الثورة التونسية: ثورة لإصلاح النظام السياسي وليس لتغييره

إبراهيم أبراش

لم يكن التونسيون الأكثر فقرا ولا الأقل حرية ولكنهم ثاروا. فهم ما جرى في تونس والتنبؤ بمستقبل الأحداث سيحتاج لوقت طويل وقد تكشف لنا الأيام أمور خفية. ما يجري في تونس ثورة على فساد رموز النظام السياسي وليس على النظام السياسي وهذا ما يميز الثورة التونسية عن غيرها من الثورات. ما جرى في تونس يمكن توصيفه بالظاهرة غير المسبوقة في التاريخ العربي الحديث من حيث حجم واتساع التحرك الشعبي وقوة المواجهة بين الشعب وأجهزة الأمن، ما جرى خلال شهر فاق كل التوقعات ولا نعتقد أن أحدا يزعم بأنه كان يتوقع صيرورة الأمور إلى ما صارت إليه. ولأن الأمور سارت بهذه الوتيرة السريعة فإن غالبية التحليلات والتعليقات أتسمت بالانفعالية والعاطفة أكثر مما هي ناتجة عن دراسات معمقة، وعليه فإنه من التسرع الحكم بان المشهد الذي جرى في تونس سيتكرر بنفس الشكل في بقية الدول العربية.

بقدر ما أثار التحرك الشعبي التونسي إعجاب غالبية الجماهير العربية المقهورة التي تعيش أوضاعا شبيهة نسبيا لأوضاع الشعب التونسي إلا أنها أيضا أثارت حفيظة أنظمة عربية وحكومات أجنبية وأصحاب مصالح مما قد يدفعهم لحرف الثورة عن وجهتها وإغراقها في متاهات لا تحمد عقباها.لا نريد تنصيب أنفسنا أوصياء أو حتى ناصحين للشعب التونسي الذي به من الكفاءات السياسية والثقافية ما يجعله أهلا لمعرفة مصلحته وكيفية لملمة ألأوراق التي تبعثرت بعد هرب الرئيس، ولكن وحيث أن تونس جزءا من الأمة العربية وهناك وحدة حال ووحدة آمال بين الجماهير العربية، فإن حالة تونس تستحق أن نأخذ منها دروس وعبر للشعوب العربية وللأنظمة على حد سواء دون الوقوع في التقليدية العمياء.

فهم ما جرى في تونس والتنبؤ بمستقبل الأحداث سيحتاج لوقت طويل وقد تكشف لنا الأيام أمور خفية، فالشعب التونسي ليس الأفقر في العالم العربي حيث الوضع الاقتصادي أفضل من كثير من البلاد العربية وبالتالي يصعب تفسير ما حدث بأنه ثورة الجياع، أيضا قمع الحريات وانتهاك حقوق الإنسان ليست أكثر مما هو عليه الحال في البلاد العربية، وبالتالي لا يمكن تفسير الثورة بأنها فقط بسبب غياب الحريات.إذن ما جرى يستحق مزيدا من البحث والدراسة. بعض الموضوعات المرتبطة بالحدث تحتاج لتبصر هادئ بعيدا عن الأحكام المسبقة وبعيدا عن الإسقاطات النابعة من الرغبوية والتشوقات.

أولا: لا يوجد شعب بدون أوراق قوة
مهما ساءت الظروف الاقتصادية والسياسية ومهما مارست الأنظمة من قمع واستبداد فالكلمة النهائية تبقى دائما للشعب، وورقة القوة هي الشعب نفسه إذا ما قرر التحرك متحررا من الحسابات الحزبية الضيقة ومن رهاب الأنظمة.

ثانيا: السلاح ليس دائما مدخلا للتغيير
إن التحرك الشعبي السلمي لمواجهة أنظمة الاستبداد أجدى من اللجوء للعمل المسلح كالاغتيالات وتفجير مقرات ومؤسسات رسمية.لقد تم تحييد الجيش التونسي لأنه رفض أن يدخل في مواجهة مع شعب أعزل.كانت قوة الثورة التونسية أنها شعبية سلمية تلقائية ولم تكن موجهة من الخارج.

