سؤال الحكاية في الرواية المغربية

الحبيب الدائم ربي

يفترض أي محفل سردي وجود حكاية وجوبا. فمهما تعددت مقصديات السارد، وهو يقوم بفعل الحكي، فإن تشييد حكاية يبقى على رأس أولوياته الواعية واللاواعية. وبما أن الرواية جنس سردي، فإن الحكاية، وبقوة السرد، لازم من لوازمها. بيْدَ أن هذه البداهة قد تجد، أحيانا، ما يعكر صفوها على صعيد المنجز النصي، لسبب بسيط هو أن الأدب عموما، والرواية على التخصيص، يتنافى (ان) والبداهات. ومعناه أنه (ما) غير منضبط (ين)، باستمرار، للترسيمات النظرية المتعالية والنهائية. هذا عدا كون ممكنات التناول السردي للحكاية، وصيغ الخطاب التي تسمح بها الكتابة الروائية غير محدودة بسقف ولا معدودة برقم. من ثم فإن السبل الحكائية في الرواية قد تتباين بتباين أساليب الكتابة واتجاهاتها.

والواقع أن سؤال الحكاية في الرواية هو، بمعنى من المعاني، سؤال تجنيسها. بل لعل الحدّ بين الرواية واللارواية، بظننا، هو ذاته بين الحكاية واللاحكاية فيها. وما اللاحكاية في الرواية سوى انحراف خارج التخوم الأجناسية في كتابة عبرية مخترقة للحدود التقليدية بين أشكال التعبير ذات السند اللغوي المكتوب. غير أنه انحراف (سفـَر) لايقطع، في العادة، خط الرجعة مع الحكاية(ومع الرواية). ومعلوم أن هذا الخروج، بين الحين والحين، عن الحكاية في الرواية هو تحصيل حاصل، كأي خروج عن القانون العام في الواقع اليومي للناس، أو في صيرورة الطبيعة حتى. لهذا قبقدر ما يبدو لاطبيعيا فإنه وليد الطبيعة أساسا. ولئن كان الامتثال لقواعد الحكاية في صيغتها الموباسانية (نسبة إلى الكاتب الفرنسي غي موباسان) أو في منحاها التيموري (نسبة إلى الكاتب المصري محمود تيمور) قد ظل بمثابة المرجع الرئيس في التاريخ الكوني للرواية، فإن الانزياح عن هذه القواعد ـ باعتقادنا ـ هو الذي وسم سيرورة الرواية المغربية (في طبعتيها العربية والفرنسية) عبر تاريخها القصير (حتى بالقياس إلى تاريخ الرواية المشرقية)، ما لم نقل إن وجود حكاية "نموذجية" في هذه الرواية، مذ وجدتْ، كان ومايزال أقرب إلى الاستثناء منه إلى القاعدة. غير أنه لابد هنا من التمييز بين انتفاء الحكاية في الرواية وبين العبث بالحكاية فيها. فالفعل الأول فعلُ يتهدد أجناسية الكتابة الروائية، فيما يؤشر الفعل الثاني إلى حكي بصيغ أخرى، أي أننا، معه، إزاء التجريب المحايث لخصوصية الكتابة (الروائية)، من جهة، في مقابل "التخريب" (أو الخرق) باعتباره قيمة هدمية في لوغارتيم الجماليات النوعية للنصوص المفتوحة، من جهة أخرى. كالتقابل بين أن تكون الرواية رواية أو لاتكون، الذي وجد لنفسه وسْما يقف بين الكون والفساد(بالمعنى الصوفي والفلسفي)، في خيمياء متعارضة أطلق عليها "اللارواية". وهو المخرج الملتبس الذي سيختاره كتاب قصيدة النثر، بدورهم، لتوصيف "هجنة" تجاربهم المراوحة بين شفيري الشعر والنثر.

