الرواية المغربية لحظات وحصائل

تأطير نظري

محمد زهير

إشارة أولى:
الرواية التي أعنيها في هذا التأطير، هي الرواية المغربية المكتوبة باللغة العربية، والمرتبطة نشأتها الأولى، بالتحولات العاصفة في المغرب الحديث، خاصة في النصف الأول من القرن العشرين، حيث نشأت هذه الرواية. وكانت نشأتها في حد ذاتها، تطورا وانعطافا في حقل الأدب المغربي، وفي شرطه الثقافي والتاريخي. وتلت تلك النشأة تطورات وانعطافات أخرى، دالة على أن الإنتاج الروائي المغربي، رغم عمره القصير، لم يستقر في لحظة بعينها، وأنه، في نصوصه المبدعة خاصة، تطور كيفيا. وفي عموم نصوصه حقق تراكما نسبيا، خاصة منذ الثمانينيات من القرن الماضي، حيث تمركزت الرواية في قلب الانشغالات الأدبية المغربية، سواء على مستوى إنتاج النصوص، أو على مستوى الاهتمام بنظرية الرواية، والاشتغال النقدي على نصوصها المغربية وغير المغربية. وقد كان للدرس والبحث الجامعيين دور بارز في هذه الحركية، التي تحتاج إلى بحث قائم بذاته، خاصة بعد الفتور النقدي الملحوظ اليوم، والذي يطول الرواية وغير الرواية. وهو وجه من مشكل شاخص نتداوله، دون بحث أسبابه وتداعياته. هو مشكل وضع الأدب راهنا، ومشكل العلاقة معه. ويمكننا أن نؤطر مسار الرواية المغربية في ثلاث لحظات مفصلية: 

اللحظة الأولى: أ لحظة الولاء للتاريخ
وهذه هي لحظة نشأة الخطاب الروائي في المغرب الحديث. وبالذات في مرحلة الأربعينيات من القرن الماضي. فالخطاب الروائي في المغرب، نشأ في شروط الاصطدامات الكونية الكبرى في العصر الحديث، اصطدامات الحداثة والتثاقف والتوسع الاستعماري، وما نتج عن ذلك من اختراق للقيم والعلاقات التقليدية، التي ظلت تضمن للمجتمع المغربي نوعا من التجانس الثقافي، على امتداد تاريخ تكرر على الصورة ذاتها، بتعديلات في بعض التفاصيل لا تمس الجوهر. وأقصد بالتجانس الثقافي انسلاك البنية الثقافية التقليدية العالمة، في مغرب ما قبل الاستقلال، في منظومة نواتها الشرعي، الذي كان يؤطر الأدب نفسه في دائرة استقطابه، فيبرر الأدبي وجوده بخدمته للشرعي، بمعناه الديني، أو يتكئ على هذا التبرير لتسويغ ممارسته وتلقيه. وعندما نقول الأدب، فإننا نقصد الشعر بالأساس. فالشعر هو الجنس الأدبي الذي كانت له الهيمنة على المفهوم والمنجز الأدبيين، وبعده النثر الفني، وتصنيعه البلاغي كان يقربه من المنظوم، بل قد يتجاوز تعقيد تصنيعه المنظوم أحيانا.

علاقة تبعية الأدب للشرعي التي تجعله دائرا في فلكه بشكل أو بآخر، ستأخذ في التحول مع الاصطدام بعنف الاحتلال، وقيم الحداثة. وفي المهب العاصف لهذا الواقع الجديد، ستُخترَقُ الكثير من الثوابت الأدبية التقليدية المتواترة، أو ترج على الأقل، فتصير محط مراجعة وبحث. مراجعة المستهلك منها، وبحث عن صيغ تعبيرية جديدة، يقتضيها الشرط الجديد، على أساس أن كل تحول بنيوي ينتج أو يستعير الأشكال التعبيرية المستجيبة لأحواله وتطلعاته..

