أسامة الدناصوري.. الشاعر الذي مات دون أن يودع أحدا

حاتم حافظ

كان قدر الدناصوري لا أن يكتب شعرا فحسب وإنما أن يتكلم شعرا أيضا / لم يكن يتكلم عن مرضه إلا كما يتكلم عن أشياء تحدث للأخرين / لم يكن يعني أسامة الدناصوري سوى أن تكون لغته جميلة، وأن يكن إلتزامها الوحيد بروح الكتابة / الدناصوري تعامل مع مفارقة العالم بروح الدعابة، وكأنما لا شيء جدير بأن يؤخذ بجدية / في (كلبي الصغير.. كلبي الهرم) كان خائفا من اتهامه بالقفز من سفينة الشعر الغارقة

كنت أعتزم إجراء حوار معه بمناسبة صدور كتابه الجديد حتى قرأت خبر نعيه في الجريددة. مات الشاعر أسامة الدناصوري صباح يوم الرابع من يناير فجأة، مات في صمت، مثلما عاش حياته في صمت، بعيدا عن صخب الحياة الثقافية، كأنه قرر أن يكون في موته خفيفا مثلما كان في حياته القصيرة، ومثلما كان وجهه كوجه من الطمي فوق لوح فخَّار لم يُنهِه بعد، ثُبِّت على إبتسامة خجولة، "مستحية" إن جاز القول. إبتسامة لها إيقاع كصوته الذي كان يتهدج حتى في تشجيعه لمباريات الكرة، وكأنما ـ حتى في حماسه لركلة جيدة ـ كان يقصد بكلماته أن تكون شعرا. وكأن قدر الشاعر لا أن يكتب شعرا فحسب، وإنما أن يتكلم شعرا أيضا.

محلة مالك.. فاطمة وتجربة الشعر الأولى

ولد الشاعر أسامة الدناصوري في أول أغسطس عام 1960 بقرية محلة مالك إحدى قرى مدينة دسوق بكفر الشيخ، وأصيب بفشل الكلى منذ كان عمرة خمسة عشر عاما، يقول الدناصوري "تحدد يوم السبت، اول أيام العام الدراسي، ليكون يوم دخولي المستشفى". فبينما كان رفاقه في طريقهم إلى فصولهم وأحواش مدارسهم كان الدناصوري في صحبة أبيه في طريقهم إلى المستشفى الميري (مستشفى الجامعة في مدينة دسوق) بعد أن أخذ الأب إجازة من عمله لمدة عام كامل، ليرافق إبنه في رحلة علاجه. ورغم أن المرض قد داهم الدناصوري منذ الصبا فإنه لم يكن يتكلم عن المرض إلا كما يتكلم عن أشياء تحدث للأخرين. كان في مرضه خجلا، يتحدث عن المرض، ويكتب عن المرض، كأنما يتحدث ويكتب عن تجربة شعرية لا تخصه وإن كانت خبرته بها طويلة. يكتب الدناصوري عن خبرته في فترة علاجه الأولى بلغة محايدة ويروي بضمير الغائب "مريض المسالك البولية لابد أن يغير علاقته بأعضائه منذ اليوم الأول. تنتفى الخصوصية والسرّية تماماً, وتصبح الأعضاء مكشوفة لأعين كثيرة: أعين الأطباء أولاً, ثم أعين الممرضات, وأخيراً بعض المرضى المتلصصين"، هكذا يكتب عن "مريض المسالك البولية" وكأنما يروي تجربة شخص آخر، "القسطرة الفولى تختلف عن البلاستيكية العادية فى أنها من نوع رخو من البلاستيك، لكى تتشكل بشكل قناة مجرى البول, ولا تسبب أى أذى مع الوقت. تنتهى بثقب أو اثنين بجوار رأسها, ثم فتحة فى نهايتها لإخراج البول" ولعل طريقته في التعامل مع المرض بهذا الشكل كانت درجة من درجات التحييد لا الحياد، كان يحيد المرض حتى لا يتحول الشعر إلى طرطشات عاطفية وهلوسات مرض. وهكذا حوَّل مرضه إلى تجربة شاعرية الألم، يكتب "والذى كان يذبحنى، أن (عايدة) ستعلم بلا شك, بطريقة أو بأخرى, أننى كنتُ ذاهباً إلى المستشفى, وستشفقُ علىّ، ولن تكون نظراتها هى هى, عندما ترانى بعد عودتى. وكنتُ موقناً أننى فى سبيلى إلى خسران شىء ثمين، أغْنَى حياتى إلى تلك اللحظة, ولاسبيل إلى تعويضه أبداً".

