تحل هذا الشهر الذكرى الثانية والعشرين لاغتيال ناجي العلي في لندن، وتقدم (الكلمة) هذا الملف احتفالا بذكرى مناضل وفنان كبير، لاتزال رؤاه واستشرافاته فاعلة في الواقع حتى اليوم كما تكشف لنا دراسة الباحث والروائي التونسي المرموق.

كاريكاتير ناجي العلي في مواجهة المُنكر العربي

نزار شقرون

يظلّ الكاريكاتير العربي، الفنّ البصري الأقرب إلى عموم النّاس، وهو فنّ يتّخذ من السخرية والإضحاك وسيلته المثلى في وضع الواقع العربي تحت مجهر النّقد بأنواعه المختلفة. وفي حين لم تنجح فيه اللّوحة العربيّة على صناعة رموز بصريّة لذاكرة معطوبة منذ قرون، فإنّ الكاريكاتير استطاع أن يلج هذه الذّاكرة ويوشّمها بعلامات بصريّة. وليس أدلّ على ذلك من تجربة الفنّان الكاريكاتيري الرّاحل ناجي العلي الذي استطاعت أعماله أن تلبّي احتياجا حقيقيّا للعين العربيّة وتسدّ النّقص البصري من خلال نجاحها في تمرير نقد الواقع العربي. ولئن شهد الكاريكاتير العربي منعطفات بسيطة قياسا بالكاريكاتير الغربي فإنّ هذه المنعطفات، على ندرتها، نجحت في خلق تاريخ للكاريكاتير العربي، وأساليب بلغت عند بعض الفنّانين لحظة تشكيل البصمة الفنّيّة. وفي هذه القلّة القليلة من مصوّري الكاريكاتير بدت تجربة ناجي العلي الأكثر توهّجا فنّيّا ورؤيويّا، وهي تجربة التحم فيها الفنّ بالحياة، بل وبالموت أيضا. فالكاريكاتير في تجربة ناجي العلي هو مصدر الحياة وهو مقصلة الموت في الآن نفسه. وإذا ما رحل ناجي العلي عن الحياة فإنّ رمزه التّاريخي والأسطوري "حنظلة" ما يزال محفورا في ذاكرة المواطن العربي.

ولد الفنّان ناجي العلي في قرية "مباركة" بين طبريا والنّاصرة، في الشجرة بالجليل الفلسطيني الأعلى سنة 1936 وتحوّل في صباه سنة 1948 مرغما إلى مخيّم عين الحلوة بلبنان بعد الاجتياح الصّهيوني وهزيمة الجيوش العربيّة، وتلقّى الفتى ناجي العلي تعليمه الابتدائي بمدرسة "اتّحاد الكنائس المسيحيّة"، ثمّ انقطع عن التّعليم ولم يعد إليه إلاّ في سنة 1959 حيث حاول أن يواظب على الدّروس في أكاديميّة أليكس بطرس للفنون في بيروت، لكنّ اعتقاله المتكرّر حال دون ذلك فقد اشترك في تظاهرات ومهرجانات "حركة القوميين العرب" وانخرط رغم يفاعته في النّضال السياسي متّخذا من رسمه سلاحا للمواجهة. وبسبب الأوضاع المعيشيّة المريرة اضطرّ الفتى إلى العمل في بساتين الزّيتون كعامل بسيط ثمّ تحوّل إلى طرابلس شمال لبنان ليدرس بمدرسة مهنيّة فحصل فيها على شهادة دبلوم في الميكانيك، ثمّ سافر إلى العربيّة السّعوديّة للعمل هناك. وشكّلت الأمكنة في سيرة ناجي العلي محفّز الفعل الإبداعي الذي له خصيصة الوشم على جسد كلّ مكان يحطّ فيه. فلا يمكن إغفال ما لهذه الأمكنة من دلالة في مسيرته بمثل ما لا يمكن استبعاد أثر التّرحّل في المكان على شخصيّته ونفسيّته الصّادمة والمتوتّرة. فحين لجأ العلي مع عائلته إلى مخيّم عين الحلوة، بدأت حينها تغريبة المكان، وتحوّل المخيّم إلى أوّل ورشة مفتوحة للفنّان الصّغير، فعادة ما ينشأ الفنّان في ورشات مغلقة، وبتأثير من معلّم/ قدوة، لكنّ العلي وجد نفسه أمام شوراع المخيّم يرسم على جدرانها بالفحم الأسود، ويتعلّم لغة الكاريكاتور في الهواء الطّلق، بينما المارّة يجوبون المخيّم، والشّمس تضيء جوانبه. كان يرسم في وصال تامّ مع طبيعة المخيّم القاسية، وبين النّاس البسطاء والمسحوقين وفكره ممزّق بين سوط الخبز اليومي وطموح الدّفاع عن قضيّة شعبه بكلّ ما هو فاحم ومفحم!

كان ناجي يرسم على قصاصات أوراق كرّاسات المدرسة، ويعلّق رسومه على الجدار أيضا، ويتّخذ هذا الجدار بعده الرّمزي في حياته، فهو الحدّ بين وطنه والمخيّم، الفاصل بين زمنين. ويتّخذ العلي من الجدار مكانا للتعليق ومكانا للرّسم/ الوشم في صورة افتقاره للأوراق. لا يمكننا أن نتجاوز هذه الصّلة التي تقام بين المرء والجدار. في سنّه الفتيّة، تحوّل الجدار إلى أبوّة كبيرة، وسند ومحاور. فعلا ثمّة حواريّة بديعة نشأت بين الرّسّام و "جداره"، بين صمتين لا يؤجّج اللغة بينهما غير الرسم الذي يتكلّم بدلا عن الإثنين، فالجدار هو الملجأ لأنّه فضاء التّحرّر، أين يندلق فعل اللغة والتصوير بحرّية ودون رقيب. لقد تعلّم ناجي العلي كيف يكون حرّا حين يرسم، وتدرّب على المساحات الكبيرة فكان الجدار هو الكون الأوّلي والرّئيسي لتبلور الرّسوم التي تخرجه من صمته.

