هذا نص عابر للأنواع، يجمع بين كثافة الشعر، وتعدد مستويات السرد في زمكان أرض السواد منذ الأزمنة السومرية والبابلية وحتى اليوم. مترع بالإحالات التناصية الخصبة لنصوص مقدسة وتواريخ وأشعار وسرديات غزيرة، يبني بها عالمه النصي الفريد، وتعدد مستويات الدلالات به، ويفتحه على أفاق من الأسئلة التي تردنا لقراءته من جديد.

بمشيئةِ الزّيتِ المَهينِ

صـادق الطـريحي

 

بقُدرةِ الجبّارِ، أفتتحُ الكتابَ بنَصّهِ.

نَصٌّ لتهيئةِ التُّرابِ المُستحيلِ، لرفعهِ، ولخلطهِ بالزّيتِ، إنّ سُلالةَ الزّيتِ المَهينِ مَشيئةٌ، وسُلالةٌ أخرى تُضافُ إلى رواياتِ الثّقاتِ ووَهْمِهمْ. نَصٌّ وأرقامٌ لتلقينِ السّلالةِ صِبْغةً ما، إنّ صِبغاتِ الرّقيمِ تجاربٌ وتجاربٌ للبحثِ عمّنْ يستطيعُ الفوزَ بالإرثِ العظيمْ. نَصٌّ وأقلامٌ ومَحْبَرةٌ تُجِدُّ مُتونَ أوراقِ المشيئةِ، تجعلُ الكلماتِ أتباعًا، وأشرافًا، وأحرارًا، وحكّامًا، وأحياءً، وقتلى جائعينَ، وقاتلينَ كمثلِهمْ حَمْقى، وجيناتٍ لوسمِ وجودِهمْ، وظِلالِهمْ، ودمائهمْ باللّونِ، والأعراقِ، والبَصَماتِ، والأنفِ القياسيّ الوسيمْ.

 - ما حجمُ أنفِكَ يا صديقي القارئَ المجهولَ؟ هلّا تسألُ المُستشفياتَ عنِ الغزاةِ، ببصمةٍ جاؤوا؟ ..

 - لقدْ سرقوا الكتابَ بقوّةٍ!!!

- ما بصمةُ الإحرامِ في البلدِ العَتيقِ؟ وأنتَ مِنْ أهلِ السّوادِ..

-ـ لقدْ ... لقدْ سَرقوا الرّقيمَ بِقوّةٍ!!! ما عُدتُ أعرفُ بصمتي!!

- لكنّ وجهَكَ سومريّ يافعٌ مِنْ آلِ شنيارِ اليتيمِ، أما عرفتَ طريقَهُ وكتابَهُ؟!!

-ـ ...

زَيْتٌ وتدفئةٌ لتمكينِ المَراضِعِ مِنْ مُتابعةِ المَشيئةِ، والإرادةِ؛ كيْ تَقَرَ عُيونُهنَّ ـ ونحنُ في الكانونِ مِنْ فَصلِ الشّتاءِ ـ وأنْ تُدوّنَ في كتابِ المُفرداتِ طَبيعةُ الجسدِ المُغفّلِ، بعدُهُ الخَطيّ في الزّمكانِ، حَيثُ تماثلُ المتخالفاتِ[1]، وشاحناتُ الزّيتِ تَستبقُ الخروجَ، وأنْ تُقدّرَ في سِجِلّاتِ النّفوسِ سنونَ أعمارِ الطّفولةِ والبراءةِ، إنّ أبناءَ السَّوادِ سَيولَدونَ مِنَ التّرابِ الرّافدانيّ الخَصيبِ، سَيكبُرونَ، ويعبِدونَ، ويرفضونَ، ويعشقونَ، ويزرَعونَ، ويَعمَلونَ، ويغرَقونَ، ويُدفَنونَ، ويمكثونَ هُنا، ببيتِ الرّبّ، في ذي القارِ، في إيشانِ إي لوليمَ حتّى المقطعِ المَخرومِ مِنْ سِفرِ النّجاةْ.

وكما أشيعَ بقصّةٍ، لمْ تفرضِ السّلطاتُ قَطُّ عقوبةَ النّفيّ البعيدِ لمن تأوّلَ صورةَ المُتمرّدينَ على المَشيئةِ وقتَ مائدةِ الغَداءِ، ولمْ تُدوّنْ فِقْرةُ التّوقيفِ في قانونِ سِدرا للمُشكّكِ في تراجمِ سيرةِ الكُتّابِ والقرّاءِ؛ لكنّ الرّواةَ تعسّفوا في نقلِ حادثةِ الحوارِ..