وعن تجربته الشعرية الأولى يكتب الدناصوري "أحببتُ (فاطمة)، أول حبّ ناطق فى حياتى ـ أحببت قبل ذلك كثيراً, لكنه كان حباً صامتاً أو سرياً ـ كانت فى الصف الثانى فى مدرسة التمريض, يعنى: (تانية ثانوى تمريض). أى أنها كانت تكبرنى بعام. كنّ يأتين أفواجاً للمكوث فى كل قسم لعدة أسابيع, ثم ينتقلْن إلى قسم آخر. ظهرت فاطمة فى حياتى, قبل شهر من مغادرتى المستشفى. بمجرد رؤيتها تحوم فى القسم ببدلتها البيضاء, وكابها الأزرق, وسط زميلاتها، تغيرت حياتى فى التوّ واللحظة" ويقول باختصار وبساطة " كتبتُ الشعر من أجل: فاطمة محمد على جمال الدين. وكتبتُ أول قصيدة, ولم أصدق نفسى. كانت عموديةً, ومقفاة, كما تَعلمنا, تشبه اللزوميات. إذ تنتهى كل الأبيات بمقطع ثابت (آته): خفقاته, خلجاته, آهاته" لقد شكر الدناصوري فاطمة التي انزلقت قدمه إلى طريق الشعر بسببها، وكان فقدانها، ربما أكثر من حضورها، دفقة الكتابة التي واتته مبكرا، لقد ظل يكتب شعرا ونثرا، بالفصحى وبالعامية، بل إنه راح يكتب سيرته الذاتية متأثرا كما يقول بالأيام لطه حسين. ومن يومها وحتى وفاته قرر أن يكون إخلاصه وخلاصه الوحيد إلى وفي الشعر، "لقد ظللت طوال عمرى ومازلت أعد نفسى ويعدنى آخرون شاعراً"، ولو أنه قد كتب ما سمي بشعر النثر، وهو الشعر الذي يهجر الأوزان والتفعيلات، ويطلق الإيقاع إلى مداه، فيستبدل بايقاع التفعيلة ايقاع الفكرة وايقاع الرؤى، يقول الدناصوري في حوار لأخبار الأدب "لا أتصور قصيدة خالية من الإيقاع سواء كانت موزونة أو نثرية، الإيقاع أوسع وأشمل من فكرة الوزن، هناك إيقاع الأفكار، وإيقاع المشاهد والرؤى، وهذا هو الإيقاع الحقيقي الذي ينتبه إليه القارئ في أي قصيدة سواء كانت موزونة أو نثرية، ولا أتخيل أن هناك قصيدة تعتمد فقط علي الإيقاع العروضي السليم وتخلو تماما من أية حركة علي مستوى الأفكار والرؤى والخيالات والصور التي تخلق إيقاعها الخاص، ليست هذه قصيدة علي الإطلاق، في النثر كل قصيدة لها إيقاع يميزها عن القصائد الأخرى".

يقول في قصيدته "على مشارف الحقول"

..الكلاب
ما أجملها من كائنات!
انبحوا أيها الأخوة
لكم أود لو وقفت في الشرفة
ورفعت لكم عقيرتي
لكن نباحي يدوى في جوفي فقط!
لا عليكم
ها نحن آخر الليل
وهاهي الشوارع تعود ملكا لكم
امرحوا
تحت أيديكم الآن مدينة بكاملها
وبالكاد ترون كل حين شبح آدميّ
يمر بكم سريعا حابسا أنفاسه
تهيجكم رائحة خوفه التي تثير غثيانكم
فتطاردونه..حتى يتعثّر في ثوبه.. وينكفىء
فتضحكون
ثم ترجعون سعداء وقانعين
هيا أقيموا أعراسكم
وان شئتم: حروبكم
فقط..لأجل خاطري
لا تكفّوا عن النباح
أجل..أجل
هذا أنت أيها الأزعر المهيب
كيف لي أن أجهل صوتك؟
كأني بك الآن تسبّ أحدهم
بل كأنك تهزأ به فقط
فيضحك الآخرون
ما أسعدكم معشر الكلاب
إنكم تضحكون كثيرا
تضحكون
وتتقاتلون
وتتسافدون
وتتنابذون بالألقاب
وتتناجون
يالكم من سعداء.. حقا
لكن مهلا
أنا ابن ريف مثلكم
ومثلكم لا أفهم: لمَِ أنا هنا؟
لكن حظّي ليس بالغ السوء
إذ لفظتني المدينة إلى مشارف الحقول
في حي عامر بالخرائب
تلك الممالك
التي تستسلم مقهورة.. واحدة إثر أخرى
إذن ماذا أنتم
بل ماذا نحن فاعلون في الغد
أيها الرفاق