لكنّ الفتى ناجي العلي يخرج من ظلمة المكان، ومن المجهول إلى البدايات العلنيّة حين اكتشفه الأديب غسّان كنفاني الذي انشدّ إلى رسمه لخيمة يعلوها بركان، تخرج منه يد مصمّمة على التّحرّر، وسارع كنفاني إلى نشر الرسوم في جريدة "الحريّة" التي كان يرأس تحريرها، ففاجأ بها ناجي العلي، وتحوّل كنفاني إلى سند وأب ودافعٍ للمغامرة، وهو من تبنّاه فتوسّط له للعمل في مجلّة "الطّليعة" الكويتيّة سنة 1963، وهي لسان حال القوميّين العرب في الكويت آنذاك، وبدأت رحلته وتغريبته في عالم الصحافة. فمرّ بمراحل مختلفة وعمل في منابر متنوّعة، فاشتغل بجريدة "السياسة" الكويتيّة من عام 1968 إلى عام 1974 ثمّ عاد إلى بيروت وعمل في جريدة "السّفير" اللبنانيّة من 1974 إلى 1976، ومن 1978 إلى 1983، وأعطى لهذه الجريدة دفعا جديدا بشهادة طلال سلمان، الذي قال عن هذه المرحلة: "جاء ناجي العلي وأطلق نشيد اليقظة الذي كرّس "السفير" كداعية للتغيير ورفض واقع التردّي والانحطاط. ودار الزّمن دورة كاملة فإذا نحن في "السفير" نمزّق بعض الافتتاحيّات، ونلغي العديد من المقالات، حتّى جاء ناجي العلي برسومه التي تقول ما عجزنا عن التّعبير عنه بكلّ هذه البساطة وبكلّ هذا الوضوح المشعّ"(1). ثمّ اشتغل العلي في "القبس" الكويتيّة من 1983 إلى 1985 وأخيرا في جريدة "القبس الدّوليّة" من 1985 إلى 1987 وقد عمل فيها بلندن، إثر ضغوطات سلّطت عليه من قبل منظّمة التّحرير الفلسطينيّة، ودول خليجيّة على الحكومة الكويتيّة.

تحوّل الجدار إلى أوراق الجرائد، ولكنّ الجدار كان أرحم أحيانا، وانتقل العلي من الرّسم على ما هو ثابت إلى الرّسم على ما هو متداول وسريع الانتشار في المكان والزّمان. وإذا ما بدأ ناجي العلي رسّاما تشكيليّا فإنّه اتّجه إلى الكاريكاتير لأسباب عديدة، أهمّها اندفاعه نحو توطين قضيّة شعبه في أعماق الذّات العربيّة، واعتباره الفنّ الكاريكاتوري أفضل وسيلة لـ "التحريض والتّبشير"، فهو لم يختر الكاريكاتير إلاّ لأغراض فنيّة ورؤيويّة، لأنّ الفنّان في نظره حمّال رسالة. وإذا كان قدر العلي أن يكون صوتا للشعب الفلسطيني فإنّ هويّته تتجاوز الانتماء القطري لتبلغ البعد القومي الأشمل، ونشدّد على صلته بالشعب الفلسطيني، حتّى لا يتخندق عمله الفنّي في صلب "القضيّة الفلسطينيّة" بتعريفاتها الرّائجة، لأنّه اتّخذ لنفسه مسافة نقديّة مع توجّهات أصحابها من السياسيين. وتسبّب ذلك في وقوعه في شرك المطاردة طيلة حياته، فقد رفض ناجي العلي حلول التّسوية والاستسلام، وبقي معرّضا للتصفية من قبل "أصحاب القضيّة" والأنظمة العربيّة على السّواء، ولم يكن غير شهيد الموقف، وقضّى حياته حنظلا في أفواههم، حيث لم يصطفّ وراء أيّ حزب أو إيديولوجيا. فاختار أن يكون إلى جانب البسطاء والفقراء وأبناء القضيّة الذين كانوا أشبه بالنبات البرّي في حياة الآخرين. وفي تشخيصه لنفسه يقول العلي إنّه "منطقة محرّرة ليست مجيّرة لأيّ مؤسسة أو نظام، وأحد الذين كتب عليهم أن يحملوا راية الكفاح ليس عن طواعية ولا تحقيقا لشعار ولكن هو القدر"(2). وهو حين يصرّح بمثل هذا التّصريح يعبّر بطريقة تشكيليّة، لا تغيب عنها الصّورة ولا أسلوبه الكاريكاتوري ولا الموقف أيضا. أليس هو ضدّ التطبيل الإعلامي الذي حظيت به الثّورة الفلسطينيّة؟ وتكبّد التقريع واللوم والتّهديد بسبب الموقف من أشقّائه التّاريخيين، فلم يسلم من أبناء منظّمة التحرير الفلسطينيّة، ولا من دول النّفط، حتّى أنّه شبّه نفسه بـ "اليتيم"، إلى أن تمّ اغتياله يوم 22/ 7/ 1987 في لندن وتوفّي في 29/ 8/ 1987. فكان الاغتيال علامة على سوداويّة الوضع العربي، وتقاطعيّة مصالح بعض الأشقّاء مع الأعداء التّاريخيّين. 

المقوّمات الجماليّة لكاريكاتير ناجي العلي
بنى ناجي العلي رؤيته للكاريكاتير من خلال استقراء وضعيّة الكاريكاتير العربي ومقوّماته، فرأى أنّ هذا الكاريكاتير لا يحترم المواطن العربي، لأنّه مليء بالتعليقات، وقائم على الحوار، فهو يتعامل بنوع من الدّونيّة مع القارئ حيث يقدّم له رسّام الكاريكاتير كلّ التّفصيلات المصاحبة، وفي ذلك نوع من الاستحماق. فناجي يطالب الكاريكاتير العربي أن يذهب حدّا في التّرميز وفي تكثيف المعنى دون إسفاف لأنّ هذا الإسفاف يقلّص من قدرات التّلقّي، ويقزّم من فنّ الكاريكاتير نفسه. وقد حاول العلي أن يرتفع بالكاريكاتير العربي ويخلّصه من هذا الوضع بفضل "خلق رموز" بينه وبين القارئ في سياق وعيه بأنّ فنّ الكاريكاتير متّصل بالنّاس، أكثر من أيّ فرع آخر من فروع الفنون التشكيليّة. ففي واقع تكاد الصّورة تمنع وتصادر أو تصنّف على الأقلّ في باب نخبوي بدا الكاريكاتور معبّرا عن علاقة تواصليّة مخصوصة مع النّاس لا لكونه عنصرا حاضرا في الصحف السيارة، فينشر بانتشارها، ولكن بوصفه حمّالا لعناصر جماليّة نجحت في تحقيق المعادلة بين الفنّ وتبسيطه للناس.

