استطاعت مسرحية الكاتب السوري أن تكثف موقفها الدرامي وتحقق فيه التوازن بين رسم الشخصية وتفكيك الخطاب السياسي بصورها تحليها إلى استعارة للواقع العربي كله.

بروفة لزمان قادم (مسرحية)

ثائر دوري

 

الشخصيات

الطبيب: ابن مسؤول كبير و هو مختص بجراحة الليزر و التجميل و قد عاد حديثا من ألمانيا.

المريضة: إنسانة في نهاية الثلاثينات من عمرها، غير متزوجة، تشكو من تشوه في فروة الرأس و قد حضرت إلى عيادة الطبيب بعد أن سمعت عن شهرته.

الفصل الأول

(تجري الأحداث في عيادة الطبيب التي تقع في مكان وسط العاصمة. تصل المريضة في اللحظات الأخيرة قبل أن يغادر الطبيب، و في هذا اليوم تجرى احتفالات بمناسبة أعياد الثورة. و قد تم تعليق أحد مكبرات الصوت في مكان قريب من نافذة العيادة. نشاهد الطبيب يجلس وحيداً داخل العيادة  خلف مكتبه يدخن البايب و يقرأ في كتاب)

المريضة (تقرع الباب): أحمد الله أني وجدتك.

الطبيب (ينظر إلى ساعته): لقد تأخرت كثيراً. عادة لا أبقى حتى هذا الوقت لكن الاحتفالات في الخارج حجزت سيارتي و أنا أنتظر حتى تمر جموع المحتفلين لأستطيع الخروج.

المريضة: و أنا تأخرت لنفس السبب. لقد اتصلت بممرضتك البارحة، و حددت لي موعداً تمام الساعة الواحدة.

الطبيب: و الآن تجاوزت الساعة الثانية.

المريضة: السبب هذه الاحتفالات و هذه الجموع البشرية. لم يستطع سائق سيارة الأجرة الوصول إلى وسط المدينة، فمشيت مدة ساعة كاملة لأصل إلى عيادتك.

الطبيب: لا بأس، حظك جيد. تفضلي.

(تجلس المريضة)

الطبيب: و الآن ما هي مشكلتك؟

المريضة: دكتور سمعت عن شهرتك الكثير.

الطبيب (يقاطعها): أنا أشهر جراح تجميل في هذه البلاد. لقد حزت على كل شهاداتي من ألمانيا. انظري إليها معلقة على الجدران. تلك شهادة في تجميل الوجه و هذه في الليزر. و ثالثة بجراحة اليد، ورابعة بإزالة الوشم و خامسة لندبات الحروق و زرع الشعر.

المريضة (ترفع غطاء الرأس فتظهر ندبة كبيرة و قد زال عنها الشعر): و لهذا جئت إليك.

الطبيب (ينهض عن كرسيه): تفضلي على السرير كي أفحصك.

المريضة (تنهض): مكبر الصوت صوته عال. ألا يزعجك؟

الطبيب: لقد ثبتوه بدون علمي على جدار العيادة. لو كنت أعلم أن هذا ما سيجري اليوم لم أكن لآتي إلى العيادة أبداً. أخبريني ماذا جرى معك؟

المريضة: إنه حرق.

الطبيب: حرق؟ بأية مادة؟

المريضة: نعم ..؟

الطبيب: أسألك بماذا احترقت؟ عفواً سأغلق النافذة كي يخف الضجيج قليلاً.

المريضة: حرق بالـ...........

الطبيب (يغلق النافذة): ماذا ألا تذكرين؟ لا أدري متى سننتهي من الإحتفال بهذه الطريقة البدائية  في ألمانيا، حيث كنت أدرس، تمر عليهم مناسبات كثيرة لكنهم لا يعطلون أعمالهم أبداً. أما نحن فمن أجل هذا الاحتفال عطلنا الحياة وسط العاصمة.

المريضة: نعم حرق بالشاي.

الطبيب (يعود لفحصها): لا بد أن والدتك كانت مهملة حتى تترك طفلة صغيرة تحترق بالشاي.

المريضة: مهملة ...!! نعم مهملة. لا بأس.