وهكذا يتولد الإيقاع في القصيدة من تواتر الشد والجذب مع المخاطب، من تواتر أفعال الأمر (انبحوا، امرحوا، اقيموا أعراسكم) من تواتر أفعال المضارع (تطاردونه، تضحكون، تتقاتلون، تتسافدون، تتنابذون، تتناجون). إن الإيقاع الذي كان يعنيه الدناصوري هو في وجود المفردة في مكانها الصحيح، إن الجملة في غير مكانها ـ يقول الدناصوري ـ هي جملة غير مستريحة، وهي جملة مقلقة كذلك.

التجريب في شعر الدناصوري
بدأ الدناصوري في نشر بعض قصائده هنا وهناك منذ منتصف الثمانينيات قبل أن ينشر ديوانه الأول (حراشف الجهم) عام 1991، ثم تبعه بديوانه الثاني (علي هيئة واحد شبهي) عام ???? وهو ديوان بالعامية ظل يتمنى لو أنه لم ينشره، ثم (عين سارحة وعين مندهشة) عام ????، ثم كان في طريقه إلى إصدار كتابه السردي الأول (كلبي الهرم.. كلبي الحبيب" عن دار ميريت. ورغم قلة انتاجه ورغم أنه قد ضم بعض قصائد ديوانه الاول في ديوانيه الأخيرين، مثل قصيدته "تحت الشجرة" فإنه بشهادة قرائة ومتابعي الحركة الشعرية في مصر قد عُدَّ من أهم شعراء الثمانينيات، رغم أنه لم يكن يعتد كثيرا بفكرة المجايلة، فإن كان يحسب على جيل الثمانينيات بحكم تاريخ مولده، فإنه قد يحسب على التسعينيين بحكم تواريخ نشر دواوينه، أما هو فقد قال فيما يشبه السخرية من فكرة المجايلة والولع بها لدى كثير من ناقدي الشعر "جيلي هو علاء خالد" ففي بداية كتابته لقصيدة النثر وبالتحديد في أواسط الثمانينيات كان يشعر بالغربة عن جيل السبعينيات كما شعر بها تجاه أفراد جيله أيضا، وكان يشق طريقه الشعري ببساطة وخفة حتى بدا وكأنه قد وجد صوته أخيرا. ولعل هذا الشعور بالوحدة والتفرد كان سمة شعره وحياته.

يقول في قصيدته "مثل ذئب أعمى"
       لماذا تشعر بالوحدة
       ولديك سرير بهذا الاتساع،
وعلى مرمى بصرك..
سماء واطئة من الجير،
تتجول فيها بعينيك السارحتين،
لتكتشف ـ ما شئت ـ من بورتريهات ناقصة
لغرباء مسالمين
وحروب صامتة لا تنتهي؟
      وفي قصيدته الجميلة "تحت الشجرة" يقول الدناصوري:
تحت الشجرة
ذهب أصدقائي إلى البحر..
وتركوني وحيدا..
بجوار ملابسهم وأحذيتهم
أصدقائي مجانين
يلعبون بعنف.
يرشقون بعضهم بجرادل الماء،
وقراطيس التراب.
لكنهم في النهاية..
طيبوا القلب.
أنا تحت الشجرة
أقرأ
وأفكر في الحياة والموت
أنا فيلسوف الشلة:
المُقعد الذي يحب الجميع
ولا يكرهه أحد
المُقعد الذي أحب مقعده تحت شجرة بعيدة
تدور حول نفسها مهوّشة الشعر
تتطاير من لسانها رغوة بيضاء
ولا تراني.