- وأينَ كنتَ وأنتَ مِنْ ضِمنِ المُدانين الذينَ تأوّلوا نَصَّ الإقامةِ، رافضًا ما قيلَ في السّردِ الحديثْ.؟

- ما زلتُ صوتًا قارئًا في العالمينَ، ومَوجتي مِنْ أقصرِ الموجاتِ في الزّمنِ المُقدّرِ في السّوادْ.

- ما أكثرَ المَوجاتِ في نَصّ المَشيئةِ! كلّما غُلِبتْ بأقصى الأرضِ واحدةٌ، تردّدَ طولُ أخرى مُحدِثًا خرقًا جديدًا في الرّقيمْ.

نَصٌّ، وتجنيسٌ، وصِبغاتٌ لتَخليقِ التُّرابِ، لِنفخِهِ مِنْ روحِ بابلَ - إنّ بابلَ أمُّنا الأولى، وأولى العَالَمينَ - لِضَربةِ الحَظّ التي سَيصيرُ فيها نُطفةً في دَولةٍ ما، في قَرارٍ، أو مَدارٍ، أو رَقيمٍ، أو كتابٍ مُحكَمٍ، مُتشابهٍ، مُتحزّبٍ لِقضّيةٍ ما، تابعٍ لزعامةٍ ما[2]، إذْ تَصيرُ النّطْفةُ الحَمقاءُ أمَشاجَ القَضيّةِ، والشّهادةِ، والقَصيدةِ، والقَصاصْ.

- في بيتِ أمّي لا يزالُ مُهيَّأ لوحُ الكتابةِ، رُبّما مَحتِ الرّمالُ تَردّدَ الأصواتِ: صوتَ إرادةِ التّجريبِ والتّشفيرِ، صوتَ نِداءِ طفلٍ راكضٍ في ظُلمةِ الأرحامِ ـ بلْ في لُجّةِ الآبارِ - صوتَ حبيبتي الوطنيّةِ العذراءِ، وهْيَ تَهزُّ بالجذعِ القديمِ، تهزّهُ، وتهزّهُ حتّى تلوَّثَ شَعرُها وإزارُها بالزّيتِ والحَلفاءِ؛ لكنّ الرّقيمَ، رَقيمَ أوقافِ الكِتابِ، مُخزّنٌ في غُرفةٍ مَا، غُرفةَ الأمّ العَظيمةِ في السّوادْ.

زَيْتٌ لأمّي، إنّها تمشي مَعَ الغُرباءِ حافيةً، كأنّ الرّبَّ يَرْفَعُها، ويَرْفَعُها، هيَ الخاتونُ تُطعمُ لحمَها: مَنْ جاعَ، مَنْ ضلَّ الطّريقَ، وتَحمِلُ المُتأخّرينَ، ومَنْ تَردّدَ في المَسيرِ بِعَينِها، وبِعَينِها.

- سَيقالُ إنّكَ تُشبهُ الطّفلَ الذي ما زالَ يَركضُ في طريقِ الزّيتِ، لا هو واصلٌ أو راجعٌ.

- بلْ إنّني هُوَ، إنّني الطّفلُ الذي مازالَ يَرفسُ تحتَ رَمْلِ الوقْتِ، والغزواتِ، والأنقاضِ، يَبحثُ عَنْ قصيدتِه التي ضَاعَتْ بأدلجةِ السّوادِ وزيتهِ، وأنا المُزارعُ بلْشَصُورَا، حارسُ البيبونِ في آشورَ، حارسُ مَعبدِ الخَضراءِ في تَكريتَ، حارسُ لهجةِ الزّيتونِ مِنْ بِطشِ الرّعاةْ.

- بَلْ أنتَ فَلّاحٌ بِتابوتٍ، ببرّادٍ مِنَ الفولاذِ لا يَصدأْ، بِمَشْرحَةٍ مُرَمَّمَةٍ، بذاكِرةٍ مُقطَّعةِ الشّرايينَ الطّوالْ!!

- لا!! إنّني أتذكّرُ الدّبكاتِ في عَمْكَا، وبَغْدِيدَا، كأنَّ صَدى الطّبولِ مَواعظُ الأمطارِ يُنْضجنَ النّهودَ بوقعِها، أتذوّقُ السّلوى، أشمُّ مزاجَ زيتِ الدّيرمِ الجَبَليّ فوقَ شِفاهِ سَيّدةِ السّوادِ وشَعْرِها. أتذكّرُ النّارنجَ في (أكشاكَ)[3] أصفرَ آمنًا، وأشمُّ رائحَةَ النّساءِ وهُنّ يقْطفنَ الثّمارَ، أشمُّ عِطرَكَ، عِطرَ سَيّدتي المُترجِمِةِ البَتولِ يفوحُ أخضرَ هانئا!!