الطبيب (يخلع القفازات من يديه و يرميها في سلة المهملات): تفضلي. انزلي (يعلو في هذه اللحظة صخب الإحتفال بشكل غير معقول) أغلقنا النافذة و لم نستفد شيئاً. و كيف سأستفيد؟ لقد علقوا السماعة على النافذة تماماً. الممرضة هي المذنبة لا أعرف كيف سمحت لهم بفعل ذلك. ثم لم لم تخبرني بما سيجري؟ كل الأطباء في هذه البناية لديهم علم مسبق بموعد الاحتفالات، لذلك أغلقوا عياداتهم و ذهبوا قبل أن يعلقوا كما علقت. هل تعرفين كم تستمر الاحتفالات في مثل هذه الحالات. أنا لا خبرة لي بهذه الأمور، لأني حضرت هذا العام من ألمانيا. و يبدو أني أخطأت بقرار العودة.

المريضة (نهضت و عادت للجلوس على المقعد بعد أن سوت هندامها): عادة يحتاج الأمر حتى الرابعة عصراً، حيث يدب الجوع و التعب بالناس فيذهبون إلى بيوتهم. و أعتقد أن مهرجاناً خطابياً سيبدأ بعد قليل.

الطبيب: إذاً ما زال علي أن أحتمل هذا الوضع مدة ساعتين كاملتين. (توالي أجهزة الصوت ارتفاعها و هي تصدح بالأغاني الحماسية و الهتافات بحياة الثورة) ما يحيرني هو هذه الحشود التي ترقص و تغني، لم يضيعون وقتهم بهذا الشكل؟ (يذهب إلى النافذة). تعالي وشاهدي.(تتجه نحوه) هل ترين ذلك الرجل الذي يدبك و يرقص هناك؟ قبل أسبوع جاء إلى عيادتي و معه طفلة لديها شفة أرنب، و تحتاج إلى جراحة تجميل، و عندما حددت له موعد العملية سألني عن تكلفتها فحددت له مبلغاً، ليس كبيراً، لكن  عندما سمع به طلب مني أن أؤجل العملية حتى إشعار آخر. قال إنه يتقاضى خمسة آلاف ليرة راتبا شهرياً، هذا يعني مائة دولار، و لديه أربعة أولاد و زوجة. و كلهم يأكلون و يشربون و يمرضون و يتعلمون بهذا الراتب. هذا أمر لا يصدق و يدخل في باب الغرائب. و هاهو الآن يحتفل و يرقص و كأنه لا هم لديه. من أي طينة هؤلاء البشر؟

المريضة (تعود للجلوس على كرسيها دون أن تعلق على كلام الطبيب): و الآن يا دكتور. هل هناك طريقة لاستئصال هذه الندبة و زرع الشعر مكانها؟

الطبيب (يعود إلى مكانه خلف الطاولة. ثم يشعل البايب و يبدأ التدخين): بالطبع،ألم أخبرك أني أفضل جراح تجميل في هذه البلاد. لقد أرسلني والدي إلى أهم مراكز التجميل في ألمانيا، بعد أن منحني شيكا مفتوحا، و قال لي عد إلى البلاد كأفضل جراح تجميل. أريدك أن تخدم الناس هنا. كم أتمنى الآن لو أني أخلفت بوعدي لأبي ولم أرجع إلى هذه البلاد. يا سيدة ...

المريضة: عفواً آنسة. آنسة سماح.

الطبيب: آسف. يا آنسة مشكلتك سهلة الحل بالنسبة لي لكنها صعبة لغيري. سأجري لك العملية (يعلو صوت الهتافات و الأغاني الثورية) هذا الصوت بدأ يوتر أعصابي. هناك تقنية جديدة تتمثل في زرع بالون من السليكون تحت المناطق غزيرة الشعر في فروة رأسك، ثم ننفخ البالون بالماء تدريجياً و بالتالي يتمدد الجلد و يكبر و عندما يصل إلى حجم يكفي لتغطية كامل الندبة ندخلك إلى غرفة العمليات، و من ثم نستأصل الندبة و نغطي مكانها بالجلد المتمدد.