ولاشك أن المتأمل في المتن الروائي المغربي سيلاحظ حضورا لافتا للنموذجين معا: المجرّب والمخرّب. ومعناه أن الرواية ذات الحكاية التقليدية تكاد تكون نادرة في منجزنا النصي(المتواضع كميا) الذي ماانفك يتنامى في السنين القليلة الأخيرة. ولعل السؤال المطروح في هذا السياق هو: ما موقع الحكاية/ اللاحكاية في الرواية المغربية؟ بل هل يمكن الحديث، دونما خوف من تنافٍ، عن حكاية مكتملة في الرواية المغربية؟ بل ما حكاية الرواية المغربية أصلا؟

ماخلا روايات محمد عزيز الحبابي وأحمد عبد السلام البقالي وعبد الهادي بوطالب وعبد الكريم غلاب ومبارك ربيع وأحمد عبد السلام البقالي وخناثة بنونة ومحمد زفزاف فإن النصوص المؤرخة لسيرة البدايات تكاد تبدو مضمرة الحكايا أو هي من دون حكايا تقريبا. وما عدا الروايات التي أنجزها كتاب خاضوا في الإبداع الروائي من خارج التخصصات الأدبية الصرف فإن روايات العشرين سنة الأخيرة هي أيضا مضمرة الحكايا أو من دون حكايا تقريبا. وليس في الانضباط لقوانين شجر السلالة والنوع والجنس أو في خرقها أي حكم قيمي، قد يطري أو يشين، وإنما هو مجرد توصيف ـ منا ـ يقتضيه الاستشكال حول الموضوع. ولو أن التعميم بهذه الكيفية قد يفتقر إلى ما يكفي من الصرامة المطلوبة في مزعم يحتاج إلى كذا بينات. علما بأن التوقف عند النصوص المختلفة للتدليل قد لا يعدم، بدوره، مغامز وملامز لكونه مهما عدّد الأمثلة ونوّع يبقى انتقائيا ومحدودا. ولأنه ما من بديل فإن الاستقراء كان الطريق ـ الشائك والخاطئ في بعض المرات ـ لتقدم العلوم وتطور الأبحاث.

إن المفارقات الزمنية من استباقات واسترجاعات وتلخيصات ومشهديات وتوازيات و... رهانات لامناص منها للحكي. والحكاية "النموذجية" بهذا المعنى، أي الحكاية التي تتفادى مثل هذه النتوءات، ليست نموذجية تماما. لأنها مهما حاولت لن تفلح في عدم قطع خيط الحكي في مكان ما ولحظة ما. لهذا فهي محض نقطة مرجعية افتراضية تمثل درجة صفر للحكي، قد لا تتحقق في الواقع النصي(النصوصي) إلا من قبيل المجاز النقدي.

يورد تودوروف في كتابه "شعرية النثر" حكاية تعود إلى القرن الخامس قبل الميلاد، حيث شجَرَ عراك بين شخصين. وحين مثلا أمام السلطات، ومن غير شهود، فقد احتكم القضاة إلى المنطق السردي للوقائع كما رواها الخصمان لا إلى الحقيقة. واعتُبر المذنب منهما هو الأقل إقناعا، بغض النظر عن مطابقة الإقناع اللغوي والحكائي لمقتضى الحال، أو تطابق العدالة للحق من عدمه. ولعل البلاغة في ما رواه تودوروف ـ نكاية في أفلاطون الذي ساءته عدالة الحكي هذه ـ تكمن في كون الاحتمالية والمماثلة والمحاكاة ليست مرادفة للواقع ولا مطابقة له على الدوام. وما يغري بالتشاكل هو تقنيات القص لا القصة الخام، البناء الحكائي لا متن الحكاية. وعليه فالعنصر الإقناعي في حكاية الرواية المغربية ظل، باستمرار، عنصرا باهتا، قياسا إلى ما هو عليه في الرواية العربية في مصر أو لبنان أو سوريا أو العراق. إذ لم يوجد لدينا نجيب محفوظ ولا سهيل إدريس ولا حنا مينه ولا جبرا إبراهيم جبرا ولا عبد الرحمن منيف. إننا نتحدث هنا عن إقناعية السارد لا المؤلف (كما حدد محافله جاب لنتفلت في خطاطته السردية المعروفة)، والنفي هنا لا علاقة له بالتفاضل الفني والأدبي بين كتاب المشرق وكتاب المغرب الأقصى. فتشظية الحكاية أو تشتيتها أو ضعف توظيف الموتيفات اللاحمة لمنطق الحكي جعلت الرواية المغربية "مرْقعة حكي"، وتلفيقا حكائيا لا رواية حكاية.

