في هذا الديوان الجديد للشاعرة المصرية تتضافر عناصر التجربة الحسية بأبعادها النسوية والاجتماعية والسياسية، مع الإحالات التناصية، وتغاير الإيقاعات في صياغة عالم شعري فريد.

هيكل الزهر (ديوان)

فاطمة ناعوت

الإهداء: إلى ماما سهير.

أمي
تقفُ على عتبةِ الدار
عكّازٌ في يدِها
تنتظرُ التابوتَ الذي أنا فيه
تكشفُ الغطاء
تمسُّ العينَ المُرخاةَ وتقول:
كانت ابنتي خرساءْ
يُفزعُها ضجيجُ العرباتِ والضوءْ
فلماذا تركتموها حتى تموتَ كثيرًا
هي ابنتي
أعرفُها من ثقبٍ في الرئة
وأنا
أريدُ أن أغلقَ الباب!
فشكرا للأصدقاء الذين لم يأتوا
أجملُ المُعزّين الذين يغيبون. 

 

إوَزّة
جميلاً كان
سائقُ الشاحنةِ
حين قاومَ ذبحَ الإوزّة
ثلاثةَ أشهرٍ وعشرين يومًا وخمسَ ساعات،
غير أنه فَعَلَ
حين أبصرَها تخرجُ من الغرفةِ
عاريةً من الريشْ
وفاتنةْ، 
ولمّا جزَّ عنقَها الأبيضَ
نظرتْ إليه
ولم تسقطْ
قطرةُ دمٍ واحدة. 

القاهرة/ 11 يوليو 2005 

 

لا تهدموا الكوخ
أحتاجُ شَبحًا
يرتّبُ خِزانتي
أثوابُ الراحلين في جِهةٍ
                           و الحِنَّاءُ في جهةْ. 

أحتاجُ شبحًا
يعاقبُ الكتبَ التي غدرتني:
هذه الكومةُ تستحقُّ القَصاصَ
لأنها نخرتْ طُمأنينتي،
لذلك لن أمانعَ في حشْوِ آذانِها بالقشِّ
والبنزينْ. 

الشبحُ سيفهمُ بهجتي
عند حرْقِ الأغلفةِ
ببرودِ النازيينَ
ومهارةِ الطهاةْ،
ثم فَرْدِ الأوراقِ تحت الدجاجِ المقليّ
من أجل إبقاءِ الصحونِ النظيفةِ
نظيفةً
بعدما لوَّثَها العنّينون بمجازاتِهم الرديئة. 

أحتاجُ شبحًا
ينزعُ الأزرارَ من حاسوبي
ويمرِّرُ الفأرةَ فوق الجلدِ المتكسِّر
لتلعقَ البثورَ والغُبارَ
والعلاماتِ التي رسمَها العاشقُ
فوق ساقِ الحبيبةْ. 

الأشباحُ فضلاءُ
وصامتون
يصوّبون النارَ على الأقزام
الذين يلطِّخون الحوائطَ بدمائِهم
حين ينطحونَها بالرأسِ كلَّ يوم سبْت
لأنهم بغير ظِلّ
ذاك أن الطائرَ الضِّليلَ
لا يحطُّ إلا على رؤوسِ الشعراءْ،
والأقزامُ
يمتنعون. 

الأشباحُ خفيفون
لا يشغَلونَ الأمكنةَ
ويقتصدون في الهواءِ وفي الزمن،
علماءُ
يحجبونَ الشمسَ عن قِصارِ القامةِ
الذين سيقانُهم المُبتَسرةَ
تُفسدُ لوحةَ النور والظِّلالْ،
وحكماءْ
تنصتوا على الصَّبيّةِ والفتى
جوارَ الساقية العجوز:
               -   لو لم يكن بكَ عليّ غضبٌ لا أبالي!
               -   فقال: بي!
ونهضَ إلى الكوخِ
فبكتْ،
أصغرُهم
صالحَها بوردةٍ
ومسحَ على جديلتِها،
وكبيرُهم
رفع السَّبابةَ مُنْذرًا:
لا تهدموا الكوخْ! 

به شاعرْ. 

القاهرة/ 8 مايو 2005 

 

أبي
ماتَ بالصدمةِ العصبيّة
حين غرقَ طفلاه أولَ أمسْ:
أنا
ابتلعتني سمكةٌ،
وأخي
ابتلعَ كلَّ مياه النهرْ. 

القاهرة/ 22 يونيو 2005 

 

محطةُ الرمل
                    إلى كريستينا
                   التي نسيتُ أن أقبِّلَها
سيموتُ الشيطانُ غدًا
قبل أن يتصفّحَ الجريدةَ على البحرِ
ـ كعادته كلَّ صبحْ ـ
بمجرد أن يرشفَ من فنجانِ القهوة،
ويغدو العالمُ مُضجرًا من دونِه،
إذْ
لن أجدَ مبررًا
لأزعمَ أنني أكثرُ طيبةً
من أصدقائي الأشرار!
لكن
سأهمسُ لصاحبي:
بوسعِكَ الآن أنْ ترفعَ إصبَعَك ،
لتمسَّ الورمَ المختبئَ في صدغي،
دون خوف،
فقد ماتْ!
كنَّ يكذبن علينا
بأنه ينامُ تحت أظافرنِا المتّسخة،
أمهاتُنا. 

ثم إن كريستينا هي الأخرى ماتتْ
أولَ أمس
دون أن يشعرَ بها أحدٌ
ودون أن تشيّعَها امرأةْ. 

ماتتْ قبل أن توقدَ شجرةَ الميلادْ
أمام إطارِِ الأبنوس الذي يحملُ قصيدةً
كتبَها السَّكندريُّ في عينيها
قبل نصفِ قرنٍ،
نعم، نعم!
فالنساءُ يمُتن أيضًا
حتى ولو كُنَّ حبيباتِ كفافيسَ،
بغير ضجيجْ
ولا عصافيرَ تصكُّ الزجاج،
ولا حريمْ،
عِلمًا بأن النساءَ
يصبحن أجملَ في ملابسِ الحداد. 

علينا وحسب
أن نجلسَ صامتيْن في مقهى Elite
(الذي في شارع صفية زغلول)
لنحسبَ طولَ الجسدِ وعرضَه
من أجل تابوتٍ يليقُ بالرجلْ
فنحن أرقى من الصيادين الأجلافْ
الذين لا يعبأون بجثامين الأسماكِ
حين يُلقى بها في القُفّة
دون تقديرٍ لجلالِ الموت. 

سندبّرُ جِنازًا محترمًا
يليقُ برفيقِ البشرية المزمن،
السيّد
الذي مهّدَ لنا مكانًا فوق الأرض:
سيأتي أبي
الذي أغواهُ الفقيدُ
بالجلوسِ تحت شرفةِ أمي لعامين،
وأمي
التي قبّلتْ يدَ الطبيبةِ
كي تضعَ حرفًا على لسانِ عُمَر،
وعُمَرُ
الذي بنى سفينةَ نوحٍ ثم أغرقَها،
وفاوستْ،
والجبلاوي،
والإسكافيُّ
الذي نثرَ المساميرَ في شارعِنا،
وشارعُنا،
الذي سكنَتهُ عجائزُ اليونان
حول مستشفى السرايات،
أما أنا
فأكون المرأةَ التي تستقبلُ العزاءَ
بوصفي
فعلتَهُ الكبرى. 

الإسكندرية/ يناير 2006 

 

أبواب
الملكاتُ لا يمشين على أقدامِهن
تحملُهنَّ الهوادجُ
التي لا تمرُّ من أبوابِ "جوزيف حرب"
سوى مرّة.

حَدْسُ اللحظةِ
ـ التي تقعُ بين عَدَمَيْن ـ
يجعلُ الفرسانَ يقلقون
من انصرافِ الحبيباتِ في الوطنِ
عن الهوى
فتضجُّ الهواتفُ بالرسائلِ،
فيما الفلاحون يضربونَ فؤوسَهم
في الطمي
كي يختبروا قوةَ إبصار الله.

يا نـاسْ
من رفعَ العدسةَ عن عينيّ
وجعلَ الكونَ صغيرًا هكذا؟
مَنْ غلَّقَ الأبوابَ ونثرَ تلك المزاليجِ؟
ومَنْ الذي قال:
"مالَ واحتجَبْ
وادّعى الغضبْ
ليتَ هاجري
   يشرحُ السببْ "؟

فاعِلُـنْ فَعِـلْ.
فاعــِلٌ فَعَـلْ.

أي أن البابَ
لابد أن يُصفَقَ
قبل وضعِ المزلاجْ.

لكن الأبوابَ
لا تنفتحُ مرتين،
الأبوابُ التي تطيرُ من حنجرةِ فيروزْ
غارقةً في الياسمينِ والشَّجو
تُمرِّرُ المخضَّباتِ بالحِنَّاءِ
وتُقصي المترجِّلاتِ
اللواتي تحملُ معاصمُهن
ساعاتٍ
وأقدامُهنَّ
أساورَ من حديد،
وأنا هنا وحدي
كلّما دقّتِ الرابعةُ فجرًا
أعدِّلُ وضعَ النافذةِ
لأصغي للمؤذّنِ الذي لا يغيّر قولَه
أبدًا.