المريضة: و هل ستزول الندبة تماماً؟

الطبيب: سيعود شعر رأسك إلى طبيعته تماماً و لن يستطيع أحد في الدنيا تمييز مكان الحرق. قلت لي إنه حرق بالشاي؟ الذنب ذنب والدتك. يجب أن يكون هذا درس لك كي تعتني بأولادك جيداً. كم ولد لديك؟

المريضة: دكتور قلت لك إن غير متزوجة.

الطبيب: صحيح. صحيح قلت لي. أنا آسف لقد نسيت. أنا أيضاً ليس عندي أولاد رغم أني متزوج، لأن زوجتي تكره الإنجاب. و لو استطاعت شراء الأولاد من السوق لاشترتهم. سيعود شعر رأسك إلى طبيعته تماماً.

المريضة: و أستطيع أن أنزع غطاء الرأس عن رأسي أمام الناس؟

الطبيب: نعم ستفعلين.

المريضة: منذ خمسة عشر عاما لم ير أحد شعر رأسي سواك. حتى أني أضع غطاء الرأس بين صديقاتي، و هن لا يعرفن ما بي، فقد حيرهن وضعي فحسبن أني من المتزمتات دينياً.

الطبيب: لا بأس، لا بأس. سأجعلك تولدين من جديد.

(يعلو في هذه اللحظة صوت صفير حاد من مكبر الصوت، لقد حدث خلل فني في أجهزة الصوت. تغلق المريضة أذنيها بواسطة يديها).

الطبيب: هذا وضع غير محتمل، سأفصل السماعة. أذكر أنه كان لدى الممرضة أداة لقطع الأسلاك (يعود بعد قليل يحملها بين يديه).

المريضة: ماذا ستفعل؟

الطبيب: الآن سترين.

(يفتح النافذة و يصعد إليها، ثم يمد يده بآلة قرض الأسلاك ليقطع سلك الكهرباء المغذي للسماعة. نسمع في هذه اللحظة صرخة و صوت ارتطام جسم بالأرض) 

الفصل الثاني:

(زال صوت الصفير و عاد جو الاحتفال لقد عادت السماعة الضخمة للعمل. أما الطبيب فنراه ممددا على الأرض غائباً عن الوعي بعد أن صدمته الكهرباء و المريضة تحاول إيقاظه)

المريضة: استيقظ، أرجوك استيقظ. أحتاج إلى قليل من الكحول (تذهب إلى الجهة الثانية بحثا عن الكحول) لا بد أن في العيادة كحول (تجد الكحول فتضع قليلا منه على قطعة قطن و تنشقها للمريض) استيقظ أرجوك. استيقظ (يبدأ الطبيب بالسعال) الحمد لله بدأ يستيقظ. انهض أرجوك.

الطبيب (يفتح عينيه):  ماذا جرى؟

المريضة: حمدا على السلامة.

الطبيب: ماذا حدث لي؟

المريضة: حاولت أن تفصل الكهرباء عن السماعة فصدمتك الكهرباء ورمتك بعيداً عن النافذة.

الطبيب: آخ ذراعي تؤلمني كثيرا.

المريضة: لا بد انك وقعت عليه. دعني أشاهده. (تمد يدها بمهارة إلى الذراع تتحسسها ثم تفعل نفس الأمر مع الساق) هل تؤلمك هنا؟

الطبيب (يصرخ): الم شديد.

المريضة: أظن أنها تحتاج إلى صورة شعاعية.

الطبيب: أرجوك لا تقولي لي إنها قد كسرت. إنها يدي اليمنى و عملي الدقيق مرتبط بها.

المريضة:لا تفكر بهذا الأمر الآن. هل تتألم بشدة؟

لطبيب: ألم لا يمكن وصفه.

المريضة: هل لديك مسكنا للألم هنا؟ أستطيع أن أعطيك إبرة.

الطبيب: هل تعرفين؟

المريضة: نعم.

