت بيتا للشاعر نزار قباني يقول به:
حبل الفجيعة ملتف على عنقي
من ذا يعاتب مشنوقا اذا إضطربا

فوجدت إن حبل الفجيعة قد التف على عنق مسقط الجميلة التي كان انتظامها يبعث في نفسك المسرة يقول الأب توما "ان الحواس لتسر من رؤية الأشكال المنتظمة".

ولكن جوهر الكوارث يقوم على بث روح الفوضى... وأية فوضى أأ؟

كانت الأمطار تواصل تسربها الى داخل البيت وكنت قلقا على المكتبة قالت زوجتي "يمكنك نقل أهم الكتب الى الطابق العلوي" لكنني لم أستسغ الفكرة لصعوبة العملية في ظل ظرف نحتاج به الى الجهد العضلي لإزاحة الماء المتسرب الى داخل البيت  

كتب في الوادي
وقد تعرضت الكثير من المكتبات الى أضرار جسيمة من جراء نزول الوديان ومن هذه المكتبات مكتبة الضّامري للنشر والتّوزيع التي أسست سنة 1989م وأمدت المكتبة العمانية بالعديد من الإصدارات النّافعة في مختلف العلوم والفنون منذ سنة 1991م، لضرر كبير جدا وحول تقدير هذه الخسائر قال طالب بن خلفان بن سالمين الضامري صاحب المكتبة الذي نشر عددا من مؤلّفات علماء وأفاضل أهل المغرب العربي أمثال الشّيخ العلامة علي يحيى معمّر(رحمه الله) والشّيخ العلامة أبي اليقظان إبراهيم(رحمه الله)، والدكتور فرحات بن علي الجعبيري والدّكتور محمد صالح ناصر وغيرهم،و أصدر عددا من اسطوانات الحاسب الآلي تشتمل على عدد من المحاضرات والكتب الدّينيّة والثّقافيّة"قدرناها بحدود مليون ريال عماني وآلاف النسخ من مختلف العناوين العمانية التي كانت محفوظة في مخزن المكتبة في الشرادي بالسيب وقد تحتاج لشهور لتعود إلى ما كانت عليه قبل الإعصار إن توفرت الأموال الكافية، وقد لا تطبع معظمها إن لم نجد الدعم والمساندة من جهات الاختصاص، وقد ترجع المكتبة على ما عليه خلال عشر سنوات!!!

وكذلك تعرضت مكتبة الدكتور شبر الموسوي لضرر كبير حيث "أصاب الإعصار العديد من الكتب القيمة والفريدة من نوعها، كما قال. وبعضا من المصادر العلمية والأدبية ومنها بعض الكتب والمخطوطات العمانية والوثائق التي لا يوجد لها مثيل و عددا من المصادر الأدبية والكتب التاريخية الفريدة وعددا من البحوث والدراسات المنشورة والمطبوعة في بعض الكتب والمجلات العمانية والعربية والمصادر الصحفية العمانية والخليجية التي تتحدث عن نشأة الأدب في عمان وبعض المقالات التي نشرت في الصحافة الخليجية عن الأدب في عمان والتي كنت أحتفظ بها منذ بداية النهضة العمانية ضمن تلك المكتبة بالاضافة الى الكمبيوتر الخاص بي والذي كنت أحتفظ فيه بنسخ من بحوثي ودراساتي، وقد فقدت في هذا الإعصار النسخ المتبقية من كتابي (اتجاهات الشعر العماني المعاصر) المنشور عام 2000 والذي نفذت نسخه من الأسواق قبل فترة ولم يتبق سوى عشر نسخ سليمة، كما أن عدد من نسخ كتابي الآخر (القصة القصيرة في عمان) قد فقدت مع مياه الإعصار التي أصابت بيتي جزئيا".

وأخبرني الفنان عبدالغفور البلوشي إن مكتبته التي تحتوي على كتب نادرة في المسرح وصورا يتجاوز عددها الخمس آلاف صورة من المسرح العماني قد غرقت في الماء!!! 

أطلال (بيروت)
وهنا جاءني إتصال من صديقي الكاتب (حسين الجفال) من السعودية فمطمأنته على الوضع مذكرا إياه بعدد من الطرائف التي حدثت خلال زيارته لمسقط قبل أيام وخصوصا لقاءنا في مطعم بيروت بالقرم في دعوة أقامتها على شرفه الشاعر ريم اللواتيا وحضرها كل من إبراهيم السالمي وباسمة الراجحي وحنان المنذري وفاطمة الشيدي وأزهار الحارثي. صباح الخميس بعد ساعات من توقف هبوب الإعصار مررت بالمطعم فوجدته قد دمر بالكامل ووصلت أطيان الوادي الى سقفه الثاني الذي جلسنا به حيث سمعت رنات ضحكاتنا وهي تتهاوى وسط الاطلال اطلال (بيروت)!.

استمر حديثي مع الجفال قلت له: أتعرف ماذا كنت أفعل قبل أن يأتيني اتصالك؟ قال ضاحكا: أعرف.. تكنس الماء وهل بقي لك شيء آخر تفعله؟

قلت له: نعم. هناك شيء آخر... انني أكتب شعرا

فصرخ وكان يعرف انني لم اكتب شعرا منذ أسابيع:معقولة؟ ريم اللواتي تقول انها تفعل الشيء ذاته!! هل كنتما بحاجة الى إعصااااااااااار لتكتبا الشعر؟

فضحكنا طويلا حتى استدرك قائلا " أخاف على بطارية (موبايلك) من النفاذ وداعا ".

وقد دون الجفال هذه التفاصيل حيث طلبت منه شهادة فكتب نصا جميلا عنوان "بعد أن ذهب الاعصار بعيدا ما الذي بقي في الذاكرة" جاء فيه "الوقت اسبوع قبل الإعصار، بريد مني إلى الأصدقاء في عمان، الخبر يقول: إعصار في بحر العرب سيضرب عمان ودول الخليجي.. الرجاء اخذ الحيطه.ملاحظه: مرفق أربع صور بالأقمار الصناعية

بعد اسبوع..
ـ ألو: معاوية كيف انتم؟ هو: نحن بخير، المياه تغطي المكان.. يا الله يا حسين.. التعاون هنا بين الناس يأخذ الصورة الأبهى.. انقطع الاتصال.

ـ ألو: زهران، كيف أنت؟ هو: أنا بخير، أمطار غزيرة فقط.. اطمئن حسين إطمئن. شكرا على إتصالك.. إنقطاع.

ـ ألو: عبد الرزاق.. ألو عبد الرزاق.. شلونك مع الإعصار؟ هو: والله قاعدين ننسف الماء، تعبنا وما باين راح يتوقف! حسب المعلومات الساعة الحادية عشر راح يصل إلى مسقط.. لم أغادر القرم، لم أبتع أي شيء.. إنقطاع.

ـ ألو: الاستاذة باسمة مرحبا، كيفكم يا رب؟ هي: أنا بخير، عالقة بالإذاعة منذ الأمس.. لكنني بخير. شكرا على اتصالك... إنقطاع.

ـ ألو: أستاذة ريم مرحبا، المدام والأولاد قلقين عليكم، كيف انت والعائلة؟ هي: نحن بخير حسين الكهرباء مقطوعة، منسوب المياه كبير وبارتفاع، بعض الإنهيارات قطعت الطرق.. بعد ربع ساعة سيضرب العاصمه.. دعاؤكم.. إنقطاع.إتصالات متلاحقة للإصدقاء كيما نطمئن عليهم.. لكن في الجانب الآخر قصص وحكايا، ترى ماذا بقي في الذاكرة!!".

اتصلات ورسائل قصيرة
كانت مكالمة الجفال الأخيرة قد نبهتني الى خطر محدق جعلني أسأل نفسي: ماذا لو نفذت البطارية؟ من أين سأشحنها؟ وكم ستقاوم هذه البطارية؟ يوما؟ يومين في أحسن الأحوال؟

خلال ذلك إتصلت القاصة باسمة الراجحي قالت لي انها لا تزال في مقر الاذاعة في الخوير وطلبت مني ان الزم البيت ولا اغادره ملقية اللوم علي لأنني رميت نصائحها التي أمطرتني بها الثلاثاء مثلما رميت نصائح صديقي بشار أبو صلاح وارشادات السلامة العامة!!

وأخيرا سألتني عن إمكانية مغادرتي (القرم) الأن؟

طمأنتها وقلت لها: طوبى لمن دخل في التجربة!!

وأضفت: كم مرة يشهد الانسان في حياته إعصارا؟ لماذا نفرط بفرصة كهذه؟ فرصة مجابهة خطر نادر الحدوث في بلداننا كخطر الاعصار؟

كم مرة...؟ وقبل أن أكمل استاذنت باسمة وقالت "آسفة إشارة المخرج تقول انني سأكون بعد لحظات على الهواء".

وماكدت أغلق الهاتف حتى إتصلت بي شقيقتي الصغرى بشرى من بغداد ناقلة لي قلق اخوتي علي وعادل ومحمد وعدنان ونضال طمأنتها وقلت لها: كل شيء يمكن السيطرة عليه لكن انقطع التيار الكهربائي فصرنا مثلكم بلا كهرباء"

واختتمتها بضحكة مجلجلة إستفزت زوجتي التي كانت منشغلة بازاحة الماء فساعدتها ثم قطع يد عون مساعدتي لها إتصال من صديقي الدكتور أحمد الدروسري من الامارات وكان قد اتصل بي قبل ذلك من دمشق وصديقي القاص وارد بدر السالم من الإمارات أيضا وكان قلقا خصوصا إنه سمع إن الإعصار بعد ان ينتهي من (تدميرنا) سيتوجه الى الامارات حسب تنبؤءات الأرصاد الجوية. لكن الإعصار غير الخطة لاحقا!!.

قلق في الجانب الآخر
قال الدكتور سعيد الزبيدي الذي إتصل من ولاية نزوى التي كانت في منأى عن الاخطر ان الصديق الشاعر علي عبدالامير اتصل به من واشنطن يسأل عني فشكرتهما واتصلت الفنانة فخرية خميس من (بوشر) قالت ان الماء قد غطى الشارع العام الملاصق لبيتها وغمر سيارتها وسيارة زوجها بالكامل!! ووصلتني لاحقا رسائل من الصديق الشاعر فضل خلف جبر والفنان رعد بركات من مشيكان وكتب الدكتور علي ثويني من ستوكهولم "قلبي عندك من تلك الأهوال، وما عندي غير التضرع للمولى أن يحفظك ويبعد عنك أي مكروه. فقد كانت أخبار مسقط مهولة.

ومكثت أراقب آخر الأخبار، وهواجسي وخوفي على السلطنة التي دائما ما أشعر قربها من خاطري، وإن أهلها لا يستحقون إلا كل الخير والرحمة السماوية واللطف الرباني ومازلت أتابع الأحداث،وعسى أن تمضي الأزمة وتعود الحياة على ما كانت عليه وأن كان ثمة حملات تطوعية لمساعدة الإدارات والمؤسسات، العمانية أو أي صيغ للمعونة أو( الفزعة)، فسوف لا أدخر جهدا وسأحضر دون تردد لمعاونة هؤلاء الأخوة الكرام حماك الله وإياهم من أي مكروه".