كان ناجي العلي على وعي حادّ بخصوصيّة الكاريكاتير، فهاهو يحدّد تعريفا دقيقا له: «الكاريكاتير لغة تخاطب مع النّاس، ولغة تبشير، وهو للنّقد وليس للتّرفيه، وأعتبر نفسي جرّاحا من نوع ما، وأرى أنّ حزني ومرارتي وسوداويّتي التي أعبّر عنها في رسومي هي حالة نبيلة ومشتركة بيني وبين المواطنين الذين يحزنهم ويوجعهم هذا الواقع العربي.. لقد خلقت شخصيّة حنظلة خوفا من التّلوّث بالمجتمع الاستهلاكي، وإنّي حاولت أن أرسم بدون تعليق، وأن أخلق رموزا مشتركة بيني وبين القارئ، ومع ذلك فإنّي أشعر مرّات كثيرة أنّني أريد أن أكتب تعليقات وأحكي كثيرا، أعمل منشورات مانيفستو، أريد أن أؤذن في النّاس، أن أوصل رسالتي بوضوح وبأيّ شكل، وأشعر أحيانا أنّ ذلك يتمّ على حساب فنّيّة الصّورة، ولكنّني أشعر أنّني لا أستطيع أن "أتمرجل" وأتعالى على القارئ. أحاول أن أستخدم أدواتي الرّمزيّة، ولكنّني أيضا مشغول بقضيّة التّوصيل الواضح للشّخص العادي الفقير، والذي يعنيني في المقام الأوّل.. الفكرة عندي أهمّ من التّوزيع والتّشكيل، لأنّ رموزي أصبحت معروفة»(3).

يتصادى رأي ناجي العلي مع مجمل مواقفه من رسالة الكاريكاتير، رسالة تفترض الوعي برؤية فكريّة وفنيّة، فالقول بتشبيه الكاريكاتير بـ "البيان" فيه إعلاء من قيمته النّضاليّة، ولا يمتّ البيان إلى ماهو سياسي وفكري فحسب، بما هو اختزال للمبادئ الأساسيّة التي يدعو إليها الفنّان وإنّما يتّخذ البيان شكلا أكثر عمقا وتعبيريّة لأنّه لا يقدّم رؤية فنيّة للوجود أو مواقف سياسيّة واجتماعيّة لتشكّل قانونا جديدا للمستقبل. إنّ البيان الذي تشير إليه أعمال العلي يخترق أوصال الحضارة التي ينتمي إليها، وهو ما يجب تثمينه والانتباه إليه حتّى لا يكون الكاريكاتير صدى لإحداثيّات واقع، بل هو تفكير في تشكّل الواقع واختراق لجينيالوجيا الفكر الذي أنتجه. لذا من الأنسب اعتبار كاريكاتير العلي جراحة استعجاليّة للوقائع بخلفيّة حضاريّة عميقة. والغريب أنّ ناجي العلي يشدّد على فكرة تطابق الكاريكاتير مع البيان في حقبة تلاشت فيها البيانات المكتوبة وصارت بلا نجاعة، ولكنّ العلي يحافظ على المصطلح ذاته ليعبّر عن "البعد التّبشيري" لفنّه. وإذا كانت سمة البيانات أنّها إعلانيّة وكتابيّة ولها صبغة عموميّة وتبشّر باتّجاه جديد أو مدرسة فنيّة، أي لها طابع جماعي، فإنّ ناجي العلي صوت مفرد في وسط الجموع بل هو صوت مفرد حتّى في ساحة القضيّة الفلسطينيّة. وإذا كان "البيان" ينهض على ثلاثة وظائف رئيسيّة بحسب ريجيس دوبريه، فإنّ كاريكاتير العلي رغم كونه تصويريّا يحتمل هذا الثّالوث، وجدّة بيانه أنّه أعلى من الصّورة إلى حدّ مماثلة المكتوب في مستوى البيانات، وعلّه بذلك أراد أن ينحرف عن سطوة الكتابي الذي كاد يماثل "الشّعاراتي" فحسب في المجتمع العربي.

يقوم "البيان" على ثلاثة وظائف، منها وظيفة القطيعة، حين يُرجم القديم ويُعلى من شأن الجديد، وذاك ما قام به ناجي العلي مبيّنا أنّ فاتحة جديدة في فنّ الكاريكاتير قد انبلجت مع أعماله الفنيّة، وهو موقف من الكاريكاتير السابق عليه، والوظيفة الثانية تكمن في الجهر بـ "الحقيقة" لأنّ البيان لا يدحض واقعا ما فقط، أو لا يتّخذ شكلا معارضا فحسب، وإنّما يكشف عن حقائق. ثمّ للبيان وظيفة كليّة لأنّه يتوجّه إلى الإنسانيّة جمعاء في شموليّة واضحة. ولقد انتبه ناجي في هذا المسار إلى تغليبه للكلمة على الصّورة في أغلب صوره الكاريكاتوريّة، وهو نتاج بديهي لغلبة "الوعي البياني" لديه، وهو وعي يقوم على بلاغة الإيضاح لا على بلاغة التّعمية، وهو في ذلك يواصل نهج الكاريكاتير العربي بشكل إجمالي، إلاّ أنّ عدوله عنه يتمثّل في الخصائص البنائيّة والتّركيبيّة للخطاب اللغوي المستخدم. ومع ذلك يفصح ناجي العلي عن رؤيته لهذه العلاقة الصّميمة بين الكلمة والصّورة، وإذا كان يعتبر الكلمة بمثابة الآذان والصّراخ، فإنّ الصورة هي عناصر الكادحين والمقهورين، وهي لا يجب أن تعرقل الدّور التّوصيلي للموقف. وإن كان ناجي العلي لا يخفي خياراته الفنّيّة ضمن هذه "الجراحة العاجلة" التي قام بها. إنّه في الظّاهر يفاضل بين الكلمة والصّورة بشكل لافت، ولكنّه يعبّر عن خشيته من عجز الكاريكاتير على تبليغ رسالته.

