رواية بنسالم حميش «فتنة الرؤوس والنسوة»

محمد الداهي

تقديم:
ينطلق الروائي بنسالم حميش على جري عادته في أغلب رواياته من "نص سابق جاهز"، لكنه يعيد صياغته بطريقة تخييلية، ويضمنه عينات دلالية وإيديولوجية جديدة، ويباغت قراءه بمدونات لم تخطر على بالهم من قبل. ترتكز رواية فتنة الرؤوس والنسوة(1) على معطيات سياسية وتاريخية تشهد على مرحلة دموية وصعبة عاشها بلد غير محدد المعالم ومجرد من الإسم. يستتثمر الروائي هذه المعطيات في قالب روائي يمتزج فيه الشفهي بالمكتوب، والواقعي بالتخييلي، ويعيد النظر في أغلبها لوضع القارئ أمام اختيارات حكائية مفترضة وممكنة. لقد سبق للروائي أن نشر جزءا من هذه الرواية تحت عنوان بروطابوراس يا ناس!(2) . وقد خضع النص الأصلي إلى بعض التغيرات الطفيفة التي لحقت بعض الملفوظات والأسماء. 

1 ـ موضوعة الفتنة:
تتجمع الخيوط الحكائية وتتشابك حول موضوعة مركزية، وهي: الفتنة. وقد شدد عليها الروائي في العنوان متخذا منها ميثاقا تلفظيا لمخاطبة أفق انتظار القراء، وتشغيل خلفياتهم المعرفية، والحد من سيل المقومات التي تختزنها أدمغتهم. ولما نمعن النظر في تركيبة العنوان نجد أن القتنة تحتمل معنيين، وهما: الاقتتال والهوى.

1 ـ يرتبط معنى الاقتتال ذرائعيا بالعمل. وقبل أن تضطلع به الذات ينبغي لها أن تكون مؤهلة بجهات ومواصفات ضرورية. ويمكن أن يختزل العمل داخل الرواية في المعركة التي نشبت بين فريقين عسكريين يتصارعان على السلطة. أحدهما يترأسه معمر العلي أوفقيه (إسم مركب من مستبدين عرفهم التاريخ العربي) المعروف بألقاب كثيرة من أهمها ثلاثة: الجنرال، والرجل الأقوى، وذو الوزارات. وثانيهما يتزعمه حمدان الرامي الذي تحين فرصة سفر أوفقيه إلى الخارج لمحاولة قلب النظام. وقد كان الجنرال على بينة من خيوط المؤامرة التي يدبرها الكولونيل. وبمجرد أن أمن استقرار عشيقته زينب، وزوجته مريم وعشيقها أنيس بأوروبا عاد لتوه لمعاينة عن كثب تحركات الانقلابيين وإفشال مخططهم. وقد تأكد الجنرال من أن قوته وذكاءه الاستراتيجي لم يلحقهما أي أنتكاس، وأن الأمور تسير على النحو الذي توقعه وخطط له. إن إطفاء جذوة الفتنة والقبض على مؤججها مكنا الجنرال من تعزيز قوته وأهليته لشغل منصب رئيس دولة، والاستيلاء على مقاليد الحكم؛ وذلك قبل أن يسترجع الملك العليل عافيته، فيعلنها ثورة على مراتع الفساد والزيف وبؤر الظلم. وقد تعزز تسمية الوصي على الكرسي بالرئيس بإجماع الهئيات السياسية وتأييد شعبي منقطع النظير. ولما فطن الجنرال أن عباس الرواسي ينازعه في لقب "الر جل القوي" ويغتصبه قررتنحيته بعد أن وجه إليه جملة من التهم التي تبين خيانته الأمانة ونكثه العهد (التهاون في القبض على المعارض أنيس النعيمي، تسخير المال العمومي لأغراض شخصية، عقد صفقات مربحة في السر مع بعض مروجي المخدرات بشمال المغرب..). وعلى النهج نفسه وجهت لبومهمة تهمة اغتيال زوجته الشقراء، وذلك لتجريده من المهمة المنوطة به، والتخلص منه قبل أن يتصلب عوده وتتقوى شكيمته.