في هذا السياق نشأت الرواية في المغرب الحديث، محفزة بضغوط وضرورات تاريخية. كما نشأت القصة والمقالة والمسرحية، في أشكالها ذات المرجعية الغربية أصلا. وهذا التحرك الأدبي النهضوي، الذي ظهرت معالمه في المغرب الحديث منذ ثلاثينيات القرن العشرين، كان مدفوعا بحافز الانفتاح على الجديد، لكن في حدود مقومات الهوية الوطنية والقومية.. لذلك نشأت المحاولات الروائية الأولى، في الأربعينيات من القرن الماضي، موسومة برواغم هذا الشرط ومقتضياته.. وقد تقاطعت في بنية تلك المحاولات، مؤشرات أشكال خطابية تقليدية، كالرحلة والمقامة والمناظرة والتاريخ... بمؤشرات احتكاك غض بالرواية الحديثة. فدل هذا التقاطع غير الروائي، على التباس مفهوم الرواية نظريا عند مجترحي نشأتها الرواد، ودل على مشاكل البداية، حيث يختلط القديم بالجديد، ولا تتضح الرؤية للشكل الروائي، فلا يكتب رواية صريحة، وإنما خطابا سرديا هجينا، يحمل ترخصات والتباسات البداية.

ويمكننا أن نستحضر هنا مثالا قوي الدلالة على طبيعة نصوص البداية، هو تلك السلسلة من السرود التاريخية التي كتبها عبد العزيز بنعبد الله، خلال أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي: (فاطمة ـ الرومية الشقراء ـ غادة أصيلا ـ الكاهنة ـ شقراء الريف، الخ...)، تنضاف إليها نصوص سيرروائية، كالزاوية، وسليل الثقلين، للتهامي الوزاني، وفي الطفولة لعبد المجيد بنجلون. مع تسجيل تطور ملحوظ في الكتابة السردية عند هذا الأخير، يجعل سيرته الروائية ذات تميز خاص في مرحلتها، بناء نصيا، وأسلوبا سرديا ورؤية..

من هذا التأطير المركز نخلص إلى نتيجتين محوريتين:

أولاهما: أن الانتباه إلى الخطاب الروائي في مغرب ما قبل الاستقلال، شكل في حد ذاته علامة فارقة على تحديث الأدب، أي على الانتقال من سياق تقليدي، إلى سياق تحديثي. وكانت الخطابات الروائية الأولى من المؤشرات الدالة على حركة هذا الانتقال التجديدي في مجال الأدب المغربي الحديث، وفي سياقه التاريخي. والدالة أيضا، على أن هناك رؤية قديمة للعالم تنحسر، ورؤى أخرى جديدة تتأسس محفوفة بمشاكلها وتناقضاتها، ومسكونة في الآن ذاته بتطلعاتها إلى الاستجابة لانتظارات زمنها.

ثانيتهما: أن الخطابات الأدبية النهضوية الحديثة، ومنها خطاب الرواية، الذي كان يؤسس كيانه، تحولت من الولاء للشرعي إلى الولاء للتاريخي. فلم يعد الأدب يكتب تحت ذريعة خدمته للشرعي، وإنما يكتب بنداء من مقتضيات التاريخ. وبمعنى آخر: تحول الأدب عن التبعية للشرعي وسلطته إلى الاستجابة للتاريخي ومتطلباته. وفي سياق هذا التحول، نشأت الرواية المغربية الحديثة، فدلت عليه بمحمولها، وكانت علامة من علاماته بشكلها وإضافتها.

إن صوت الذات الوطنية والقومية، وصوت واقعها وتطلعاتها، هو الصوت المهيمن في المحاولات الروائية الأولى. حتى النصوص ذات النزوع السير ذاتي، فإنها تصب في هذا الاتجاه، لأنها التفات إلى الذات الخاصة، التي هي جزء من الذات الوطنية العامة، التفات تأكيد للخصوصية الوطنية ـ ومن ثمة للهوية ـ من خلال حالة دالة عليها، هي حالة الراوي لتفاصيل ولحظات من سيرته.

لقد اكتشف أدباء النهضة إمكانات السرد الروائي في التشخيص والتعبير والترميز، فأقبل بعضهم عليه، وكانت نصوصهم الروائية الأولى، تحمل مشاكل البداية، ومشاكل واقع البداية، على تفاوت بين تلك النصوص في القيمة الفنية.. أما تمثلاتها التخييلية، فكان من مراجعها الأساس:

1. التاريخ الوطني والقومي، والماضي الجماعي.. والاستمداد منهما، كان لأهداف وطنية وقومية.. والمثال الدال على هذا المنحى، السرود المتعددة لعبد العزيز بنعبد الله.