حين ننظر إلى أعمال العلي لا نجدها تسير وفق وتيرة واحدة، فالعلاقة بين الكلمة والصّورة تتّخذ مسارات مختلفة بحسب الفترات التّاريخيّة ودقّة المواقف، وتطوّر الرّؤية الفكريّة والخلفيّة الثقافيّة والتّحكّم في التّقنيات وتطوّرها. وكلّ هذه التحوّلات تؤسّس لأسلوب فنّي فيه الثّوابت بمثل ما فيه من المتغيّرات، ومرتبطة بالمسار الفنّي للفنّان. يذكر عبد الله أبو راشد: "رسومه في بداية رحلته الفنّيّة كانت تصريحيّة تحمل لغة الخطاب النّصّي، في لغته الشّعبيّة المحكيّة، بلسان مواطني رموزه وشخوصه. وهي فلسطينيّة في كثير من الأحوال، ملتصقة بذاكرة المكان بكلّ ما فيه من مكوّنات وإشارات دلاليّة رمزيّة لبيان بصري خطابي، أشبه بمنشور تحريضي حاشد بالفطرة والبداهة الشعبيّة، في جمل تعبيريّة لغويّة مبسّطة، تفوق حجما في بناء لوحته الكاريكاتير، على حساب تقنياته ومفردات التعبير الفني"(4). يتقاطع رأي أبي راشد مع الموقف العامّ لناجي العلي في وعيه بأهمية الكلمة على حساب الصّورة في مرحلة اتّسم فيها الوعي العربي بالأمية البصريّة. ولذا انهمك الفنّان في البحث عن الكلمات والجمل الأكثر تعبيريّة عن عمق التحريض والتبشير الذي يجمله الكاريكاتير، ففي بداية المسيرة الفنيّة انعقد الهاجس على تجسير الصلة مع المتلقّي، وإقحامه في فنّ ما يزال يافعا في المنطقة العربيّة، ولم يكن من السّهل التّخلّص من السلطة المعنويّة التي يكتسبها "الكلام المنثور" إزاء الصّورة. ولئن كانت البساطة هي الميزة الرّئيسيّة لتلك المرحلة الأولى، فإنّها مهّدت لتخلّق مجموعة من الرّموز الشّخصيّة دون أن تغادر هذه البساطة موقعها في رؤية العمل الكاريكاتيري. ممّا أدّى إلى تطوّر تدريجي في التقنيات المعتمدة.

ونشدّد على البعد التّدريجي لما تكتسيه أعمال العلي من وعي بضراوة معركة الكاريكاتير إزاء الخطاب السياسي المسيطر والذي يحتلّ مساحات أوفر، ويكتسب سلطة نصيّة على المتلقّي. وحين نقرّ بأنّ العلي كان ابنا للشعب أكثر من كونه "ابنا للثّورة"، فإنّنا نعني أنّ سخريّته السوداء التحمت بالثقافة الشعبيّة والشفاهيّة لأبناء الشعب الفلسطيني والعربي، وهو الذي أدخل هذه الأبعاد المهمّشة في ثقافتنا العربيّة إلى دائرة المقاربة التّشكيليّة. وذلك ما دفع النّاقد محمّد الأسعد إلى تثمين هذه الميزة في أعمال العلي، لأنّ الصّلة باللسان الشعبي متّنت روابط الوجدان الشعبي، وتجاوزت النّقل إلى فعل الخلق فأدّى ذلك إلى تأسيس لغة تشكيليّة مخصوصة: "إنّ ناجي العلي لم يتهاون في مسألة ابتكار لغة تشكيليّة اندمجت فيها عناصر متنوّعة، بحيث نستطيع أن نقول أنّ الحدود بين ماهو خاصّ وعام قد اختفت. ليظهر لنا عالم كوّنه الفنّان من عناصر معاشة ومشخّصة بدقّة. عالم الوحوش ذات الأشكال القرديّة وعالم البراءة، عالم الطّبقات الثريّة وعالم الفقراء. عالم فلسطين وعالم إسرائيل.. عالم فلسطين وعالم أمريكا"(5). وبهذه اللغة التّشكيليّة تعالى العلي عن ضيق أفق المأساة الفلسطينيّة لكي لا يرهنها في الصّراع السياسي الذي يشكّ في مصداقيّته ويعي ألاعيبه، فجعل من الصّراع الفلسطيني والعربي صراعا أوسع وأشمل في أبعاده الاجتماعيّة والثقافيّة والحضاريّة.  

مولد حنظلة في زمن الصّورة
لم يبتكر ناجي العلي شخصيّة واحدة في عالمه الكاريكاتيري، ولكنّ شخصيّة حنظلة هي الشخصيّة الأكثر شهرة وشيوعا في أعماله، هي بمثابة العين التي يرى من خلالها الفنّان العالم بمثل ما يراه المشاهد العربي أي هي النّقطة المحرقيّة لشراكة الفنّان والمشاهد في تشخيص بصريّة الواقع العربي المتلاطم. لقد بقيت صورة الطّفل الذي يجوب المخيّم باحثا عن الرّزق ومشاهدا لأطوار المأساة موشومة في ذاكرة ناجي العلي، لهذا تولّدت شخصيّة "حنظلة" من هشيم الذّاكرة، فحنظلة ليس تشكّلا تخييليّا صرفا فهو منغرس في ذاكرة موشومة بالقهر والبؤس.

ولد حنظلة فعليّا سنة 1969 في رسم من رسوم العلي بجريدة "السياسة الكويتيّة" واعتبر حنظلة دمغة الفنّان، والتّعبير المباشر عن رؤية الفنّان للأوضاع العربيّة المزرية. وبالإمكان اعتبار ولادة حنظلة المؤشّر الفعلي على تصنيف تجربة العلي الحياتيّة والفنيّة التي نقسّمها إلى ثلاث مراحل، المرحلة الأولى من الولادة والتّشرّد وحياة المخيّمات إلى حين ولادة حنظلة، والمرحلة الثانية من 1969 إلى 1973، واعتمادنا على هذه السنة في تحديد بداية المرحلة الثالثة والأخيرة، لا يعود إلى حرب أكتوبر وتبعاتها ولكن إلى التغيّر السيميولوجي الحاصل لشخصيّة حنظلة الذي ينتقل من وضع متحرّر إلى وضع "التّكتيف" حيث يكون شاهدا على المؤامرات الجديدة التي تحاك ضدّ الشعب الفلسطيني.

ولد حنظلة خارج الوطن والمخيّم على السّواء، لكنّه مثّل "حبل السّرة" التي تربط بين العلي ووطنه إلى الأبد. يتحدّث العلي عن "حنظلة": "ولد حنظلة أيقونة تحفظ روحي وتحفظني من الانزلاق.. حنظلة وفيّ لفلسطين وهو لن يسمح لي أن أكون غير ذلك، إنّه نقطة عرق على جبيني تلسعني إذا ما جال بخاطري أن أجبن أو أتراجع"(6). يكون حنظلة صمّام أمان في حواريّة الفن والحياة، فالفنّان يعيش مع ما يولّده في عالمه الفنّي ويخلق أيقونته، وهو أمر قد يكون متعذّرا على العديدين.

