قصتان

قصة قصيرة

محمد سعيد الريحاني

 

1 - «ثورة الياسمين» ولويس الرابع عشر العربي

 

 

                 إلى روح الشهيد محمد البوعزيزي، مُطلق شرارة أول ثورة عربية على مَرّ التاريخ، "ثورة الياسمين".


"الملكة: مالي أرى هذه الجموع الغفيرة من الناس تتكدس حول القصر الملكي؟!

الحاشية: إنهم يطالبون بالخبز، يا صاحبة الجلالة. لم يجدوا ما يسدون به رمقهم.

الملكة: ولكنها ليست مشكلة. ليُجَرّبوا أكل البسكويت بدل الخبز!"

مقتطف من حوارٍ دار عام 1779 بين زوجة ملك فرنسا، "لويس الرابع عشر"، وبعض أفراد حاشيتها

استيقظ الرئيس من قيلولته مذعورا على وقع الأحذية المتسارعة نحو فراشه فصاح وهو يحاول تغطية صدره بالمُلاءة:

- أتريدون الانقلاب عليّ؟ أنا رئيس منتخب ب99.99% . أنا الرئيس الشرعي والوحيد للبلاد.

- ال99.99% ممن انتخبوك هم الآن عند عتبة قصرك يلوّحون بالقبض عليك حيّاً لإعدامك أمام عموم ناخبيك من الشعب...

- أليس الوضع تحت السيطرة؟

- من يستطيع السيطرة على وضع لم يعْهدهُ من قبل؟

- هل هي مؤامرة مدبرة تدبيرا؟

- فخامة السيد الرئيس، هذه ساعة حقيقة وليست ساعة خطاب أمام كاميرا...

تثاءب الرئيس، في فراشه، مطمئنا على مصيره:

- إذا لم يكن الأمر انقلابا عليّ من المقربين ، فما الخطب إذن؟

- فخامة السيد الرئيس، بعد زوجتك. الآن جاء دورك.

- إلى أين؟

- إلى أي مكان غير هذا، يا فخامة الرئيس. وإذا ما تأخرت في التفكير واتخاذ القرار، فستكون حياتك في خبر كان. لقد نصّبَ الثوّار قبالة القصر الرئاسي المقصلة في انتظار الانقضاض عليك. وهم الآن يهتفون شعارات يستبدلون فيها اسمك باسم "لويس الرابع عشر".

- ولكن، أأهرب وأنا عار؟!

- الهروب عارياٌ إلى حوامة تنتظرك لنقلك إلى برّ الأمان أفضل من التدلّي ميتا على حبل المشنقة أو التكوّر أرضاً في دمائك قرب فكّي المقصلة، يا فخامة الرئيس.

- والذهب الذي كلفتني زوجتي بتهريبه من البنك المركزي؟

- هذا ليس وقت الممتلكات. الملكية الوحيدة التي لا زالت بين يديك هي حياتك، يا فخامة الرئيس.

- ولكن أأهرب عاريا بكل ما لذلك من دلالات وضيعة بين صفوف شعب علّمته بأنني مثله الأعلى وربه الأعلى!

- لم يبق لك شعب، يا فخامة الرئيس. ثم إن الهروب عاريا ليست مشكلة. ستمنح لك الملابس والبنزين وشفرة الحلاقة في إيطاليا إن أسرعت الخطى وطِرْت قبل أن يصل الثوارُ إلى الحوّامة وينسفوها فتكون بذلك قد أحرقت كل سفنك وحلولك...

- حسنا، ما دمنا كلنا ذكور، فلا عيب في أن تقع عيونكم على سوءتي.

- نعدك، يا فخامة الرئيس، بعدم التلصص عليك وعلى سوءتك ولهذا فسنتقدم نحن المسير كي يطمئن بالك وتسرع الخطى...

