أربع قراءات للمشهد التونسي

علام منصور

كان لتداعيات الموقف في تونس والسقوط المفاجئ والمدوي لزين العابدين ابن علي وهروبه في الربع ساعة الاخيرة بصفقة مع الجيش وبعض عواصم القرار المهمة، اثر بالغ الاهمية، وحدث يمكن اعادة قراءته من خلال عيون اوروبية وامريكية واسرائيلية وعربية كل على حده، لإيفاء المشهد التونسي في مرحلة ما بعد ابن علي تجلياته الحاضرة والمستقبلية . من خلال الموقف الفرنسي يمكننا اختزال الموقف الاوروبي، الذي لزم الصمت حيال ما يجري في تونس من احداث دامية واطلاق الرصاص الحي على المواطنين والمتظاهرين، فوزيرة الخارجية الفرنسية  تحدثت في  بدايات الثورة والاحتجاج، عن امكانية  تعاون امني بين تونس وفرنسا، كون بلادها تملك الخبرة المناسبة واللازمة لمواجهة ومعالجة “مشكلات امنية”. وهي في ذلك تتعامل مع ما كان يجري في تونس من قتل للمتظاهرين على ايدي الشرطة على انه مشكلة امنية، لا تتعدى بعض التكسير ورشق الحجارة من اجل الخبز والسكر والشاي، متناسية ان الشعب هناك قد ملّ القهر والكبت السياسي والاقتصادي والاجتماعي والديني لاكثر من عقدين من الزمان، ناهيك عن منظومة الفساد المؤسسي الذي ينخر في البلاد ويطارد الناس في ارزاقهم حتى لو كانت بسطة البوعزيزي، الذي لم بجد من يثأر له من صفعة  الشرطية فاديا أي مسؤول، فاقدم على حرق جسده تعبيرا عما آلت اليه الامور في تونس الخضراء، في ظل غياب تام للديموقراطية والعدالة الاجتماعية وحقوق الانسان في أدنى متطلباتها . لقد كان الموقف الاوروبي يميل الى اتباع استراتيجيته التي وضعها ابان احداث 11/سبتمبر بالنسبة الى جيرانه في الضفة الجنوبية من البحر المتوسط، والقائمة على تشجيعها بإحراز تقدم اقتصادي وذلك لمواجهة التنظيمات والحركات الاسلامية، لأنها ترى ان تردي الاحوال المعيشية والاقتصادية، وتفشي البطالة  خاصة بين الشباب، سوف يكون مدخلا لتلك الحركات والتنظيمات الاسلامية لتملا الفراغ مستغلة حالة الاحباط والحنق. بالعموم كان الموقف الاوروبي/ الفرنسي موقفا متناقضا مع ما يدعون ويرفعون من شعارات كالحرية والعدالة والديموقراطية وحق الشعوب في التعبير عن ارادتها، ضاعت كل تلك المفاهيم والمصطلحات امام التغاضي عن رصاص قوى الامن وهي تطلقه على جموع المتظاهرين. وهو لم يكن موقفها حين سارعت الى تأييد مطالب القوى المطالبة بالحرية والتغيير والديموقراطية في دول اوروبا الشرقية سابقا، حين جندت كل ماكناتها الاعلامية وسياسيها للتنديد بالبطش ضدهم، وهو لم يكن حتى موقفها من دعم الشعب الايراني واحترام خياراته خلال عودة الخميني وثورة الشعب على الشاه، مما دعا الى قيام احزاب فرنسية مثل الحزب الاشتراكي الفرنسي الى ادانة قوية لحملة القمع غير المسبوقة في تونس كما وصفت رئيسة الكتلة النيابية الاشتراكية تصريحات وزيرة الخارجية عن التعاون الامني بين بلدها وتونس بالمخجل”.