ويحدّد كمال بلاّطة السّمات الرئيسيّة لهذه الشّخصيّة: "عوضا عن توقيع رسمه الكاريكاتوري باسمه، قام ابن مخيّم عين الحلوة برسم ذلك الصّبي الذي كان من جيل العلي يوم هجّر مع أهله وجيرانه من قرية الشّجرة. ووقف هذا الصبيّ المكسو بقميص مرقّع، حافيا على الدّوام، في أماميّة الرّسم، وقد أدار ظهره إلى المشاهد ليشاركه مراقبة العالم المرسوم، ويداه مشبوكتان وراءه. أمّا ما يدور في رأس الصّغير المحلوق والذي لم تنبت فيه أكثر من شعرات معدودة انتفضت منه كالشّوك فنكاد نجهله لولا أنّ عناد حضوره الصّامت وعدم التفاتته في كلّ رسم يصبح بمثابة الشّاهد الجدير بالثّقة والمحاسب الذي لا يلين. ويصبح صمته المستديم في فضاء الرّسم الذي يطفح أحيانا بالكلام، تعليقا يكشف المرارة والثّبات، ولا سيما وقد اختار العلي له اسم حنظلة، ذلك النّبات البرّي الذي يتّسم طعمه بالمرارة، والذي طالما اشتعلت به براري فلسطين على مدى الفصول. وفي مناسبات استثنائيّة خرج حنظلة من موقعه كمتفرّج معنا ليشارك في الرّسم. أمّا خروجه عن موقعه، فكان إمّا ليعانق المقهور، أو ليدسّ شفرة في صندوق اقتراع مزيّف أو ليرمي حجرا على بيروقراطي متخم، أو ليضع زهرة على قبر شهيد، أو ليلتقط أنفه من رائحة كريهة لا يبثّها غير المساومين على قضايا الوطن"(7).

نستشفّ من تحليل بلاّطة تطابق شخصيّة حنظلة مع ذاكرة العلي وهو طفل بالمخيّم، ثمّ انكشاف شخصيّة الشّاهد في وضعيّات تجذب المتلقّي وتجعله متحفّزا لمعرفة هويّة حنظلة، ورغم اسمه الغريب الذي لا يحمل بعدا إيجابيّا فإنّه دليل على مرارة مسترسلة. ولكنّ اسمه المشتقّ من النّبتة البرّيّة يكوّن حقلا شاسعا من الدّلالات، منها أنّه شخصيّة تنتمي إلى الأرض وتخضع لسيرورة النّموّ والحياة، ولا تحتاج إلى من يزرعها فهي تنبت دون استئذان بمثل ما يطلّ حنظلة على قضايا أمّته وينقلها بلا استئذان، وهو برّي بمعنى رفضه للطّاعة والانضباط. إنّه شخصيّة مستقلّة ثائرة ومتمرّدة رغم يفاعته. وإذ نذهب في تبرير الاسم إلى ماذهب إليه الباحثون فإنّنا نعتقد أنّ اختيار ناجي العلي له لم يكن متعلّقا فحسب بهذا النّبات البرّي، وصلته بالأرض الفلسطينيّة، بل إنّنا نذهب أبعد من ذلك بربط الاسم بخلفيّة تاريخيّة من شأنها أن تمنح "حنظلة" دلالات أخرى عميقة ومتجذّرة في تاريخ العرب، وحسبنا أنّ اختيار أسماء الشخصيّات لدى الرّسّامين أو الكتّاب أمر دقيق. ففي تاريخنا العربي نعثر على اسم شهير لرجل يدعى "حنظلة الكاتب" وهو حنظلة بن الرّبيع بن صيفي التّيمي، صحابي، من الذين شهدوا القادسيّة، ونزلوا الكوفة، إلاّ أنّه تخلّف عن علي يوم الجمل، وقد كان من كتّاب النّبي عليه الصّلاة والسلام، ومات في خلافة معاوية بن أبي سفيان. وبين صفة هذا الصحابي ومهمّة حنظلة العلي أوجه تقارب عديدة من أهمّها أنّ الاثنين يلتزمان بالكتابة والتّدوين، أليس فعل حنظلةَ العلي تدوين ساخر لأيّام العرب الحديثة؟

لم يكن ميلاد حنظلة أمرا عاديّا، فعادة ما يبتكر فنّان الكاريكاتير شخصيّة لاهية لتوصيل أفكاره إلى النّاس بدعابة واضحة، ولكن "حنظلة" شخصيّة مُرّة، حمّالة أوجه، وحزينة، فكيف تدعو النّاس إلى الضّحك؟ ربّما يكون "حنظلة" هو الطّرف النّهائي للضّحك حين يكون الحزن هو العنوان الأكبر له! ولأنّه شخصيّة مثيرة للأسئلة دُفع العلي إلى تعريفها في أكثر من مناسبة. كان يعلم أنّ إدخال رمز جديد في تربة الثقافة العربيّة أمر مثير يشبه إقحام وثن أو سلطة بين ما هو سائد! يقول ناجي: سئلت كثيرا عن موضوع الصبي.. وكل ما قيل بشأنه (ضمير، شاهد، مراقب خصوصي..) يمكن أن يكون صحيحا... غير إنّني أضيف القول أنّ هذا الصّبي هو رمز.. رمز ذاتي في العمق لناجي العلي، وعندما وسمته كنت أحاول أن أعكس ذاتي الشريدة المراقبة من خلاله. في مثل سن هذا الصبي خرجت من فلسطين، "وعشت تجربة المخيم، وبدأ وعيي السياسي والحياتي ينفتح على القهر والفقر والتّوق إلى الحرية والعودة إلى معاناة الوطن"(8).

ابتُدع حنظلة في ظلّ سياقات سياسيّة وحضاريّة وذاتيّة عاشها ناجي العلي بعد هزيمة 1967 وهو استعادة للجانب القرويّ البسيط في نفسيّته، حيث يبدو كائنا غير مركّب وشخصيّة سهلة/ ممتنعة التّفكيك رغم غياب ملامح وجهه أي هويّته. ويتمرأى من حنظلة قفاه بشكل دائم وعادة ما يتمّ استقراء الهويّة من الوجه، فقصّة الوجه/ الهويّة هي الطّاغية في التعريفات ولكن أن يتوصّل ناجي العلي إلى تمرير هويّة من خلال القفا فذلك إنجاز فنّي، وفيه مقاصد كثيرة، وإذا كان كلّ شيء يدبّر في هذه الأوطان المتشرذمة من وراء ظهر أمّة حنظلة، فإنّ حنظلةَ العلي لا يدير بظهره إلاّ للقارئ بينما هو كشّاف العالم وخفاياه. لأوّل مرّة يكون للظّهر بعد رمزي إيجابي، ويكون حمّالا للمعرفة وليس لسفر الأحمرة. ولكن هل يعني ذلك أنّ حنظلة شخصيّة مستلبة الإرادة، تكتفي بالانصياع لأوامر خالقها وبمتابعة ما يطرأ من أحداث كقناة تسجيليّة لا غير؟ يجيب ناجي العلي عن هذا السّؤال ببساطة: "أنا لا أحرّك حنظلة كالبهلوان أو المهرّج، حنظلة له كرامته وهو ليس أراجوز، وليس توم جيري، يوجد كثير ممّن انتقده بحدّة وقالوا عنه أنو ما بيضحك للرغيف السّخن أي أنّه غير مرح مع أنّهم لم يروا وجهه. وأنا أحبّ أن أقول لهؤلاء، حنظلة يعبر عن واقعنا الغير مرح على ما أعتقد، وهو في النّهاية ليس مهرّجا عند أحد"(9).