"أبوابٌ
 أبوابْ
 شِيْ غُرُبْ شِيْ اصحاب
 شي مْسَكَّرْ وناطِر
 تا يرجعوا الغِيَّاب"
خلفَ أحدها
تنكفئُ امرأةٌ على نولِها
تُعْمِلُ أصابعَها في الخيطْ
لتصنعَ عباءةً مما تضعُ النساءُ
كيلا تراهنَّ المرآةُ عرايا.

بابٌ سيُصفقُ بعد دقيقتيْن
ورجلٌ
ينتظرْ.

 القاهرة ـ 28 مايو 2005

 

جَوْرب
بائعةُ الجواربِ
على رصيفِ سليمان باشا
تحنو على ذاك الأسودْ
تظلِّلُ عليه من الشمسِ
وتنزعُ عنه فتلةً ناتئة.
سوف يخونُها بعد يوم،
الجوربُ،
وتدخلُه قدمُ رَجُلٍٍ
بعيدْ.

 

مـازن
لابد أن يبكيَ الأطفالُ
حين تفترقُ الأصابعُ المشبوكةْ،
يبكون
حين تتضاعفُ الأسِرَّةُ والأمكنةْ
وينقسمُ البيتُ إلى:
بيتْ ماما
                       بيتْ بابا.

الصَّبيّ
الذي خرجَ مع أبيه إلى الغابةِ
كي يتعلّمَ كيف تَنْبتُ للفَراشةِ أجنحةٌ
سوف ينظرُ إلى صفحةِ الجدولِْ
فتسقطُ من عينه قطرةٌ
تخطفه ثلاثين عامًا
إلى الوراء:
الطفلةُ التي كنتُها
لم تبكِ حين طارَ أبوها من الشرفة
ظـلّتْ شاخصةً صـوبَ الشرق
فيما قطرتُها مجمدةٌ في البـؤبـؤ
لعقـديْـن
حتى تناثـرَ صوتُ الأبِ من المِئذنـة
تكبيراتٍ
وترانيـمَ
وبالوناتِ أطفالٍ يتـامى.

لابد أن يعلمَ الصِّغارُ
قبل أن تتدحرجَ القطراتُ فوق كراسات الرسم
أنَّ الأمهاتِ اللواتي قتلتهنَ الوحْشةُ
ظللن يتخبطن في الزنازينِ الحريرية
ينفُضن الصَّقيعَ عن الأطرافْ
ويُشعلنَ المراجلَ
قرابينَ لآلهةِ سقّارةَ
الذين نسوا أن ينثروا الحروفَ
على عتبةِ الطفلِ الصامتْ.

الأمهاتُ المنذوراتُ للحَزَنْ
لَهُنَّ أن يرفعن رؤوسَهن
للحظةِ فرحٍ واحدةْ
حين تفتحُ أمامهنَّ الساحرةُ سلّتَها،
لهنَّ
أن يتحمَّمن بالنورْ
مرَّةً
قبل أن يدلفنَ وراءَ الستارْ.

يبكي الأطفالُ
حين تفترقُ الأصابعُ
وحين تنقسمُ البيوتْ
فيرسمون نصفَ اللوحة،
ونصفُها الآخرُ
ترسمُه الأمهاتُ الحزانى
حين يُخرجنَ من منابتِ أكتافهن
براعمَ أجنحةٍ مخبوءة
كي يهاجرن إلى أقصى الأرضْ
مثلما تفعلُ الأفيالُ
حين توقنُ
من اقترابِ الأجلْ.

القاهرة/ 21 يونيو 2005

 

بورسلين
أطباءُ الأسنانْ
ماكرون بالفطرةِ
وشريرون
عند اللزوم.

واحدُهم
ملأ الفراغاتِ المخلوعةَ في فمي
بقطعِ بورسلينَ بيضاءْ.
سلبَني النقصَ الذي
يُتمِّمُني.

القاهرة/ 22 يونيو 2005

 

عَوْدة
بعدما انكسرَ ساقُه
عادَ الحِصانُ إلى إيثاكا
بفيونكةٍ في عنقِه وضمادةٍ في القلبِ:
والقلبُ
من هجْرِ الحبيبِ معذَّبُ.

انتهى زمانُ الحكْي.
ونفضتِ السَّلةُ كلَّ الحواديتْ
فهجرَ الوردةَ التي
أتقنتْ فنَّ الاستماعِْ
ورجعَ إلى الوطن
قبل أن ينْسلَّ الخيطُ الأخيرُ
من نَوْل المرأةِ التي:
نسجتْ شرانقَ الانتظارِ ببيتِها
واستوثقتْ أن الحبيبَ يعودُ.

لابد أن نحكيَ لكي نعيشْ،
وإلا ما جدوى الليالي الألفْ!
وإلا ما انكسرَ الحصانُ حين خَوَتْ سَلتُه.
لكن الوردةَ لم تكنْ ذكيةً
إذ لم توزِّعْ أنشوداتِه الأربعَ
على عددٍ أكبرَ من الليالي:
فالمُهْرُ يركُضُ في المروجِ ويشتري
من كلِّ صَوبٍ
رغبةً وحكاية.

ماذا يفعلُ الآن؟
ربما يرتّبُ الأنسجةَ في عَظْمةِ الساقْ
كي يستعدَّ لألمٍ جديدْ،
وربما يتصيّدُ من مواويلِ الرعاة
حَكايا بِِكرًا
من أجل أُذُنٍ تتدربُ منذ الليلةِ
على الإصغاءْ،
وربما تُجهِّزُ المرأةُ نولَها
تأهُّبًا لرحلتِه القادمةْ،
لكن الحتميَّ
أن الوردةَ ستذبلُ
بعيدًا عن عيونِ المارة:
فالوردُ يقْطرُ في المساءِ رحيقَه
من دونِ أن يبكي عليه صديقُ.

كُفّي عن الشكوى!
وباركي الضمادةَ والغيابْ
وَدِّعِيهِ ولَوّحي له:
كَفًّا مُخضَّبةً بلونِ البُنِّ والحِنّاء والزعترْ
سيعودُ لامرأةٍ تجيدُ الغزْلَ والإنصاتَ والحُّبَ.

المرأةُ العارفةْ
تركتْ عينيه تجوبان أطرافَ الخريطةِ
بحثًا عن قصيدةٍ وأذنيْن،
لكنها احتفظتْ باسمِه فوق بابِ البيتْ
وضبطتْ درجةَ دفءِ الفِراشْ
على الثانيةِ عشرة
فعادَ
قبل الدقّةِ الأخيرة:
كيف السبيلُ إلى الفرارِ بوردةٍ
من دونِ أن نشقى بهَجْرِ فِراشِِ.
.....

طبيعيٌّ أن يقفَ واحدٌ فوق الجبل
يرشقُ الصبايا بحبّاتِ القرمزْ
وطبيعيٌّ أن تصيبَ واحدةٌ واحدةً
شريطةَ أن تكونَ عمياءْ،
وطبيعيٌّ أن ترفع المصابةُ رأسَها
وتحاولَ أن تبصرَ الرامي،
وليس طبيعيًّا
ألا يعودَ
حين تفرغُ سلّتُه.

القاهرة/ 15 ديسمبر 2004

 

كان اسمُه سليمان
الليلةُ
ستمرُّ أيضًا
دون أن يمشيَ ظلٌّ على الستارةْ.
الليلةَ
ستُكمِلُ الوحدةُ نِصابَها
وتضحكُ في سِرِّها
على التي صدّقتْ حواديتَ الجَدّةِ
والثالثَ المرفوعْ.

لا
لم يكنْ أحدٌ هنا يا بنتُ!
لم يأتِ ولدٌ من هناك
كي يضعَ وردةً تحت وسادتِكْ.

"هناك" تعني:
 شرقٌ أو غرب
و"هنا" تعني:
مركزُ الأرض
تمامًا حيث تقفين الآن.

بل جاءَ ولدٌ
نصفُه يمينٌ               ونصفُه يسارْ
             وأنتِ واحدة.

ليلةٌ أخرى تمرُّ
دون أن يمشي ظلُّكَ على الستائرْ
دون سُعالٍْ،
دونَ قهوةِ الصبح المقدّسةْ،
ودون خوفٍ من رحيلِ الأحبّةِ
لأنهم
رحلوا بالفعل!

أنتَ الآن هناك
تحسبُ كيف يتحوّل الخَلْقُ إلى أمريكان
من أجل باسبورٍ أزرقَ
يفتحُ أبوابَ السماءْ،
لكن خصلةَ شعري الشرقيةَ
تربكُ معادلاتِكَ
فتُخرجُها من قلبكَ وتدسُّها في دُرجِ المكتب
جوارَ الهضبةِ التي صعدناها حُفاةً
كي نكتبَ قصةَ الخليقةْ.

اِرفعْ القبّعةَ عن رأسِ الهضبةِ لكي تفحصَ خُطّتي:
فوق هذه الصخرةْ
سأبني الفرنَ
وطاولةَ الخبيز
وأُشعلُ النارَ بصكِّ حجرٍ بحجرْ،
ثم أفتحُ في جدار الكهفِ شبّاكًا للمناولة
على مصطبةِ المعيشة الجيرية.

نحتاج شيئًا من الزيتِ والزعتر للعشاء
وحَبتيْ زيتون
فاطْرقِ البابَ على الله
في الغرفةِ المجاورة،
وخبِّرْهُ أننا جياعْ.