2 ـ الهوى: يتشخص الهوى ومستتبعاته كخلفية تحدد مصائر الشخوص، وتكشف عن سرائرها وطواياها، وتجردها من أقنعتها لتنجلي بصورتها الحقيقية. ومن بين الأمور التي ركز عليها الروائي في هذا الصدد هو ازدواجية شخصية رجل السلطة. يخشاه المواطن لأنه يمثل بالنسبة إليه رمز القوة والعنف والصرامة، في حين لا يحظى بأدنى احترام من طرف زوجته لكونه ضعيفا ومنصرفا بكل فكره وكيانه إلى أمور الصراع على السلطة وحرب البقاء للأقوى. وإذا كان متفحلا وقويا ومثار فتنة في أعين النساء، فهو لا يحرك في زوجته أدنى ساكن، وتعتبره مجرد حيوان سلطوي ينبغي التحوط والتوجس منه، وتدبرعواقبه. وهكذا، يبدو الرجل الأقوى ضعيفا أمام زوجته، يعرف علاقتها بعدوه المحتمل أنيس النعيمي، لكن تعذر عليه تخليصها من شركه. واضطر إلى قتلها للانتقام من تصرفاتها، والاشتباه في تسريب ما يروج في "مطبخ دولة الجنرال الرئيس" إلى أعدائه بالخارج وفي مقدمهتم أنيس النعيمي. ولم تسلم عشيقته زينب هي الأخرى من البطش والتنحية. وفي كل مرة يبدو في مقدمة مشيعي ضحاياه متظاهرا بالحسرة على فقدانهم، ومخفيا طبعه الانتقامي ومنزعه الدموي. وعلى الشاكلة نفسها، كشف الروائي عما تعرض له المستبدان الأصغران (الرواسي وبومهمة) من استذلال وإهانة من طرف زوجتيهما. فالرواسي هو مجرد أداة طيعة أمام زوجته الحاجة هنية، الآمرة بالصرف والقوية الشكيمة. أما بومهمة فهو يشعر بالضعف والصغار أمام زوجته "الجديدة" الشقراء التي تكرهه وتحرمه من الاقتراب من مسها. ولما حاول ضمها بين ذراعيه واغتصابها قاومته وعاركته بالأظافر والعض حتى استسلم لها. "ضعفه أمامها هو الساعد الأيمن للرجل القوي ضعف ثابت ساطع" ص255.

وبالمقابل، نجد نسيم (أستاذ الأدب المقارن بمعهد الفنون الجميلة) مكرما ومحبوبا من طرف سيدة الجنرال مريم. فرضته على زوجها وأرغمته على مرافقتها إلى جزر الباليار التي استمتعا فيها بالحب والرقص والموسيقى والمطالعة. كان نسيم على بينة من المؤامرة التي يدبرها له الجنرال للتخلص منه. فكان يعتبر قصة حبه مع مريم محفوفة بالمخاطر، وأن خطواته مرصودة من طرف عيون معمر العلي أوفقيه التي لا تنام. ولهذا قرر عدم العودة إلى بلاده، واعتبر وعد مريم بإسناد منصب وزاري له مجرد حيلة نسج خيوطها الجنرال للتعجيل بالانقضاض عليه. عاوده شبح مريم لما صادف يوما بحي مانهاتن أمرأة أمريكية ميري تشبهها بالتمام. وبعد حصول خلاف بينهما، توطدت علاقتهما. والتحقت به بباريس طالبة منه أن يتقاسم معها مسكنا بالحي اللاتيني. وما حض ميري على التعلق به هو إلحاحها على التعرف على قصة مريم ومقارنتها بحياتها الشخصية. 