يخفي كلام العلي نوعا من الحواريّة التي كانت موجودة بينه وبين حنظلة الذي يرتفع عن كونه شخصيّة ورقيّة ليكون بمثابة الشخصيّة اللحميّة والذّهنيّة المحاورة لصاحبها وخالقها. فلا يمكن أن يدعو العلي إلى ضرورة إنصات الحكّام لشعوبهم وهو يمارس طقوس استعباد شخصيّته/ النّواة الصّلبة للشعب الذي ينتمي إليه من المحيط إلى الخليج ! وإذا كان "حنظلة" ساردا بشتّى أنواع السّرد فإنّه يمنع المؤلّف/ الرّسام من احتكار الرؤية السّرديّة. وتبقى ميزة "حنظلة" المحوريّة أنّه خلق لدى الرّأي العام العربي العلامة البصريّة المفتقدة طيلة تاريخه البصري. 

بلاغة الكاريكاتير: الإيحاء والخطاب الأيقوني
يتقاطع الكاريكاتير بين نسقين أساسيّين: النّسق اللّغوي والنّسق البصري، فأمّا النّسق الأوّل فيتلخّص في الجمل أو الكلمات التي ترافق الصّورة وتتّسم الأقوال اللّغويّة بنوع من الاختزال أو المفارقة التي يقوم عليها الخطاب الضّاحك بدوره، فتعتمد على التّقرير أحيانا، أو على الإيحاء أو التّضمين أو تكون حواريّة أو تعيينيّة لأماكن أو لفترة زمنيّة. وأمّا النّسق الثّاني، ونحدّه بالخطاب الأيقوني، فيشتمل على مكوّنات الصّورة، حيث تقترب صورة الكاريكاتير من مستويات اللّوحة، فتعتمد على الخطوط والأشكال والألوان أحيانا. إنّ تتبّع دلالة الكاريكاتير تُستمدّ من العلاقة القائمة بين النّسقين، باعتبارهما مكمّلين لبعضهما البعض في إطار صلة المجاورة البصريّة أوّلا، والمضمونيّة ثانيا، وينبع الكاريكاتير انطلاقا من حدث اجتماعي أو ثقافي أو سياسي في اتّجاه التّعليق عليه أو الكشف عنه أو التّشهير به أو نقده، وفي كلّ الاتّجاهات يتبوّأ الكاريكاتير دور الفاضح والكاشف بشكل مباشر لواقع ما. لذلك يمكن اعتبار فنّيّته من نوع "البلاغة المباشرة" التي لا تحتاج إلى مشاهد نوعيّ كي يفكّ شفرة الخطاب الكاريكاتيري، فأيّا كان تكوين الكاريكاتير فإنّه يبلّغ دلالته إلى عموم النّاس حاملا بذلك دورا تعليميّا وتبسيطيّا للمعرفة التي تنتقل بواسطة الإضحاك وإن كان مرّا.

إنّ السّخرية النّاشئة من الخطاب الكاريكاتوري ذات بعد أيقوني، وتتّصل بالسّياق الثّقّافي ولها وظيفة تداوليّة فليست "السّخرية الأيقونيّة" مطلقة، لأنّها موجّهة إلى مجتمع دون آخر وتعبّر بالضّرورة عن تصوّرات ومواقف مجتمعات دون أخرى، فللقارئ دور هامّ في بناء دلالة الكاريكاتير. لذا ينبني الكاريكاتير على توريط القارئ في فعل القراءة/المشاهدة. وإن كان مشاهد ناجي العلي عربيّا من المحيط إلى الخليج ومعنيّا بالقضيّة الفلسطينيّة باعتبارها قضيّة العرب وليست قضيّة تخصّ الفلسطينيين فحسب فإنّه متقبّل محدّد في رقعته الجغراثقافيّة، هذه الرقعة التي تضيق بقدر ما تتّسع نظرا للمدى الذي يبلغه الكاريكاتير في انفتاحه على متقبّل "المهاجر والمنافي" في جميع أقطار العالم وفي السياقات التدواليّة للمنبر الإعلامي الذي يحمل الكاريكاتير.  

تتوزّع الصّورة الكاريكاتيريّة على مستويين محدودين بشكل واضح، يحتلّ "حنظلة" المستوى الأوّل الأمامي بمفرده في وضعيّة غير تشاركيّة، فهو يلتزم بالمشاهدة. ويداه مشدودتان إلى الوراء بمعنى أنّه غير متورّط إلاّ بالنّظر، في المستوى الثّاني الذي يمثّل سياقا موضوعيّا متحرّكا قياسا بثبات مكانة "حنظلة" وجمودها، فهو يقف أمام خانة من خانات المستوى الثّاني، وتحديدا على يمين الخانة الثّالثة أي تقريبا في الوسط. ويفتقر المستوى الأوّل أي السياق الذّاتي لـ "حنظلة" من أيّة تعليقات أو مفردات لغويّة. إذن يواجه "حنظلة" المشهد البصري واللّغوي بالصمت في إشارة إلى وضعيّة الصّمت العربي للمشاهد الذي لا يتكلّم ولا يتحرّك، وهو صمت بليغ لا يعبّر عن عجز "حنظلة" عن الكلام، رغم ما يشير إليه البعد الغرافيكي من خيار ناجي العلي في إلزام شخصيّته بالامتناع عن الكلام ليعبّر عن وضعيّة مخصوصة للمواطن العربي إزاء مسألة تتعلّق بمواجهة "الخونة". ففي أحيان أخرى يعمد العلي إلى توريط "حنظلة" وإشراكه في السياقات التّصويريّة بإبداء الكلام، لكنّه تخيّر صمته في هذا الموضع لبيان أفضليّة الصمت عن الكلام أو اعتبار الصّمت في هذا المقام قول لايحتاج إلى تلفّظ no comment.