ومن السويد أيضا كتب الشاعر حسن الخراساني وعبدالحفيظ العدل والشاعرة خلود الفلاح من ليبيا والقاص زيد الشهيد من السماوة وعلي حسن الفواز وطاهر مسلم علوان و الفنان جبار المشهداني والأستاذ رياض المرسومي من بغداد وضياء الجبيلي من البصرة و الشاعرة خلود المعلا من الامارات والفنانة هديل كامل من دمشق والكاتبة رشا فاضل من تكريت والدكتور حاتم الصكر والشاعرة نادية مرعي من صنعاء والمخرج المسرحي قاسم زيدان من الامارات واتصل النحات أحمد البحراني من الدوحة والدكتورة وجدان الصائغ والدكتور صبري مسلم من ذمار اليمنية ومن السويد اتصل الدكتور علي ثويني الذي يحمل في قلبه مودة خاصة لمسقط والعمانيين وطمأنني الشاعر سماء عيسى على بيته وبيت الفنان والناقد التشكيلي شوكت الربيعي الذي يقع قريبا منه في الغبرة بمسقط وهي من المناطق التي صال ت بها الوديان وجالت!! وكذلك طمأنني الشاعر ابراهيم السالمي والدكتور وليد محمود خالص وأحمد الجلنداني الذي أكد إن الوضع في (سمائل) جيد وكان من المفترض أن يتوجه زميلنا في الجريدة حمدي عيسى عبدالله الى بلده الجزائر لكن توقف الطيران جعله يجلس أمام الحقائب محدقا في المجهول!! ومن بغداد إتصلت الدكتورة اخلاص الطيار ومن مكان قريب من منزلي بمسقط اتصلت الدكتورة آسيا الشمري تستغيث به لأن الماء دخل بيتها الملاصق لبيت الفنانة فخرية!!! وعاد القاص وارد بدر السالم ليتصل ثانية ويبلغني إن الماء غمر سيارة الدكتور صبيح كلش بالكامل ووصل الى النوافذ اتصلت بالدكتور صبيح فلم يجبني!!.

ضحايا عديدة
رن هاتف زوجتي. وبعد لحظات قالت للمتصل: هل أنت متأكد؟ هل اتصلتم بالطواريء؟ ماذا قالت الشرطة؟ لا تستعجلوا.. الله يعيده سالما.

سألتها: ماذا حصل؟

أجابتني: هل تتذكر الدكتور حامد صديق أخي حمد؟

أجبتها: هل حصل له مكروه؟

أجابت ودمعة تترقرق من عينيها: لقد جرفه التيار مع سيارته

قلت: لا حول ولا قوة الا بالله

كان الدكتور حامد الأستاذ الجامعي الحاصل على درجة الدكتوراه في علوم الفيزياء قد عاد من كندا الى بلاده بعيد سنوات طويلة من الغياب حاملا الكثير من الطموحات وكان يتحدث عن هذه المشاريع على مائدة العشاء منزلنا قبل أسابيع قليلة. وظل البحث عنه جاريا حتى عثرت الشرطة على جثته بعد ثلاثة أيام من البحث!!! وهو واحد من ضحايا الاعصار. 

السقوف الطائرة
تعقد الوضع والأمطار ظلت تسقط بغزارة مع هبوب قوي للرياح واتصل الشاعر عبدالوهاب الحلي الذي غادر بيته الى مزرعته قريبة من مسقط واتصل الدكتور غالب المطلبي من ولاية عبري وكذلك هاتفني نورس الطائي ثم انهالت على المسجات من رشا فاصل من تكريت وأخي عدنان من بغداد وخميس السلطي الذي كان قلقا على أهله في (صور) التي ابتدأ الاعصار ضرباته الموجعة بها فدمر الكثير من البيوت والمحلات والمنشآت وفاضت الشوارع. أما مديحة عثمان التي تعمل معي في القسم فقد قالت لي عبر (مسج) إن سقف بيتها قد طار وكانت قد غادرته. وكتبت لي ريم اللواتيا من مكان ما من مسقط انها قلقة وكذلك الشاعر سماء عيسى ثم عاد الصديق حسين الجفال يتصل ليبلغني إن الضفادع البشرية نزلت في منطقة القرم لتنقذ العديد من الغرق حسب ما ورد في الأخبار ووصلني (مسج) من الصديق الفنان نصير شمة الذي قال "عزيزي أحاول الاتصال دون جدوى وأرجو أن تكونوا بخير.أنا قلق جدا عليكم".

دموع على الهواء
وكان الصديق الكاتب المسرحي يوسف اللمكي يتصل بي بين وقت واخر من (الرستاق) التي سقطت بها أمطار بلغت عشرة اضعاف النسبة المتوقعة ولكن التيار الكهربائي كان ساريا لذا أمكنه أن يتابع ما ينقل عبر الفضائية العمانية حيث كان الزميل (خالد بن صالح الزدجالي) على الهواء يتابع مستجدات هبوب الاعصار أولا باول وينقلها لي لأعرف ما يجري وكانت الاخبار تدعو للفزع حتى انه لم يتمالك نفسه فأفلتت بضع دمعات من عينيه حاول اخفاءها تحت ورقة بيده لكنها لم تفلت من عدسة الكاميرا فلاحظها الملايين من المشاهدين الذين كانوا يتابعون مستجدات الاعصار في عواصم عديدة من العالم قلت للمكي: أمعقول هذا؟ الزدجالي صاحب خبرة طويلة في العمل الاعلامي التي تبلغ حوالي ربع قرن كيف لم يستطع السيطرة على انفعالاته وهو على الهواء؟ قال لي الزدجالي بعد انجلاء الغمة: كان الوضع فوق الوصف. كان كل شيء ينهار أمامي فجأة!! كنت قد تركت بيتي يغرق في (الحيل) ووصلت مبنى التلفزيون بشق الأنفس وكان المخرج شقيقي (ابراهيم الزدجالي) يعرف إنني لم انم الليلة التي سبقت وصول الاعصار الى مسقط حيث بدأنا بث البرنامج صباح الثلاثاء".

وأضاف "أصعب موقف أصابني بالذعر عندما طالب العقيد عبدالله الحارثي من شرطة عمان السلطانية الناس بأن يصعدوا إلى الطابق الثاني أثناء دخول الماء إلى الطابق الأول أو السطح من الطابق الأول.. هنا أصبت بالخوف والقلق ولكن حاولت أن أخفي مشاعري حتى لا يتوتر الناس... وحول اللحظة التي لا تنساها قال" اللحظة التي سمعت فيها صوت ابنتي (ماوية) وهي تصرخ بأن الطابق الأرضي للبيت قد غرق وانتقلوا للطابق الثاني وسط صراخ أخواتها وأخيها الرضيع والمؤلم بأنني لم استطع الوصول إليهم إلا اليوم التالي لصعوبة الوصول في تلك الليلة... وكان الناس يستغيثون من كل مكان وكنت متألما لمشهد انهيار بيتي الكبير عمان أمام عيني وغرق بيتي الصغير بكل أثاثه وكنت موزعا بين هذا القلق وذاك!! "فلم أتمالك نفسي وبكيت!!.

ووسط غياب شبه تام من وسائل الإعلام العربية التي كانت تغطي الحدث على إستحياء!!! قامت وسائل الإعلام العمانية بتجنيد نفسها وإستنفار كل طاقاتها من أجل تغطية هذا الحدث الكبير.من خلال الصحافة المكتوبة والمرئية والمسموعة فقد غطت الصحف الحدث قبل الإعصار وبعده وخصصت الإذاعة مساحات واسعة من بثها لتغطية الحدث ولقد ضرب التلفزيون أثناء أزمة (جونو) مثالاً رائعاً للتميز والتعامل العقلاني مع الحدث، فكان التلفزيون هو المرشد والعين والأذن للمواطن والمقيم وكان لا يبخل بالمعلومة الصحيحة على المشاهد التي كانت بالنسبة له البلسم الشافي... وقد برز أثناء تغطية هذا الحدث رجال لا يقلوا شأنا عن الجنود البواسل على أرض الواقع يتقدمهم فريق عمل متكامل من معدين ومخرجين وفنيين ومسؤولين في التلفزيون والملحمة يسطرها باقتدار المذيعين علي الجابري وعبدالله الشعيلي وخالد الزدجالي والجميل ان كل هذه التغطية وهذا الاستنفار جاءا بدون تحضير مسبق وبدون إستعداد.

فالإعصار جاء مباغتا للجميع وحين سألت الزدجالي عن التحضيرات التي سبقت البرنامج التلفزيوني (آخر مستجدات الإعصار) قال "لم يكن هناك تحضير مسبق لهذا البرنامج لكن الظرف هو الذي فرض علينا هذا وكان لزاما علينا ان نتواصل مع المشاهدين وأن نكون عينهم وأذنهم نتواصل عبر المعلومة الخاصة بالاعصار من مصادرها وفي نفس الوقت لا نثير الرعب والخوف في نفوس المواطنين والمقيمين على أرض السلطنة وأن نبعث ببعض الرسائل المهمة حتى يتجنبوا اضرار هذا الاعصار. وكانت تاتينا الافكار بدون تحضير ولكن الظرف كان يفرض علينا ان نجدد معلوماتنا ونضيف ونجتهد حسب مستجدات الحدث" وقد تابعت المستجدات أولا بأول وهذا ضاعف هذا الغياب من مسؤولية وسائل الإعلام العمانية فقامت بحشد كل طاقاتها لنقل صورة عما يجري في السلطنة خلال تلك الساعات العصيبة!!.

طوق العزلة
قلت ليوسف اللمكي حينها: قل للاخ خالد تهوين الأمر لئلا يقلق أهلنا في بغداد وأصدقاءنا في العواصم الاخرى فأكد لي إن الزدجالي يسعى الى طمأنة الناس قلت له إذن سأؤكد على هذا الامر عبر (مسج) أبعثه له لكن (المسج) لم يرسل ووجدت ان الارسال قد توقف وكان الدكتور محمد بن علي الوهيبي الرئيس التفنيذي للشركة العمانية للاتصالات قد قال "ان الشركة شكلت فرق عمل لمواجهة الاعصار (جونو) تحسبا لاي اضرار قد يخلفها ـ لا قدر الله ـ اثناء مروره على ارض السلطنة، وبخاصة لاعادة اي انقطاع في كابلات الاتصالات الهاتفية في المحطات والمقاسم الهاتفية، حتى لا تتأثر حركة الاتصالات من والى السلطنة، في اثناء هطول الأمطار الغزيرة وجريان الاودية المتوقعة على كافة مناطق السلطنة".
ذهبت الى هاتف المنزل فوجدته باردا.
اذن أحكم علينا طوق العزلة! 

المشهد الرابع: الموت يزحف على النوافذ
عندما هب الإعصار
رأيت السماء تنحني
ورؤوس الأشجار
تعانق الجذور
الموت يزحف
على النوافذ
يشير لنا بالأصابع
محييا تارة
ومتوعدا..
العيون تجحظ
وأنا...
أحبك" 

حط الغروب الثقيل باكرا بسبب تلبد السماء بالغيوم والأمطار. وهيمنت علينا حيرة صاحب الحوت وهو يرى نفسه محاطا في ثلاث ظلمات: ظلمة البحر وظلمة الليل وظلمتنا الثالثة كانت ظلمة الإعصار الذي وصفته الفنانة والكاتبة أمل بورتر في رسالة بـ(اللئيم) حيث "يعود بي هيجانه الى الاساطير القديمة والعراك السومري بين تيامات وبقية الالهة ارجو ان يكون قد صفى حساباته القديمة مع البشر وولى "لكنه لم ينته ِ من تصفية حساباته بعد!!

نظرت الى الافق وجدت الظلام قد بدأ يلفه بقماش مخيف مليء بالوحشة التي تطبق على ليل مسقط ولا تكسرها سوى أصوات سقوط الامطار بايقاع متشابه لم يتغير وهبوب رياح قوية ذكرتني برياح لم تجعلني انم يوم زرت جزيرة (مصيرة) قبل عامين ومن المفارقات إن خط سير الاعصار كان من المتوقع أن يبدأ من (مصيرة) ثم يواصل سيره الى المنطقة الشرقية وعلى هذا الاساس جرى إجلاء 90% من سكانها لكن الاعصار غير خط سيره ليهجم على صور ورأس الحد ويفتك بهما ليواصل سيره الى مسقط التي كانت تزهو بين العواصم العربية بنظافتها وجمالها واطواق الزهور التي تزين شوارعها التي عم بها الخراب وتجندلت جذوع الأشجار!! 