2 ـ مواقف الشخوص من الوجود:
أ ـ موقف الطغمة العسكرية: يمثل الضباط السامون داخل الرواية فئة من المهوسين بالسلطة والجاه. فهم على اختلاف درجاتهم تستهويهم مفاتن السلطة ومباهجها، ويستخدمون وسائل التجسس والاستخبار والفتك والبطش من أجل تحقيق مآربهم الشخصية وسحق من يعارضهم. وكلما استأنس المستبد الأصغر في نفسه القوة إلا واتسعت دائرة مطامحه لمنافسة المستبد الأكبر قصد الانفراد بالحكم وتسيير دواليبه. وهذا ما أجج زند الصراع بين المتنافسين، وحفزهم على الدخول في حرب قوامها السيطرة للأقوى. ويشكل الجنرال معمر داخل هذه الفئة ذراعها الواقي وقطبها الأقعس والمنيع. ولم تزده الدسائس والمؤامرات إلا قوة ومناعة، وسيطرة على الوضع، وتحكما في الرقاب والعباد، وإلحاحا على تجريب أسلوب جديد في الحكم يجمع بين نظام الجمهورية وبين نظام السلطانية (النظام الجمهُطاني). واضطر إلى تصفية المقربين منه (الرواسي، وزينب، ومريم) لما أحس بالخطر الذي يهدده، وأن أسراره تذاع خارج المغرب. ولم يفلت من قبضته إلا أنيس النعيمي عشيق زوجته، ومعارضه الخطير.

ب ـ موقف الملك العليل: يؤثر معجمية الأمن، ويوصي رجله القوي بتوفير الجو المناسب لاستقرار البلاد وجلب المستثمرين. وكانت تتناهي إلى سمعه أصداء الاختطافات والاعدامات السرية، لكن الجنرال كان يفندها وينفيها. وعلى النهج نفسه، كان أعوانه يحجبون عنه الحقائق، ويقدمون له المعطيات في أثواب البهرجة والزينة، ويغالون في الهواجس الأمنية العارمة. وفي خضم مرضه وعتي شيخوخته، ندم على عدم تكريم شعبه، وتأسف على تردي الوضع بمملكته. وتمنى أن يسترجع عافيته لغامر بعرشه من أجل إعلان ثورة على مراتع الفساد والزيف وبؤر الظلام والظلم، وتسخير بشر من طينة جديدة لإصلاح مقاليد الحكم الصدئة والمريضة.

ج ـ موقف المعارض أنيس النعيمي: يحضر النعيمي في ذهن الجنرال كعدو مضاعف يستحق التصفية والتدمير. فبعد أن سلب عقل زوجته وتعلقت به، أصبح ينشر رسائله في الخارج على المنفيين للتعريف بالجرائم التي ارتكبها في حق المواطنين العزل. وقد أرسل الجنرال مومسا لتزرع في أحشائه جرثومة مميتة، لكنه أجهض المحاولة في مهدها. وفي كل مرة كان يصارح عشيقته مريم بما يحيكه زوجها من دسائس ضده قصد تنحيته والقضاء عليه. وكان يعتبر نفسه إصابة مهينة في مرماه ووصمة عار في سجل أوسمته الفخرية وانتصاراته. كانت تصله أصداء المعركة على بعد ألف ميل تقريبا من خلال ما كانت تتلقاه مريم من مكالمات هاتفية من زوجها. وعلق أنيس على الحدث الهمجي الشرس بكونه تناحرا "بين عساكر يؤدي ثمنه باهظا الناس العزل الذين لا تحميهم من المآسي ولا حصون" ص139. وآثر البقاء بباريس لتحرير مقالات عن الوضع بالبلاد، وإبراز أن البلاد توجد تحت ظل نظام عسكري متنكر قاهر، وحفز البلدان المتقدمة على تعليق كل أشكال التعاون مع هذا النظام.

د ـ موقف النسوة: تبدو المرأة في الرواية غير مكثرتة بالشأن العام. وما يثيرها أكثر هو وضعها المتأزم داخل البيت. وهذا ما يحفزها على البحث عن مخرج لإزالة الغم واسترجاع انوثتها المفتقدة. لما ضاقت زينب ذرعا بعجز زوجها الجنسي، أصبحت العشيقة المفضلة للجنرال، وأداته الطيعة لتحقيق نزواته، والاطلاع على ما يعنيه. أما مريم والشقراء، فأصبحتا لا تستسيغان العيش مع حيوانين سلطويين متجبرين لا يكترثان بأنوثة المرأة وبحقها في الوجود والاستمتاع بالحياة الزوجية. وما جعل الرجل الأقوى متوجسا من زينب ومتشبثا بمريم، هو أنهما يعرفان عنه الشيء الكثير. ولما أحس الجنرال أن دائرته الحميمية مهددة بالكشف والتعرية أمام الملأ، قام بتصفيتهما جسديا. 