2. التاريخ الذاتي الخاص، للأهداف نفسها في العمق، كما في سيرتي التهامي الوزاني، وعبد المجيد بن جلون.

مع حرص بين على الكتابة باللغة العربية الفصيحة، دون تهجين أو تهاون في المعايير اللغوية الضابطة. اعتبارا لكون اللغة العربية تقع في مركز القيم الركائز للهوية القومية. ومن ثمة كان الحرص على اللغة العربية وصيانتها.

وأود أن أشير هنا إلى أن السرد الروائي والقصصي مثلما لقي بعض المقاومة من بعض المحافظين، الذين رأوا فيه مجرد عبث لا طائل تحته، كان، على العكس من هذا، مغريا لبعض الفقهاء من ذوي النزوع الإصلاحي، ومن أبرزهم الفقيه ابن المؤقت، صاحب "الرحلة المراكشية، أو مرآة المساوئ الوقتية"، المنشورة سنة 1930، وغيرها من متونه ذات النزعة السردية، المكتوبة بهدف النصح والوعظ والتوجيه والإصلاح..

إن المحاولات الروائية الأولى، لم يكن يشغلها الشكل الروائي، بقدر ما كان يشغلها المضمون المؤدى سردا، لأهداف موصولة بالمطامح العليا في التحرر والتطور والإصلاح وصون قيم الهوية والدفاع عنها، ضمن السياقات التي أنتجت فيها تلك المحاولات الروائية. من هنا الحرص على تيسير لغة سردها على العموم، قياسا إلى الكتابة السردية التقليدية المصنعة، كالمقامة وبعض الرحلات. 

اللحظة الثانية: لحظة الالتزام
وهي لحظة الالتزام في دائرة الصراع الاجتماعي والسياسي في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي تميزت هذه اللحظة بظهور الأعمال الروائية التأسيسية، التي تجاوزت، إلى هذا الحد أو ذاك، ارتباكات محاولات البداية الروائية قبل الاستقلال.. لقد تغيرت في هذه اللحظة الثانية- النظرة إلى الواقع والذات، فتغيرت الموضوعات، تبعا لذلك، وتغيرت الأشكال، متقدمة في سلم التطور.. مما جعل الرواية المغربية، تنتقل إلى طور الكتابة الروائية المتوفرة أهم منجزاتها، على مقومات العالم الروائي، بعد مغامرة البداية الجريئة خلال الأربعينيات والخمسينيات.

في الستينيات والسبعينيات تعمقت علاقة الرواية المغربية بواقعها، دون لجوء إلى قناع التاريخ وبطولاته، لأن الحال لم يعد يستدعي ذلك. لقد صار الصراع طبقيا ومواقفيا، سواء على المستوى المحلي الخاص، أو المستوى العالمي العام. صراع قضايا ومشاكل التغيير والتحولات الجذرية، والمواقف الإيديولوجية والسياسية المتصادمة، والارتكاسات والخيبات في واقع متفجر بتناقضاته الداخلية والخارجية الحادة. لذلك ارتفع صوت الأطروحة جهيرا، في أغلب الروايات، لكن مع نوع من الاهتمام بالشكل الروائي، ومقتضياته الجمالية، لغة وتخييلا وتقنية.. مما جعل الرواية تعي بذاتها، أو تأخذ في ذلك، فتبني خطابها على أساس أنها رواية. فاطلاع الروائيين المغاربة، على التجارب الروائية العالمية والعربية، صار أكثر اتساعا، وإمكانات التثاقف أصبحت أوفر، والرواية المغربية تجاوزت معيقات البداية، فأخذت النظرة إليها تتخلص من تأثيرات وانجذابات الأشكال السردية التقليدية الناجزة، وتكتب بمنظور آخر، يراها جنسا أدبيا قائما بذاته، ينتج قيمه الخاصة المفارقة لأي جنس أدبي آخر، دون خلط مربك. وهو ما يلاحظ في أهم تجارب الستينيات والسبعينيات، رغم بطء تواترها ونزارة كمها. فالستينيات لم تعرف إلا نشر روايات محدودة جدا منها "سبعة أبواب" و"دفنا الماضي" و"المعلم علي" لعبد الكريم غلاب، و"جيل الظمإ" لمحمد عزيز لحبابي.. لكن الوتيرة ستتحرك نوعا ما، في السبعينيات. ففي سنة 1971، صدرت رواية "الغربة" لعبد الله العروي، لتشق أفقا جديدا للرواية المغربية، بتكسيرها للانتظام الخطي للسرد بانشطارية محكيها وتشظيته، واعتمادها الاسترجاع والاستبطان وتقاطع الأزمنة وتداخلها، والمونولوج الداخلي والحلم، وتبئير روافد الحكي في مركزية تقاطعية هي مركزية الشخصية المحورية، والإيغال في مخزون الذات والذاكرة والتاريخ الشخصي، المتجذر في تقلبات التاريخ الجمعي ومفارقاته الدرامية، وتفكيك رصانة اللغة لحساب انسيابية لغوية مفتوحة، لكنها مداورة مشحونة بالإشارات النافذة، ومنطوية على أبعاد فكرية عميقة.. وهو الأفق الذي سيوغل فيه المشروع الروائي لعبد الله العروي فيما بعد..