القراصنة قادمون من كل الجهات
على كورنيش مطرح بدت آثار إعصار (جونو) واضحة وتحطمت معظم مرافقه التجميلية والرخام الذي يغطي الممر المحاذي للكورنيش وتوقف نشاط سوق مطرح وانتشرت البرك المائية

قال لي الصديق الشاعر سيف الرحبي. الذي يعيش بمفرده.إنه ظل محاصرا بالمياه في شقته لمدة يومين لم يأكل شيئا سوى الخبز والبيض الذي وجدهما في ثلاجته المطفأة، وحتى رنين الهاتف الذي ينقل له قلق اصدقائه في اماكن عديدة من العالم توقف عن الزقزقة وساد سكون تام طغى على كل شيء. قال ان أحدهم مازحه بقوله "عنوان ديوانك الجديد الذي صدر مؤخرا عن دار النهضة العربية ببيروت هو الذي جاء بالاعصار! وكان يعني ديوانه" سألقي التحية على قراصنة ينتظرون الاعصار"وقد تكون هذه نبؤءة شاعر. يقول الرحبي في هذه المجموعة:

هذه المدينة باوقاتها الخربة المنذورة للهلاك
تنمو فيها البنايات
والأبراج كسرطانات
تفترس جسد الطبيعة وروح الجذور
ليزدهر السماسرة القادمون من كل الجهات
أهتف باسمك
أحمله كتميمة
تدفع عني هاتف الانقراض"
ولكي لا ينقرض لايجد امامه سوى ان يتساءل:
أي لعنة مخبأة بين ضلوعنا
أي صرخة يتسلقها جوعى ومقاتلون في حروب عبثية
أي كوكب يتداعى في الرأس بمثل هذا العتو والانهيار؟
أي قطار مندفع في براكين الدم
تشيعه النظرات الوجلة ليتلاشى في هباء الدخان
أي قارب يضمحل في هيجان الغروب؟" 

شعلة مبللة
وكانت للدكتور صبيح كلش الذي طلب مني اللجوء الى بيته لأنه كان يعتقد أن منطقة سكناه أكثر أمنا من منطقتنا حكاية مع (الطوفان ) حيث ذكر لي "كان كل شي عاديا واذا بسيول الماء تهجم علينا فجأة وكأنها كانت مختبئة تحت سد فكسرته وأحاطت بنا من كل مكان. وبسرعة البرق وصل مستوى الماء الى النوافذ وكان كل همي أن أنقذ لوحاتي من البلل لأن الماء سال الى المرسم وبسرعة كبيرة نجحت بالتعاون مع أسرتي في نقل كمية من اللوحات الى الطابق الأعلى وبقينا في الطابق الأعلى نراقب الماء الذي غمر السيارة وأتلف (القنفات) وكل ما طاله من أثاث البيت"

قبل هذا كنت أظن إن الماء سهلا وودودا واليفا مثل قط أبيض صغير. لكنه لم يكن كذلك كان "شعلة مبللة " كما وصفه نوفاليس

صديق آخر قال "دخل الماء بسرعة الى بيتنا والبيوت المجاورة ثم خرج ليواصل سيره ولكنه عاد محملا بأثاث البيوت ليلقيها في الشوارع التي صارت معارض تضم مختلف البضائغ المدافة بطين الخراب"

وانا أحدق في هذا الطين الناعم والنظيف والمائل الى الحمرة. والذي نصحني صديق عماني بأن أخذ منه لوضعه في حديقتنا المنزلية الصغيرة لأنه شديد الخصوبة.تذكرت الخيول التي كنا نصنعها من الطين (الحري) كما كنا نسميه في طفولتنا. كانت صناعة تلك الأشكال هواية جميلة تستهوينا نحن الذين عشنا طفولة بائسة لم نكن نجد ما نلهو به سوى الاستلقاء في أحضان (الفنون الجميلة ) وفكرت:لماذا لم يفكر نحات بأخذ عينات من هذا الطين لإقامة معرض تكون خامته تقتصر على طين الإعصار؟ 

غضب خمبابا
وتذكرت صديقي النحات عبدالحميد الزبيدي الذي يقع بيته قريبا من بيتي.قلت: لابد إنه مر من هنا وخطرت له هذه الفكرة. وتذكرت صديقي نزار الراوي الذي سافر الى إيطاليا لتنظيم معرض ومنها توجه الى القاهرة ومن هناك اتصل بي ليطمئن فأبديت له أسفي على تحطم جانب من سيارته فقال "يمعود. تروح فدوة. المهم سلامتكم" ثم بعث رسالة الى مجموعة من الأصدقاء وصلتني نسخة منها وهي "الى كل الاصدقاء في مسقط لقد كنت في روما عندما ضرب الإعصار مسقط الجميلة فافسد علي ّ نشوة نجاح معرضنا هناك واستحالت اوقاتي الى قلق متواصل لم يهدّئ منه الا اتصالي بالصديق عبد الرزاق الربيعي الذي طمأنني على الجميع ولسوء الحظ لم أتمكن من الوصول الى أي من تليفوناتكم أو عناوينكم البريدية في الأيام السابقة أرجو الرد علي بسرعة وطمأنتي عليكم... بحق. كانت فاجعة أن أرى عبر الفضائيات ـ جمال مسقط يتهشم تحت جبروت اعصار عتيد ولكن الحياة تستمر والبناء ديدن المبدعين ابداً

أتمنى لكم ولكل شئ هناك السلامة والعافية" رسائل أخرى عديدة وصلتني من اصدقاء أحباء من بينهم القاص علي السوداني من عمّان والكاتب ضياء الجبيلي من البصرة ومن الصديق مازن حنا من مشيغان وآخرين.

ومن المانيا كتب الصديق أياد الزاملي "مليون الحمد لله على سلامتك..كم قلقت عليك وأكيد قلقت عليك رشاوي ايضا اكثر مني.. ها انت تخرج من الطوفان سالما برعاية الله.. شاهدت مقاطع قصيرة من هذا الطوفان ارعبتي حقا..اكتب عن طوفان عُمان، ستردك الكثير من القصص الانسانية.. حفظك الله وحفظ عُمان وأهلها الكرام" ومن جزيرة تاروت ـ التي لاأعرف أين تكون ـ كتب لي الصديق الكاتب حسن دعبل "كنت اسأل الأصدقاء عنك ومسقط والبحر يمور كغضب خمبابا العفريت أتابع ماتكتب ويقينا أنك ستكتب، عن سنة الطبعة الثانية في ذاكرة الناس".

قرية أشباح
كانت أكثر الأماكن ضررا في مسقط ولاية (قريات) التي تبعد عن مركز مسقط أكثر من 100 كم يقول راشد البلوشي مراسل جريدتنا "الشبيبة" في (قريات) متحدثا عن حجم الدمار الذي أصابها بقوله "خلف الاعصار وراءه آثارا كبيرة حيث دمر أكثر من 90% من البنى الاساسية من المباني والمحلات التجارية ففي قرية حيل الغاف غير معالمها بالكامل فلم تعد هناك قرية ذات ظلال وارفة الاشجار ولم تعد هناك أشجار المانجو. فقد جعلها الاعصار قرية أشباح أهلها في الليل لا يعرفون مكانا ينامون فيه يسمعون صراخ الاطفال الذي حرموا من اقل خدمة و(حيل الغاف) التي كانت مرتعا للسياح والزائرين أصبحت قرية بحاجة الى من يمد اليها يد العون والمساعدة حيث وصل منسوب مياه الوادي أعلى ارتفاع له حتى غطى أعلى منارة مسجد في قرية الحيل بمعنى ان الحيل اصبحت بحيرة تسبح فيها الاغنام الميتة أما في قرية دغمر فهذه حكاية اخرى يروى لنا أهلها أن: امدادات الإغاثة مستمرة الى الولاية يتم تجميعها في مكتب والي قريات التي أصبحت مدينة مخيفة بكل ابجديات هذه الكلمة أصبحت الأسر تخاف على نفسها لا نسمع في الليل الا صراخ الاطفال.

ويضيف البلوشي "أضحت قرية (حاجر قريات) والتي تشمل السبخة واليديع والرفعة الروائح فيها لا يحتملها الانسان ولو للحظات قرية الحاجر هي الاخرى حكاية سيرويها من عاش لحظات الاعصار وستحكيها الاجيال القادمة فقد غير الاعصار معالمها ولم يعد صاحب المنزل يعرف موقع منزله ولا يعرف حدود مزرعته لقد ساوى بها الارض ولم يعد هناك حدود تفصل مزرعة عن اخرى. أصبحت ولاية قريات إحدى حكايات الف ليلة وليلة وان اختلف الزمان والمكان ولكن ستظل تحكى للآجيال القادمة عن رجل عجوز عاش أكثر من مائة عام ولم يشهد أحداثا كما شهدها في هذا الزمن يؤكد العلماء إن السلطنة تتعرض لمثل هذا الإعصار كل مائة سنة!!ـوقصة شاب آخر استطاع على ظهره انقاذ أحد عشر طفلا وقام بنقلهم الى قمة جبل".

ضربة موجعة
لقد كانت ضربة الإعصار ل(قريات) موجعة اذ قطعتها عن سائر المناطق الأخرى حيث قطع الطريق الذي يربط وادي عدي بولاية العامرات وعندما وصلت المساعدات لم تكن هناك وسيلة لتوصيل هذه المؤن سوى الطائرات العمودية التابعة لأجهزة القوات المسلحة وشرطة عمان السلطانية بعد ذلك بدأت سيارات الدفع الرباعي من السير في هذا الطريق فأصبحت المؤن تصل لكل الأهالي الذين زودتهم بكل المتطلبات الضرورية من الخيام والبطانيات والأسرة والمواد الغذائية وكميات أكبر من المياه ليس في قريات وحدها بل بسائر مناطق السلطنة حيث جرى توزيع عبوات مياه الشرب التي تم شرائها من الأمارات والمقدرة بحوالي 75 ألف عبوة على العديد من المحلات كالمحلات الكبرى والصغيرة اذ أن المياه كانت مقطوعة عن بعض المناطق في العاصمة.

واللافت هنا ان السلطنة رفضت قبول المساعدات من الدول الخليجية والعربية التي ابدت استعدادها لنجدتها لكنها رغم رفضت قبول هذه المساعدات رغم خسائرها الكبيرة التي بلغت 200 مليون دولار بسبب توقف صادرات النفط نتيجة الإعصار جونو الذي ضرب البلاد كما نقلت وكالة رويترز و إن ميناء الفحل وهو المرفأ الوحيد لصادرات النفط العمانية البالغة 650 الف برميل يوميا ومرفأ صور لتصديرالغاز الطبيعي المسال عادا يعملان بصورة طبيعية يوم السبت أي ان منشآت الطاقة في عمان توقفت ثلاثة أيام فقط خلال الاعصار وأنا أقرأ هذا الخبر قارنت بين هذه الخسائر والخسائر الجسيمة التي مني بها بلدي العراق نتيجة تخريب المنشآت النفطية وتفجير أنابيب النفط. فخسائر سلطنة عمان خلال ثلاثة ايام من توقف صادراتها النفطية بلغت هذا الرقم (200) مليون دولار رغم إن المنشآت لم يلحق بها أي ضرر كما قالت شركة تنمية نفط عمان فكم تبلغ خسائر العراق الذي يتعرض يوميا من جراء تفجير أنابيب النفط من قبل اعصار الارهاب والظلاميين!!.

عزلة  ووحشة
ماأوحش هذا الظلام الذي أحاط بمسقط!!
قالت لي صديقة "المشاهد التي رأيتها في طريقي هي الجحيم بعينه. أشعر إن الله غاضب علينا"

البعض قال "لا. الله تلطف بنا فانهى الجولة الاعصارية بسرعة ولو مكث أطول من ذلك لما بقي شيء سليم على وجه مسقط". هذا الوجه بدا مثل وجه فتاة جميلة أصابها الجدري!!

وقالت الدكتورة سعيدة بنت خاطر "لقد كان الإعصار جنونا حقيقيا لقد أمضينا أناوابني نصر وابنتي شيماء نخرج الماء الذي يتسرب من النوافذ والأبواب طوال اليوم الى فجر اليوم التالي لأن بيتي في الخوض يقع في الجهة التي تنزل منها المطر والحمد لله ان يد اللطف تدخلت فتوقف الإعصار مع أذان فجر الخميس ولو استمر لخلف كارثة أكبر بكثير".