اما بالنسبة الى الموقف الامريكي، فقد كان يترقب ويحلل وقد كانت الإدارة الامريكية بين فكي كماشة او بين خيارين احلاهما مر بالنسبة اليها،ما بين رضى بمطالب الشعب التونسي بالحرية وبحرية قرارة وخياره، وبين الخوف من وصول الاسلاميين الى الحكم في تونس. وقد كان اللافت للنظر ان الادارة الامريكية والتي التزمت الصمت ايضا خلال الاسابيع الاولى من الانتفاضة في تونس، قد راهنت على قدرة رجلها القوي فيها على قمع هؤلاء المنتفضين بيد من حديد ويطفئ اجسادهم المشتعلة بالتغيير. وكانت تتحرك بحذر خاصة بعد ورود التقارير اليها الى ان ابن علي اصبح لا يسيطر على الامور وان البلاد تسير نحو المجهول. فسارعت هيلاري كلنتون وزيرة الخارجية الى التصريح وقبل يوم واحد من فرار ابن علي الى انه “ينبغي تغيير المؤسسات الفاسدة في المنطقة واعادة الحيوية للأنظمة السياسية الجامدة والا خاطرت بخسارة المستقبل لصالح اسلاميين متشددين” ويبدو واضحا ان الادارة الامريكية مسكونة ايضا ومنذ 11/سبتمبر بفوبيا الاسلام وكأن القادم لحكم تونس سيكون ابن لادن  قادما من كهوف تورا بورا، وان النموذج الايراني خلال الثورة على الشاه ما زال كامنا في ذاكرتها. ان امريكا لم تكن غافلة عن مجريات الامور، مع دهشتها لسرعة فرار ابن علي من البلاد بل كانت تراقب اولا بأول حسب تقارير اولي الامر هناك من عملائها، لكن الخطر الاكبر الذي كان يسيطر على تفكير الادارة الامريكية وصناع السياسات فيها والذي لا يعبرون عنه علانية، بان جلب الحرية والديموقراطية وما الى ذلك من مصطلحات قد يأتي حكومة اسلامية او متعاطفة معهم على الاقل، وهو مالا تريده لا في السر ولا في العلن.فقد غضت الطرف عن الانتخابات في السلطة الفلسطينية وكانت النتيجة فوزا لحماس وهو الذي لم تتوقعه على الاطلاق فسارعت الى دق الاسافين وشرخ الفلسطينيين كما الحال اليوم  رغم ان ذلك   كان عبر صناديق الاقتراع فما بالنا لو ان   التغير سياتي عبر اصوات الجماهير الغاضبة الناقمة على كل شيء. إسرائيليا، حرصت الحكومة الإسرائيلية على متابعة المشهد التونسي بكل تفاصيله الدقيقة من خلال جواسيسها، الذين كانوا يسرحون ويمرحون في سوسة والحمامات تحت غطاء سياحي، ومن خلال الجالية اليهودية فيها ومن خلال شبكة المراسلين لها. فقد وصف التلفزيون الاسرائيلي هروب ابن علي ب”دراما” سطرها التاريخ، وان الحكومة الاسرائيلية قد أسفت لرحيله،لأنه كان من اكبر الداعمين لسياستها في المنطقة. بل وعملت على عقد جلسات امنية وسياسية لمتابعة ما ستؤول اليه الآمور لأنها تستشعر بشيء من الخوف،ان القادم الى تونس قد يعمل على تغيير السياسة المتبعة تجاهها، وتصبح النظرة اليها على اساس انها عدو وليست صديق، كما الصورة التي رسمها ابن علي خلال مدة حكمة للبلاد، وهو الرئيس العربي الذي منع المتظاهرين من الخروج في مسيرات غضب، للاحتجاج على حرب غزة عام 2008 بل ومنع المواطنين من القيام بجمع تبرعات مادية ومالية لأهل غزه.

وقد عبر سيلفان شالوم نائب رئيس الوزراء الاسرائيلي عن مخاوف اسرائيل مما حدث في تونس، وأكد ان المجتمع الدولي قد غض الطرف عن كل اسباب البطش والقمع والقهر والفساد التي مورست من قبل النظام السابق، وهو هنا لا يتحدث شفقة على الشعب التونسي، بل هو استشعار ان الشعوب العربية قد ضاقت ذرعا بحكامها اومن بطشهم، وان العدوى التونسية ان انتقلت الى بعض العواصم العربية خاصة الاردن ومصر كما ترى فان النتائج ستكون كارثية على اسرائيل.

انها حين ترقب وتراقب المشهد التونسي ليس حبا بنا ولا حزنا على من طار بالسماء في ليلة ظلماء وضاقت عليه بما رحبت، بل ترى ان خلق الفوضى واشعال الفتن ما ظهر منها وما بطن في الدول العربية الاخرى وتحت مسميات اطلت برؤوسها علينا ذات صباح، من تقسيم للسودان على اسس عرقية الى تغذية حركات انفصالية في اليمن وغيره، الى فتن دينية في مصر ولبنان، وخلق اجواء عنصرية بين الفلسطينيين والاردنيين، ومذهبية بين السنة والشيعة في العراق ومن يلتف حولهما، ناهيك عن احتقانات اجتماعية متورمة في كل اصقاع الوطن العربي وقابلة للانفجار في اية لحظة، وفي ذلك الهاء للعرب واشغالهم لعقود بحروب وفتن لا تنتهي، ليخلو لها المجال كليا للاستفراد بالقضية الفلسطينية برمتها، بعد تعريتها من بعدها العربي والاسلامي والدولي ومن كل شيء.

اما عربيا، فحدث ولا حرج فلولا قناة الجزيرة الفضائية وبعض القنوات الاخرى، لكان العرب في سبات عميق ولا يعرفون ما يجري في تونس، بل ان اغلب القنوات الاخبارية العربية الرسمية كانت لا تبث اي خبر من تونس وكأن ما يجري هناك يجري في بلاد الواق واق، خوفا من تفشي ظاهرة تونس وان الشعب اذ اراد التحرر فانه يتحرر مهما كان بطش حكامه .

سارع الحكام والمسؤولون العرب الى خفض اسعار المواد الغذائية او توزيع اموال على مواطنيهم او تخفيض على الوقود…الخ، في خطوة استباقية لامتصاص نقمة الشارع والمواطن العربي، الذي اصبح يرى في تونس نموذجا للتغيير رغم الصعاب.

كان الموقف العربي غائبا عما يجري، لان هذه العصا من هذه العصية، لكن الموقف القطري هو الذي جاء سريعا مستجيبا لنبض الشارع في تونس، محترما ارادته في التغيير، اما البقية الاخرى فقد نامت نومة اهل الكهف، وسارع كل زعيم وحاكم عربي الى الالتقاء والاجتماع بأجهزته الامنية، للاطلاع على جهوزيتها بالعمل في الاوقات الصعبة، ونسي قول الشابي الذي قال يوما :

اذا الشعب يوما اراد الحياة    فلا بد ان يستجيب القدر

كلمة اخيرة، تحية للبوعزيزي الذي ايقظ ما كان نائما في داخلنا.

allammansour@hotmail.com