الأحجارُ مبتّلةٌ!
فكيف أصنعُ الخبزَ؟
اِذهبْ واسرقْ لنا شعلةً من قنديِلهِ
واحذرْ أنْ توقظَهْ.

كان عليكَ ذبحُ العصفورِ لتوقفَ الزمنَ
بدلا من رسم صورتي
بالْكَيّ فوق جلدِك،
الذبحُ أسهلُ
على الأقل سنعرفُ كيف ابتلعَ الطائرُ
دقاتِ الوقت.

كان بوسعكَ أن تبقى جدًّا
أو أن ترحلَ.

وكان عليكَ قبل الرحيل
أن تعلّمني
كيف أقيسُ الزمانَ بالفرسخْ
والمكانَ بدَقّةِ العصفورْ
والعشقَ بعددِ الكؤوسِ التي سكبناها في الحُفرةِ
كي نبني نهرًا في السفح،
لكننا أخفقنا
ومثلثُ الماءِ لم يكتمل،
تعرف لماذا؟
لأن الفُراتَ مشطورٌ بسهميْن،
والنيلَ مربوطةٌ يداه من خِلاف،
وبَرَدَى
محضُ خيطٍ منزوعٍ من فستانِ دمشق.
أما الخليجُ
فيجلسُ في اللوج طبعا
يتابعُ العرضَ بمرحٍ
ويدُهُ تحت ذقنِه.

لذلك أنتَ مضيتَ وحيدًا
وتركتَ العصفورَ يتخبّطُ
ويمحو ظلَّكَ من ستائر غرفتي.

أقفُ في مركزِ الكون،
قدماي مزروعتان في طمي طِيبة،
وذراعاي مُشْرعتان كصليب:
يُمنايَ يشدُّها حبلٌ من قاسيون
يُسراي يشدُّها حبلٌ من الأمازون
لو توتّرَ الحبلانِ أنشقُّ نصفيْن
مثلَ شجرةٍ تحت مِعوَل حطّابِ جِلفْ.

أنا مصريةٌ
لستُ أحتاجُ إلى رجلٍ يعيرني اسمًا أو هُوية
أحتاجُ وحسب
أن أُنصتَ إلى الكهل الطيّب
الذي وضعَ شعرةَ معاويةَ في كفِّكَ
وفي كفي،
كان اسمُه سليمان.

الدقاتُ تسقطُ من العصفورِ الذي فاتَكَ أن تذبحَه،
فيضمُّ جناحيه
ويدسُّ رأسَه في صدرِه
ثم يدخلُ عُشَّه
ويصكُّ البابْ.

القاهرة/ 14 مارس 2006

 

عُرْفُ ديك
جميلٌ أن تستلقي
وتمدي ذراعيكِ
فتمسِّي أركانَ السقفِ
أو تشبُكي كفيّك تحت ذقنِكِ مثل قطةٍ
تتمطى.

جميلٌ أن تنبسطي مثل فراشةٍ
لا تكبّلُها يدا طفلٍ
ولا يفسدُ زُرقتَها بياضٌ.

جميلٌ
أن تتنفسي كلَّ هواء الغرفة
وحدَكِ
قبل أن يبتلعَه سعالٌ
أو يلوّثَ نقاءَه
عُرْفُ ديك.

أن يتحوّلَ نصفُ السرير  من جديد
إلى مكتبةٍ
وأن تحوزي وسادتيْن
لا واحدة.

القاهرة/ أغسطس 2004

 

إيزيس
                   
 إلى/ زينب تعلب

إيزيسْ
النحيلةُ
يمامةٌ بيضاءُ فوق هامتِها
أكياسُ حلوى في جيبِها
وجمرةٌ
مكانَ القلبْ.

ومَنْ يجمعُ نُثارَ الفتى من وهادِ الطريق؟
مَنْ يرتّبُ القُصاصاتِ
ويصطادُ النُدَفَ من عروقِ الغيْم
لتكتملَ الأوراقُ بين شِغافيْن
كتابًا سويّا؟

أنا المنذورةُ للتوحّدِ
سيدةُ القطريْن
علّمتُ نفسي أنّ الحزنَ فنٌّ
والابتسامَ في الحزنِ فنٌّ
والنبالةَ في الحزنِ فنّ.

كان إكليلُ عشبٍ
بزهراتٍ ثلاثْ:
رهنتُ الأولى لرحلةِ صيدٍ
ذهابًا بغير إياب
وغادرني الحبيبْ.

وثانيةُ زهراتي
كانت لطفلٍ
ألقمتُه الحَبَّ من كفّي
فشبَّ وطالَ سعفَ النخيلِ،
ثم تشتتَ في سمائي
دُخانـًا
وقصائدَ
وأراجيحَ صغارٍ.

لا تصدقوا اللونَ الذي غابَ عن فساتيني
وشرائطِ شعري
لا تصدقوا الحُليَّ التي غادرت نحري
والسكونَ الذي خيّم فوق حديقتي
فمحلُّ القلبِ
مازال شيءٌ من عصيرِ الشَّهدْ
رغم رحيل الأحبةِ،
وسكاكرُ
لأطفالِ الحيّ المحرومينَ،
ومحلُّ الوجهِ الذي شاحبٌ كالثلجْ
دفءُ رحمةٍ
تهبُ الأمواتَ
حياةً.

والثالثة
عروسُ النيل
تغطسُ في الأحمر لتنبثقَ كزنبقةٍ في المتوسّط،
ثم تمتشقُ رُمحَها بخُطوِ إلهةٍ رومانية
وماءٌ يقطرُ من جديلتِها
هي طفلتي،
فوق عتباتِها
تناحرَ العاشقون
فألقيتُها في النيلِ غيداءَ شهيّةً
قربانًا للغائبيْن.

لا تسألوا مرآةَ الردهةِ
كيف كنتُ أرقبُها
عبر زجاجِها
تدلفُ من غرفتِها نحو سور الحديقةِ،
ولا تسألوا خيوطَ التريكو
الورديةَ
كيف غزلتُ لطفولتِها
مَعْبرًا ملوّنَ الدَرَج
وتكعيبةً
من ظلالِ الزيتونة التي جوار البيتْ
كي تخطوَ صبيّةً
نحو الربيع.

أنا إيزيسُ النحيلةُ
لا ماسةَ في إصبعي
ولا سوارَ ذهبيًّا في معصمي،
لكن تاجًا من نورٍ فوق رأسي
عند ثغري ابتسامةٌ
وفي قلبي
مَجرَّةٌ بأسرِها.

سفح الهرم/ 14 يوليو 2006

 

دفء
كان ضروريًّا
أن أشتري هذا القميصَ من خان الخليلي.
ـ قصيرُ الأكمامِ والجوُّ ماطرٌ!
ـ نعم.
ـ جنونْ!
ـ ربما
لكنه حتميٌّ
رغم الجُنيْه الوحيدِ في حقيبتي
والدهشةِ في عينيك،
سأحتاجُ إليه حين أضيعُ العامَ المقبل في الثلج.
على صدرِه
مِفتاحُ النيل.

القاهرة/ 3 مارس 2005

 

شجرة زيتون
تفكِّرُ
وهي توضِّبُ الفساتينَ في حقيبة السفرْ
أن برودةَ الإسكيمو
ستمنعُ الجراثيمَ
ـ التي تركَها المريضُ فوق جلدِها ـ
من التكاثرْ،
فتنسى عمدًا
أن تنزعَ القصائدَ المعلّقةَ على سور البيتْ
وعلى القلبْ.

الشاهدُ
أن مكوثَها في "هيكل الزهر" سنواتٍ ثلاثًا
جعل الزيتونةَ تكادُ تثمر
حتى أن العابرين توقفوا ببابِها
ليلتقطوا في سلالِهمْ
شيئًا من طِيبِها.

جميلٌ أن يكونَ ثوبُ الزفافِ
بكرانيشَ واسعةٍ
ينسجُها الدمشقيون بخيوطٍ من حلبْ،
خيوطٍ لا تشبه الحريرَ
الذي التفَّ قديمًا حول عنقِها،
وجميلٌ
أن ترتقيَ السُّلَم بحذرٍ
يليقُ بعروسٍ على وشكِ اكتشافِ قانونِ الضوء،
سوى أنها
حين تصلُ إلى أعلى الدَّرَج
ستحني رأسَها
وترمقُهُ 
بنظرةٍ أخيرة.

القاهرة/ 3 يناير 2005

 

 شطيرةُ تَمْر
لابد أن أصابعَكَ الآن
تنزلُ عن فمِك
بعدما دسَّتْ فيه شطيرةَ التمرْ
في استراحةِ مطار برشلونة.
أصابعُكَ
التي تناثرتْ سُلاميّاتُها من تلويحة الكفِّ
في منتصفِ نظرتِكَ الأخيرة لي،
أصابعُكَ المُعتلّةُ تلك
التي رسمتِ القصيدةَ
وأخفقتْ في تصبير فراشةٍ
فطارتْ
بنصف جناح.

القاهرة/ يونيو 2005

 

خاتمٌ من أجل "نائلة"
                                إلى: نائلة بنت الفرافصة
ليس المالُ
بل اقتسامُ القروشِ
من أجل شراءِ الذُّرة المشويّة
فوق "كوبري عبّاس"،
ليستْ هجرةُ الطيرِْ
بل البرودةُ
التي تجعلُ الوردَ يجفُّ
بين أصابعِنا.