أتذكر من أراغون قوله
تقاسمت الخبز الأسود والدمع مع الجميع
أخذت نصيبي من المرارة
وحملت حظي من الشقاء
لم تنته هذه الحرب أبدا" 

قال لي صديقي الشاعر عدنان الصائغ "من أعاصير الحروب إلى أعاصير المنافي والشتات ومن أعاصير المكائد والشتائم إلى أعاصير جونوكأن قدرك يا صديقي أن تظل المطارد دائما والعصي أبدا.. أحييك.. ولن أقلق عليك، فليس لمثلك أن يموت بإعصار الطبيعة" وقال لي الصديق حسن دعبل "من يخرج من موت الحروب... تحفظه الآلهات من موت الحياة" 

صراعات داخل بيت الطبيعة
لم يكن الموت هو الأسوأ في الموضوع
أتذكر هنا جواب (سيدوري ) صاحبة الحانة عندما ذهب جلجامش يسألها عن معنى الحياة حيث قالت له "إلى أين تسعي يا جلجامش؟

إن الحياة التي تبغي لن تجد
حينما خلقت الآلهة العظام البشر
قدرت الموت علي البشرية
استأثرت هي بالحياة
أما أنت يا جلجامش فليكن كرشك مملوءا علي الدوام
فكن فرحا مبتهجا مساءوأقم الأفراح في كل يوم من أيامك
وأرقص وألعب مساء نهار
وأجعل ثيابك نظيفة زاهية
وأغسل رأسك واستحم في الماء
ودلل الصغير الذي يمسك بيدك
وأفرح الزوجة التي بين أحضانك
وهذا هو نصيب البشرية

ان ما يؤلمني هو فكرة التدمير التي شملت كل شيء. كم سنة تحتاج الشجرة لتنبت وتمد جذورها في الأرض وتفرش أوراقها وتمد أغصانها لتحتضن الحياة بكل دفئها وجمالها.. وبعد كل هذا النمو والإزدهار. فجأة تطيح بها ريح مفاجئة!! إنه موت يشبه موت إنسان.بل أكثر قسوة. لأن الأنسان يمكن أن يهرب من عنف الطبيعة.يخبيء رأسه في جحر ما. لكن أين تختبيء الشجرة والفضاء بيتها؟ لقد بقيت الأشجار تصارع الأعصار ونحن نتفرج. تارة تطيح به. وتارة يطيح بها. ولقد إستمر هذا الصراع يوما وليلة على مسمع ومرأى من قلقنا وخوفنا!!

والحقيقة انني مهما شغلت طاقتي على التخيل فانني لا يمكن أن اتصور ان الطبيعة الجميلة يمكن أن تكون قاسية على نفسها بهذا الشكل المريع!!ويبدو انها ـ الطبيعة ـ أيضا تعيش هذه الصراعات والتناقضات. طبعا هذا كلام شعراء!! أما العلماء فلهم رأيهم اذ يرون ان لهذه الظاهرة فوائدها حيث "تؤدي الاعاصير دورا مهما في اعادة توزيع حرارة المجال الجوي في اتجاه اعماق المحيطات الباردة. ويمكنها بالتالي اعادة تدوير 15% من طاقة المجال الجوي. بحسب ما يقول ماثيو هوبر وراين سريفر من جامعة بورديو في ولاية انديانا. فالرياح القوية والدائرية الحركة التي يتسبب بها الإعصار تعمل مثل شفرات آلة الخلط (الميكسر). دافعة بمياه السطح الى اعماق المحيط. ويستنتج العالمان. في تقرير بثته وكالة رويترز قبل يومين. ان "اختلاط المياه بفعل الأعاصير قد يؤدي الى اعتدال الحرارة في المناطق المدارية. وبتبسيط أكثر فان درجة الحرارة على سطح البحر تكون مرتفعة نسبياً بسبب أشعة الشمس بينما تكون الحرارة في أعماقه منخفضة، ويمكن الاستفادة من فارق درجات الحرارة بين سطح البحر وبين عمق محدد لتوليد الطاقة الكهربائية كل هذا لم يمنحني عزاء لما انا فيه من الم  

مزامير الوحشة
وإزاء الشعور بالعزلة والوحشة والظلام الذي لم يبدده سوى ضوء شمعة صغيرة عثرت عليها زوجتي كانت قد خبأتها لمناسبة سعيدة كتبت:

على الطاولة
شمعة تضيء اتجاه الحب
تحت الطاولة
عشرات الأرجل
تهرول باتجاه الرغبة
(الى آخر النص الذي افتتحت به المشهد الأول من هذه الوقائع ووجدت ان النص انتهى سريعا وكانت بداخلي طاقة على الكتابة
هنا تذكرت أمي تذكرت قول المعري:
وأمّتني الى الأجداث أم
يعزّ علي ان سارت أمامي
مضت وقد اكتهلت فخلت اني
رضيع ما بلغت مدى الفطام ِ 

قلت: كيف سيكون حالها لو كانت على قيد الحياة؟
"كم كانت ستقلق لو كانت...!!!....
لكن
لحسن الاعصار
انه تأخر
حتى أخذها
اعصار الموت"

كانت الأم حاضرة في الأعصار ليس من خلال ماكتبت بل أيضا
من خلال ماكتب الشاعر سماء عيسى حيث قال في واحد من اجمل النصوص التي كتبت بعد إنجلاء الغمة عن مسقط:

أي إعصار إذن يقف إمام محبتك وشموخك
وأي رياح إذن تقترب منك الا لتحمل ريح الحب ودفء الله
وأي جائحة ستأتي
سوى لتنام هادئة
بين يديك
كطفلة يتيمة
أمام اتساع حضنك الابدي
كأنه لا بداية ياأم
والأرض تبتديء بك
وتنتهي اليك
كأنه
لا بداية الا من الصحراء
وهي تهب لنا
الأنبياء والرسل
كانه
لابداية الا من الجبل
وهو يحيطنا
باسرار العتمة
وسحرها الدفين
الراحلون عبر بحارك
الى السماء
عادوا اليك
المنطلقون كعباب البحر وهم ينظرون اليك
نظرة وداع
تمنوا لو تنشقوا
سماء البين
فتعود ارواحهم تتراقص
بسهولك
كملائكة الله
كانه لانهاية ياأم
ويااخت
وياحب
وياعشق
الا أمام نهديك الناضحين
بأمومة الخلق
وارتواء الارض
وسر النطف
وتشكلات الطلع
وثمر الحياة"
تميمة خضراء  

وسرت في جسدي حمى الكتابة فدونت مقاطع أخرى
حبك تميمة خضراء
من حروف
وزهر أحمر
أعلقها
على صدر حبي
* * *
حبك وقاية
من العواصف
التي تقتلع
أشجار الغابات
لتزرعها
في بساتين حبي
* * *
حبك وصفة طبية
ضد الموت الزؤام
الذي لا يقاوم
عنفوان حبي
* * *
حبك ريح منعشة
تهب من جهة البحر
لتنبت
زهرة حبي
حبك فنار
يرشد السفن التي ضلت
في محيطات حبي
* * *
حبك
حكاية
يرويها سندباد
جاب الأقمار المرصوفة
بالكلمات الكريمة
ليصل
جزيرة حبي  

وكتبت نصا آخر:
"عندما هب الاعصار
رأيت السماء تنحني
ورؤوس الأشجار
تعانق الجذور
الموت يزحف
على النوافذ
يشير لنا بالأصابع
محييا تارة
ومتوعدا..
العيون تجحظ
وأنا...
أحبك"

ماالذي يجعلني اكتب عن الحب في تلك الساعات الرهيبة؟ لا أعرف ألأنه نقيض الموت؟. أهو التشبث بالحياة؟ ربما وربما أيضا انه آخر شراع لنا نلجأ اليه عندما تهب العاصفة
... ولكن على من تقرأ مزاميرك يا داود؟ لا أنترنت ولا هاتف ولا.. ولا.. 

ومع ذلك لابد أن أكتب:

لا تخافي علي ّ
من نفخات الأعاصير
وفيضانات الأودية
والأمطار المرّة
* * *
لا تخافي عليّ
من الحروب الدائرة رحاها
في السماء السابعة
ومن حجارة الطير
* * *
لا تخافي عليّ من الصواعق
والغياب الأبدي للهواء الطلق
الذي بدأ ينفد من رئة الشجرة
لا تخافي عليّ
من السحاب الثقال
* * *
لا تخافي
فقلبي مترع بالعواصف
منذ أن طوقته ب(طوق الحمامة )
منذ ان....
....
أليس حبك
أقوى اعصار قوّض مدني الآمنة!!؟ 

وبين حين وآخر كانت تصلني (مسجات) من صديقي الشاعر حسن المطروشي الذي تزامن هبوب الإعصار مع تلبيته لدعوة وجهها المركز العربي السويسري (غاليري الأرض) الذي يديره الصديق الشاعر علي الشلاه. للمشاركة في مهرجان المتنبي في زيورخ وكنت أطمئنه مدركا شعور الإنسان عندما يتعرض وطنه الى خطر وهو خارجه ـ قبل خروجي من بغداد كنت قد شهدت حرب الخليج الأولى والثانية وحين قامت الحرب الثالثة التي انتهت بسقوط بغداد في 9/4/2003 كنت أتابع وقائع الحرب من خلال الفضائيات. كان المشهد أقسى وأمر فعندما كنا جنودا كنا نسمع أصوات القذائف ونرى أين تسقط ثم نواصل حياتنا العادية. لكن في الحرب الأخيرة. وكنت أتابع تفاصيلها أمام التلفزيون في مسقط لم اكن أعرف أين سقطت القذيفة؟ ومن قتلت؟ فكان الرعب مضاعفا تذكرت هذا الشعور وأنا أقرأ (مسجات) أخي الشاعر المطروشي.

ـ  قالت القاصة هدى الجهورية: "سأتحدث عن الإعصار (جونو) كوني كنت في دولة الإمارات العربية المتحدة وقت حدوثه وهو ذلك الشعور حيث ترقب ألم الآخرين عن بعد وأن لاتستطيع لمسه بأصبعك فيبدو الوجع أكثر وخزا فمكثت أرقب مروره المخيف عبر الشاشات.. كنت محبطة لأني لا أستطيع فعل أي شيء ـ ومثلهما كان الصديق صالح الفهدي من لندن ويعقوب البوسعيدي من الاسكندرية.

وقد صور هذا الشعور الصديق المطروشي في شهادته التي قال فيها" هذه المرة تأتيني الأخبار عن بلدي و أنا في سويسرا، أن عمان تتعرض لإعصار صاعق يضرب شواطئها الحبيبة من رأس الحد مرورا بمختلف المدن الوادعة التي هجعت على ساعد البحر منذ قرون، إلى شناص في الركن القصي من سويداء القلب.. إن عمان تقف بكل بهائها و ابتهالاتها و صلواتها أمام جبروت الطبيعة الغاضبة.  كانت الصدمة هائلة.. تمنيت حينها أن أكون فوق تراب وطني، أعايشه الخوف و الرضى، و أشاطره الألم و الإيمان، و أبادله الحب وأتعلم منه الثبات و العطاء حتى في لحظات الشدة.

كانت الصدمة هائلة.. لم أفكر حينها بكتاب (لم أكن أعلم أن الناس يطاردون الأعاصير، وحقائق أخرى مذهلة حول الطقس العاصف) لمؤلفه كات بيتي، و لم أكن أفكر في أسماء الأعاصير التي غالبا ما تأخذ صيغة المؤنث مثل كاميليا وجنيس وإلينا وبرتا ودوللي وإيزيدورا وجوزفين ونانا وسالي وفيكي  ليلي وكاترينا.

كانت الصدمة هائلة.. لم أفكر في إعصار 1780 الكبير الذي يعد أكثر أعاصير الأطلسي فتكا في التاريخ، والذي لحقت أضراره بالعديد من المناطق مثل ليسر أنتيلليس و فلوريدا و جورجيا و خلف حوالي 22000 قتيل.