الطبيب: إذاً أحضري أمبولة من الدرج أسفل الطاولة و أعطني إياها كي يسكن ألمي قليلاً. يا ربي متى سينتهون من هذه الاحتفالات؟

المريضة: أظن أنه قد بقي ساعة أو ساعة و نصف (تأتي بإبرة المسكن و تعطيها بالعضل) بعد قليل سيرتاح ألمك.

الطبيب: شكراً لك. إذا سمحت هل لك أن تساعدينني على النهوض (يضع يده على كتفها و ينهض عن الأرض ليجلس على المقعد و تجلس هي قبالته) الآن أخبريني من أين لك كل هذه الخبرة الطبية؟

المريضة: لدي خبرة لا بأس بها. الآن يجب أن تذهب لإجراء صورة شعاعية. ما رأيك أن أتصل بالإسعاف (تنهض و تمسك سماعة الهاتف و تتصل بالإسعاف) ألو لدينا حالة اسعافية. شارع الثورة. ماذا؟ طيب كما تريدون (تضع السماعة).

الطبيب: ماذا قالوا لك؟

المريضة: الشوارع مغلقة و لا تستطيع سيارة الإسعاف الوصول.

الطبيب: ما هذه الكارثة؟

المريضة: هل أتصل ببيتك؟

الطبيب (يضحك بسخرية): اجلسي فلن تجدي أحداً. لأن زوجتي إما في المسبح أو في مكان آخر.

المريضة: لكنه وقت الظهيرة.

الطبيب: هي لا تتواجد في البيت أبداً. دعينا من هذا الأمر و أخبريني من أين حصلت على هذه المعلومات الطبية؟ هل اتبعت دورة تمريض؟

المريضة: لا،و لكني درست حتى السنة الخامسة في كلية الطب البشري.

الطبيب (بذهول): ماذا؟ حتى السنة الخامسة؟ لم لم تكملي؟

المريضة: لم أكمل دراستي.

الطبيب: بسبب الزواج؟

المريضة (تبتسم): قلت لك أني غير متزوجة. لا تشغل نفسك بي هذه قصة طويلة.

الطبيب: يجب أن أعرفها. لم لم تكملي دراستك؟

المريضة: قصة لا تهمك بشيء. (تنهض من مكانها) سأرى أين وصلوا بالاحتفالات.

الطبيب: لعنة الله على هذا الاحتفال.

المرية: لا تقل هذا لأنك ستودي بنفسك إلى التهلكة.

الطبيب (يضحك): أنا لا اكترث لهذا الأمر.

المريضة: بل يجب أن تكترث لأن هذه الأمور هامة جدا في بلدنا. هل تحسب انك ما زلت في ألمانيا؟ (تذهب نحو النافذة) انظر ما زال صديقك يرقص.

الطبيب: صديقي؟!

المريضة (تضحك): أقصد مريضك.

الطبيب: بلدنا غريبة. ما الذي يجبر الناس على احتمال هذه الظروف؟

المريضة (عادت للجلوس قرب الطبيب): بدأت تدخل إلى المناطق الخطرة يا دكتور.

الطبيب: لا أبالي في أسوأ الأحوال أحزم حقائبي و أعود إلى ألمانيا.

المريضة: و لهذا أنت تشعر بالأمان؟

(هدأت الضجة المنبعثة من مكبر الصوت)

الطبيب: يبدو أنهم قد انتهوا من الاحتفالات. تعالي لنشاهد.

(تساعده المريضة على الوقوف و تسنده على كتفها و يمشيان نحو النافذة)

المريضة: ما زالت الجموع موجودة.

الطبيب: لم توقف البث من السماعة إذاً؟

المريضة: لا بد أن هناك من سيلقي خطاباً و ينتظرون صعوده إلى المنصة. انظر لقد صعد (يظهر الذهول على وجه المريضة) غير معقول. من....؟ لا يعقل.

(تترك الطبيب عند النافذة و تعود للجلوس و تخرج منديلاً تمسح به عرقها. بينما تنفرج أسارير الطبيب و يعود بصعوبة للجلوس قبالتها)

الطبيب: الحمد لله حلت كل مشاكلنا.

المريضة: غير معقول. ما أسوأ هذه الصدفة!!!

الطبيب: هذه صدفة حسنة.