هنا يا حبيبي
ضاعَ خُلخالي
وهناك
تصعدُ فقاعةٌ من فم سمكةٍ
فترتسمُ دوائرَ
يحفُّها طائرٌ
يعرفُ كيف يرسمُ ظلَّه بحنكةِ التأثيريين
وبلاغةِ الغواة،
يتلخبطُ وجهُ النهرِْ
وترتبكُ الفرشاةُ في يدِ الله،
فيما الغريبُ
يقطعُ السماءَ فوق المحيطْ
كي يضعَ الخاتمَ
في إصبع الجميلةْ.

هو القامشليُّ
الذي هبطَ من هضبةِ الشامْ
كي يسرقَ الوردةَ من فلاحي كمشيش
في غمرةِ انشغالِهم
بإعداد القواريرِ والأكفانِ والكتّانِ البريّ
من أجل استقطارِ العطرْ.

تنظرُ بغتةً إلى ساقِكَ
أنظرُ بغتةً إلى معصمي
في كليهما يحترقُ الآنَ عصبٌ دقيق،
تلتقي عيونُنا
ثم تدلِّكُ رُسغي بقطعةِ ثلجٍ
جلبَها النادلُ كي ينامَ الوجعْ،
أنا
لم أتعلّمْ كيف أحملُ الألمَ بصبرِ الرهبانْ،
وأنتَ
لم تصدّقِ البصّاصين الذين أخبروكَ
أن جسدي يتحلّلُ بهدوءْ
داخل معطفي!

لا شيءَ في كفي
هي مضمومةٌ بأثرٍ رجعيّ
تكفيرًا عن الخروجِ مبكرًا من رحمِ أمي.
أما أصابعي المبتورةُ
فلم تزل مُعلَّقةً
على قميصِ عثمانْ.

القاهرة/ مارس ـ أبريل 2005

 

بينج بونج
الطفلةُ الشهباءُ
ذاتُ ال 47 كروموسوم
تشبه الملاكَ وتجرُّها أمُّها إلى صحنِ الكنيسةِ
هي لا تبني مُدنًا في الليل كي تهدمَها في النهار
ولا تعبأُ بهندسةِ الكون أصلا،
لكنْ تمصُّ إصبعَها عند الفجرْ
علَّها تعدّلُ الكيمياءَ المرتبكةَ في الدم.
بينما الجميلُ الأسمرُ
الذي يرقبُ العالمَ من وراء الزجاج
ذو الشَّعرِ المصقولِ
والعيونِ التي تركضُ خلف القطارات
يراهنُ على ضبْطِ ميزانِ الربّ
بقشرةِ برتقالٍ ومِضربِ بينج بونج وبعضِ قواريرَ فارغة.
ماذا لو التقيا؟

 

العِفريت
غرَسَ الشوكةَ في خِصرِها
فتحوّلتْ إلى هيأة الجواري:
تجلبُ الماءَ من البئرْ،
وتعدُّ قهوةَ الصُّبحِ
ثم تسوِّكُ أسنانَه من بقايا الفطورِ،
والنساءْ.

تِكْ تِكْ،
يصَفِّقُ،
فتنبسطُ له أرضًا
تُنبِتُ القمحَ والشعيرَ والنارنجْ.

تِكْ تِكْ
فتنتفضُ، كصليبٍ مُشرع وسطَ الحقلْ،
خيالَ مآتة
تُفزِّعُ الطيرَ وتهشُّ الألسنيّينَ واللصوصْ،
ثم تُنقّي ماءَ البِِركةِ من الدَنَس
كي تغسلَ أصابَعها المبتورةِ بسيفِ الخوارجْ
وتُشهِرَ قميصَه فوق صدرِها
ليجفَّ من الدمْ.

تِكْ
فتغدو ناعورةً
تروي أرضَه
وترسمُ فوق صفحةِ القنايةِ
دوائرَ وظلالاً
لزومَ اكتمالِ اللوحةْ.

عند الظهرِْ
يصفّقُ من جديد
فتنقلبُ أبا قردان
يلقطُ الدودَ من التربة
ويُنقّي خطوطَ القطنِ من اللُطعِ،
ثُم سمكةً
تجمعُ الطميَ في بطنِها
لتفرغَهُ في حوضِ الورد الشماليّ.

تِكْ تِكْ تِكْ تِكْ
فتحولّتْ على إثرِها مُهْرةً
امتطاها
ليتفقّدَ بساتينَه الواسعة
وفي يمينِه سوطُ نيتشه:
شيخِ البلد.

الفلاحُ الأشهبُ
تعلّمَ حكمةَ القرويين وطقوسَهم،
روّضَ المرأةَ بقانون العِفريتِ،
ثم اضطجعَ على حافةِ الترعةِ في استراحةِ القيلولة
حدّقَ في عينيها برهةً
فاستوتْ له صبيةً
ضاجعَها
واستولدها طفلةً شهباءَ،
قتلَها.

جميلةً كانت
ولذا
شخبطَ على وجهِها في التصاويرِْ
بطبشورٍ أسودَ
إذ ملاحتُها
تكشفُ قبحَ الرفاقْ.

قبل الغروبِ
جفَّ حلْقُه
فتكوّرتْ  له عِلكةً
لاكَها
ثم
بصقَها،
فتمطّتْ على الرملِْ
وتحورّتْ حواءَ،
ولما اكتملتْ أنوثتُها
نامتْ على رجاءِ القيامةِ.

عند المغرب
انتزع الشوكةَ من لحمِها
فتبخرّتْ.

القاهرة/ 20 مارس 2005

 

قلادة
فتحتْ كفَّها
عروسُ النيلِ الأخيرة
فالتقطتُ مفتاحَ المعبدْ
الذي أودعوه من أجلي هنالك
منذ خمسِ حقبْ،
في طريقِ العودة
جاءَ صوتُه من وراء البابْ:
لا تركضي يا حبيبة
أنا أنتظرْ!

23 أغسطس 2005

 

بيجاما
كثيرًا ما نبهتْهُ
أن بيجامتَها الزرقاءَ لا تناسبُ كهلا مثله،
مع هذا
ظلَّ على صمتِه
بينما عقلُه يحاولُ رسمَ امرأةٍ بلا رأسْ
كي يضاجعَها في هدوءْ.

هي لن تنسى بالتأكيد
ـ أثناء الترتيبِ للسفر ـ
أن تُخرجَ البيجاما من الحقيبة.
لا يليقُ أن تأخذَ رائحتَه
فمن يدريها أن الآخرَ طيّبٌ بالفعل
كما تزعم المراجعُ،
ماذا لو اكتشفتْ مثلا أنه بغيضٌ
يصبِّرُ الفراشاتِ بدبابيسَ على الحيطان
أو يضربُ الخادمةَ بالعصا
إذا نسيتْ وضعَ الملح في ماء القدم
من يدريها
أن القابعَ خلف ستار الراهبِ
لم يلقّنه الدرسْ.

حمدًا لله أن تركتْها بالوطن
البيجاما الزرقاءَ اللعينة
(كانت أخرجتها قبل عامين من فم سمكةٍ عند بحيرة ناصر)
أوصدتْ عليها الخزانةَ والمفتاحُ معها
البيجاما
البيجاما
التي ينبهُها عاملُ الشحنُ الآن
أن كُمَّها الأزرقَ
اشتبكَ في تِرْس سَيرِ الحقائب
بمطار الوصول!

 

ملاك
عجيبٌ أنني لم أمتِ اليومَ
رغم أنني قرَّرتُ في الصباحِ مصافحتَهم
كلَّ الذين نثروا الترابَ في كأسي
كلِّ الذين أطلقوا جنادبَهم
لتأكلَ معصمي المعطوبْ،
إذن
لم يكن ملاكُ الموتِ هو الذي هزَّ الستارةَ عند الفجر.
كان ملاكَ الشِّعر.

 

فرجينيا
خرجتْ
من رمادِها المنثورِ تحت دردارةِ نائمةٍ على النهر
نفضتْ جيوبَها المُثقلةِ بالموتْ
مشتْ صوبي
ودسَّتْ في جيبي ورقةً
وعودَ كرفسْ.

 

الشُّرفة
هذا مِقعدي
وأنتِ
تجيدينَ القفزَ على الخطوطِ الحمراءْ.

مِطفأةٌ وهاتفٌ مغلق،
وفي حقيبتِكِ
مطاراتٌ
وقطاراتٌ
وخيوطُ تريكو،
ليس الرجلُ كالمرأة!

مقعدٌ وحيدٌ في ركنِ شرفةٍ معتمة،
والعديدُ من النوافذِ التي ترقبُني.

أجلسُ هنا
أُمرِّرُ كفي على جبهتي
لأفرِّغَ العينَ من الأحداثْ،
أستبقي نظارتَيكِ،
طرحةَ أمي،
فستانَ الصغيرةِ التي أذابَها السرطانْ،
ومِسطرةَ أخي
الذي أنهكَه البحثُ عن مليمتراتٍ ضائعة
في حديقةِ بيتِ العائلة،
أستبقيها جميعَها
كي تكتملَ شَجَّةُ الرأسْ.

أنتِ امرأةٌ ذاتُ تفاصيلَ كثيرةٍ
وأنا
فتىً صامتٌ
يرشقُ نبالَه في جَلَبةِ الكونْ
فتفرغُ حملَها.