كانت الصدمة هائلة.. كنت أفكر في (الجائحة).. الإعصار الذي ضرب السلطنة في سبعينيات القرن المنصرم، و الذي شهدته شخصيا.. استفاقت في ذاكرتي مناظر النخيل المترنحة بطلحها النضيد، ومشاهد عرشاننا البسيطة يخترقها الماء و يرمي بها في غياهب المجهول.. واستعدت في مخيلتي صورة الطفل المبتهج بالجائحة التي كسرت عادات الحارة ونثرت ثمار المانجو والجوافة و(البيذام) فوق الأرض، بدلا من التسلق إليها في الظهيرة حين يغط الناس في النوم.. كما استعدت في ذهني مشهد الناس وهم يعيشون في قلب رجل واحد و يتقاسمون ضرورات الحياة بكل رضى و محبة و صبر في وجه المحنة.. واستعدت صورة خيامنا وعرشاننا وهي تقف من جديد قبالة الشاطئ، وأشرعتنا التي أبحرت من جديد. إلا أن الصدمة هذه المرة كانت أكثر هولا و بشاعة و رعبا.. فلم أعد أنظر للكارثة من محيط بيئتي الضيقة، و إنما كنت أراها عبر فضائيات العالم و هي تمطرني بمشاهد الخراب و صور الدمار الذي حل ببلدي. رأيت الجسور تهوي، و الطرق تتقطع، و الحياة يصيبها الشلل بشكل كامل.. و رأيت صديقي الأزلي و شيخي البحر الذي علمني الشعر و الحكمة، رأيته غاضبا يزأر بكل جنون.. رأيت أمي عمان حزينة!

ومما زادني ألما انقطاع الاتصالات مما أسهم لدي في خلق حالة من القلق، حيث كنت معزولا حتى من التحدث لأفراد أسرتي.. و كم كانت سعادتي غامرة حينما جاءتني رسالة قصيرة من التشكيلية مريم الزدجالي تقول فيها (بلادي بخير و الشمس تشرق على عمان من جديد).

العالم ليس بخير
أحيانا أنظر الى النصف الممتليء من الكأس!!

فرغم كل هذه المساوئ التي سببها الإعصار وأعني قطع الكهرباء وفرض العزلة علي ـ فقد اتيحت لي بغياب الهاتف والانترنت فرصة الجلوس مع نفسي والتحاور مع الذات التي انقطعت عن محاورتها بفعل التواجد الكثيف للآخرين من خلال لقاءاتي بهم وتواصلي معهم وإضطراري للمكوث أمام التليفزيون لمتابعة أخبار العراق والنقاشات الدائرة حول الشأن العراقي!

وهي نقاشات أصبحت مملة لا يخرج منها المتحاورون بنتيجة تذكر فالكل يجادل منطلقا من فكرة محددة ثم يواصل الجدال مع الآخر الذي يحمل فكرة مخالفة ويستمر الجدال حتى يتعب الطرفان ويسكتان ويظن كل منهما انه انتصر على الآخر! بهذا الخصوص تكلم الدكتور علي الوردي ذات يوم في قاعة (ابن النديم) عام 1987م.

كان صوت الريح يعول في الخارج!!
وكانت الأفكار تتصارع في رأسي
وسرعان ماأشعر بالضجر
برغم كل تلك (الحسنات) لانقطاع الكهرباء التي ذكرتها الا ان شعورا هيمن علي َ شبيها بشعور من يطرد من جنة!!
حينها شعرت بأن العالم ليس بخير
وأنا كذلك لست بخير 

المشهد الخامس: يا هول ما أبصرت عيني!!!
المدن مثل الأشجار
تظل خضراء
حتى عندما تصطدم
بصدر عاصفة
* * *
مثل الأشجار...
عيونها محفورة
في وجه السماء
التي أزهرت
على راحتيها
* * *
و مثل الأشجار
تفتح ذراعيها
للأمطار
والضوء
والعصافير العاشقة
* * *
و لكنها عند مواجهة أقدارها
تمتلك صلابة قلب جبل
وحين تتعرض الى برد مفاجيء
تتوعك
وتسعل
وتصاب بالحمى
* * *
ولأنك حانية
لم تحتملي أن تكسر الريح العنيفة ظهر شجرة
تأوي طيور الحب
لم تحتملي
أن يبلل الطين وجه الأرصفة
لم تحتملي
أن يغيب القمر عن الشوارع
بدون اعتذار
* * *
لكنك...
مثل الأشجار
تقف على أقدامها
كلما رمت السماء في طريقها
حجرأ
تقفين...
لتمشطي شعر الصباحات المشرقة 

كانت حرارة الجو الخانقة قد بدأت تجعلني أتنفس بصعوبة.قلت لزوجتي:لنفتح نوافذ غرفة المجلس ثم ننام فيها فنوافذها كبيرة ويمكن لها أن تسمح بدخول كمية كبيرة من الهواء. وافقتني على رأيي فاستلقينا على السجادة واضعين رأسينا بمواجهة النافذة التي تلوح منها رؤوس الاشجار وهي تتلاوى مع الاعصار قلت لها: تخيلي ان النافذة شاشة سينمائية وانك تتابعين فيلما عن الاشجار التي تصارع الاعصار نيابة عنا تابعي مشهد الصراع ولاحظي كيف تصارع العناصر الحية جنون الطبيعة التي تحاول ان تسلبها حياتها لكنها تظل تقاوم الموت.. والجنون.. بكل بسالة..

يقول شكسبير في مسرحية (العاصفة )
الأبراج التي تلبس الغيم كالعمائم
والقصور المترفة
والمعابد الوقورة
الكوكب الضخم نفسه
بلى. الأرض وكل ما عليها سوف يتلاشى كل ذلك
ولا يترك أثرا وراءه
نحن من نسيج كنسيج الأحلام
وحياتنا التافهة
سوف يغمرها النوم

"ثم أدركت ان زوجتي قد نامت" ـ "ان سر الحياة. سر الانسان يكمن في النوم فالنوم هو ما يجعل الحياة ممكنة. لي اليقين اننا اذا حرمنا البشر من النوم ستكون هناك مذابح غير مسبوقة وسينتهي التاريخ. سوران العدد 27 من مجلة نزوى" ـ  كان التعب قد غمر زوجتي بسيولة ووديانه. فنامت. لكن في أماكن أخرى من السلطنة أناسا لم يذقوا تلك الليلة طعم النوم قالت الدكتورة سعيدة خاطر "بقيت طوال الليل أزيح الماء من داخل البيت الى ان أذَن مؤذن صلاة الفجر.. هدأ المطر فجاة. وكأن الله صفح عن عباده وأزال عنهم البلاء وشملهم برحمته الواسعة"

في قرية الحيل في (قريات) التي تقع بين البحر والوادي لذا فقد تضررت كثيرا من الاعصار. تحدث مجموعة من الأهلي المتضررين من جراء الاعصار الى راشد البلوشي حيث قال أحدهم "لم أكن اتوقع أن أنجو رأيت الموت بعيني لولا ارادة الله صرت أجرى من منزل الى منزل والوادي يلاحقني حتى وصلت الى قمة جبل"

، ويقول آخر "لم نتوقع أن يصل منسوب الوادي الى هذا المستوى وكنا نستقبل أهلنا من قرية دغمر نأويهم معنا إلا تفاجأنا بغرق الجبل وفي لحظة حاولنا أن نركض ونلجأ الى منزل قريب في الطابق الثالث فغمرالماء الدور الثاني ونصف الدور الثالث ولجأنا الى سطح المنزل.

وكذا الحال في قرية ضباب التي تقع على الجانب الشرقي من ولاية قريات ويمر عليها طريق قريات صور الجديد وتبعد عن مركز الولاية قرابة 35 كيلو مترا تحيط بها الجبال من جهات الغرب والجنوب والشمال ويحتضنها البحر من جهة الشرق حيث أجتاحت مياه الوادي بجريانها الشديد حلة الديرة بأكملها وتهدمت معظم المنازل بها واقتلعت معظم النخيل التي تم غرسها منذ قدم الأزمنة وأصبحت هذه القرية خراب حيث نزل واد قضى وسحق أشجارا يقدر عمرها بمئات السنين وأصبحت القرية الآن غير صالحة للسكن. 

عندما تتحول الأبواب الى قوارب نجاة!!!
وروى مسعود بن سالم السعدي الذي عاش الأحداث أولاً بأول لمراسل جريدة الشبيبة في قريات قائلا: كنت من المتابعين لإعصار "جونو" وهو يتكون في بحر العرب عبر الأنترنت، ومن أوائل من حذر الأهالي في المنطقة قبل وقوع الإعصار في منطقتنا ضباب وكنت على دراية بأن البحر سوف يتخطى الحاجز الفاصل بيننا وبينه وبأن الوادي سوف يدخل البلد حتى أنني أعددت العدة لتصوير كل الأحداث بالفيديو وفعلا تم لي ذلك ووثقت كل ما جرى في 3 أشرطة فيديو. ولكن بصراحة الأمر فاق كل التوقعات والتصورات وهذا ما حدث: انهمرت الأمطار بغزارة شديدة منذ يوم الثلاثاء وأجلينا الأهل إلى مناطق آمنة، ونحن من ضمن القليل الذين آثروا البقاء في منازلهم رغم علمنا بخطورة الوضع حيث كنت أنا وأبي وأثنين من أخوتي بدأ الوادي بالدخول إلى القرية في تمام الساعة 4.30 فجراً واستمر منسوبه بالارتفاع بشكل مخيف جداً حتى بدأ في تحطيم جدران المنزل (الحوش)، ومن ثم دخل إلى المنزل من كل الجهات وأخذ في تحطيم الأبواب ثم النوافذ وغمرت المياه المنزل من الداخل ولم يبقى لنا مكان نلجأ فيه إلا الدرج وبقينا في الدرج لمدة لا تقل عن 3 ساعات لجأنا خلالها إلى الله بالدعاء وسلمنا الأمر إليه. وبسبب استمرار الأمطار الغزيرة ارتفع منسوب الوادي كثيراً حتى بدأ بجرف بعض الغرف من المنزل عندها أدركنا أنه لا مجال للبقاء في منزلنا وإلا جرفنا الوادي مع ما جرف، عندها جاءت أحد الأخوة فكرة وقمنا بتنفيذها سريعاً وهي الخروج من المنزل في لوح خشبي ولكن من أين لنا بهذا اللوح في تلك الظروف الصعبة، قمنا بكسر باب من أبواب الغرف المجاورة واستخدمناه كقارب نجاة حيث انتقلنا خلالها من منزلنا إلى منزل آخر أكثر أمناً وذلك عبر السطوح ولله الحمد والمنة تمت الفكرة ونجونا والفضل يعود إلى الله أولاً وأخيراً. 

دمار شامل!!!
عندها انتهت حدة الأعصار وانخفض جريان الوادي فخرجنا لنستطلع الوضع فإذا بنا نفاجأبما نرى، دمار في كل أرجاء القرية منازل جرفت بالكامل وأخرى مهدمة، مزارع مسحت من الأرض "يقول عبدالله بن ثاني الغزيلي لقد شعرت بالخوف من هول ما رأيت بأم عيني لا سيما عندما دخل الوادي القرية وبدأ يحطم منازلها وعندما بدأت مياه الوادي في الأنخفاض نزلنا نتفقد منازلنا ولقد أذهلنا الموقف منازل قد اختفت عن وجه الأرض ولم يبق من معالمها شيء وآبار المياه مسحت ولم نعد نعرف مواقعها وقد أعتمدنا في مياه الشرب على المعونات التي قدمت لنا وقد عانينا من هول ما رأينا.