إن الشكل في رواية "الغربة" هو في حد ذاته "غربة". وهذا ارتقاء مفصلي، حيث يصير الشكل دال نفسه، وليس مجرد ذريعة لتصريف خطاب أو مضمون عبره، فالشكل في رواية "الغربة" هو الخطاب ذاته يبنى بالتقنية الدالة على المضمون والمرتبطة به، فلا نستطيع الفصل بينهما. في السبعينيات، انفتحت الرواية المغربية على الحياة أكثر، وبأصوات جهيرة وحدة انتقادية عنيفة، في الكثير من الحالات، وباقتصاد في البوح بمواجد الذات الفردية، وخاصة في استيهاماتها الرومانسية. لكن صوت الذات كان مساورا، على أية حال، للرواية، حتى وإن غمره، إلى هذا الحد أو ذاك، صوت الأطروحة أو ظلها.. صرنا نعثر على الرواية المشخصة والمعبرة على الانسحاق الاجتماعي، والإحباطات وخيبات الأمل الجمعية، أو الفردية المرتبطة بشرط الجماعة، بنبرة مباشرة أو غير مباشرة، معلنة أو مواربة. صارت الرواية تتقدم في بناء عوالمها، من خلال تجاذبها مع تناقضات واقعها المخيب للآمال والمطامح والأحلام، في جدلية القسر والوعي.

وأضاف عبد الله العروي إلى روايته "الغربة" روايته الثانية "اليتيم" سنة 1978، سالكا نهجه التركيبي في البناء الروائي، وطرح قضايا معتاصة مما أفرزته شروط ما بعد الاستقلال.. وشرعت أصوات أخرى في الإعلان عن تجاربها المختلفة تقنية وطرق معالجة: مبارك ربيع (الطيبون ـ رفقة السلاح والقمر ـ الريح الشتوية). أحمد البكري السباعي (المخاض). محمد الأحسايني (المغتربون). محمد زفزاف (أرصفة وجدران ـ قبور في الماء ـ الأفعى والبحر). أحمد زياد (بامو). محمد عزيز لحبابي (إكسير الحياة). أحمد المديني (زمن بين الولادة والحلم). أحمد عبد السلام البقالي (الطوفان الأزرق). محمد عز الدين التازي (أبراج المدينة). حميد لحمداني (دهاليز الحبس القديم)، الخ...

فعلى محدودية النصوص التي صدرت في السبعينيات، فإن الرواية المغربية في هذا العقد، أمكنها أن تحقق تنوعا في التجارب الشكلية، وفي التيمات والفضاءات. لقد أخذت رواية قناع التاريخ تتراجع لحساب الإيغال في قضايا ومشاكل الواقع، بانكساراته وجراحه ومعيقات تطوره الموروثة والمستجدة.. وأغلب الروايات التي انشغلت بالتاريخ في الستينيات والسبعينيات إنما انشغلت بالتاريخ القريب، تاريخ الحركة الوطنية ومقاومة الاستعمار، من منظورات وبمعالجات وطرائق ولمقاصد مختلفة، إما للاحتفاء بهذا التاريخ، كما في رواية "بامو" مثلا. وإما لقراءته من زاوية أطروحة معينة في النظر إلى تاريخ الحركة الوطنية، كما في روايتي "دفنا الماضي" و"المعلم علي". وإما للمراجعة النقدية لما أعقبه بعد الاستقلال، كما في روايتي "الغربة" و"اليتيم" حيث تتجاوز النظرة إلى التاريخ حدود أَمْثَلَتِهِ، أو تأطيره في حدود بعينها، إلى مراجعة فكرية استبطانية نقدية، تنفذ روائيا، إلى أعوص المشاكل وأدقها، التي ترتبت عن اختلالات مساره..