هذه مكتبتي
استهلكتْ غابةَ أرو،
نفدَ الخشبُ
فصنعتُ مكتبتَكِ من عاجِ الفِيَلَةْ،
ثم أقْعَيتُ
أرتِّبُ لكِ أكوامَ الورقِ
ورسائلَ العشّاقْ.

البحثُ عن كتابِ الموتى يحتاجُ شهرًا
خُذي النبيَّ
كي تقيسي كَمَّ العتْمةِ في كراساتِ التاريخ،
وخذي الأوديسا
كي تحسبي كمَّ التشققاتِ في قدميَّ،
وخذي رأسَ المال
ثم أحصي مِلحَ الأرض
وامسحي على جبهتي الملوّحةِ
بكفِّكِ البيضاءْ
واحجبي الشمسَ بالأخرى.

هذا مكتبي
عيوني الكثيرةُ تحت لوحِ زجاجِه
لا تنظرُ إليكِ كما تفكرين
بل إلى عدسةِ المصوّرِ العجوز
الذي كان ينامُ في حدائقِ مرسيليا.
والورقةُ
التي تُطِلُّ الآن بطرفِها من الدُرْج
لا تنوي الانتحارَ ولا حاجة
إنما خرجتْ لتتنفسَ.
وعلى فكرة
هي ليست قصيدتي القادمةَ فيكِ،
بل قرارُ إدانةِ شاعرٍ
بتهمةِ حبِّ الوطنْ.

أباجورتي
لابد أن تُخبطَ على ظهرِها كي تؤدي عملَها،
أنثى!
تشبه الصفصافةَ النائمةَ على تُرعةِ بلدتي.

هنا قِلاداتي وأوسمتي،
أولَ أمس
وافقَ عيدَ جلوسي على العرش
وزّعوا التذكاراتِ والورودَ
وأطلقوا بالوناتٍ ملوّنةً،
لكنني لم أكن هناك.

وهذا عصفورْ.
عصفورٌ فوق أرجوحةْ،
كان في قفصٍ مثل كلِّ خلْقِ الله
وأخرجناه حين كفَّ عن الصياح
فغدا
مجردَ عصفورٍ صامتٍ
فوق أرجوحة.

هنا الكنبةُ الأسيوطي القديمة
عالقٌ بنسيجِها خصلةٌ من شعرِك
مشى عليها المارينز حتى سمَّموا دجلةَ
من يومِها
لم يبرحْها الغبارُ
والوحشة.

وهذا سريري
واسعٌ
واااااسعْ!
مُلاءتُه بيضاءُ منذ عقدين.
طفلاتي في الغرفةِ المجاورة
غيرُ موجودات
نثرتُهنَّ  في أرضِ الله،
وصغراهُن التي تشبهُك
لم أرَها
ذابتْ في كأسِ المصلِ
أثناءَ نومي
مثلما ذابَ نصفُكِ الحُرُّ.

ليس الرجلُ كالمرأةْ.
النساءُ يعرفن الزهرَ،
والرجالُ
لا يفطنون إليه
إلا بعدما يذوبُ بين أصابعِهم
مُخلِّفًا طِيبَه،
فيقولُ واحدُهم:
كانت هنا زهرة!

هذي حبالُ الغسيلْ
مرخيةٌ
معاطفي وسُتراتي مُثقلةٌ بهموم نساءٍ
تدرّبنَ مثلكِ
على ابتلاعِ الزرنيخِِ
ومصاحبةِ كافكا.

هذه مرآةْ
لوحٌ من زجاجٍ عاكسْ
داخلَ إطارٍ من خشبِ الجَوْز
لا شيءَ فيها يستحقُ الكلامْ
مجردُ رجلٍ وامرأة
على وشكِ المصافحةِْ
ثم الوداع،
غدا ينسى كلٌّ ملامحَ صاحبِه
وتبقى ذاكرةُ الزجاج،
تنتظرُ امرأةً جديدةً
تكرهُ الضجيجَ مثلكِ
وتجيدُ القفزَ على الخطوطِ الحمراءْ.

يا ربّةَ الأشياءِ الصغيرة
اخلعي ساعتَكِ
وارميها على الأرضِ جوارَ ساعتي،
فالعقاربُ الشريرةُ ـ كما ترين ـ
تمشي.

اسمي محفورٌ على باب البيت؟
ذاك لا يعني
سوى أن اسمًا محفورٌ على بابْ!
فكلُّ بيتٍ يحتاجُ إلى اسم رجلٍ
حتى ولو كان شاعرًا
لا يشغلُ من البيتِ
سوى مقعدٍ واحدٍ
في ركنٍٍ معتم.

تعاليْ
واجلسي قُبالتي
غدًا أشتري مقعدًا آخرَ
غير أنني
سأظلُّ وحيدًا.

القاهرة/ 8 يوليو 2005

 

محمد الشامي
يقلبُ ساعتَه،
فينشقُّ الجبلُ
عن وجه يوسف.

 

رامة
                    إلى إدوار الخرّاط
قولي للصبايا
إذا سألنكِ عني
راحَ يأتيني بالنوقِ الحُمر.
ولماذا لا تأتين إلا في الخريفِ يا رامة؟
كيف نبني تاريخًا
وذاكرةً
وأزمنةً
دون أن نتوددَ لربطةِ عنقِ الخرّاطْ
وقبّعةِ بروست!
كيف نبني دارَنا
دون التوسّلِ إلى بيّاع القناديلِ الأعمى
الذي يخبئ الساعات في سيّالة جلبابه؟
أمهليني دقيقتيْن يا رامة،
فمَهْرُكِ يكمنُ في السطرِ الأخير
من كراسة السيمياء.
برهةً،
وآتي لكِ بالشمسِ
من المغربْ.

القاهرة/ 23 يونيو 2005

 

علامةٌ مائية
سيقرعون الأجراسَ أولَ حُزيران
ثمة أسبابٌ وجيهةٌ لاختيارِ هذا اليوم
أهمُها
أنه أولُ حُزيْران.

مِن الجميلِ أن تصبحي علامةً مائية
على صفحة غيمةٍ لا ترى الشمسْ،
ثم تشاهدي العالمَ من بعيد
مثل فيلمٍ سينمائيّ لا يعنيكِ:
البطلُ المرزوءُ بالخطوبْ
يثيرُ مكامنَ البهجةِ
لأنكِ لستِ هو،
حتى لو ذرفتِ دمعةً
كما تقتضي اللياقةُ،
بعدها
تحوِّلين المؤشرَ على قناة:
تَسَوَّقْ عبْر التليفزيونْ.

حين يقرعون الكؤوسَ أولَ حزيران
لا تحزني
فقد عشتِ لياليَ طويلةً بلا صداعْ
ولا تنسي أن فرجينيا وولف كانت أكثرَ منك عذابًا
وأعمقَ موتًا.

أن تصبحي علامةً مائية
فذاك يعني
أن ضجيجَ العالمِ لن يفزعَكِ
ولا الفواتيرْ
ولا حتى الرجلَ الكاذبَ الذي أحببتِه،
ستثأرين حين يغدو وحيدًا
ويعتقلُه البوليسُ بتهمة الصلعْ.

حين أغدو علامةً مائية
سأفوّتُ عليك يا حبيبي
عدَّ البثورِ التي زرعتْها أمي في جبهتي
كي ينفرَ مني الرجال.

لا تشبهين نساءَ رينوار!
حسنًا
وأنتَ لا تشبه المسيحْ.

حين أموتُ في أولِ حزيران سوف توقنُ
أن الجرائدَ التي لوّثتها الصُّفرةُ
حملتْ سِفاحًا
وأسقطتْ أجنَّتَها تحت عجلاتِ الطائرةِ الحربية
في مطار ألماظة
حيث الكلُّ مهيأٌ للمغفرة
وبتْرِ الآذان
قبل أن تتلقفَ تنهيدةَ عاملِ الشحن:
يا للمرأة التعسة!
لن تحظى بطفلةٍ أبدًا.

لماذا تغمضين عينيكِ يا حبيبتي؟
كي أميّزَ بين أزيزِ الطائرة
وبين شَعرِكَ المنفوش
الذي يزدادُ بوصةً
كلما كذبتَ عليّ.

أبريل 2004

 

فول نابت
البوهيميةُ قالتْ:
ـ إن الفولَ يُنبَّتُ في الأقمشةِ المبتلّةِ
لكنَّ القلبَ الباردَ لا يُنبِتُ إلا شوكًا،
وصقيعَ الرجلِ الكامنِ خلفَ المرضِ
يعطِّلُ إنباتَ الفولِِ
ودفقَ الدمْ.
هاتي كفَّكِ يا عسراءُ
  ولماذا ظلُّكِ محبوكٌ حول الخصرِ
كطفلٍ لا يسمعُ نُصحًا؟

ـ  الكهولُ النيئونَ يا عَمّة
 يبحثون داخل فساتينِ الصبايا   عن فصوصِ الثومِ،
 والصبايا يسترقنَ السمعَ لحفيفِ الطواحين،
 وأنا،
 أرفعُ بحذرٍ طرْفَ الرصيفِ القديم
 كي أطمئنَ على أحلامي المخبأةِ.
 يا عمَّة
 الرجلُ الجالس عند الصخرة
 ألقى عروستي في النيل!