- إذن، لنسلك الممرات السّرية، أسفل أرضية القصر. لكن أرجو ألا تسموا هذه "ثورة". هذه "حركة تمرد". والفرق بين التمرد والثورة بيّنٌ. إن الثورة تنتهي بقلب نظام الحكم وإعدام الحاكم وإلغاء كل قوانين النظام القديم وحل البرلمان والحكومة والحزب الحاكم وكل شيء...

- وهذا ما يطالب به الثوار وما يحدث الآن، يا فخامة الرئيس. فلحد الساعة، أنت الوحيد الذي بقيت من النظام القديم...

في المطار، أوقفه العسكر:

- إلى أين أنت ذاهب، يا فخامة الرئيس؟

- إلى الخارج.

- إلى أين، ففي الخارج ثمة عشرات الدول بمئات المطارات؟

- سأفكر في وجهتي عندما أكون في الجو؟

- ولكن هذا لن يحدث، يا فخامة الرئيس. هل أنت هارب من مسؤولياتك؟

- لست هاربا. لا. لست هاربا. حتما، سأعود حينما تهدأ الأمور. سأنجو الآن بنفسي وحين تهدأ الأمور، سأعود لمهامي...

- وهل سيظل الشعب ينتظر عودتك والبلاد بلا رئيس؟

- لا خوف على البلاد، سأفوض الأمور للأكفاء من رجالاتي...

- ولكن البلاد لن تبقى بلا رئيس يدير شؤونها: فإما رجوعك لمباشرة أعمالك الدستورية وإما خروجك دون الحق في العودة إلى هذا البلد!...

- حسنا، ليكن ذلك.

- ليكن ماذا؟

- ليكن خروجي إلى الأبد من هذا البلد...

بعد خروجه من السرداب، التقاه بعض أفراد حاشيته لكنه جفل منها وانقض على درج الحوامة كي لا تفلت منه وأسئلة حاشيته تلاحقه:

- أتهرب، يا فخامة الرئيس، وأنت "العظيم الملهَمُ

فأجابهم  "العظيم" وهو يلهث:

- أتحسبونني ساذجا كأبي الطيب المتنبي الذي كان بإمكانه النجاة بجلده قبل وقوعه في يد قطاع الطرق لولا خدمه الذين بدؤوا يقرؤون عليه أشعاره في الفخر: "الخيل والليل والبيداء تعرفني..."، فرجع ليلعب دور "دون كيشوت" ويلقى حتفه؟ أنا لست لا متنبي ولا دون كيشوت... ولذلك، لا يمكنكم ثنْيي على قَراري وفِراري.

- ولكن، يا فخامة الرئيس، المتنبي على الأقل مات كريما!

- الموت واحد. ولا مكان أمام الموت للذل أو الكرامة. أما أنا، فلا أريد أن أموت وأنا شاب في الثمانين من عمري وبثروة يحسدني عليها "قارون" وهو في قبره!

في الطائرة، تنفس فخامة السيد الرئيس الصعداء وهو يرى الحوامة ترتفع وترتفع. وبدت له بلاده كلها أعمدة دخان وحرائق وتساءل كيف تمكن منه النعاس فلم يشعر بشيء من كل هذا الدمار الذي ينهش بلده قبل دخول رفاقه إلى غرفة نومه. آنذاك، تملكه إحساس بالولادة من جديد فأحس بالقشعريرة تدب في أوصاله ثم انتبه إلى أنه لا يرتدي غير ملابسه الداخلية. وبينما كان يُرَكّب أرقام هاتف من العناوين الصديقة، أخبره الرّبان بأن مخزون الطائرة من الوقود قد نفذ وبأن الطائرة ستسقط في البحر لأن كل المطارات رفضت نزول طائرة عليها رئيس هارب بأموال شعبه.

ذُعِرَ الرئيس وبدأ يصرخ:

- لماذا إذن أيقظتموني من نومي وأرسلتموني إلى السماء في هذه الحوّامة؟ من قال لكم بأنني أريد الهرب؟ أنا كنت نائما في سريري وحرسي الرئاسي كان مستعدا للموت لقاء طمأنينتي في نومي. لماذا رفعتموني إلى الغلاف الجوي في حوامة بلا وقود؟ لماذا؟ لماذا؟...