ثالثا: الغرب لا يحمي حلفاءه الفاشلين
إن الرئيس الذي سقط والنظام الأمني المرتبط به كان يعتبر من حلفاء الغرب وخصوصا باريس وواشنطن، ولم تفعل هذه الدول شيئا لإنقاذه حيث جرى معه ما جرى مع شاه إيران حتى لم تجرؤ دولة غربية على منحه المأوى.إن كان هذا الأمر يتسق مع سياسة واشنطن والغرب التي تقول أن لا صداقات دائمة ولا عداوات دائمة، إلا أنه في نفس الوقت رسالة قوية لبقية حلفاء الغرب في المنطقة.

رابعا: ابتذال الرتب العسكرية
إن الرئيس زين العابدين كان عسكريا وان يهرب بهذا الشكل إنما يشكك بكل أصحاب الرتب العسكرية في العالم العربي وخصوصا الذين في قمة هرم السلطة.كما أن إخفاء الاستبداد بالرتب العسكرية وبمجالس قيادة الثورة لن يدوم طويلا، الرتب العسكرية لا تمنح شرعية لحاكم.

خامسا: انكشاف الديمقراطيات الشكلانية والانتخابات المزورة
حيث أن الرئيس المخلوع الذي ثار ضده الشعب كان يفوز بالانتخابات ودائما بنسبة تصل 90% من الأصوات، فهذا يشكك بمجمل العملية الانتخابية وما كانت تفرز من شخصيات ومؤسسات وهذا ينسحب على المؤسسة التشريعية.

سادسا: للدكتاتورية أكثر من وجه ولكن نتائجها واحدة
توجد أوجه بين نظام زين العابدين وبقية الأنظمة العربية في كونها تنتمي إلى ما نسميه الدكتاتوريات المستحدثة وهي دكتاتوريات تستبد بالسلطة إما باسم الثورية والقومية أو باسم الدين او باسم ديمقراطية أبوية وموجهة.هذه الدكتاتوريات أفقرت الجماهير وأضعفت المشاركة السياسية الحقيقية وقتلت المجتمع المدني الحقيقي وأضعفت روح الانتماء للدولة عن المواطنين ووضعت المجتمع في مواجهة الدولة، ولكن توجد تمايزات بين هذه الدكتاتوريات لها علاقة بالتركيبة السكانية للدولة وبالثقافة السياسية والاجتماعية السائدة في المجتمع.

سابعا: لا قياس مع وجود فارق
ما يجري في تونس ليس أزمة دولة بل أزمة نظام سياسي، وفي ذلك تختلف حالة تونس عما هو عليه الأمر في العراق أو السودان أو اليمن وحتى عن مصر والجزائر بشكل اقل.فتونس دولة عريقة وليست طارئة على المنطقة كدول سايكس – بيكو، ولا تعرف انقسامات طائفية او إثنية فهي أكثر الدول العربية تجانسا مجتمعيا، المشكلة في تونس لا تهدد وجود الدولة وتبقى في إطار أزمة حكم وسلطة.

ثامنا: الجيش سلاح ذو حدين
ما ميز الثورة أو الانتفاضة التونسية وكان سببا في اتساع نطاقها أنها كانت بدون عنوان حزبي أو أيديولوجي ولو كانت تحت توجيه وقيادة حزب أو جماعة سياسية ما كانت بهذه القوة والشمولية.إن كان هذا أمرا محمودا إلا أنه قد تكون له سلبيات عندما تنتقل الثورة لمرحلة إعادة بناء النظام، حيث لا توجد قوة منظمة قوية تستطيع لملمة الحالة السياسية والأمنية وتهيئة الشعب للانتخابات إلا الحزب الحاكم سابقا والجيش. ومن هنا نخشى أن يستولي الجيش على السلطة بذريعة الحفاظ على الأمن والإعداد للانتخابات القادمة، وقد ثبت أن استيلاء الجيش على السلطة في العالم العربي غير مضمون العواقب.