(ينتبه كل واحد إلى حالة الطرف الآخر النفسية)

الطبيب: ما بك؟ ماذا حدث لك؟

المريضة: و أنت ما بك؟ لم انفرجت أساريرك؟

الطبيب: و لم لا تنفرج أساريري. لقد نجوت من الورطة التي وقعت بها.

المريضة: و كيف ذلك؟

الطبيب: لقد حضر أبي.

المريضة: أبوك؟

الطبيب: ألم تشاهدينه؟ الرجل الذي صعد إلى المنصة ليلقي خطاباً.

المريضة: اللواء سعيد الجابر أبوك؟!

الطبيب (يبتسم): أنت تعرفينه إذاً؟

المريضة: أعرفه كثيراً  (تضرب على جبهتها) صحيح كيف لم أنتبه رغم أني قرأت اسمك عدة مرات على اللافتة. الدكتور أحمد سعيد الجابر. يا الله ما أشد غبائي. كيف فاتني هذا الأمر؟!!

 الطبيب: أرى أنك مهتمة بالموضوع كثيراً

المريضة: فوق ما تتخيل. طيلة خمسة عشر عماً لم أكف عن التفكير به ساعة واحدة.

الطبيب: غير معقول لا بد أنك تعرفين أبي حق المعرفة. هل تمتين بقرابة له، أو ربما .... (يضحك)

الأب (يبدأ خطابه): يا جماهير شعبنا العظيم.

المريضة (تنظر إليه مطولاً): قلت لي إن أباك أعطاك شيكاً مفتوحا و قال لك عد إلى البلاد كأفضل جراح تجميل لتخدم الناس؟!

الطبيب: نعم فأبي يعشق العلم. حتى أنه يفضلني عن أخوتي لأني أفوقهم علماً. لقد حققت له كل أحلامه.

الأب: أيها المناضلون من عمال و فلاحين و طلبة ثوريين. نحتفل اليوم بعيد الثورة ...

المريضة (تقطع الغرفة ذهاباً و إياباً بعصبية واضحة و هي تكلم نفسها): غير معقول. غير معقول. أخيراً وجها لوجه أمام هذا المجرم. غير معقول. الآن حان وقت العمل.

الطبيب (يناديها): ما بك غريب أمرك؟ ساعديني على النهوض كي أشاهد أبي و هو يخطب.

(تقترب منه و تساعده على النهوض و عندما ينهض تضربه بعنف على ساقه المكسورة فيصرخ ألماً و يقع على الأرض من جديد)

الفصل الثالث

(الطبيب مكبل اليدين و أمامه تقف المريضة تحمل مشرطا بيدها)

الطبيب: ماذا تفعلين؟ ماذا جرى؟ لم كبلتني؟ إني أتألم.

المريضة: بالتأكيد يجب أن تتألم و أنا أريدك أن تتألم. يجب أن تشعر بمعنى الألم الحقيقي، لأنك لم تعرف هذا الشعور طيلة حياتك.

الطبيب: لكن لماذا؟ أنا لم أفعل لك شيئا.

المريضة: أنت لم تفعل لكن أباك فعل.

المريضة: أبي. ماذا فعل أبي؟

المريضة (تبتسم بسخرية): ألا تعرف ماذا فعل أبوك؟‍ هذا جرم اكبر.

الطيب: أخبريني ماذا فعل أبي؟

المريضة: أبوك مجرم كبير.

الطبيب (بانفعال): أنا لا أسمح لك. أبي مناضل كبير.

الأب: لقد ناضلنا ضد الإقطاع و الرجعية، أنقذنا الشعب من الظلم و الحياة البائسة التي كان يعيش بها.

الطبيب: هل سمعت؟ ضد الإقطاع و الفقر و الحياة البائسة و الرجعية.

المريضة (تضع المشرط على رقبة الطبيب): اخرس. قلت لك إن أباك مجرم كبير، و كاذب كبير أيضاً.