أحد الربابنة طمأن فخامة الرئيس بأن جزيرة قريبة وافقت على نزولهم على أحد مطاراتها للتزود بالوقود والإقلاع مباشرة بعد ذلك. لكن الرئيس أضاف طلبا ثانيا:

- بالإضافة على الوقود، أريد بذلة رسمية أنيقة تليق بي وملابس داخلية جديدة وزوج أحذية وشفرة حلاقة...

كانت فرحة فخامة السيد الرئيس عظيمة حين توصل بطلبياته فانشغل بالحلاقة وبعدها انصرف إلى تجريب البذلة ونسي السؤال عن الوقود وعن وجهته الجديدة حتى سأله الربابنة:

- والآن، يا فخامة السيد الرئيس، ما هي الوجهة الجديدة للطائرة؟

- حسنا، أمهلوني قليلا حتى أبحث عبر محرك البحث على الإنترنت عن مغاور وكهوف آمنة وغير مأهولة...

ثم بفرحة إرشميديس، صاح:

- وجدتها! وجدتها! وجدتها!...

هبّ الجميع إلى خلفية الطائرة ليستطلع أمر الاكتشاف، ففاجأهم فخامة السيد الرئيس:

- كهوف شبه الجزيرة العربية هي وجهتنا...

وبينما انطلقت الطائرة تاركة وراءها هتافات عمال المطار الذي تخلص منها، خلا لفخامة السيد الرئيس الجوّ للحديث مع الاوفياء من رجالاته، عبر الهاتف:

- ألو، هل تسمعني؟

- نعم، أسمعك، يا فخامة الرئيس، رغم دوي التفجيرات في القصر الرئاسي. هل أنت بخير؟

- لا، أنا لست في القصر. أنا في الهواء. ويبدو أن نفس أعمدة الدخان ونفس أصوات التفجيرات تنبعث من هذا البلد تحت طائرتي الآن مباشرة. هل الفوضى قدر بلداننا هذه الأيام؟

- ليطمئن بالك، يا فخامة الرئيس. سأعمل المستحيل لاستعادة النظام والهدوء وتعبيد الطريق لعودتك إلى بلدك وشعبك قريبا...

- هؤلاء الأوغاد ليسوا شعبي. شعبي هو أنت ورفاقنا وحرسنا. أما هؤلاء الأنذال فقد كانوا دوما مجرد رهائن في يدي. لذلك، كنت أزور لهم أصواتهم وإراداتهم في الانتخابات بنسبة تغيضهم حتى الاختناق موتا: 99.99% . هؤلاء ليسوا شعبي، إنهم رهائني الذين ضاقوا ذرعا بالخناق الذي سلطته عليهم فأعلنوا علي وعليكم الحرب. نحن، إذن، في حرب. والحرب، كما تعلمون، خدعة. وهذه خدعتي...

- قل، يا فخامة الرئيس، فأنا كلّي آذان.

- أنا هارب ولكن أنتم ستملئون الفراغ الذي سأتركه بالطرق التي ترونها مناسبة. افعلوا أي شيء إلا أن تتركوهم يحتفلوا بانتصار ثورتهم. إن انتصارهم هو بالضرورة اندحارنا. لذلك، فاليوم، لا تتركوهم يناموا. شكلوا لِجانا وهُبّوا عليهم كالنحل الغاضب كما هبّوا همْ علينا غاضبين: كسّروا أبوابهم واغتصبوا نساءهم واسرقوا أمتعتهم. أتسمعني؟ هذه الليلة، كُلُوهم واشربوا دمهم... ازرعوا الرعب في قلوبهم حتى لا يناموا وحتى يعترفوا بذنبهم اتجاهي، أنا ضامن الأمن والاستقرار. ألو، أتسمعني؟

- نعم، فخامة السيد الرئيس. أنا أسجل ما تقوله حتى يسمعه الباقون.