أريد أن أخلص من هذا إلى أن ثمة رؤية نقدية للتاريخ، وانتقادية للواقع، أفرزتهما شروط ما بعد الاستقلال، في عنف صراعاتها وتداعياتها.. وكانت رواية السبعينيات فضاء إبداعيا خصبا لهما، إلى جانب الأجناس الأدبية الأخرى. فمن علاقة هذه الرواية بالمعيش والتاريخ، ومن الوضع الثقافي لراهنها، أسست أشكالها الروائية، واستمتحت مضامينها.. لكن قراءة النقد لرصيدها، غالبا ما ركزت على المضامين والأطروحات والمواقف.. على حساب البناء الشكلي، الذي لم يتمركز في صلب الانشغال النقدي، إلا في مرحلة لاحقة. وربما دعتني هذه الملاحظة إلى التأكيد على أن رواية هذه المرحلة في حاجة إلى قراءة نقدية بمقومات النقد الأدبي الأساسية، لإقصاء الكثير من الالتباسات التي اعترت قراءتها وربما قراءة غيرها من الأجناس الأدبية المغربية، وخاصة حين تسيج إبداعات مرحلة بعينها، بأحكام جاهزة تتداول دون أساس نقدي ومرجعي مقنعين..

لقد شخصت رواية السبعينيات، في أهم متونها، تجاذبات الشخصية وتصدعاتها الفكرية والنفسية والموقفية، من جراء معيشها الضاغط المتصادم.. فانحسرت رواية البطولة لتحل محلها رواية الإخفاقات والمآزق الاجتماعية والسياسية والحياتية المعقدة.. واتسعت فضاءات الرواية عما كانت عليه من قبل، لتشمل واقع البادية أيضا كما في روايات "المغتربون" لمحمد الأحسايني، و"الريح الشتوية" لمبارك ربيع، و"المهاجر" لعبد الرحمن الشري.. ولتعالج انشغالات ثقافية فلسفية كما في رواية "إكسير الحياة" لمحمد عزيز لحبابي..

ومع التنوع في الموضوعات، تنوع في الصيغ البنائية وأدوات التعبير، التي تطورت كثيرا بالقياس إلى الستينيات. لكن المتخيل الروائي ـ باستثناء "إكسير الحياة"ـ ظل مراوحا في الغالب، في حدود تناظرات الكائن، أو مساحات الممكن والمحتمل، دون اقتحام لعوالم الغريب والعجيب الخارق. وذلك نتيجة فكرة الالتزام، بالمعنى السياسي والثقافي، التي أطرت الخطابات الروائية مباشرة أو ضمنا، دون أن تحيلها، إلا في حالات محدودة، إلى مجرد وسائط إنفاذ للمضامين، مفتقرة إلى مقومات المنجز الإبداعي، جزئيا أو كليا.

ولقد انفتحت لغة الرواية أكثر، ونافذتها لغات من المتداول الدارج، ونحت أحيانا إلى العنف، مقابلة عنف الواقع بعنف التعبير عنه، من شخصيات مهيضة منكسرة بسطوة واقعها وإحباطاته، متحركة على أرضية هشة في زمن غير آمن.. أما صوت التبشير، الذي يطفو أحيانا، فلم يكن سوى عزاء يتدثر دثار حلم، أو دثار وهم، ستخلعه الرواية في مغامراتها الإبداعية الأكثر جرأة، منذ الثمانينيات. 

اللحظة الثالثة: لحظة انفتاح الفضاء الروائي المغربي
ومؤشرات هذه اللحظة، يمكننا أن نعثر عليها في بعض الأعمال الروائية القليلة في السبعينيات. أما عتبتها فهي بداية الثمانينيات، لتمتد مغامرتها بعد ذلك، وتتنامى صعدا إلى الآن..