- ويقالُ إنّ قَصيدةً رَقْميّةً وُجِدَتْ بجيبِ مُزارعٍ خَنقَتْهُ حامِلَةُ السّيوفِ بحقلهِ المَحروثِ، والمَغروسِ زيتونًا، وأرطابًا، وتينًا طيّبًا في نفَّرِ العَذراءِ[4]، كانَ مُزارعًا مُتحضّرًا يَتحدّثُ الأكديّةَ الفُصحى، كأنَّ لِسَانَهُ المَزْمُورُ، يقرأ نَشرةَ الأنواءِ، والتّأمينِ، والأسْعارِ، أسْعارَ التّمورِ بمَرَفأ التّصديرِ مِنْ باراتَ[5]، سِعْرَ القَمحِ في ميناءِ بابلَ، كانَ يكتبُ في مَجلّةِ شامرَامَ مَقالةً شَهريّةً عنوانُها (سِفْرُ السّوادِ) وكانَ يَسمعُ صَوتَ سَيّدةِ الغِناءِ، وينتشي بَمقامِها، بأناقةِ الفُستانِ يُظهرُ كِتْفَها، بحديثِها في المَسرحِ الصّيفيّ في بغدادَ، أو في صالةِ الفردَوسِ في البيتِ المُعظّمِ، في ضواحي كربلاءَ ...

وفي المدارسِ كانَ يَكتبُ في الرّقيمِ خُلاصَةَ المَحصولِ، ثمّ يُعلّمُ الأولادَ هندسةَ المكائنِ، والكتابةِ، والزّراعةِ، والثّمارِ الشّافياتِ بذاتِهِنّ، بلونِهِنَّ، بنُضجِهِنّ، بحقلهِ الأقصى؛

لذا إنّي أحبّكُ يا (عفيفةُ)[6] في السّوادِ..

أحبُّ سيّدةً مُغنّيةً مِنَ النّهرينِ تأتمُّ الهُداةُ بها، بِمشهدِ صَوتِها،

بالهاشميّ، وبرقهِ فوقَ الكُتوفْ.

زَيْتٌ لإشتالو[7]، لعازفةٍ، لسِيّدةٍ، لعارفةٍ تغنّي في كتابِ الزّيتِ أفراحَ النّساءِ السّومريّاتِ الحسانْ.

(حُسْنُ النّساءِ العارفاتِ مُطَهّرٌ، ومُصوّرٌ في لوحهِ المحفوظِ في بغدادَ، في المُسْتنْصِريّةِ، في السّوادْ.)

- وأنا المُواطنُ شالمُ المَرزوقُ، شاهدُ هذهِ الأنحاءِ، وثّقتُ اللّسانَ ببرجِ بابلَ، ثُمّ رقّمْتُ الكتابَ بِلهْجتي، ما زلتُ أسعى للبقاءِ مُزارعًا للقمحِ، والرّمانِ، والتّبغِ الخَفيفِ بسِدرةِ المُتحنّفينَ بِنَينَوى، أو عامِلًا في مَصنعِ الألبانِ، ألبانَ الثّوابِ بقُطْرُبُلَّ وحولَها، أو عازِفًا في جوقةِ الأطفالِ في تلّ الأُحَيمرِ، حَيْثُ مَدْرسَتي الجَميلةُ، حَيْثُ كيشُ، مدينتي العُظمى، تُعلّمني البقاءَ مُسَائلًا:

ـ يا رَبُّ، مَنْ سَرقَ القَصَيدةَ مِنْ شِفاهِ العازِفاتِ الطّاهِراتْ!!؟

يا رَبُّ، مَنْ سَرقَ المياهَ مِنَ القصيدةِ في الضّحى!!؟

يا رَبُّ، مَنْ سَرقَ الكتابْ!!؟

 

 

[1] تماثلُ الزّيتِ المَهينِ مَعَ المياهِ بلهجة الأسعارِ في السّوق الحديثِ.

[2] كذبةٌ هي أنْ تكونَ مُحايدًا ما!!!

[3] أوبيسُ، أو أكشاكُ، عندَ تقاربِ النّهرينِ، وسطَ جزيرةٍ تُعنى بهندسةِ النّخيلْ.

[4] أوقفني بفيءِ مَجلّةٍ في ساحةِ المَلَكينِ، كنتُ مشوّشًا، قالَ انتبهْ!!

[5] نصٌّ مانحٌ للوقتِ.

[6] مِنْ أجملِ المُتَعفّفاتِ بمنزلِ العودِ العراقيّ المَقامِ. ولدتْ لأمٍّ تعرفُ الإيقاعَ في دارِ الهلالْ.

[7] (في اللغةِ السّومريةِ estate). مِنْ بيتِ ماري، تعزفُ القيثارَ، ترقصُ في قصورِ المترفينَ بفرقةٍ شعبيّةٍ، وتجيدُ أنواعَ الغناء.