- حسنا. علينا سرقة الثورة منهم وسرقة الثقة من نفوسهم. عليكم ان تنقضوا على الحكومة الانتقالية وأن تكثروا من الخرجات الإعلامية مع التركيز على "الخسائر المادية" بدل التركيز على "إنجازات الثورة". قزّموا لهم ثورتهم بتضخيم الخسائر المادية من زجاج مكسور وعجلات مطاطية محروقة وجدران مقشرة واجتهدوا في الباقي من الخسائر بالأرقام وغير الأرقام...

- وأنت، يا فخامة الرئيس، متى ستعود؟

- أنا لن أعود عودة الخِرافِ في العَشِي. أنتم ستضغطون عليهم من خلال تحسيسهم باللاأمن وهم سيطالبون بعودتي. آنذاك فقط، سأطالب بما طالب به قبلي "نابوليون بونابارت": أن أُرَقّّى إلى رتبة "إمبراطور". كما لن أقبل العودة بهالة أقل من تلك التي تعطى لملوك الجان. لن أقبل بأن أكون أقل من "سيدي ميمون" و"الباشا حمو" و"لالة ميرة الحارثية" و"لالة عايشة"... لن أقبل إلا بترقيتي إلى "إمبراطور على الإنس" وفي نفس الوقت إلى "ملك على الجان". وسيكون شرطي، آنذاك، هو أن تُقدَّمَ لي القرابين كل صباح من عينة من الثوار الذين لا زالت ذاكرتي تحتفظ بصورهم وهم يهتفون بسقوطي وموتي على أن أتأكد بنفسي من سلامة هذه الأضاحي والقرابين الآدمية قبل مرور الشفرة على حناجرهم لأنه، كما تعلم، فالأعمى والأعور والأقرع والأبرص والأعرج والقزم والشاذ كلها لا تصلح قرابين ولو تطوعت هي بمحض إرادتها. ألا زلت تسمعني؟

- نعم، فخامة السيد الرئيس...

- حسنا، إلى العمل الآن. وبالتوفيق.

الأربعاء 26 يناير2011


 2 - «ثَوْرَةُ البُوفْرَيْحِيّين» 

الحي بأكمله ينتظر اليوم الذي سيفرح فيه "بُوفْرَاحْ" فيتدافع الكبار والصغار كالفراش ليتحلقوا حول المنزل الذي ستنبعث منه روائع الإيقاعات وتصدح منه أجمل الأصوات وتُبَثَُ منه أحلى الأغاني إلى كل أحياء المدينة فينجذب لها الكبار والصغار من الأحياء الأخرى، المجاورة والنائية، ممتطين دراجاتهم أو مترجلين مسرعين في خطواتهم في سباق مع الباعة المتجولين وهم يدفعون عرباتهم اليدوية نحو بيت الفرح في يوم الفرح لبيع السجائر بالتقسيط والحلوى والألعاب النارية و"الشامية" و"عسولة" والبالونات الزاهية الألوان... 

لا يعرف الباعة المتجولون وقت فرح "بُوفْرَاحْ"ولا تنفع في الأمر نميمة نمام.  لكنهم ينشطون من عقال حين تصل إلى مسامعهم طلائع الإيقاعات السعيدة ولو كانوا في خلوة ليلية مع زيجاتهم فيقفزون من الفراش نحو العربة يرتبون على عجل سلعهم فوقها ويتسابقون نحو عنوان"بُوفْرَاحْ" فهو الوحيد الذي يمكنه أن يفرح  في المدينة التي لا يتزوج فيها أحد ولا يولد فيها أحد ولا ينجح فيها أحد ولا يعود إليها من ديار الغربة أحد من الأحبة الذين يفرح لهم القلب.

ليس ل"بُوفْرَاحْ" يوم خاص بالفرح كيوم السبت أو الأحد أو الجمعة أو غيرها من الأيام على أجندات الانضباط والتنظيم. ولكنه إذا دق دفه، دقت ساعة الخروج في المدينة برمتها ودقت ساعة الحج نحو بيته المغلق في وجه الجميع. يوم فرح "بُوفْرَاحْ" انتفاضة فرح لا يغيب عنها إلا الموتى ومهرجان ما بعده مهرجان...