ـ  طيّب
   هاتي أغطيةً
   وسكاكينَ
   وكأسًا من ماءِ الأردنْ،
   ولفافةَ تبغٍ تحملُ شيئًا من عطرِ امرأةٍ
   كان يخاصرُها عند النبع،
   وهاتي قنديلَ نُحاسٍ أصفرَ مدموغًا بتجاعيدِ الجبهةِ
   مشقوقًا عند فتيلِ الزيتْ،
   استدعي "فيفالدي" من عمقِ الكهفِ
   الشاهدَ مأساتَكما،
   مُدّي فوقَ الرملِ الجسدَ
   المطروحَ
   المنذورَ
   لوهمِ نساءٍ لم يفهمنَ اللُعبةَ في موعدِها،
   و ...

ـ  لكنه يا عمّة
   تركَ الغرفةَ مبعثرةً
   وركضَ
   كي يطارِدَ الإوزاتِ في النهرْ:
   فإوزّةٌ
   تحملُ مربعاتِ شطرنج،
   وإوزّةٌ
   تحملُ ثورًا بقرنين على رأسِه قبّعة.

ـ  طيّب
شُقّي عند الصدرِ
    وقُصّي الأوتارَ
    ليتحررَ قلبٌ مسكونٌ بالخوفْ
    لُفّيه لسبعِ ليالٍ
    في مِنديلٍ مغسولٍٍ بمياهِ ابن العذراءْ
    رشّي بعضَ العطرِ   وضميهِ إلى صدرِكِ
    علَّ القلبَ الجافي يتدفأُ
    والجُرحَ ينامْ.

ـ يا عمّة
الرجلّ الطيّبُ لا يحبُّ الفرحَ والهودجَ وشمعةَ العُرس
تركني في الثوبِ الأبيض
   وطار إلى فوق.

ـ  طيّب
  أعطيهِ ثلاثَ ليالٍٍ  فوق السَّبعْ،
إن أنْبتَ
فارمي في الجَّرّةِ بضعَ دراهمْ
وهبيني شيئًا من طِيبْ.
إن لم يُنبتْ
فارميه إلى الجُبِّ
وعودي في التوِّ
إلى إنباتِ الفولْ.

 

هكذا
كلما ابتعدتُ عنكَ
ازددتُ بياضًا.

 

كرسي متحرك
الصَّبيُّ على الكرسي المتحرِّكِ
بين السياراتْ
وحدَه
له الحقُّ أن يدوسَ قدمَ السيدةِ الجميلةْ
وبعد لمحةِ الغضبِ الأولى
سوف تُكافِئُه
بابتسامة.

 

شالٌ من مراكش
وحيدةٌ
وحوائطُ بيتي متآمرة
لا تُعيدُ صوتي حين أناديكَ
تمتصُّ حروفَه فيتبددْ
ويتطايرُ الظلامُ من حولي.

عيناكَ
داخل خِزانتي تختبآن،
وفي الليلِ
تجوسانِ بين أقمشتي
تفتشانِ عن شالٍٍ مغربيٍّ بلونِ المشمشْ لحبيبتكْ،
وأنا
غدوتُ فستانًا مُثقلاُ بالحجارة
معلّقًا على شماعةٍ في الركنِ المعتمْ.

أتحسّسُ ذراعيّ المبتورتيْن
وعنقي المجزوزَ
وساقيّ اللتين خطفتهما العجوزُ في الطفولة
وأفكِّرُ
أن عينيك هاتين
مثل خرزتيْن من البُنِّ اليمنيّ
سوف تشكلان دواماتٍ فوق صفحةِ الماءْ
لو أسقطتْهما كفٌّ مُعلّقةٌ في الهواءْ،
كفٌّ حرّةٌ
غيرُ موصولةٍ إلى رُسْغٍ
أو حِبالْ.

إنهم يزرعون الشوكَ
وأنا
لم أتعلّم أن أتحوّرَ عصفورًا
لكي أنجوَ
ولا حتى شجرةً
رغم المعاولِِ
والأوراقِ التي تسقطُ كلَّ يومٍٍ من جبهتي.
أحتاجُ الآن إلى أصابعي
لأقشّرَ حبّاتِ البنِّ الشهيّة
ألقيها في الماءِ فتطفو
ولما أتأكدُ من خوائها
أبكي.

لكن
كيف أبكي ورأسي مقصولٌ!
هذا الدمعُ يطْفرُ من عينيك أنت
ويبلّل فستاني منزوعَ الأكمامْ
على الشمّاعة.

القاهرة/ أبريل 2005

 

فير فورجيه
على الشرفاتِ العُلوية
حديدٌ مشغولٌ لمنعِ الأطفالِ من الطيران،
وعلى الشرفاتِ السُّفلية
لمنعِ اللصوصِ من الدخول،
حول قلبي قفصٌ
لم يمنعْ الطيرانَ
ولا اللصوصْ.

 

اسمُكِ راشيل كوري(1)  
                                      إليها طبعًا

طبعًا
كنتِ ترسمين وردةً
في أوراق حِصَّةِ الحساب
وتومئين للمعلِّمة بين لحظةٍ وأخرى
كأنكِ تتابعين الدرسْ.

وربما
شُغِلتِ بابنِِ الجيران
عن إتمامِ واجبِ التاريخْ
فتضحكُ البناتُ في الفصلِ
من دفتركِ المملوءِ قلوبًا
محلَّ أسبابِ الحملةِ الفرنسيةِ على مصر،
أقصدُ:
أسبابَ محوِ فيتنام
وحتميةَ القرنِِ الأمريكيّ.

ولابد نامَ شعرُك محلولاً في انتظار كوبِ الحليب
وقُبلة الأمِّ في الصباحْ،
تحلُمين بولدٍ أزرقَِ العينين
سيأخذ مكانَ دبدوبِكِ الأبيضْ؟

أزرقُ وأبيضُ
موجٌ وزبَد
لونان جميلان!
في زهرةٍ بفستان صَبيّة،
وجناحِ عصفورٍ فوق حافةِ شرفتك
وسماءٍ وغيومٍ في كراسة رسمْ،
وليس في عَلَمٍ ينقرُ عينَ صبـيّ
بستّة مناقيرَ مدببةٍ
حتى وإن حملَ
اسمَ نبيّ.
***
مثلَ البنات تحلُمين
بغدِك الذي لن يكون:
{في الصباح تحملين حقيبتَكِ
وتعودين بعد ساعة من المتجر
بكيسِ كرفسٍ وبازلاء.
طناجرُ،
ملاعقُ،
وركضٌ بين المطبخ والمغسلة
وغرفة الصغارِ يجبُ أن تُرتَّبَ قبل الرابعة،
صغارُكِ الذين لن يأتوا يا راشيل!
يقولُ أكبرهم:
خرجنا اليومَ لنطاردَ الضفادعَ
وغدًا نمزّقُها بالمِشرطْ
حرامٌ يا جورج!
ماما هو درس التشريح
لنعرفَ ماذا تخبئُ في بطنها!
***
هل يوقظونكِ الآن لتلحقي بالرفاق في الديسكو؟
ـ     ما أثقلَ نومَك يا راشيل!
                                  ـ   Yet Dad, I was dreaming! 
      لن أذهبَ إلى المرقصْ
      أين باسبوري الأزرقُ يا أبي؟
      أودُّ الكلامَ مع الله!
***
مثلنا جميعًا يا بنتْ
أحببتِ وحاورتِ المرآةَ
وأخجلتكِ نقطةٌ حمراءُ في الفستان،
رسمتِ كيوبيدَ وسهمًا وحرفيْن
وانتظرتِ الفارسَ والحِصانْ
مثلَ كلِّ صبيّةٍ سمراءْ
تمنيتِ حذاءً عاليَ الكعبِ وجوربًا شفافًا
وأضجرتِك شرائطُ الشَّعرِ والضفيرة،
ومثلنا لو كنت تمهلّت
ستنتجين صغارًا
وتلعنين سخافاتِ الرجال.

مثلنـا؟
لكننا لم نقف أمام جرّافةٍ لتسحقَنا
كي نتكلمَ مع الله
أو لنوقفَ مدفعًا
يريد أن يخطفَ طفلا
من ضحكته.

القاهرة/ 10 فبراير 2006

 

زحام
في الزحامْ
أغمضُ عينيْ
لأختبئَ معكَ خلف شبكيتي.

 

ماجنا كارتا
*  لا يجوزُ أن يتركَ الكيميائيُّ فراشةً
    فوق سلكٍ مُكهرَبٍ
    كي يحضّرَ أول أكسيد الكربونْ.

*   لا يجوزُ أن يستقطّرَ الشاعرُ ألوانَها
     ليملأَ قلمَه الحبر
     ويكتبَ قصيدةْ.

*   يلزمُ تحذيرُ الورودْ
     للاختباء وراء الأوراقْ
     إذا ما مرَّ بالحديقةِ رجل.

*    على راقصات الباليه أن يتوقفن عن الرقص فورًا
      مادام الرعويون قد أتلفوا الموسيقى
     بآذانِهم الغليظة.

*    وعلى الشعراءِ أن يعودوا إلى ثكناتِهم في الحالْ
      فالحربُ حطّت أوزارَها
      ذاك أن السيدةَ التي انفجرتْ أمعاؤها
       بين عمّان وبيروت
       فيما تحملُ منشوراتِ الهوى
       مازالت تنتظرُ أن يلملمَ الرفيقُ نُثارَها
       كي تعودَ السكينةُ إلى القطّةِ
       ذات العيون الحُمر.