تاسعا: النظام ليس شخص الحاكم بل بنية ونخبة متجذرة
عندما نتحدث عن الأنظمة واستبدادها فليس المقصود الحكام كأشخاص أو عائلاتهم، فهؤلاء جزء من بنية أو نخبة سياسية اجتماعية اقتصادية واسعة ومتشعبة المصالح والعلاقات، وعليه فهرب أو موت الحاكم لا يعني نهاية النظام، وقد تقاتل النخبة للدفاع عن مصالح أكثر من دفاع الحاكم للبقاء على كرسي السلطة. المهمة الأصعب للشعب الثائر هي كيفية مواجهة بنية النظام المتغلغلة في الجيش والأجهزة الأمنية والمؤسسة الحزبية والبنية الاقتصادية وهي مهمة قد تستغرق وقتا طويلا وتحتاج لكثير من الكياسة والعقلانية لأن بعض الذين ارتبطوا بالنظام السابق كانوا مدفوعين لذلك بحسن نية أو أجبرتهم الظروف المعيشية على ذلك والبعض الآخر منهم وخصوصا الجهاز الإداري وقطاعات في الجيش وفي الأجهزة الأمنية قد يكونوا مفيدين في المرحلة الانتقالية.

عاشرا: الثورة بناء الجديد وليس فقط هدم القديم
كل ثورة تمر بمرحلتين: مرحلة الهدم ومرحلة البناء.مرحلة الهدم قد تكون أسهل من مرحلة البناء، فرصاصة برأس الحاكم أو إجباره على الرحيل أو خروج الناس للشارع وما يتبعه من انهيار لمؤسسات النظام لا يعني أن الثورة أكملت مهمتها، الحكم على الثورة نجاحا أو فشلا يكون من خلال قدرتها على توفير شروط حياة كريمة للمواطن أفضل حالا من الأوضاع التي تم الثورة عليها وتدميرها.الحشود الشعبية يمكنها إسقاط رموز النظام الفاسد ولكن بناء المجتمع الجديد يحتاج لمقومات وشروط تتجاوز الحشود الشعبية، أو تحتاج لتغيير دور الشعب في عملية التغيير، وهنا يبرز دور القيادة القادرة على هدهدة الجماهير وإرجاعها لبيوتها ووظائفها وحياتها العادية لتستلم هذه القيادة دفة الأمور في عملية البناء.

أحد عشر: ضرورة المحاسبة حتى لا تتكرر التجربة
لا يكفي أن يهرب الرئيس بل يجب مصادرة كل ثروته وثروة نخبة النظام واستعادة كل الأموال التي تم تهريبها للخارج كما يجب مباشرة ملاحقة قانونية لكل رموز النظام، إن لم يحدث ذلك سيكون الرئيس وعصبته تمتعوا بالثروة والجاه خلال وجودهم بالسلطة وضمنوا تمتعهم بهما وهم خارج السلطة، وهو ما سيشجع كل الفاسدين من الحكام والسياسيين على الاستمرار بفسادهم ونهب ثروة الشعب وتحويلها للخارج. مصادرة أموال أركان النظام السابق واستعادة الأموال المهربة ضرورة لأن الشعب أحق بها وكنوع من العقاب ولكن أيضا حتى لا يتم توظيف هذه الأموال لحيك المكائد ضد الثورة ومحاولة عودة بعض رموز النظام للسلطة مجددا.

اثنا عشر: ثورة شعبية وحكومة إصلاحية
بالرغم من شمولية الثورة لكل قطاعات الشعب وقواه السياسية إلا انه لم ترتفع شعارات أو مطالبات راديكالية تتعارض مع أسس ومرجعيات النظام السياسي التونسي كنظام جمهوري ليبرالي علماني يقوم على التعددية السياسية واقتصاد السوق، وهذا يعني أن الشعب التونسي يرغب بإصلاح النظام السياسي بتخليصه من الفساد والدكتاتورية.ثورة الشعب ضمن ثوابت النظام يعني أن الشعب يحتاج لحكومة إصلاح وليس حكومة ثورية.

وأخيرا يمكن القول بأن الثورة في تونس أثارت عندنا الإعجاب وفينا العزة لأنها أشعرتنا بأن الأمة العربية بخير وبأن الخلل ليس بالشعب بل بنخبه وقياداته، ولكنها أثارت عندنا أيضا الخوف، الخوف عليها من لصوص الثورات من الديماغوجيين الجدد ومن بقايا نخبة النظام السابق والخوف من الثورة نفسها بأن تستمرئ الجماهير أو بعضها حالة الفوضى والخروج للشارع مما سيسيء للثورة.

Ibrahem_ibrach@hotmail.com

www.palnation.org