في هذه اللحظة، يمكننا أن نفرز من كمها الغزير نسبيا ـ على الأقل بالنسبة للحظتين السابقتين ـ أعمالا روائية ذات جرأة تجريبية أكيدة. وأنا أقصد بالذات، الأعمال الروائية المكتوبة بوعي نظري، وتملك لأدوات التعبير، واقتدار إبداعي، تخييلا ومنظورا واتساع قيم روائية، وصوغا. في هذه اللحظة، ستعزز أصوات روائية، بدأت في الستينيات والسبعينيات، رصيدها الروائي بأعمال جديدة، وتشرع أصوات أخرى، من مختلف المشارب والمنازع والأعمار، في مد الحقل الروائي المغربي، بما يحفز ديناميته أكثر، ويفتح فضاءه الإبداعي على حركية تجريبية أبدعت نصوصا تشكل علامات في حقل الرواية العربية اليوم. ولأن حصر كل تلك الأعمال يضيق عنه هذا التأطير، ذو الطبيعة النظرية بالأساس، فإني سأقترح هنا منطلقات مفتوحة، للاقتراب من بعض المفاصل والخصائص البنيوية لهذا العالم الروائي، الذي أضاف قيما تخييلية لافتة، إلى رصيد الرواية المغربية والعربية،لا يمكن التغاضي عنه. وأنا أقصد على الخصوص، أعمالا ذات نزوع تجريبي مجدد، أعمالا منشغلة بمقومات الكتابة الروائية، أي بكثافتها النوعية وعناصر شعريتها التي لا تجعلها فقط منتسبة إلى جنس الرواية، بل تحقق لها أيضا إضافة كيفية، وإن في حدود، داخل هذا الجنس، دون ادعاء أنها رواية تجريبية، ولكن دون تنازل في كونها رواية، وفي كونها تتميز بخصائص شعرية وموضوعاتية مائزة.

أما الخصائص الشعرية فهي عناصر تشييد عالم روائي مقنع بذاته، لغة ومتخيلا، وبناء جماليا، دالٍّ على امتلاك قدرة إبداعية على إنتاج واصطناع تقنيات روائية من غير المتداول، أو من القليل تداوله..

وأما الخصائص الموضوعاتية فنعني بها القدرة على رصد موضوعات إما لها راهنيتها الفعلية في شرط مخصوص بذاته، وإما لها تجذرها في الوضع الإنساني الكلي، بحيث لا تنفذ إمكانات الاشتغال عليها من رؤى ومنظورات وزوايا متعددة مختلفة..

ويبدو لي أن القضايا الموضوعاتية مهما تعددت، يمكن تأطيرها في حقول بعينها، لكن ما لا يمكن حصره ولا تحديده هو طرائق التعبير عن الموضوعات التي تشغل الإنسان وتؤرقه. والطرائق بالذات وتقنياتها هي المساحة غير المحدودة للإبداع، وهو ينتج القيم التخييلية الدالة، وينتج الأشكال الجمالية المشخصة والمعبرة عن انشغالات الإنسان في المجتمع والحياة والوجود.

على هذا الأساس يمكننا أن نسائل الرواية المغربية في لحظتها الراهنة، ليس فقط عما عالجته، ولكن وبالأساس عن كيفيات المعالجة وزوايا النظر. فالإبداع خارج أشكاله ورؤاه لا يستقيم النظر إليه.

ولأن الرواية المغربية قد قطعت من الأشواط ما يجعل رهانات إبداعاتها في المرحلة الثالثة تختلف عن رهاناتها في المرحلتين السابقتين، ولأن كل تحول أو تغير في الشرط الإنساني ينتج أشكاله وطرائقه التعبيرية الملائمة أو المستجيبة لأوضاعه، فإن من حقنا أن نسائل الرواية المغربية عما تميزت به في المرحلة الراهنة، وعن مدى انخراطها في مشاغل الكتابة وفي المشاغل الحيوية للإنسان.