يُحدُّ المستوى الثاني بإطار مستطيل أسود، منقسم إلى خمس خانات تتقارب في الحجم، وتحتلّ هذه الخانات شخصيّة واحدة لرجل عجوز تتكرّر في كلّ خاناته في وضعيّات مختلفة، فيتّضح التّضارب منذ الوهلة الأولى بين مستوى موضوعي حركي وآخر ذاتي جامد. ولكنّ حركيّة المستوى الأوّل موهمة لأنّها تقع في دائرة "التّخميني" فالرّجل العجوز يفكّر ويثخمّن أي ينزوي في تفكير باطني بعيد عن التّلفّظ الواقعي. ويشير هذا الوضع إلى خاصّيّة جديدة لـ "حنظلة" فهو شخصيّة قادرة على النّفاذ إلى نفسيّة المواطن العربي، وإدراك عوالمها الباطنيّة. فيتيح ناجي العلي لشخصيّته الرّمزيّة مهمّة اقتناص ما هو حميمي ومسكوت عنه، في تركيبة الشّخصيّة العربيّة التي قد تُمنع من البوح. إضافة إلى مجموع هذه المؤشّرات التي تبرز التّضادّ بين عالم حنظلة وعالم العجوز من النّاحية الغرافيكيّة فإنّ التّباين في السنّ من شأنه إبراز نوع من التّماثل الجزئي بين طفل (حنظلة) صامت، وعجوز صائت في الدّاخل، وكأنّ فعل التّفكير في السياقات العربيّة "عادة سريّة" متبادلة بين الأجيال العربيّة.

وتتّصل الحركة في المستوى الثّاني بما يقوم به العجوز في كلّ خانة فهو يحرّك يده حسب إملاءات الفكرة التي يوحي بها الكلام، ويخلق ذلك نوعا من التّرديد بين الكلمة والإشارة، فحين ينبئ الكلام بالتّفكير يستعيض العجوز بتحسّس شاربه، وتدخين سيجارته، وحين يتعلّق الأمر باليد يرفع قبضة يده، وباللسان يمسك بلسانه، وبالقلب يضع راحته على قلبه، وكلّها إشارات بسيطة مهمّتها توليد الإضحاك إذ ما الدّاعي إلى توخّي ناجي العلي طريقة التّصادي بين الكلمة والحركة، سيما وأنّ الكلمات بسيطة ولا تحتاج إلى معاضدة إشاريّة. أليس هذا التّمشّي مضحكا في حدّ ذاته، ففيه استخفاف كبير بالمتلقّي الذي يحتاج إلى من يرشده إلى موقع اللسان والقلب واليد في إشارة إلى تهكّم الفنّان من وضع المتلقّي العربي.

يرتبط إنشاء الكاريكاتير بسياق ثقافي مخصوص، سواء في إنتاج الشّخوص والعناصر التّشكيليّة أم البعد اللّغوي. وإذا كان "حنظلة" ابن المخيّمات الفلسطينيّة صورة مشتقّة من الواقع العربي فإنّ العجوز بدوره هو صورة المواطن العربي المستضعف الذي هدّته الهزائم والخرائب، ولم يبق له سوى الحوار الباطني في علامة لانقطاع سبل الحوار العلني. وإن كان العجوز يفكّر جهرا فيعني ذلك أنّه يتوخّى طريقة المعلّم لـ "حنظلة"، وهذا مستبعد على الأقلّ في هذه الصّورة الكاريكاتوريّة، ويبقى "حنظلة" ملتزما بمحاورة بصريّة مع العجوز الذي يكتفي بدوره بالتّفكير. وحين يواجه "حنظلة" الخانة الثّالثة، فهو يعبّر عن الفلسطيني والعربي الذي يقدّس "اللّسان".

اعتمد ناجي العلي على مؤشّرات ثقافيّة من بنية مجتمعه الذّهنيّة، وقد اختار أن يرتكز في هذه الصّورة الكاريكاتيريّة على الخطاب الدّيني في حين وظّف في صور أخرى الأمثال الشّعبيّة والأقوال السّائرة والخطاب السياسي، ولكنّ توظيفه للخطاب الدّيني لم يشمل العنصر اللّغوي فحسب، وإنّما طال أيضا العنصر الأيقوني حيث يتجلّى وعي العلي بقيمة فنّه وجماليّة التّواشج بين عنصري الخطاب الكاريكاتيري، فعندما اختار تقسيم الإطار المستطيل لمشهديّة العجوز خيّر تقسيمه إلى خمس خانات في إشارة إلى قيمة هذا الرّقم لدى عموم المسلمين، فهو يحيل على أركان الإسلام الخمسة وعدد الصّلوات، بمعنى أنّ الخانة هي ركن، والرّكن أساسي وموصول بما يليه. وممّا يدعم هذا البعد الدّيني الاستخدام المتعمّد لصيغة تناصّ الحديث النّبوي من خلال اعتماد التّركيب والصّياغة مع التّعديل. لقد التجأ ناجي العلي إلى الحديث النّبوي ليعتمده كمحرّض على التّغيير. وهو إذ يستعمل تركيب الحديث فلشيوع هذا التّركيب بين النّاس. وهو ما يسهّل انتشار وذيوع هذا الكاريكاتير ووقوعه في النّفس والذّهن موقع القبول، فإذا كان الحديث النّبوي يحتل موقعا قدسيّا بالنّسبة للمواطن العربي المسلم فذلك يجعل للخطاب الكاريكاتيري سلطة القداسة فيكون موجّها للممارسة الإنسانيّة. يقيم ناجي العلي مجموعة من التّوافقات والاختلافات مع نصّ الحديث في إطار "لعبة" تبديل المفردات بعضها ببعض، وهذه اللّعبة مرمى السّخريّة:

بالنّظر في توليفات الخطاب اللّغوي، نلاحظ اللّعبة التي أقامها ناجي العلي بفضل أدوات الزّيادة والحذف. وتدخل كلّها في باب البلاغة وتؤدّي هذه اللّعبة إلى منطق بنائي جديد. يتوجّه الخطاب في الحديث إلى "المسلم" أي يسيّج التلقّي في دائرة معتنقي الدّيانة الإسلاميّة. بينما ينقل العلي الخطاب إلى مجال سياسي أشمل، فيضحى الخطاب مبثوثا إلى العربي بشكل عامّ دون تحديد معتقده. وإذا كان الحديث نابعا من تجربة النبيّ محمّد، فإنّ نصّ الكاريكاتير ينبع من الفنّان في إشارة إلى تقاطع دور الفنّان بالدّور الرّسالي للأنبياء في مجتمعاتهم. وإذا كان الحديث صفة ملزمة فإنّ العلي يستعير هذه الهالة الإلزاميّة وهو يواجه الإنسان العربي فيكسب نصّه صبغة علويّة.