ولعل نقاد الرواية المغربية، ومعدّي بيبليوغرافياتها، في تسامحهم الحكائي، قد أقحموا ضمن متنها ما ليس من الرواية في شيء. وكل رواية لاحكاية فيها ـ هي بلغة ابن عربي ـ لايعول عليها حكائيا. فإذا كانت "الزاوية" (1942) للتهامي الوزاني، وهي فيما نعتقد أقرب إلى المنقبة، بداية مفترضة للرواية المغربية، فإنها من هذا المنطلق "رواية وقائع" أكثر منها رواية متن حكائي منتظم في نسيج عضوي. بل إن "في الطفولة" (1957) لعبد المجيد بنجلون التي اعتبرت "بداية حقيقية" فإنها، ومن غير جدال، سيرة ذاتية؛ الناظم فيها هو السارد الحاكي لا الحكاية. فهي جَمّاعة حكايات من غير حبكة ترهن السرد لغايات سردية مفيدة. ورغم أن ارتباط نشأة الرواية بالمد النضالي والتحرري الذي كان يفترض حكاية قوية فيها، فإن النصوص الممثلة لهذه البدايات كانت غائضة الحكاية والماء معا. ولم تكن روايات بدايات الاستقلال بأحسن حال حكائي بغض النظر عما طبع المرحلة ـ إيديولوجيا ـ من طفح إيديولوجي. إذ سرعان ما حلت "سوسيولوجيا الشكل" محل "سوسيولوجيا المضمون" حسب تعبير عبد الله العروي، الذي لم يكن، من جهته، استثناء حكائيا. والبقية الباقية من الروائيين والمحسوبين عليها ظلوا تجريبيين أو تخريبيين.

والتجريب كان في الرواية وما يزال في شق أساس منه بحثا عن تشكل أقصى للحكاية من منطلق نظري، في الغالب، لا لاستجابة جمالية وفنية تمليها التجربة الشخصية والفنية. مما فاقم من التضحية بالحكاية على مذبح الجنوح الروائي. لربما يكون مبرر هذا التوجه أن اغلب كتاب الرواية هم نقادها وأغلب نقادها هم أساتذة جامعيون مفتونون بقراءاتهم للنظريات النقدية الغربية أكثر منهم روائيون، فكانت الرواية عندهم ملاذا تكميليا لا ختبار ممكنات النظرية وتطبيقاتها. لقد طوروا الدرس النقدي الذي وجد بغيته في النماذج النصية"المتطرفة" عن الصراط العروضي الحكائي المستقيم. وعلى جلال مسعاهم هذا وقيمة كتاباتهم فإن ضريبة الحكاية كانت فادحة في رواياتهم وروايات طلبتهم ومريديهم. وبحكم مقولات" الحداثة" والتحديث،المفصولة عن أسيقتها الشارطة، صارت "روايات اللاشيء" في الريبيرتوار المغربي، أطغى من "روايات الشيء" إن جاز التعبير. لتجد الرواية ـ بانصرافهما عن الحكاية ـ نفسها في منغلق، ما لم نقل في مأزق حقيقي. لولا تداركات تنبه إليها الأساتذة الماهدون ـ النقاد كالعادة ـ في خطاباتهم وإبداعاتهم، ستربك أوراق الرواية المغربية، من جديد، وتجعلها تعيد رسم قدرها السيزيفي حيث للحكاية منها نصيب، ولتشكلات المبنى والمعني نصيب ثان. إلا أنها، وفي كل مرة، تبدو كما لو كانت محكومة بإملاءات من خارج الهم الروائي. وهذا ما ضاعف من حراجة وضعها الفني والحكائي، فقط علينا أن ندرك أن هذه الحراجة توشك أن تكون "خصوصية فنية" مغربية دالة.