شخصيا أرى الكتابة الروائية المغربية منذ الثمانينيات، وفي منجزاتها المبدعة أساسا، مشغولة برهانين متنافذين:

1 ـ رهان الكتابة والتأمل في الكتابة من داخل الكتابة ذاتها أو من خارجها، على أساس وعي ضروري بمقتضياتها الشعرية. فأهم روائيينا اليوم لا يكتبون من خارج وعي نظري بالمشاكل المركبة للكتابة. فهم مثلما يحرصون على استبصار الشرط الإنساني في أبعاده الذاتية والاجتماعية والوجودية، يحرصون على تسييج منظوراتهم الكتابية بالأرصدة والأسئلة والحوافز المعرفية الضرورية للتأمل في الإبداع وتحفيز حركيته.

وإذا كان الوعي النظري بمشاكل الكتابة الروائية محدودا أو يكاد في المرحلتين السابقتين قبل ثمانينيات القرن الماضي، أمام الانشغال بمشاكل التاريخ والواقع وصراعاتهما، فإن الحال قد اختلف في اللحظة الثالثة من مراحل تطور الرواية المغربية. فالكتابة التزام بميثاق ليس تجاه الواقع وتجاه الذات والحياة فقط، ولكن أيضا تجاه الكتابة ذاتها. والذين لم يستطيعوا تحقيق التوازن الضروري بين طرفي هذه المعادلة، صمتوا أو تخلفوا عن رهانات الأدب في هذه المرحلة. ولذلك فقضية الكتابة الروائية وغير الروائية اليوم، هي قضية ذاتية، قضية قدرة وثقافة ذاتيتين، وقضية التزام ليس بالمعنى المحدود الذي أطر الأدب في حقبة سابقة، ولكن بالمعنى الذاتي والإنساني العام، التزام تجاه ما يسكن الذات ويشغلها، وتجاه ما يعني الإنسان ويشغله. والإبداع كلما ارتقى إلا ونافذ ما يشغل الناس من خلال ما يشغل الذات. ففي العمق الفردي يتعرش الوجود الجماعي وتمتد الجسور بينهما.

2 ـ الرهان الثاني، هو رهان الكتابة أساسا عن المقصي والمسكوت عنه والملغى والذات والذاكرة.. وأقصد على الخصوص، رهان الإيغال إلى تلك العتمات التي كثيرا ما حالت وتحول دونها حوائل ذاتية أو خارجية أو هما معا.. إن الكتابة هي بحث عن المياه الجوفية، أما السطوح المبذولة، فهي مبذولة من أجل انتهاكها. والكتابة الروائية ليست كتابة عن المبذول، ولكنها اختراق إلى جغرافيات نكتشف فيها ذواتنا بطرق أخرى وفي صور أخرى. جغرافيات تنزع فيها الذات الكاتبة عن الحياة قشرة المتكلس والمتحجر، وتتخطى الحواجز ما أمكن، للإصغاء إلى أصوات المتواري والمغيب والمكبوح، للإصغاء إلى ذاتنا الغائرة في تعددها وتمايزها، وليس في تجانسها وتماثلها، في تناقضها وتنازعها، وليس في وهم انسجامها وتوافقها. في تدفقها وانسيابها، وليس في انحسارها وقسرها مؤطرة فيما يعيق طبيعة إنسانيتها.

وكل الأعمال الفنية العظيمة، هي رهان على النفاذ إلى الأعماق. ومن ثمة، فكل الأعمال والتطلعات الروائية الرائعة، هي ضرب في اتجاه هذا الأفق، الذي تتقدم الكتابة نحوه، عبر صراع عنيف مع الرتيب والجاهز وقيم الوصاية وأدواتها..