وقال راشد بن سعيد الغداني لقد أذهلنا الموقف فعندما خرجنا من منازلنا لم نأخذ كل ما فيها بل أخذنا ما نحتاجه فقط وعندما عدنا إليها بعد يومين وجدناها خراباً حتى أغنامنا وجدناها في البحر قد نفقت ولأول مرة منذ خلقت أعايش هذا النوع من الفيضانات فقد ضبت علينا ضباب من كل الجهات فأصبح الوادي من خلفنا ويميننا وشمالنا واليحر من أمنامنا ولم نجد سبيلاً إلى الفرار بأنفسنا والحمد لله على كل حال ولم أكن أتوقع أن منسوب المياه سوف يزيد في ارتفاعه عنما جرى خلال العام الماضي وقد اصبحت الآن منازلنا غير صالحة للسكن.

10 أمتار ماء!!!
أما راشد بن خميس السباعي يصف الأعصار بأنه أوقع أضرارا كبيرة في القرية لم يكن يتوقعها احد ويقول لأول مرة أشاهد منسوب مياه هذا الوادي تصل إلى ارتفاع أكثر من 10 أمتار وتغطي المنازل والمزارع بالقرية ونظرا لما حدث فأنا أقترح أن ينقل سكان هذه القرية وتستغل الحكومة موقعها بإنشاء سد لتخزين المياه المتدفقة من وادي العربيين وتحيط بالقرية من كل الجهات عندما تلتقي بمياه البحر وتصبح جزيرة بين رحمة الله عزوجل..وعن هذه القرية نقدم آيات الشكر والعرفان إلى مولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم على الفضل الكبير الذي يحيطنا به ونحن على أرض الغبيراء ونسأل الله عزوجل أن يحفظ بلادنا وقائده بأذنه أنه سميع مجيب. 

لا عاصم اليوم من غضب الإعصار
أسرة أخرى في قرية الحيل والكلام لراشد البلوشي ـ تروي قصة خروجهم من فتحة التكييف بعدما غمر المنزل بالماء فأخذ يخرج منها واحد تلو الآخر ولجأوا الى قمة جبل" وفي العامرات يقول عبدالله بن عيسى الرواحي "لم أكن أتوقع ما حدث كان اعصارا مدمرا فاق التوقعات فبالرغم من بعد منزلنا عن الوادي إلا أن قوة نزول الوادي جرف كل شيء فدخل المنزل وغمر بالمياه، فما كان منا إلا قمنا بالفرار الى أعلى الجبل" وفي الوقت الذي أصبح به لا عاصم من غضب الاعصار فان الجبال أنقذت حياة الكثيرين من موت محقق ولكن الجبال لم تنقذ الأثاث والممتلكات التي صارت تيارات الماء الجارف تلهو بها!! ثم ترميها بلا حياة.

وسوى الجبال هناك أماكن كثيرة عصمت الناس من خطر الماء حيث تعرضت بعض الدور السكنية للانهيار الجزئي أو الكلي بفعل تيارات المياه التي غمرتها وهذا جعل العديد من الناس يتركون منازلهم فقامت الجهات الحكومية المختلفة بتوفير أماكن لإيواء هؤلاء المتضررين شملت المدارس والمجمعات الرياضية وغيرها من الأماكن التي يمكن أن توفر من خلالها الخدمات ومن هذه الاماكن مجمع السلطان قابوس الرياضي ببوشرالذي استطاع ان يوفر مكانا مناسبا لـ900 متضرر من الاعصار.

وتحولت جامعة السلطان قابوس من صرح علمي ضخم الى ملجأ للهاربين من الأودية حيث قامت بإيواء حوالي 2500 شخص من المتضررين في المجمعات السكنية التابعة لها وقامت بتقديم كافة الخدمات الضرورية لهم، كما قام مستشفى جامعة السلطان قابوس بدور حيوي في استقبال الحالات الطارئة وتوفير الخدمات الصحية لهم وكذلك توفير الخدمات الصحية للمنكوبين واللاجئين في الجامعة، كما قال لدكتور حمد بن سليمان السالمي نائب رئيس الجامعة مع ذلك لم تسلم الجامعة من أضرار أصابت السكن الجامعي قال لي صديقي الدكتور وليد محمود خالص ان قوة اندفاع الماء كسرت زجاج نوافذ منزله واندفعت بقوة لتنقع كتبه ومخطوطاته.

دمار ورعب
المدارس أيضا آوت الكثير من العوائل التي تضررت من الاعصار حيث توقفت الامتحانات ـ وأعلنت وسائل الاعلام أسماء المدارس التي خصصت لهذا الغرض قبل هبوب الاعصار وحسب المناطق حددتها وزارة التربية والتعليم في كل ولاية من الولايات لتكون مقرا لإيواء من تلزمه الحاجة ليترك منزله وتم تجهيزها بكافة التجهيزات، واستخدامها لهذا الغرض قالت لي طبيبة عراقية انها أشرفت على علاج 600عائلة لجأت الى مدرسة عاصم بن سلطان ببوشر نزحت من العذيبة ـ وفي ولاية بدبد تم ايواء (73) أسرة لجات إلى المدارس القريبة وآوت الكثير من الأسر القريبة من الأودية منهم أبناء الولاية ومنهم من تقطعت بهم السبل من محافظة مسقط والمنطقة الداخلية بإعتبار ان ولاية بدبد عنق الزجاجة بالنسبة لولايات المنطقة الداخلية حيث تلتقي في ولاية بدبد (12) واد وأكبرها وادي الولاية وادي فنجاء الذي يشبه كنهر النيل لشدة جريانه وقوته من الضفة إلى الضفة،يقول صالح فايز الرواحي " شهدت ولاية بدبد دماراً من جراء أعصار جونو لم تشهده الولاية طوال عقود من الزمن حيث دمرت الطرق وتهدمت بعض المنازل ولآخر جرفتها الأودية وتهدمت أكثر من (20) منزلاً فيما تضررت مزارع المواطنين من الأودية ووقعت الكثير من أشجار النخيل وهناك مناطق في ولاية بدبد تأثرت تماماً بالأودية وشلت الحركة فيها مثل منطقة نفعاء والحوطة وسعال وحلة السوق.

يقول حمد بن السيد بن علي الجميلي أحد الذين يقطنون في أحد المدارس لقد شاهدت شيئا فظيعا لم أتوقعه في حياتي ما كنت أتصور إن هذا الإعصار يحدث في بلدنا. هذا الإعصار من أقوى الأعاصير التي شهدتها في حياتي فقد دمرت الأودية منزلي بأكمله دخلت المياه داخل المنزل وخربت الأثاث والمواد الغذائية والإستهلاكية وخرجنا بملابس النوم وأصبحنا بلا مأوى كما إن المنزل أصبح مصدر خوف ورعب لاولادي وأسرتي فكلما رأينا السحب في السماء او سمعنا عن واد قادم هرعنا منه إلى منزل آمن حتى تزيل المحنة وهذه المرة هرعنا إلى مسجد بعيد عن الوادي حتى شاهدنا أحد المواطنين وأدخلنا منزله تلك الليلة وفي اليوم الثاني ذهبنا إلى مدرسة الإيثار لنكون ضمن الأسر التي يتم إيواؤها.

"ويقول سعيد السيابي" لقد تلقينا نبأ الإعصار عبر وسائل الإعلام المرئية والمسموعة وعلى الفور أخذنا أولادنا إلى مكان آمن وعند جريان الأودية شاهدت منزلي يتهدم بصورة تامة ولحقت الأضرار أيضاً بأشجار النخيل حيث سقطت أكثر من (50) نخلة وغيرها من الأشجار".

مطر.. مطر
كان نومي متقطعا بسبب شدة صخب الريح في الخارج واصطدامها برؤوس الأشجار وعنف رشقات المطر ـ سألني مرة أحد النقاد:لماذا المطر في بعض نصوصك علامة شر وليس خير؟ قلت له: لم أقصد هذا. انما هناك رعب داخلي من المطر أملته سنوات الطفولة القاسية حيث فتحت عيني على بيت طيني سقفه كان مبنيا من جذوع الأشجار الضخمة ومغطى من الأعلى بالرماد والتبن وكان نزول المطر يعني بالنسبة لسكان هذا البيت كارثة حقيقية. هذه الكارثة لا تتوقف عند سقوط المطر المداف بالرماد والتبن على وجوهنا ونحن نيام بل.اذا كان شديدا. فقد تسقط الأعمدة على رؤوسنا وكم من ليلة نهضنا في منتصف الليل فزعين لنهرب من هذا الموت المحقق الذي قتل العديد من الناس وأذكر واحدا من أقربائي انهارت الأعمدة على رأسه فمات فوراً!!!.

وردتني معلومة من أخي الدكتور حاتم الربيعي بعد اطلاعه على هذه الفقرة "خوفك من المطر مطابق لما نقله لنا القران فكلمة المطر جاءت بمعنى الغضب يقول تعالى {وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين} (الشعراء: 173) اما عند ذكر الرحمة فيقول {وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتي إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتي لعلكم تذكرون} ‏ (‏الأعراف‏: 57)‏ حتى إن الشهيد د رعد المولى رحمه الله  كان يصر على استخدام وصف (المياه النازلة) بدل المطر عند الحديث في مواضيع زراعية ويقول: لماذا نذكر الغضب بدل الرحمة؟ وقد وضعناها في حينها ببعض اطاريح الطلبة" نهضت عند صلاة الفجر لأؤدي الفريضة ولأجد جسدي قد تخشب تذكرت ليلة الاربعاء من الأسبوع الذي سبق هبوب الاعصار حيث ذهبت مع عدد من الاصدقاء في الصحراء الشرقية حيث أمضيت الليل بطوله أتأمل زرقة السماء وضياء النجوم مستدعيا من الذاكرة نومي على سطح منزلنا في (الحرية) عند مساءات الصيف الجميلة كانت الطبيعة تعزف عند رأسي لحنها الجميل الودود. قبل أن تتحول الى وحش كاسر!!ـ نمت في الصحراء على بساط متقشف لكن صدري كان قد امتلأ بالهواء البارد والنشوة وشتان بين ليلة الصحراء الجميلة وليلة الاعصار التي بدت طويلة لا تنتهي يقول دانتي "لا حزن أعظم من تذكر لحظات كنا فيها سعداء".

أستثقلت هذا الحزن رغم ان مارسيل بروست قال "الحزن يطور العقل " فهل جاء الاعصار بكل هذا الحزن ليطور العقول؟ حالة الاعمار السريعة التي شهدناها في السلطنة تؤكد ان المصائب والمحن تطور قدرات الانسان الذاتية كثيرا ومنها عقله!!  قالت احداهن "شغلنا الإعصار عن همومنا الأنثوية التي لا تنتهي!". 

شمس حانية
واصلت نومي بعد أداء الصلاة وكان صوت المطر بدأ يضعف. قبل الساعة السابعة فتحت عيني لأجد زوجتي مبتسمة تقول لي: "خلاص توقف المطر".

قلت لها: أحقا ما تقولين؟

وقبل أن أستمع الى جوابها أصغيت الى السكون الذي ملأ المكان فلم أعد أسمع أصوات رشقات المطر بالنوافذ ولا هبوب الرياح.. نظرت من النافذة.. كانت الشمس قد بدأت تظهر من وراء السحب.. كانت أجمل شمس رأيتها في حياتي. نظيفة وحانية أرسلت اشعة خجولة الى الشجيرات الصغيرة التي داسها الاعصار بقدميه القويتين وما لبثت أن سحبتها لتحبسها خلف جدران الغيوم السوداء التي لاتزال تنذر بشر آخر!!.

لم أكن مصدقا ماأرى. هل حقا عادت الطبيعة الى وداعتها القديمة؟

ـ قال لي أحد رجال الشرطة بعد ساعتين من تلك الدهشة: لقد توجه الاعصار الى ايران ومع ذلك فالانذار مستمر وقد يعود ثانية لذا فالتأهب أحمر ـ  قسم التأهب الى عدة درجات أشدها الأحمر ـ  "أعلن مصدر مسؤول باللجنة الوطنية للدفاع المدني مساء الجمعة عن خفض حالة التأهب التي اعلنت في السلطنة جراء الاعصار المداري(جونو) من اللون الاحمر الى اللون البرتقالي. وأكد المصدر انه بذلك تكون الاوضاع قد بدأت تعود الى طبيعتها تدريجيا".  سألت زوجتي: والمياه ألم تتسرب الى البيت؟

قالت:وجدت تسربا قليلا فقمت بإزالته
قلت لزوجتي: لنتناول الفطور ثم نقوم بجولة ففي المدينة لنشاهد آثار الإعصار فوافقتني على الفور.