انتهى.

رُفعَتِ الأقلام.

القاهرة/ مايو 2005

 

مقعدٌ خشبيٌّ وحيد على أطراف القارّة
أعلمُ أن ريمَ لن تعودَ
ولا أنتَ
ولا حتى أبي
الذي طارَ من المِئذنة
قبل التكبيرةِ السادسة.
وأنتظرُكم.

الكونُ يتبدّلُ:
الحديقةُ الأماميةُ
مشتْ إلى وراء البيت،
وضجيجُ المترو
تحوّلَ ثكناتٍ عسكريةً
وصواعقَ خفافيش،
أما أنا فمازلتُ في المقعد الخشبيّ ذاته
وطفلتي بعيدة.

مُتعِبٌ كالماءْ
وحنونٌ كنهاياتِ شكسبير،
فهل من الغباء أن أظلَّ أحدِّقُ في الأطلسيّ
في انتظاركَ؟
بينما أعلمُ أنك لن تظهرَ ذات غسق
سابحًا في البرزخ المفتوح بين الرباطِ وعَدَن،
في عينيك شوقٌ
وفي يدك وردةٌ لشعري
وفوق ظهركَ
طفلتي.

المغربيةُ السمراءْ
التي تشبهُ ضوءًا ينسربُ من شرّاعةٍ علويّة
خبرّتني أن النوارسَ لا تستقرُّ فوق الماء
لأن السمكَ في بطونِها
مملحٌ كالسردين التائبْ
والتائبُ من الذنبِ
يبدأ ذنبًا جديدًا.

لابد أن تجرّبَ المرأةُ عادةً أخرى
غير التحديقِ في الماءْ،
كأن تُفسِحَ الطريقَ لبيتِها
لكي يتزحزحَ كلَّ صباح
 خطوةً صوبَ الشرقْ
حتى إذا مسَّ خطَّ الزرقة
استعدَّ للخَدَرِ الذي سيسري في أوصالِه
حين يبتلعُه البحرْ.
البحرُ الأحمر طبعًا.

الرباط ـ المغرب/ يوليو 2004

 

طريدة
لستُ طريدةً يا فتى
فاشحذْ شِصَّكَ
واتبعْني.

 

قطعةُ سكَّرٍ واحدة
كانت مَهمتي
أن أذيبَ لك السُّكرَ،
لكن عتمةَ العنابر
وانكسار العصا في يد موسى
عكستِ الحالَ
فصارَ  تقليبُ السِّكر
وظيفتَك.

قطعةً واحدةْ
حتى يظلَّ المُرُّ مُرًّا
والنوارسُ نوارسَ
 لا تخطئُها الأعينُ مع الملاكِ الصموتْ
الذي يهبطُ كلَّ مساءٍ
كي يمسحَ دموعَ البناتْ.

قليلاً من السُّكرِ
فمرارةُ القهوةِ ضرورةٌ
لتعادلَ كوميديا الأخطاءِ
وعبثَ المحبين.

القهوةُ
لابد أن تكونَ في كوبٍ زجاجيّ.
الفناجينُ الخزفيةُ مريبةٌ
تحجبُ لونَ البُنِّ في طبقاتِه.
اللونْ
الذي يشبه صوتَ فيروزَ
حين تنادي "عاقدَ الحاجبيْن"
الذي عيناه البنيّتان تسرقان ضوءَ الشمسْ
حين تحنو على العاشقيْن في الغسق
تحت الصفصافةِ المشقوقة.

مرِّنْ يمناكَ
على تحريكِ الملعقةِ دون طرطشةِ القهوة
ومرّنْها
على مصافحةِ الفراشات
من دون أن تكسرَ رُسغَها،
تعلَّمْ أن تقرأَ الحزنَ في عينيها
واحذرْ وعيدَها
فللفراشةِ قانونٌ لا يخلو من مُرٍّ
حتى وإن رفلتْ في الألوانْ.

الضرورةُ الشِّعريةْ
جعلتْكَ تشطبُ الياسمينةَ البيضاءْ
التي كانت تنمو على سورِ الحديقةِ
في غفلةٍ من سكّان البيتْ،
وجعلتِ الراقصةَ الخُلاسيةَ تلفُّ دون توقّفْ
في دوائرَ ثابتةِ القُطْر
رغم آلامِ العصبِ.
وقيودُ الخليلْ
أنبتتْ أجنحةً للهوى
فطـــارْ،
أما طبيبُ العلاجِ الطبيعيّ
فشقَّ العصا،
وجعلَ لزامًا عليكَ
أن تذيبَ السُّكرَ في كوبي كتمرينٍ يوميّ،
ولزامًا عليّ
أن أنكفئَ على كُثبِ الرملِ
في انتظارِ أن يمرَّ البحرُ.

القاهرة/ 5 يونيو  2005

 

صمم
دربي نفسَك على تحريك الشفاه
كي تناسبَ مخارجَ الحروفْ
فليس من ضرورةٍ للأذنين حتى نضبطَ الكلام.
لا ترتعبي من الصممِ القادم بعد شهرين،
الصمُّ لا يفقدون النطقَ
غير إنهم
يخجلون من ارتباكِ المقاطع
فيصمتون.

 

كراسة رسم
عند الأربعين
تَكْبُرُ حقائبُ النساءْ
لتسعَ قُرصَ الضغطِ وقُمعَ السُّكرِ
ونظّارةً
تجعلُ الحَدقةَ أوسعَ،
والحروفَ المراوغةَ
أكثرَ طيبةً.

في الجيبِ السريّ
يضعن تذكرةَ داوودْ
ووصفةً ضدَّ غُصَّةِ الحَلْقِ
التي تناوبُ كلما مَحَقَ القمرْ،
وشمعةً
فالنارُ تحرِقُ العفاريتَ التي
تتسلّلُ في الليلْ
لتجزًّ أعناقَ الحريمْ،
وفي الجيبِ الأماميّ
يضعن وصيّةً:
    "لا أملكُ إلا:
 آثارَ لونٍ،
 عَلِقَ بكفي حين حطَّتْ عليها فراشتان.
 كراسـةَ رسمٍ.
 وفرشـاة.
    أهبُها جميعًا
         -شأنَ كلِّ موحودة-
    للوطن."

عند الأربعين
يتسرّبُ الصقيعُ إلى الجواربِ
ويغدو القلبُ صحنًا خاويًا مساءَ الجمعةْ
لحظةَ هجرةِ الفراشاتِ من البيتْ،
إلى أين تمضي الفراشات؟
تحطُّ على كَتفِ العَمّة الطيّبة
في شرقِ العاصمةْ،
بينما السيدةُ الواجمةُ
-التي على الأرجح وحيدةٌ-
تقبعُ في الشرفةِ خمسَ ليالٍ
انتظارًا لموسم العودة.

وعند الأربعين
تقولُ المرأةُ لجارتِها
عندي صبيٌّ لا يحبُّ الكلامْ،
والربُّ يُمهلُني
حتى ينطقَ ذات وعدٍ:
يا أمُّ اذهبي!
أنا الآنَ
بخير.

القاهرة/ 6 نوفمبر 2005

 

كوبري 6 أكتوبر
لأن مسئولاً مُهمًّا
مرَّ فوق الكوبري صباحًا
(كانت علّمته زوجتُه أن أناقةَ كريستيان ديور تقومُ على التباين اللونيّ)
فإن رجالا مثل أزرارِ البيانو
ينتشرون الآن في الثانية صباحًا
مُثبَّتين إلى الرصيفِ ويحملون جرادلَ طلاء
واحدُهم مُلطَّخٌ قميصُه بالأبيضْ
ثانيهم بالأسودْ.

ولأن شقيقةَ مسئولٍ مهمْ
تاهتْ أولَ أمسْ
يرفعُ رجلانِ في الثالثة صباحًا
لوحاتٍ إرشاديةً على يمين الكوبري.

ولأن ابنةَ مسئولٍ مهمّ
حزينةٌ لأنها رسبتْ في امتحان التِيرم الأول
ازدهرَ جانبا صلاح سالم بأصص الورد
لكي تفرحْ،
لابد أن رجالا طيبين زرعوها
في الرابعةِ صباحًا.

ولأن حديثي معكَ لا ينتهي
أعودُ إلى بيتي متأخرةً
وأشاهدُ كلَّ هذا.

نساءُ المسئولين طيباتٌ
يُجمّلنَ المدينة.

 

تفخيخ!
"اسمعي !"
تقولُ سيارتي العجوزُ لجارتِها الشابة
"إذا قررتِ أن تمرضي
أو يعلوَ مؤشرُ الحرارة،
أو يُفرِغَُ أحدُ إطاراتِك ما في جوفه،
فلا تفعلي إلا أمامَ بيتِ الحاكم،
ستجدين في الحال
من يسعفُك."

 

طفلة
حولَ كاحلِ ساقِها
خيطٌ
في نهايتِه كرةٌ خضراء
هي تقفزُ إلى فوق
فتدورُ الأرضُ حول ساقِها.
تلعبُ هولاهوب
بعدما سئمَت من حكايا القرويين
حول الثورة.

 

طفلٌ
لا يعبأ بانهدام العالم
ولا يخافُ الأضرحة.
لا يرهبُ سقوطَ المآذنِ والأبراجْ،
في الليلِْ
يعيدُ رفعَها بعيدانِ ثقابٍ
وقطعةِ صلصالْ.