يبني ناجي العلي نصّه على موضوع حدث واقعي هو "اتفاقيّة كامب دايفد" ويختزله ببساطة بأنّ الثقة بأمريكا تستوجب تطارح حدود الاستطاعة للمواطن العربي في المواجهة وموقف الفنّان من ذلك. فالكاريكاتير مرتبط بالحدث وسياق نشأته لهذا فإنّ "السخرية الأيقونيّة تعدّ سخرية مقامية تفترض البحث في الوظيفة التّداوليّة للقول الأيقوني، أي تحليل العلائق بين هذا القول وبين السياق الذي يتعلّق به"(10). يذهب ناجي العلي إلى الاحتفاظ بمقطعين من الحديث النّبوي في الخانتين الثّالثة والرّابعة في حين يُجري مجموعة من التّعديلات على بقيّة الجمل في الخانات الأخرى. وقيمة هذا الاحتفاظ تؤسّس لفعل ترسيخ نصّ العلي وعدم إغفاله بشكل تامّ عن الحديث ليبقى النّصّ/ المتن في عمليّة تناصّيّة يتداخل فيها التّضمين بالتّعديل ويمكن حصر التّعديلات فيما يلي:

يوازي العلي بين "المنكر" و "الثقة بأمريكا" في إشارة دامغة إلى ما اقترفه أنور السّادات في حقّ العرب والقضيّة الفلسطينيّة، فاتّهامه بارتكاب المنكر دعوة بيّنة لتجريمه، وتحفيز واضح لمواجهة أمثاله. لهذا ستكون مقاومة "الواثقين بأمريكا" أفرادا أو جماعات، مؤسّسات أو دول، بأضعف عقاب وهو "القتل". وتأتي صيغة تعميم الإدانة لتشمل جميع من يتّصف بهذا "المنكر".

تقوم السّخرية في الخطاب اللّغوي على المفارقة الكبرى بين محتوى الخانات وتدرّجها وبين ما انتهى إليه "تخمين" العجوز حين يتدرّج الخطاب عن المقاومة باليد إلى "أضعف الإيمان" وهو السّلاح. وتعكس هذه المفارقة الواقع الغرائبي للمجتمع العربي حيث يتحوّل البسيط إلى سقف أعلى لفعل المقاومة. فالمقاومة بالسّلاح هي فعل ضعيف بالنّسبة لناجي العلي، لكنّه غير متحقّق على صعيد الواقع بل إنّه يغيّب حتّى الخطاب الملفوظي للعجوز لذلك يكتفي بالإشارة بسبّابته إلى صورة "البندقيّة". وإذا كان التّفكير فعلا باطنيّا فإنّ عدم القدرة على التّلفّظ بلفظ البندقيّة في مستوى الدّاخل حريّ بأن يرفع السّخرية إلى أقصاها. فهذا المواطن العربي يعجز عن التّلفّظ بلفظ "البندقيّة" بينه وبين نفسه، فما بالك بأن يجهر به أو أن يستخدم البندقيّة ذاتها في واقعه، وفي مقاومته للمنكر. أليس هذا هو التّطابق الكلّي بين أيقونة العجوز ودلالة العجز العربي؟

لقد ناضل الفنّان ناجي العلي لا من أجل هذا المواطن العربي فحسب وإنّما من أجل الارتقاء بفنّ الكاريكاتير أيضا، فترك لنا "حنظليّاته" خير شاهد على إمكانات الفنّ العربي المعطوبة، وإذا كانت الصّورة الكاريكاتيريّة الواحة ثريّة إلى هذا الحدّ في بنيتها الغرافيكيّة والدّلاليّة فإنّ دراسة فنّ ناجي العلي ما يزال ملحّا على المبحث العلمي العربي، حتّى لا يموت الشّهيد مرّتين.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ ورد الشّاهد في مقال لطلال سلمان: مع بهجاتيا ضدّ بهجاتوس ـ في كتاب "بهجاتوس رئيس بهجاتيا العظمى" ـ للفنّان بهجت عثمان ـ مصريّة للنشر والتوزيع ـ الطّبعة الثانية ـ القاهرة ـ 1989 ـ ص .9.
(2) ـ ورد في كتاب: عمر عبد العزيز: ناجي العلي: الشّاهد والشّهيد ـ دائرة الثقافة والإعلام ـ حكومة الشارقة ـ 2001 ـ ص 54.
(3) ـ ورد في كتاب: محمود عبد اللّه كلّم: ناجي العلي، من أجل هذا قتلوني ـ دار بيسان ـ الطّبعة الأولى 2001 ـ ص 60.
(4) ـ عبد الله أبو راشد: ناجي العلي، ذاكرة مفتوحة على المقاومة ـ جريدة الفنون ـ الكويت ـ نوفمبر 2004 ـ العدد 47 ـ ص 11.
(5) ـ محمّد الأسعد: الفنّ التّشكيلي الفلسطيني ـ دار الحوار ـ سورية ـ الطّبعة الأولى 1985 ـ ص 70.
(6) ـ الشاهد والشهيد ـ مرجع سابق ـ ص 58.
(7) ـ كمال بُلاّطة: استحضار المكان ـ دراسة في الفنّ الفلسطيني المعاصر ـ المنظّمة العربيّة للتّربية والثقافة والعلوم ـ الطّبعة الأولى2000 ـ ص. ص. 117. 118.
(8) ـ مقتطف من حوار أجراه الأستاذ أحمد فرحات مع الفنان الراحل ناجي العلي سنة 1982 ـ نشرته مجلة الكفاح العربي في عددها 487 عام 1987.
(9) ـ ورد في كتاب: عمر عبد العزيز: ناجي العلي: الشّاهد والشّهيد ـ دائرة الثقافة والإعلام ـ حكومة الشارقة ـ 2001 ـ ص 40.
(10) ـ عبد المجيد نوسي: بلاغة الكاريكاتير السياسي: السخرية والإدانة في رسوم ناجي العلي ـ مجلة الوحدة ـ العدد70 / 71 ـ السنة 1990 ـ ص 82.