3 ـ نتوءات شكلية:
أ ـ اعتمد الروائي على معطيات ووقائع الواقع الملموس، لكنه أضفى عليها مسحات تخييلية، ونسج من خيوطها مدونة جديدة لمباغتة توقعات القراء. وإن كان التخييل قد وسم الرواية بدلالات ومصانف جديدة (Classèmes)، فهي لم تسلم من الطابع التسجيلي وتكرير الرواسم التي تتعلق ببلد مستبد، تقصد الروائي عدم تسميته حتى يشمل مستبدي أقطار مختلفة يعيثون فيها فسادا وجورا. ولم تحل هذه المقصدية المستضمرة دون تسرب عينات ذاتية (Subjictivèmes) (ألقاب، وموصفات، وأحكام...) توحي بأن الأحداث تتعلق بفترة دموية وصعبة من تاريخ المغرب الحديث.

ب ـ يفاجأ القارئ في النهاية بأن سارد الرواية هو أنيس النعيمي، اضطر إلى حكايتها لتلبية طلب عشيقته ميري، وتشنيف مسامعها بما جرى لمريم التي تشبهها بالتمام والكمال. وتنتهي الرواية بالمطلع نفسه المثبت في بدايتها. وهو ما يبين أن أحداث الرواية تتناسل في شكل دائري، ويعطي إمكانة جديدة لقراءة الرواية من نهايتها. كان من الممكن أن تفتتح الرواية بالمتواليات الحكائية المدرجة في الأخير. وهو ما كان سيعطي للرواية نفسا حكائيا وتخييليا مغايرا، وقد يحتم على الروائي ترتيبا آخر للأحداث، وتبني اختيارات وإمكانات حكائية من نوع آخر. وما يؤشر على هذا الحكم هو أن المتواليات الحكائية الأخيرة محكمة الصنعة، مطبوعة بالتشويق والمفاجآت والإيهام، مشرعة على آفاق تخييلية متعددة.

ج ـ شغل الروائي محكيات مؤطرة بوصفها مرايا بنيوية تلخص أحداث الرواية، وترهص بما سيقع لاحقا. ومن ضمنها مقطع حكائي رمزي(3) يتخيل فيه الرجل القوي أوفقيه أنه قادر على هزم خصمه في لعبة الشطرنج. ومن خلاله تتبين أهداف الجنرال ومطامحه في تنفيذ خطة مضادة لإفشال المحاولة الانقلابية، وإحكام سيطرته على الرقاب والعباد، والاستيلاء على مقاليد الحكم. ويتشخص محكي مرآتي (spéculaire) آخر في ما يتلفظ به واحد من الحمقى الأحرار(4) . ويتضح من هذا المحكي أن متلفظه يدعو الناس إلى الاختفاء بمنازلها بدعوى اقتراب نشوب معركة ضارية.

د ـ تستثمر الرواية كلام الآخر بطريقة بارودية ( كلام الحلايقي، والحمقى، والعرافة..) لإبراز تأويلية اليومي (ما يقال)، وإبراز تهيب الذات الجماعية من السلطة التي تقترن لديهم بالبارود والعنف والنفوذ. كما أنها تعتمد على أبنية مهجنة (العامية، والفصحى، والفرنسية، والإنجلييزية، واليونانية) وحوارات خالصة تكشف عن هوية المتكلمين وتجلي مواقفهم من الوجود. ولم ينبني التعدد اللغوي على قاعدة حوارية بسبب هيمنة اللغة الاجتماعية للطغمة العسكرية، وانحسار التنافرات والتناقضات الفردية والجماعية التي تتبادل الإضاءة والنقد فيما بينها، وتنزع نحو دلالة وامتداد اجتماعيين معينين، وتقترن بمعضلة التشخيص الأدبي للغة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- بنسالم حميش، فتنة الرؤوس والنسوة، دار الآداب، ط1،2000.
2- بسالم حميش، بروطا بوراس ياناس!، سلسلة إبداعات شراع، يوليوز غشت، 1998.
3- بنسالم حميش، فتنة الرؤوس والنسوة، ص77.
4- الرواية نفسها ص88.