في الصبيحة الموالية لكل ليلة فرح، يتسابق الناس لمعرفة من هو "بُوفْرَاحْ".  فيصطفون قرب باب البيت، الذي كان في الليلة السابقة قبلة الباحثين عن الرواج والربح ومغناطيسا جاذبا  لكل الباحثين عن حمََام سعادة، للظفر بشرف رؤية الرجل الذي يطرب المدينة ويسعدها دون أضواء ودون مطامع ودون حتى أن يظهر للناس الدين يسعدون بسعادته.

يخرج من باب البيت المحتشد حوله رجل وقور بلحية طليقة وبصمة الزهد والتعبد على جبينه وهو ييدفع عربة عليها ميزان قديم وصناديق خشبية فارغة. بعد فترة، يخرج من الباب أطفال بمحافظ صغيرة متشابكي الأيدي يخطون مسرعين نحو المدرسة...

في الأخير، تخرج من الباب امرأة بسلة فارغة وتغلق الباب خلفها بالمفتاح...

يتساءل الفضوليون المحتشدون حول الباب:

- أهذه هي كل العائلة التي تقطن هنا وتطرب المدينة بأكملها؟

- أين صوت الرجل الذي يغني طوال الليل؟

- إن الرجل الذي خرج أمام أعيننا يبدو زاهد في أمور الدنيا!

- أين المرأة التي تمول وتغني وتبدع المواويل ليلا؟

- إن المرأة التي خرجت أمامنا حذرة ولا وقت لها للاسترخاء والمواويل...

بجوار بيت "بُوفْرَاحْ"، في المدرسة، طلبت المعلمة من التلاميذ في حصة التربية الفنية، رسم حفل "بُوفْرَاحْ" وظلت تشرح وتطيل في الشرح، تفصل في تقنيات الرسم والألوان والخطوط...  لكنها وهي تتجول بين صفوف التلاميذ، انجذبت لإحدى اللوحات تحت رأس تلميذ مندمج في التلوين غير آبه بجبهته وهي تندعكبكراسته من فرط الانصهار مع موضوع الرسم.

سألته عن الشخوص التي يؤثث بها لوحة فرحه البهيج،  فشرع الطفل الفنان  يشرح لوحته وهو يسمي شخوصه " بابا " و" ماما " و"أختي"...

سألته:

- من تكون؟

فأجاب:

- "بُوفْرَاحْ" هو أبي وبيت "بُوفْرَاحْ" هو بيتي!

 

ففرحت المعلمة ونسيت أنها في القسم وعانقت الطفل بحرارة انتبه لها باقي التلاميذ فصرخ آخر من الطاولة الخلفية:

- وأنا أيضا ابن "بُوفْرَاحْ"!

فعانقته، وصرخت الثالثة من الصف الثالث على اليمين:

- وأنا بنت "بُوفْرَاحْ"!

فعانقتها. وصرخ طفل آخر من هنا وآخر من هناك وآخر من هنالك:

- وأنا طفل جاره!

- وأنا ابنة أخيه !

- وأنا من قبيلته!...

كانت المعلمة تعانق تلاميذها طفلة بعد طفلة وطفلا بعد طفل وتقبلهم بحرارة لم تعهدها من قبل وكان التلاميذ حولها يعانقون بعضهم البعض ويقبلون بعضهم بعضا. وفي قلب العناق والتحايا، نما إيقاع خافت وبدا غناء هامس شرع يكبر ويكبر حتى غدا إيقاعا مسموعا على الطاولات وكورالا جماعيا لتلاميذ لم ينتبهوا حتى لدخول مدير المدرسة إلى القسم.

حاول المدير أن يرسم على وجهه ملامح القسوة لفرض النظام واستعادة هيبة المؤسسة لكنها  لم تنجح مع أطفال سعداء عرضوا عليه الرقص معهم فرادى ومثنى وثلاث ورباع...