مشاهد تدمي القلب!
قالت: ولكن كيف نخرج السيارة والماء يحاصر البيت من كل مكان؟

قلت لها: لا حاجة لنا بالسيارة لنرتدي الأحذية الرياضية ونذهب مشيا.

خرجت دون أحلق ذقني كما إعتدت في ماكنة الحلاقة الكهربائية ولأن الماء مقطوع اغسلت ببقايا الماء الموجود في خزان الماء. وكنت قد ذكرت ان الكهرباء عصب الحياة في منطقة حارة جدا كمنطقة الخليج لكن بعد انقطاع الماء عرفت ان الماء هو عصب الحياة او هو عصب مهم في هذه المنطقة فارتفاع درجات الحرارة لا يطفئوه الا الماء. فكثرة التعرق في المناطق الحارة يجعل الشخص يحتاج الى الاغتسال مرتين في اليوم على الأقل وكذلك سرعة اتساخ الملابس.

نظرت الى (الموبايل) الذي كان يملأ كفي الأيسر كلما انتقلت من مكان لآخر ساكنا بلا حراك ولا أي نفس!! كان ليس أكثر من قطعة حديد لا قيمة لها: ثم خرجت كان مشهدا يدمي القلب. حينها تذكرت أبياتا بديعة لأبي تمام يرثي بها أصغر أولاده، ويقول:

لله الحاظه والموت يكسرها
كأن أجفانه سكرى من الوسن ِ
يرد أنفاسه كرها وتعطفها
يد المنية عطف الريح للغصن ِ
يا هول ماأبصرت عيني وما سمعت
أذني فلا بقيت عيني ولا أذني 

فيا هول مارأيت من مشاهد مؤلمة!!! 

مصائب قوم
أول مشهد من مشاهد الخراب تمثل في سقوط شجرة كبيرة كانت على بعد أمتار قليلة من بيتنا فحزنت كثيرا ولكن حزني تضاعف حين رأيت صفا من الأشجار تجندل على امتداد الشارع الموازي لحديقة القرم الطبيعية بشكل عشوائي وان الاطيان والأوساخ وأغصان الأشجار قد علقت في أعمدة الكهرباء وتحطمت لوحات الاعلانات وعانقت الطين والماء اذ اختفى وجه الأرض ـ كانت أثاث البيوت قد خرجت الى الشوارع شاهدت العديد من الكراسي و(القنفات)والأسرّة وأواني الطبخ وملابس المحلات المعروضة للبيع بماركاتها قد ديفت بالطين ورماها تيار الماء بعد أن سحبها من البيوت والمحلات على الشوارع.

بعض المحلات تقيأت محتوياتها الى الخارج بعد أن كسر تيار الماء الجارف أبوابها هل يمكن للقصيدة أن تصور هذا المشهد؟ تساءلت مع نفسي.
وحاولت فدونت:

صخب الريح
يدق أجراس البيانوهات التي ثقب صوتها المطر
وبدون ان تسلم على أهلها
تدخل الوديان
أقفال المنازل
تاكل الأغطية
تصطاف في بياض الثلاجات
تمتص ضوء المصابيح
والصور القديمة
في أرشيف شجرة العائلة
تضع على الأحذية المستعملة
أكاليل نباتات الزينة
ثم تخرج الى العراء
لتتقيأ
في النهارات المبللة
أحشاء الاعصار  

شاهدت العديد من العمال الآسيويين يلتقطون هذه الحاجيات المدافة بالطين حيث يغسلونها في المياه للإستفادة منها! ومصائب قوم عند قوم فوائد!.

وظهرت أزمة نفاد الوقود في بعض المناطق. البعض قال ربما إن مصفاة نفط عمان قد تعرضت لأذى بسبب الاعصار لكن نفى هذا المسؤولون مؤكدين "ان مصفاة نفط عمان تعمل بكفاءة فى سبيل توفير الاحتياجات اللازمة من وقود السيارات وأن الوقود متوفر لديها هذه الاونة وان مشكلة عدم توفر الوقود فى المحطات لا تعود الى عدم وجوده حيث أن هناك احتياطى كاف من البترول لكن المشكلة تكمن فى عدم وصول الناقلات الى المصفاة لنقل الوقود بسبب تعطل بعض الطرق نتيجة الإعصار.

انهيارات جبلية
فالطرق تعرضت للخسف والهدم جراء الإعصار وكان مشهد إنخساف (شارع الحب) الذي يقع على شاطيء القرم وتحف به الأشجار والعشاق على امتداد الشارع الذي يبلغ طوله حوالي كيلومترا مؤثرا جدا حيث إمتد تيار الماء الى تحت الشارع ليسحب كل ما تحته مما أدى الى انخساف أمتار عديدة من الشارع وعبور الماء الى الجهة الأخرى وتعرض طريق العامرات الى انهيارات جبلية عزلت المنطقة ووادي حطاط عن مسقط وصار من الصعب ايصال المساعدات الى أهالي تلك المناطق التي يمثل لها هذا الشارع شريانا مهما يغذيها ولم يكن أمام المسؤولين حل سوى الاستعانة بطائرات الهليكوبتر لنقل الأشخاص المحتاجين الى علاج الى مستشفى خولة قال لي مدرس عربي انتقل عن طريق الهليكوبتر ان الطائرة الواحدة تتسع لحوالي عشرة أشخاص وان الطريق يستمر عشر دقائق وتنطلق الطائرة من مستشفى ابن سينا وتهبط في مستشفى خولة وبالعكس وغالبية الركاب من المرضى وكبار السن ويتم نقلهم بعد التنسيق بين المستشفيين.

وتعرض طريق (القرم/ دارسيت) لانهيار جزئي مما خلق زحمة شديدة في الحركة المرورية في شارع السلطان قابوس الذي يمتد من السيب وحتى مسقط. وكذلك طريق (غلاء/ المستشفى السلطاني) وهذان الجسران أثرا على انسيابية الحركة المرورية وكثرة الازدحام. بعض المؤن استنفدت خاصة الخبز والذي كان يباع في طوابير وكذلك ماء الشرب والغسيل.

قالت امراة من سكنة وادي حطاط "انقطاع الطريق والكهرباء والماء هو الذي آذانا لأن الطعام فسد وصرنا نعتمد على الأطعمة التي تصل الينا عن طريق طائرات الهليكوبترو وما أن تصل حتى يهرع الجميع اليها" أما الماء فقد كان البعض يشرب من مياه الوديان ويغتسلون تكاد ان تغرق امرأة ذهبت بصحبة ابنتيها يوم الجمعة الى (وادي عدي) يغسلن الملابس. وبالكاد تم انقاذ الأم ـ ولم يعلمن مقدار عمق هذا الوادي!! الذي اضطر احد العمال الآسيويين الى ربط عائلته بحبل طويل وغليظ وكان شقيقه في الطرف الثاني من الحبل فلم يسيطر وغرق!! وقد تكون الانحدارات حادة فخلال جولتي صباح الخميس قرب مجمع العريمي بالقرم وضعت قدمي التي غمرها الماء حتى بلغ الركبة فصاح بي شرطي كان منتبها لسيري "توقف"...بعد خطوتين يكون عمق الماء مترا ونصف فغيرت خط سيري!!ـ 

أطلال مدينة
وكان المشهد الأكثر انتشاراهو مشهد السيارات المحطمة المعفرة بالأطيان. المهشمة النوافذ. وبعض هذه السيارات كانت مكومة فوق بعض ذلك لأن التيارالعنيف للماء سحبها من البيوت والقاها على جوانب الشوارع والأرصفة والساحات.

وبعد جولة دامت أكثر من ثلاث ساعات أدركت انني لم أكن أسير على شوارع مسقط الجميلة بل أمشي داخل أطلال مدينة داستها أقدام اعصار (جونو) الثقيلة وخلفت شوارع تئن خيل لي ان بغداد أنّت مثلها بعد دخول القوات الامريكية لكن المدن العريقة تنهض من المحن كما تنهض العنقاء من بين الرماد.

لقد عادت الكهرباء في بعض المناطق بعد يوم من رحيل الاعصار.

ومن ثم عاد الماء الا في بعض المناطق ودبت الحرارة في الهواتف الثابتة والنقالة.

وصباح الجمعة ذهبت الى الجريدة وكان أول شيء فعلته فتحت بريدي الألكتروني.

...وجدت (101) رسالة وكانت أولى الرسائل من أخي الدكتور حاتم من بكين والكاتبة رشا فاضل من تكريت والشاعرفضل خلف جبر من مشيغان ومن الشاعرة السورية فرات اسبر زوجة صديقي المخرج المسرحي فاروق صبري من اوكلاند والدكتور طاهر مسلم من بغداد وحسن الخرساني من السويد والقاصة السعودية بلقيس الملحم بالاضافة الى رسائل أخرى عديدة من أماكن متفرقة وظلت الرسائل مستمرة وكان آخرها من المخرج السينمائي هادي ماهود والشاعر جواد الحطاب والكاتب المسرحي قاسم مطرود والشاعرة نجاة كريم. 

رياح (جونو) تهب على البصرة!
قد قضى الله أن يؤلفنا اُلجر حُ وأن نلتقى على أشجانه
كلما أنَّ بالعراق جريح لمس الشرقُ جنبَه في عمانه
رددت مع نفسي هذين البيتين المعروفين اللذين يعبران عن حقيقة جوهرية هي:

ان الأمة تتحد عند المصائب والصعاب ولقد جاء (اعصار جونو) ليؤكد هذه الحقيقة للجميع عبر ادلة كثيرة تجسدت في هذا التلاحم الأخوي ازاء البلوى!! فالجرح الذي أصاب عمان أصاب جميع الأمة مثلما عبر الشاعر وعندما يكون الجرح في عمان فان الأنين يأتي من العراق مثلما تئن عمان يوميا لأوجاع العراق.

يقول الشاعر منذر عبدالحر من دمشق "كارثة إعصار غونو المفاجئة غرست فينا أشجار القلق على أخوتنا واصدقائنا واهلنا في عمان الهادئة الهانئة الحالمة الامينة. وربما قد تلقت بميزاتها هذه حسد المدن الاخرى عليها.والله لقد شعرنا بالوجع والالم وكأن بغداد او البصرة او احدى مدن العراق الغالية قد ضربت. وتذكرنا ويلاتنا وفصول الخراب التي عانيناها لاسيما نحن ابناء البصرة التي شهدت حروبا وبلايا وكوارث. وتحملت قنابل وصواريخ وموتا جماعيا وعزلة وعوزا وفقرا وآلاما".

هذه المشاعر تعبر عن حب اخ عربي للسلطنة وأهلها واعتزازه بها. وقد كانت مشاعر الأخوة العرب من أصدقائنا خلال الإعصار وبعده كانت فياضة وهي مشاعر حقيقية وصادقة تنبع من القلب تقول الكاتبة رشا فاضل "ترقبت مع الكثيرين خلال الايام القليلة الماضية اعصار غونو الذي اجتاح سواحل سلطنة عمان والجهود الاستثنائية التي قام بها المسؤولون بكافة الاختصاصات..وفي الحقيقة لم اكن قد اخذت الامر على محمل الجد حتى وانأ أرى حالة الاستنفار لكل طاقات السلطنة ومؤسساتها ومسؤوليها الذين تحدثوا مطولاعن استعداداتهم لمواجهة الإعصار وكأنهم يتحدثون عن حرب وشيكة..عادت اليّ تلك الايام والسنوات التي تأبى ان تفارق الذاكرة حين كنا نستعد للحرب..، كل هذه الذكريات الصعبة اخذني اليها ترقبي لهذا الاعصار الذي جاء اخيرا يوزع الدمار فوق الشوارع الانيقة والمدن والقرى والناس الآمنة.