لقد انتبهت الرواية المغربية المجددة، إلى هذا الأفق، منذ الثمانينيات خاصة. فمنذ هذه الفترة يمكننا أن نلاحظ أن الكتابة الروائية المغربية، قد شرعت في اجتراح مغامرة مختلفة كما وكيفا، من أهم سماتها: انفساح مجال التخييل، والإيغال في تكسير انقباض البلاغة المتخشبة الجافة، وتهجين اللغة، والتلاعب بالأزمنة والأمكنة والشخوص وقوانين السرد المتواتر خطيا، والإيغال في مخزون الذاكرة وعوالم الطفولة المنفلتة، وانفتاح التجربة الروائية على أصوات البوح ونداءات الأعماق ومناطق اللاوعي، كالأحلام والاستيهامات والنزوات والهلوسات والأوهام.. واهتمامها بالمكان ذاكرة ومجالا وفضاء للحوار والإصغاء.. وانفتاحها أيضا، على الأشكال التعبيرية الأخرى كالسينما والمسرح والتشكيل، وعلى مختلف الخطابات واللغات التي تتسع لها فضاءاتها دون حدود.. وقد سقطت أوراق البطولات الدونكشوطية، والتبشير المقام على أرض رخوة وعلى صروح من رمل.. التفتت الرواية إلى أسطورة الذات، وأسطورة المكان، وأسطورة الحياة، التي تتخفى أو تخفى تحت هذا الهلام المداور، الذي نسميه واقعا، فانتبهت إلى الغريب والعجيب الخارق، واشتغلت عليهما في تقاطع مع "الواقعي" مكسرة رتابته وأوفاقه المتصلبة، ومتيحة للمتخيل واللغة وتشييد العوالم الروائية، مساحات مفتوحة دون حدود..

أدركت الرواية المجددة ـ في أهم إبداعاتها ـ أننا في الحقيقة لا نملك شيئا ولا نعيِّنه، ولكننا نسعى إلى أن نوطد صلتنا بالحياة عن طريق التجربة، فنفهم من هذا السبيل وندرك، ونلبي حاجتنا إلى التعبير وربط صلات متحولة بالوجود، حتى لا نعبر في الحياة دون ظل، دون أثر هو علامة استجابتنا لرغبة التمسك بالحياة وبالوجود فيها، ومحاورتها ورفض كل أشكال القسر التي تدمرها، والتمسك مقابل ذلك، بحق الذات وحق الإنسان في الحياة كما يختارها..

في هذا السياق، أموضع بعض الأعمال التي اشتغلت على زمن الذاكرة الضائع، باستحضاره روائيا. وعلى الماضي الخاص بالذات، بدءا بالطفولة.. وفي هذا السياق أيضا، سياق تأكيد الوجود في مواجهة الإرغامات وأشكال القسر والجمود، أموضع أيضا، النزوع إلى السخرية وتنسيب القيم، والإصغاء إلى نداءات الجسد، والالتفات إلى شعرية تفاصيل الحياة... مع ملاحظة أن اتساع الرؤية للذات والحياة والوجود، يلازمه اتساع في شكل التعبير الروائي. فكلما ضاقت الرؤية ضاق الشكل، وكلما اتسعت اتسع. فالرؤية الضيقة تظل مراوحة في شكل روائي ضيق، وهو في ذاته مؤشر رمزي على ضيقها. 

إشارة ثانية:
إن روافد الرواية المغربية اليوم، متعددة في عموم منجزاتها، فعالم الرواية الواسع الفسيح، تجد فيه كل الذوات والتجارب، إمكان التشخيص والتعبير والإفضاء وصياغة المنظورات والاختيارات روائيا. مما يجعل إبداع الرواية يتنوع ويغتني بمختلف الرؤى والتجارب والأصوات. وقد لاحظنا في السنوات المتأخرة، عودة رواية الاستمداد من التاريخ والحضارة المغربيتين، من منطلق مقومات الهوية المغربية، ومن منظور مخصوص لها.. كما لاحظنا اصطناع الشكل الروائي، للتعبير عن عنف تجربة الاعتقالات السياسية والسجون، في سنوات التفجر السياسي الماضية. وعن التحولات والمفارقات في المغرب الراهن.. وتجاوزت العلاقة بالرواية البوليسية حدود اصطناع تقنياتها في نصوص روائية غير بوليسية، إلى اختصاص بعض روائيينا بإنتاج الرواية البوليسية، والاقتصار عليها.. فثمة، اليوم، تراكم روائي لأسماء من مختلف الأعمار والمستويات والمنازع. من الذكور والإناث. وبين هذا التراكم نصوص لافتة، وأخرى مارست حقها في الكتابة والتعبير. وكلها تصب في مجرى الرواية المغربية التي ارتفعت وتيرة إنتاجها، رغم مشاكل النشر والتداول والقراءة، ومشاكل وضع الأدب في واقعه الراهن.. وهي مفارقة تحسب لمتخيلنا الروائي الذي يشيد عوالمه رغم كل شيء.