في البداية، كان المدير يطلب منهم أن يطلقوا من يده كي يسيطر على الوضع ويعيد النظام للقسم لكنه في عز الاندماج والفرح صار المدير يطلب من أطفال القسم أن يطلقوا من يده  كي يشد بأطراف جلبابه ويركل الأرض على إيقاع النقر على الطاولات فيفرز عجيزته ويديرها مغمض العينين سعيد السحنات حتى إذا ما فتح عينيه كان معلمو ومعلمات الأقسام الأخرى قد داهموا القسم بتلاميذهم منجذبين لسحر الإيقاع مختلطين بهياج الهائجين وفرح الفرحين. ولأن أرض القسم ضاقت بالحشود، فقد صعد الصغار للرقص على الطاولات بينما خلت أرضية القسم للمعلمات والمعلمين والمدير وطباخي المطعم وحراس المدرسة...

في الخارج كانت التجارة رائجة والحركة دائبة والجموع غفيرة والبالونات الزاهية تحلق في الأجواء والألعاب النارية تزين السماء والناس ترقص وتتراقص فرادى وزمرا.

حين فُتِحَ بابُ القسم لخروج التلاميذ شبت السعادة في الخارج وكان آباء وأولياء التلاميذ الذي ألفوا مرافقة أطفالهم خلال العودة إلى البيت، مضطرين لحمل أطفالهم على أكتافهم وسط الزحام والهياج والدفع والتدافع...

على رصيف المدرسة، كان المدير، تحت تأثير اللحظة يحمل ميكروفونا وهو يخطب أمام جمع لم يجتمع حول المدرسة منذ اخترعت الكتابة قبل آلاف السنين. فوجد نفسه يخاطب الآباء والأمهات والتلاميذ وشركاء المدرسة بنغمة لم يعهدها في صوته:

أيها الأحبة، إنه ليوم عظيم لم أشهده في حياتي. ولتخليد هذه الذكرى العظيمة في نفوسنا جميعا سأعمل ما في جهدي لتغيير اسم هذه المدرسة من "مدرسة الحجاج بن يوسف الثقفي" إلى مدرسة "بُوفْرَاحْ" وسنستحضر هذا اليوم الجميل بكامل تفاصيله كلما نطقنا بالاسم الجديد لهذه المدرسة. ولتكن حياتنا كلها أفراح في أفراح"...

في الغد، كانت لوحة جديدة مذهبة قد علقت على مدخل المدرسة كتب عليها: "مدرسة بُوفْرَاحْ".

وفي اليوم الموالي، استُبْدِلَ الاسمُ القديمُ للشارع الرئيسي للمدينة ب "شارع بُوفْرَاحْ". وفي الأسبوع الثالث، افتتحت السينما الجديدة بالمدينة وأطلق عليها اسم "سينما بُوفْرَاحْ". وفي الشهر الموالي، غير اسم المحطة الطرقية لتصبح "محطة بُوفْرَاحْ". وتقدم سكان الحي لتغيير اسم حيهم ليصبح "حي بُوفْرَاحْ"، وتسابق التجار والمقاولون على المصالح البلدية لتغيير أسماء مقاولاتهم ومشاريعهم فكانت "ملبنات بُوفْرَاحْ" و"مطاعم بُوفْرَاحْ" و"مقاهي بُوفْرَاحْ" و"مخابز بُوفْرَاحْ" و"معاصر زيتون بُوفْرَاحْ" و"مصابن بُوفْرَاحْ". وفي عز هدا الهياج، شاعت في المدينة الرغبة في معرفة من هو "بوفراح" الذي قلب أسفلها على أعلاها. لكن الأمر انتهى إلى حقيقة محيرة.