 

ورقةٌ مطوية
غافلتُكَ وخبأتُها تحت عُلبةِ السجائرْ!
في اللحظةِ التي أشرتُ فيها إلى عصفورةٍ بعيدة.

بوسعِنا قصُّها نصفيْن
لصُنْعِ جناحيْن لفراشةٍ على وشك الطيران،
وبوسعنا أن نرسمَ عليها قطارًا
اشتبكَ كفُّ ولدٍ وبنتٍ فوق شريطِه ذات أصيل،
قبل أن يتكوّرَ كدودةٍ
تتأهبُ لولوجِ الشرنقة.

لا تتعجّل قراءتَها
سألقيها عليكَ من شباكِ الطائرةْ
حين تلوّحُ لي من  برجِ المراقبة.

القاهرة/ 15 مايو 2005

 

قرار
في ميتتي القادمة،
سأجعلهم يحرقون جسدي،
ويستبقون أظافري.

 

ألف لام ميم
أنْ تقضي رأسَ السنةِ وحيدةً
فيما الصحابُ منثورون في أرضِ الله،
والكتبُ
تنامُ وادعةً فوق الرف،
أنْ تمضيَ الليلَ بين مَراجِع الرياضيات
في محاولة لحساب عدد الألف واللام،
في رسالةِ الحبيبْ
الذي عبسَ وتولّى
بعدما رتقتِ كعبَه المثقوب،
أن تُغَلِّفي حيطانَ بيتك بالفلينْ
كي تهربي من صوت موتاكِ ينادون عليكِ،
فذاك يعني
أنكِ
زائدةٌ عن الحاجة.

 

مدينةٌ
سطّحتْ أبنيتَها المدافعُ
إلا كوخًا
يحتلُّ علامةَ (+) في كل عدسات التصويب
مَنْ يسكنُ الكوخَ يا ناسْ؟
نحّاتٌ فطريٌّ
وبعضُ طمي.

 

ضرورةُ أن تكونَ النهاياتُ حاسمة
                                  إلى: حلمي سالم، طبعًا
في ميتتِكَ القادمة
تخيّرْ أسلوبًا آخرَ،
يجنِّبُكَ المشيَ في الطرقاتِ الطويلة،
واستنشاقَ البخارِ العطنْ
الذي يفوحُ من شفاه النسوةِ الداكنات،
اللواتي يتصيدنَ المرضى
لينتزعنَ قبلةً
يستحلبن لُعابَها
تحت طاولاتِ التشريحْ.
ثُّمَ
ألم نتفقْ أن تكونَ نهايتانا
بجنونِ الخلايا؟

المرأةُ التي زرعتِ الكركديه
كي ينخفضَ ضغطُ الدم،
نظفّتْ بقايا القيء والمخاطْ،
ثم أشاحتْ عن النسوةِ داكناتِ الروح،
ذوات الأردافِ الثقيلةْ،
لأنهن يتلصصنَ من ثقوبِ العنابرِ
فيُخرِّبنَ الهدوءَ ومقابضَ الأبواب،
ثُم يقتسمنَ خبزَ المريضِ ورئتيه،
على أنها
أدمتْ أناملَها
حين انتبهتْ فجأةً،
أن الجلطةَ تخثـّرت في المخْ،
لحظةَ رفضتْ أن تنامَ إلى جوارِه
عاريةً ...
ونظيفة.

يلزمُ أن تتعلّمَ المرأةُ
أن الدماغَ الذي قنصَ جارودي بين جدرانِه
ثم أطعمَه كسرةً من رغيفِه
لابد أن يكونَ حانيًا
وذا شرايينَ ضيّقة
لا تسمحُ بمرورِ الإقطاعيينَ والنُحاةْ،
ومن ثَمَّ
تأمنُ السيدةُ على عُريِها
إذا لامسَ عُريَه.

المدهشُ
أن دماغَكَ المرسومَ على الشاشةِ
كان مليئًا بالتلافيفِ والأزقّة،
يشبهُ دماغَ بائع الصحفِ الممددِ إلى جوارِكَ
فوق سرير الأشعّة.
بحثنا طويلا عن القصيدةِ
فلم نجدْ إلا صُدوعًا وشرايينَ قاتمةً
وبعضًا من علاماتِ السؤال،
حتى إن الطبيبَ الجالسَ إلى شاشةِ الرصد
لوَّحَ قائلا:
أيُّهما
دماغُ الشاعر؟

في المرةِ القادمة،
اخترْ ميتةً أخرى
تنجيكَ من حاملي الحقائب ومسوخِِ كافكا
الذين يتسلقونَ الحوائطَ بأقدامِهم المزغّبة،
يتسوَّلون المحبةَ من النِفطياتْ،
ثم يلتهمون كتابَ المريضِ ولسانَه.

الأشياءُ تعلمُ الخبرَ كلَّه،
بدليل:
أن بقايا كوبِ الكركديه،
وقميصَك محلولَ الأزرار
المُلقى على عَجَلٍ جوارَ السرير المعدنيّ،
وحتى توقيعكَ المشَوّش على إقرارِ المستشفى،
جميعُها
رسمتْ مشهدًا آخر للحكاية
-خاليًا من المطِّ  والثرثرةِ وأنابيِبِ المحلول-
مشهدًا خاطفًا فلسفتُه:
أن موتَ الفُجاءةِ
يفتحُ الأبوابَ على نحوٍ أسرع
فتذوبُ التكتلاتُ الدمويةْ،
ما يسمحُ للقاعةِ أن تنظّفَ حوائطَها
من رَوَثِ الأصدقاء الذين يكتبونَ الشِّعرَ
ولا يحسنونَ الأدبْ.

لكن الحائطَ
ما كان ينبغي له أن يكونَ حائطًا،
مادام في وسعه أن يغدوَ سلةَ زهرٍ
أو قصيدةْ.

لماذا صدقتني حين قلتُ:
إنني ازدادُ بياضًا
كلما نأيتَ عني؟
وإن البوليسَ سوف يعتقلُكَ بتهمةِ الصَّلع؟
كانت مزحةً طبعًا
أو لُعبةً شعرية
لا تستوجبُ أن تطيلَ شَعركَ إلى هذا الحدْ،
ثم تعدِّلَ في بناءِ النهاية،
فيغدو خللُ الخلايا
شللاً نصفيًّا،
خوفًا من الكيماوي
ونتفِ الرأسْ.

فمن الثابتِ
أن البوليسَ في بلادِنا
لا يحفلُ بالرؤوسْ
مادامتْ تحملهُا أعناقُ رجالٍ
لا يدافعون عن حبيباتِهم
حين تبكيهنَ التعاسة.

ومن الثابتِ أيضًا
أن نساءَكَ اللواتي عذَّبتهنَ
هن اللواتي حملنَ لكَ قواريرَ الدواءْ
وقطّرنَ من دموعِهن ماءً نقيًّا
لتنجوَ من قصورِ الدورةِ الدمويةِ،
وانحباسِ الشِّعر.

أيها المقامرُ
ما معنى أن تكتبَ ديوانًا كاملاً
عن السرطان،
ثم تموتَ
بجلطةِ المخ؟

القاهرة/ 30 أكتوبر 2004

 

حين أغدو إلهةً
سأنزعُ الكُرةَ عن ثوبِها
أنفضُ الخريطةَ
فتسقطُ مخطوطاتُ التاريخِْ
وخطوطُ الطولِِ والعرضِِ والحدودْ،
أوزِّعُ الجبالَ والآبارَ
والذهبَ والنِفطَ والطقسَ والغيماتِ
 بالقسطْ،
أمرُّ بريشتي
على الوجوه المُتعَبة
فيذوب البياضُ والسَّوادُ والصُّفرة،
تؤولُ جميعُها إلى لون المشمش،
ومن الألسنِِ
أنتزعُ اللغاتِ واللهجات
وأصهرُ في بوتقتي
 معجمًا أبيضَ من غير سوء
مصفىً من مفرداتِ الزعلْ،

وقبل أن أستوي على عرشي
أضبطُ زوايا الشمسِ و خطَّ الاستواءْ،
وأعدِّلُ قانونَ المطرِْ.
سيصفقُ الصحابُ فيما أقصُّ الشَّريط:
سبارتاكوس، جوركي، جيفارا،
وابنةُ الإسكافي التي فاقَ مَهرُها مَهري،
وفي غمرةِ الفرحِ أتمتمُ:
هندسةُ الكونِ وظيفتي!
وعند بدءِ الحربِ العالميّةِ الثالثة،
أُطرِقُ برهةً
ثم أعيدُ الكُرةَ
سيرتَها الأولى.

اليمن ـ تعز، جبل صبر
15 أبريل 2004

كُتبت قصائد هذا الديوان بين عامي 2004 ـ 2006. وفازت المخطوطةُ بجائزة الشعر العربي 2006 في هونج كونج وصدرت ترجمتُها إلى الصينية والإنجليزية عن دار "ندوة بريس" فى أنطولوجيا  واحدة باللغتين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ Rachel Corrie: فتاة أمريكية مناهضة لسياسات أمريكا في الشرق الأوسط. سافرت إلى فلسطين كمناضلة مع القضية. وقفت أمام جرافة إسرائيلية كي تحمي منزلا فلسطينيا من الهدم. فدهستها.