"وقال الفنان نصير شمه" كنت خلال ساعات الإعصار قلقا جدا على أهلنا العمانيين وكانت قلوبنا معكم وقد حاولت الاتصال مرارا وتكرارا ببعضهم لكن الاتصالات متوقفة ولم يبق امامنا سوى التوجه الى الله بالدعاء ليحفظ السلطنة من كل سوء "وأضاف" أنا على استعداد لاقامة حفلة موسيقية في مسقط مساهمة مني في رفع الروح المعنوية للشعب العماني وهو يتجاوز محنة الإعصار.

عنف الطبيعة
ومن دمشق قالت الفنانة هديل كامل "بكثير من الاسى نتابع اخبار مسقط الحبيبة... هذه المدينة الهادئة التي يستمد أهلها من جمالها جمالا في رقي الطباع والخلق... كيف للطبيعة أن تشاكسها بهذا العنف..حماها الله وحمى اهلها من كل مكروه... إننا في نفس الوقت الذي نتمنى فيه السلامة لاهالينا في مسقط نكبر فيهم روح التكاتف واللحمة التي تقويهم على المصائب... وتخفف من اثارها...وتصبرهم على ماقدره الله... وفي ذات الوقت... نقول لهم... قلوبنا وعواطفنا معكم... أخوتكم العراقيون أحزنهم هذا المصاب... ويدعون الله خالصين أن تمر بسلام وقد مرت باذنه تعالى... السلامة السلامة... اعصار غونو... ذهب بلا عودة... ولم يخلف سوى تازركم الجميل... ومحبتكم التي ستعمر البلاد كما اعتمرت قلوبكم تحياتي الصادقة لأهل عمان ودعواتي المستمرة". ومن المنامة قال الناقد البحريني جعفر حسن "حمدا لله على سلامة مسقط من خطر الاعصار الجامح في قبة الريح، لكننا إننا نحتاج لكل هذا الماء في جزيرة العرب، جعلها الله أمطار خير وبركة، المهم ألا يكون هناك إصابات بين السكان، أما المباني فالعوض ممكن والعمانيون قادرون على اعادة بناء ما خرب الاعصار".

إتصالات كثيرة وردتنا قالت كلاما مشابها وكلها تؤكد أن الأمة متحدة وجدانيا وروحيا وان افراحنا واحدة وأتراحنا واحدة وان المصيبة التي تقع لبلد عربي فانها تصيب الجميع وهكذا فان الريح العنيفة التي هبت على بيت في قريات هبت على بيت في أقاصي البصرة!!. 

ضيف ثقيل
وكان النشاط الإغاثي للهيئة العمانية للأعمال الخيرية في تقديم المساعدات الإنسانية واضحا حيث تركز نشاطها في محافظة مسقط بعد أن أكملت برنامجها في المناطق الاخرى وخاصة الشرقية والوسطى حيث قدمت الهيئة موادا إغاثية متنوعة يقدر وزنها بـ 77 طنا شملت المواد الغذائية من 19 نوعا ولوازم إغاثية مكونة من 5 مواد. وقد لقي قرار رفض المساعدات قبولا من قبل معظم العمانيين الذين رأوا ان الركون الى المساعدات الدولية يغذي روح الاتكالية في النفوس ويقلل من الاعتماد على الذات وقد رأينا في الشوارع عشرات الشباب العماني يقومون بتنظيف الشوارع من الأطيان والمياه والأوساخ وجذوع الأشجار التي صرعها الاعصار. وهذه الصورة لم يتوقع أن يراها البعض في دولة خليجية يعتقد الكثيرون ان سكانها ينعمون بكل وسائل الرفاهية والاسترخاء!! وبدأت توعية الناس الى ضرورة ترشيد استخدام المياه و لتخفيف العبء على شبكات ومحطات الصرف الصحي لحين الانتهاء من أعمال الصيانة وكذلك ترشيد استهلاك الكهرباء تفاديا لأي انقطاعات نتيجة زيادة الأحمال على الخطوط الكهربائية.

لقد ظهر الإنتماء للمكان في أروع تجلياته في السلطنة وحب العماني للمساعدة من خلال المشاركة في حملات التبرع للمتضررين. 

تقوية روح الانتماء
"لا بد لكل مجتمع انساني من عدو يساعده على رص صفوفه وإثبات ذاته" كما يقول المستعرب الفرنسي ريشار جاكوبون.واعصار جونو مثّل عدوا للعمانيين مكنهم من رصّ صفوفهم وتقوية روح الانتماء للوطن.

قال الشاعر سعيد الصقلاوي "التعاون يصنع الكثير ويحقق الكثير ويحيي الامم والعزيمة طريق القوة وطريق تحقيق الطموح وعمان بحمد الله تمتلك من المقومات الكثير سواء من الموارد الطبيعية او البشرية او الرصيد التاريخي والانسانسي الذي يجعلها حاضرة ومتجاوزة كل الأعاصير من أمثال جونو وأشباهه".

وبدأت الحكومة بوضع خطط مستقبلية كانشاء السدود ـ عقدت لجنة اعادة اصلاح البنية الاساسية المتضررة من جراء الاعصار المداري (جونو) الأاربعاء 13.6اجتماعها الثاني برئاسة معالي احمد بن عبدالنبي مكي وزير الاقتصاد الوطني نائب رئيس مجلس الشؤون المالية وموارد الطاقة. وقال معاليه في تصريح لوكالة الانباء العمانية بأن اللجنة اعتمدت عددا من الخطط والبرامج التنفيذية لمواجهة مخاطر الفيضانات ومنها انشاء ثلاثة سدود لمجرى وادي عدي لحماية المنطقة من الفيضانات بتكلفة تقديرية تصل الى 24 مليون و150 الف ريال عماني. وأضاف معاليه إن اللجنة اعتمدت كذلك دراسة إقامة سدود على الفليج بولاية صور ونقل قرية اللجينة بنفس الولاية بالإضافة الى اعتماد الدراسات اللازمة لاقامة سدود في الاحباش العليا لوادي سمائل ورفع كفاءة سد وادي الخوض من سد للتغذية الجوفية الى سد للحماية كما اعتمدت المبالغ اللازمة لدراسة اقامة 7 سدود للمياه في منطقة الباطنة.

وأشار معاليه الى أن اللجنة اقرت خطة بلدية مسقط حول إعداد دراسة لدرء مخاطر الفيضانات في محافظة مسقط من خلال اقامة السدود والجسور لمجاري الاودية بدلا من العبارات والعمل على تعميق مجارى الأودية ووضع الحمايات الاسمنتية اللازمة وإقامة قنوات لتصريف المياه في الطرق الرئيسية والفرعية والاحياء السكنية بالاضافة الى العمل على دراسة رفع كفاءة السدود الحالية بمحافظة مسقط.

وهذه لم تكن لولا الاعصار الذي دق جرس الانذار خصوصا ان هناك مخاوف من تكرار مثل هذه الأعاصير مستقبلا لا سمح الله ـ في المنطقة بسبب تزايد ظاهرة الاحتباس الحراري كما يؤكد العلماء. وأكد معالي أحمد بن عبدالنبي مكي إن اللجنة ستكون في حالة انعقاد دائم من اجل العمل على اصلاح البنية الاساسية المتضررة من الإعصار" وهي أضرار ليست بالقليلة حيث أعلنت وزارة الاقتصاد الوطني مساء السبت الموافق16.6أن التقديرات الاولية لحجم أضرار الإعصار المداري ( جونو) الذي تعرضت له السلطنة مؤخرا تقدر بنحو مليار و250 مليون الى مليار ونصف المليار ريال عماني مشيرة الى الاضرار التي لحقت بالبنية الاساسية وحدها قد تصل الى مليار ريا ل عماني. واكدت أن إجمالي عدد النازحين خلال فترة الإعصار قد بلغ 67120 نازحا وقد تبقى حتى الأن 3150 نازحا يتواجدون في ولاية قريات ومطرح وبوشر عبر 5 مراكزللأيواء حيث اوضح معالي الفريق مالك بن سليمان المعمري بأن هناك العدد المتبقي من النازحين ما زالوا يعيشون في مراكز الايواء التي تم تخصيصها لمن تضررت مساكنهم بالكامل والبعض الاخر ينتظر حتى يتم إيصال الكهرباء والمياه لمناطقهم والحكومة ستوفر لهم كافة متطلباتهم حتى يقرروا العودة لمساكنهم.

وقال المفتش العام للشرطة والجمارك خلال إجتماع اللجنة بحضور الأعضاء أن عدد الوفيات بلغ 49 وفاة فيما بلغ عدد المفقودين 27 مفقودا وبلغ عدد العمانيين الذين توفوا خلال الإعصار 13 عمانيا حيث بلغ عدد الإناث 11 أنثى و2 من الذكور. بالاضافة الى 29 شخصا توفوا من الأجانب المقيمين على أرض السلطنة.  

ذاكرة من خلال النص
وقال الإعلامي الصديق خالد بن صالح الزدجالي بقوله "رغم ضخامة الفاجعة وهول الموقف وحجم الدمار إلا أننا هزمنا ( جونو ) بعزيمتنا وإرادتنا القوية وإصرارنا على البناء والتعمير من جديد وإعادة البسمة إلى كل مكان وصلت إليه يد ( جونو )... (جونو) مر من هنا وأبى إلا أن يترك آثاره باقية إلى اليوم وقد كان قاسياً هذا الضيف أثناء مروره في بعض المناطق ولكنه وهذا هو الأروع ترك خلفه ملحمة وطنية رائعة يحاول الجميع فيها بأن يتحدى الزمن ويختصر الوقت ليعود كل شيء على ما كان عليه قبل مرور هذا الضيف الثقيل.

"وقال الكاتب السعودي حسين الجفال" يبقى الوطن سالما معافا طالما بقي الإنسان سالما، للإصدقاء الكتاب الذين غمرونا بكرمهم عندما توقفنا بعمان تحية حب ودعاء بأن يجعل الله بلدهم آمنا... وأنهم كبار جدا مهما غضبت الطبيعة بتعاضدهم وحبهم واصرارهم على الحياة. والسؤال الذي أطرحه على نفسي يوميا: هل ان ما كتب عن الإعصار من نتاجات شعرية كانت بمستوى الحدث؟ أحاول أحيانا تأجيل الإجابة ريثما تظهر نتاجات جديدة تقوم على الـتأمل لا الانفعال السريع المباشر ـ وفي هذا السياق سألني الصديق الشاعر معاوية الرواحي عندما زارني في الجريدة وقرأ نصا كان على طاولتي لأحد الشعراء: هل هذا شعر؟ أجبته: مضى إعصار جونو تاركا آثارا لن تزول بسرعة وما بين يديك بعض من هذه الآثار!! ـ خصوصا إن الشعراء المعروفين في الساحة العمانية لم نقرأ لهم شيئا بعد نص الشاعر سماء عيسى " في رحيل جونو" الذي القاه في أمسية أقيمت ضمن فعالية (كلنا عمان) التي أقامتها الجمعية العمانية للكتاب والأدباء في الجمعية العمانية للفنون التشكيلية يوم الأحد 24 يونيو ونص آخر القاه الشاعر طالب المعمري في الأامسية نفسها من بين الإستثناءات القليلة!! ـ ربما الشعراء المعروفون لايزالون يطبخون أعاصيرهم الشعرية على نار هادئة!!

وأعود الى تساؤل الجفال "لو كنت قاصا، روائيا، شاعرا، كيف يمر هذا الإعصار دون أن يمر بالمنجز الإبداعي والذاكرة من خلال نص"؟

ترى كم أم انتظرت أبناءها خلف الأبواب؟ كم أب أخذه القلق في تأمين سلامة عائلته؟ حالة الصراع بين الحب والخوف.. كيف يمكن الكتابة عنها!؟  وأنا اضع القلم جانبا وصلتني رسالة تقول: أيها الأحبة، ذهب البأس وعاد الآمان لعمان بفضل قلوبكم التي حفتنا بالدعاء، أختكم فاطمة الشيدي. 

انتهى في 16 / 6 / 2007 مسقط