بُوفْرَاحْ" اسم رجل من دوار "الفْرَيْحِيِينْ" واسمه الكامل "بُوفْرَاحْ الفْرَيْحِي" وهو بائع خضر متجول يقيم حفلا عائليا خاصا في بيته عندما لا يبيع شيئا خلال النهار. وليعوض البؤس ويسلي صغاره في البيت ويحافظ على معنوياتهم، كان يقيم سهرة عائلية لا تنتهي إلا بنوم سعيد لكل أطفاله. وقد انتبه الأطفال خلسة لمصدر سعادتهم فصار مطلبهم السري هو ألا يبيع والدهم شيئا خلال النهار كي يرقصوا طوال الليل في الوقت الذي كان فيه "بُوفْرَاحْ" يعتقد أن الدافع للحفل سري للغاية.

احتار الناس.

إن الرجل الذي يسعد الجميع هو رجل لا يجد حتى ما يسد به رمقه ورمق صغاره.

شبت الحيرة بين أزقة المدينة وألهبت الألسن والأفئدة وبدأ التفكير في الخروج في تظاهرة من أقصى المدينة إلى أقصاها مطالبين فيها بأن يكون "بُوفْرَاحْ" الدييدخل السعادة لقلوب الناس رئيسا لعموم الشعب.

خرجت الجموع الغفيرة في مسيرة عفوية مطالبة بتغيير اسم المدينة من "مدينة الحجاج بن يوسف الثقفي" إلى "مدينة بُوفْرَاحْ" وتغيير اسم البلد من "جمهورية  الحجاج بن يوسف الثقفي" إلى "جمهورية بُوفْرَاحْ" وليكن "بُوفْرَاحْ" أول رؤسائها.

انتهت المسيرة العفوية بالوقوف الجماهيري الغفير الصاخب عند  باب المجلس البلدي بالمدينة. خرج إليهم رئيس المجلس عارضا استعداده للحوار لكنه لقي صرخة جماعية موحدة:

- نريد"بُوفْرَاحْ" رئيسا للبلاد!

فاستدار الرئيس جهة أحد مرافقيه وسأله بصوت مسموع:

- من هو "بُوفْرَاحْ

فهاجت الجموع الغفيرة:

- إنه لا يعرف حتى "بُوفْرَاحْ

فزعق صوت منفرد من بين الجموع:

- أي حوار يمكننا فتحه معكم وأنتم لا تعرفون حتى "بُوفْرَاحْ

 

صرخت الجموع صرخة رجل واحد:

- نريد  "بُوفْرَاحْ" رئيسا للبلاد!

فأجابهم صوت الرئيس من عل:

- ولكن رئيس البلاد يتم اختياره من خلال صناديق الاقتراع!

فزأرت الجموع زئير أسد واحد:

- خذوا صناديقكم واختاروا بعضكم بعضا. أما نحن، فقد قررنا أن يصير "بُوفْرَاحْ" رئيسا لنا. فالسعادة التي يدخلها إلى قلوبنا وحياتنا تضيق بها صناديقكم ويضيق بها اقتراعكم. أما نحن، فنريد "بُوفْرَاحْ" رئيسا للبلاد!

عاد الصوت الذي لم يعد عاليا هده المرة ليطمئن الجموع الجادة في مطلبها، قائلا:

- حسنا، سنرسل مطلبكم للجهات المعنية لدراسته وسنرد عليكم بعد أيام معدودة.  

هللت الجماهير بفرح وصل دبيبه أوصال الرئيس ذاته، وزغردت النساء احتفاء بأول إجماع حصل في حياة سكان المدينة وبتحقق أول مطلب في تاريخ البلد، فانطلقوا مهللين:

- عاش "بُوفْرَاحْ"!

- عاش!...

- عاش "بُوفْرَاحْ"!

- عاش!...

وفوق الحشود الغفيرة المتدفقة نحو شوارع المدينة الرئيسية، كان رجل ملتح ببصمة الزهد على جبينه محمولا على الأكتاف وهو يرسم بسبابته ووسطاه علامة النصر للجماهير التي تردد بانتصار:

- عاش "بُوفْرَاحْ"!

- عاش!...

- عاش "بُوفْرَاحْ"!

- عاش!...