ومع ذلك فقد قيض للرواية المغربية أن تجد، وسط المنفى الحكائي، حكائين فعليين (نفكر هنا في مهندسي الحكايات الروائية كعبد الكريم غلاب ومحمد شكري ومحمد زفزاف وخناثة بنونة ورفيقة الطبيعة (زينب فهمي) وأحمد الصفريوي وإدريس الشرايبي، وبعض من نصوص الطاهر بنجلون ومحمد برادة...) سيما وأنه إلى جانب هذه الأسماء التي صار لها موطئ قدم تحت شمس الكتابة الروائية، هناك عينة من الكتاب شغلهم الانكتاب والكتابة في آن، نقصد محاكاة الرواية للواقع مع تمثل للأسس النظرية (عبد الحميد الغرباوي، محمد صوف، بوهوش ياسين، عبد الحق سرحان، يوسف فاضل، عبد الكريم جويطي، شعيب حليفي، محمد أسليم، فؤاد العروي، الحبيب الدائم ربي،...) وأسماء أخرى شكلت موجة لاحقة (أحمد الويزي، حسن رياض، حسن نجمي، أحمد البوزيدي، وفاء مليح، زهرة رميج، زهور كرام، خديجة مروازي، العياشي ثابت، عبد العزيز الراشدي، حتى لا نذكر سوى عينة من كتاب الحكاية والرواية) كما سيدخل على الخط في السنين الأخيرة كتاب من خارج الدائرة الضيقة للأدب (بنسالم حميش، أحمد التوفيق، محمد الأشعري، أحمد بهير، نور الدين وحيد، عبد الحي المودن، بهاء الطود، أحمد الكبيري، فاتحة مرشيد ...) ليعيدوا للحكاية في الرواية بهجتها وتسلطنها. لا من زاوية أنهم البديل الروائي وإنما من زاوية كونهم أعادوا رسم خارطة المشهد الروائي مركزين على الحكاية كغائب كبير في متننا المغربي. ولا ريب أن عدم الاستلطاف بين السينمائيين والروائيين بالمغرب قد يجد حجيته، إلى جانب ذرائع أخرى، في خفة الحكاية التي لا تحتمل (سينمائيا على الأقل). علما بأن هذا الحكم لا يجد سنده إلا في فهم وذائقة مخصوصين للرواية وللسينما في آن.

علينا ألا ننساق مع وهم غياب تام للحكاية في الرواية المغربية. فالحكاية كانت وما تزال حاضرة فيها على الدوام، إلا أنها، وبحسب تعبير ميلان كونديرا، موجودة، أو قد توجد في مكان آخر. لقد انتقلت الحكاية إذن من حكاية للبطل (السارد ـ الشخصية) إلى حكاية للكتابة. فانطلاقا من خطابات واصفة محايثة ألفينا عددا من النصوص المؤثرة في مشهدنا السردي تكتب سيرها الخاصة بنفسها، ما لم نقل حكايات حكايتها. فالمقاصد والنوايا والتصاميم الفنية التي كانت مجرد مطبخ سري للكتـّاب ماعادت مطابخ ولا أسرارا. وفكرة التعاقد بين الكاتب وقارئه (قرائه) التي بلورها بجلاء أندريه جيد، وكتاب الرواية الجديدة بفرنسا، عبر عمليات التقوير وتكسير الإيهام ورفع عنصر التشويق، عرّت المضمرات الخبيئة وفضحت التلبيسات والتقنيات.

فالمتلقى الذي كان دوره هو تمتين أواصر التشاكل والتماثل بين الواقع والحكاية بات عليه أن يعمل ـ كما عمل الكاتب ـ على ضرب خيار أي إيهام تماثلي بين الصورة والمرآة، بين الحقيقة من الدرجة الثانية (الواقع) والحقيقة من الدرجة الثالثة (الأدب والفن) وفق تصور أفلاطون. لقد أريد له أن يكون شريكا في إرباك الخطط وفضح تكنيكات الكتابة. بل أن يكون شريكا كاملا في البحث عن الحكاية المفقودة بعد طمر معالمها عن قصد أو عن غير قصد. ولم يقف الناقد، هو أيضا، على الحياد، إذ وجدناه يساهم بدوره في تحبيذ هذا النزوع "اللاحكائي"، وينحاز إلى رواية "اللاحكاية"، لكنه ـ وياللمفارقة ـ سرعان ما يعمد أثناء تحليل النصوص الروائية إلى إعادة بناء المتن الحكائي كما يفترضه بين الأنقاض السردية لا كما تعرضه الروايات. وهذا السعي الملتبس وراء السراب الحكائي، قد يتحول في بعض الحالات حكاية عن ضوء الحكاية الهارب. وكلما غامت الحكاية في مستوى من مستويات المتن الروائي ظهرت في مستوى آخر.. أو على الأصح طفت حكاية حكاية أخرى مختلفة... إنها حكاية كتابة الرواية المغربية ضمن هذه الرواية.  


مبدع وناقد