وقد إختار الدناصوري أن ينشر شعره على نفقته الخاصة أو بعيدا عن مؤسسات النشر التقليدية محافظا على المسافة بينه وبين تلك المؤسسات، رغم أنه لم يكن لديه موقفا محددا من هذه المؤسسات، ولا من سلاسل النشر بها، وربما كان موقفه ذلك تتلبسه روح مثالية، تنأى عن أي وضع ملتبس. خاصة وأن الدناصوري كان يرى أن تجربته الشعرية بها من الطموح والجرأة ما لا تتحمله أي من السلاسل الشعبية التقليدية، رغم أنه لم يكسر أي من تابوهات المجتمع التي كانت عرضة لهجمات من جيله والجيل الذي تبعه، فإن جرأته كانت في التمادي في البساطة، بساطة صياغة الجملة التي كانت أحيانا تستعير ألفاظا عامية. متجاهلا ما قد يبادر به البعض من أن البساطة قد تعني الفقر. لقد كانت بساطته ثرية بساطة ضوء الشمس المتلون بقوس قزح. يقول الدناصوري عن لغته والبساطة التي تشف بها "استخدامي لمثل هذه اللغة المتقشفة والجافة بعض الشيء والخالية من المجازات والألاعيب والبعيدة عن التركيب شيء ضروري، نعم تخلي اللغة عن كل هذا يجعلها جميلة"، لم يكن يعني أسامة الدناصوري سوى أن تكون لغته جميلة، وأن يكن إلتزامها الوحيد بروح الكتابة.

كلبي الهرم.. كلبي الحبيب

رغم أن أسامة الدناصوري لم يكتب السرد إلا لماما، فإنه في قصتيه " قلقسة " و"اسمي" يكشف عن كاتب مفطور فيما يكتب، شعرا أم نثرا، فصيحا أم عاميا، في قصته الأولى يُفسر عنوانها من أنه اشتقاق لغوي من القلقاس، قلقس يقلقس قلقسة فهو مقلقس أي جعل رأسه أشبه بالقلقاسة الصماء، التي لا تعي شيئا، ولا تهتم بشيء، وهي إستراتيجية قرر اتباعها بسبب ضعف سمعه الذي ألم به بتأثير عقاقير علاج الكلى (!)، فصار لا يهتم بما يسمع تجنبا لإحراجه إن طلب من محدثه إعادة ما قد قاله من قبل. أما القصة الثانية فتتعلق باسمه (الدناصوري) والذي كان يُكتب في كثير من الأحيان (الديناصوري) على اعتبار أن الاسم الثاني يمكن فهمه (!)، إضافة إلى طرائف التعامل بالاسم الثاني الذي عُرف به أكثر من اسمه الحقيقي (الذي يُنسب إلى عائلة الدناصرة)، والأهم في سرد الدناصوري هو في علاقته باللغة السردية البسيطة من جهة، وفي رؤيته للمفارقة في العالم، وللعالم كمفارقة كبيرة، وقراره الأخير بالتعامل مع مفارقة العالم بروح الدعابة، وكأنما لا شيء جديرا بأن يؤخذ بجدية.

إلا أن كتابه "كلبي الهرم.. كلبي الحبيب" الذي كان ماثلا للطبع بينما كان كاتبه يودع الحياة، فإنه كان بمثابة الاعتذار الذي خلفه شاعرنا الكبير لمغادرته مبكرا، يكتب الشاعر "بائس هو الشاعر الذي لم يعرف النثر أبدا"، ولكنه في كتابته للنثر ـ الذي لم يجرؤ على عنونته برواية رغم أنه رواية رائعة ـ كان يشعر كما لو أنه قد كشف متلبسا بالسرد. لقد كتب سردا مترددا، وجلا من اتهامه بالقفز من سفينة الشعر الغارقة. وفي فصل "النثر والشعر" يظل يقارن بين طبيعة كل منهما وبين جمالية كل منهما، وهو متسربلا بخشيته من أن يفتضح أمره بكتابته للسرد.

في أخر لقاء بيننا قبل موته بأسبوعين، أخبرني أنه سوف يكتب على غلاف كتابه "نص" تاركا أمره للقارئ، وكأنما أبى الدناصوري إلا أن يموت مراوغا ومنعزلا كما عاش. ولكنه فعلها هذه المرة كأنما في غير موعدها، وإننا حين ننعي أسامة الدناصوري أحد أهم وأرق شعرائنا، وأكثرهم استحقاقا لمشاعرنا الطيبة، فإننا نبكي أنفسنا التي ألم بها الفقد قبل الأوان.