الطبيب (بتلعثم): ما.. ماذا فعل؟

المريضة: يا للسخرية نفس الأسئلة و نفس الأجوبة. قبضوا علي داخل الحرم لجامعي. لقد داهموا الجامعة بجيش من رجال الأمن. كل ذلك من أجلي أنا الفتاة الصغيرة البريئة التي لا تعرف من الدنيا، كأية طالبة طب مجدة، سوى الدراسة و البيت. اعتقلوني و حملوني إليه. و مثلما سألت أنت فعلت أنا. ماذا جرى؟ لم تعتقلونني؟ الفرق الوحيد أنهم أجابوا على أسئلتي  بلكمة على الفك  (ترفسه بقدمها على فكه فينزف)

الطبيب (يضع يده على فكه فيشاهد الدم على راحة يده): لم؟ لم تفعلين بي هذا؟ أنا لم افعل لك شيئاً.

المريضة: سألت أباك نفس السؤال فأجابني بالقول. أنت لم تفعلي شيئاً لكن أباك فعل.

الطبيب: عما تتحدثين ثم ما علاقتي أنا بما فعل أبي إن كان قد فعل شيئاً.

المريضة: و أنا أجبت بهذا الجواب. فلطمني من جديد (تلطمه من جديد بنفس الطريقة السابقة)

الطبيب: صدقيني أنا لا أعرف شيئاً عن أمور البلد لأني في الخارج منذ خمسة عشر عاماً.

المريضة: و أنا لم أكن أعرف شيئاً عن عمل أبي لكن هذا لم يشفع لي. 

الطبيب: أتوسل إليك ساقي المكسورة و يدي تؤلمني.

المريضة: و أنا أيضاً كنت أتألم لكن أحدا لم يرحمني.

الطبيب: ربما كان أبوك مذنبا.

(يعلو صوت الأب يلقي الخطاب)

الأب: لقد سحقنا الرجعيين أعداء الثورة شر سحق (يعلو صوت التصفيق)

المريضة: أنا و عائلتي من الذين سحقهم أبوك. كان والدي معارضاً معارضة سلمية. فهو لم يحمل سلاحاً لأنه رجل مسن. كل ما في الأمر أنه عبر عن رأي مخالف.

الأب: يومها كانت الإمبريالية تحيك المؤامرات على صمودنا.

الطبيب: هل سمعت؟ ربما كان والدك مذنباً.

المريضة (بسخرية): أبي يتعامل مع الإمبريالية؟‍‍ أبي كان معارضا لأنه يعتقد أنكم تمهدون الطريق لدخول الإمبريالية. قلت لي إنه أرسلك إلى ألمانيا؟

الطبيب: نعم.

المريضة: أي إلى حضن الإمبريالية. و هل محاربة الإمبريالية تستلزم اعتقال شيخ وزجه في السجن ثم تدمير حياة أسرته بالتشريد و الاعتقال و النفي. 

الطبيب: لا أعرف عما تتكلمين. لا بد أنك مجنونة. أحذرك. بعد قليل سيفتقدونني وسيحضرون للبحث عني عندها ستكون العواقب وخيمة عليك.

المريضة: لا تخف لقد أخذت كل الإحتياطات الضرورية. لقد أغلقت باب العيادة و أقفلته من الداخل. ثم هناك الاحتفال المستمر في الخارج. على أية حال لن يطول الأمر.

الطبيب: ماذا تنوين أن تفعلي بي؟

المريضة: لا تخف لست بوحشية أبيك، فكل شيء لدي قانوني. سأتلو عليك الاتهامات و سأترك لك فرصة لتدافع عن نفسك ثم سأقرر الحكم.

المريضة: لا بد أنك مجنونة.

الأب: إن طريق الثورة لا نهاية له. سنسحق العملاء و المتخاذلين.

المريضة: انتقل أبوك من سحق العملاء، إلى سحق المتخاذلين، و لا أدري ماذا سيسحق في النهاية!

الطبيب: أرجوك أوقفي هذه المهزلة.

المريضة: انتبه إلى كل كلمة تتفوه بها لأنك الآن في قاعة المحكمة التي شكلتها الثورة و ستتهم بشتم محاكم الثورة.

الطبيب: ما هذا الجنون؟

المريضة: لقد حذرتك. سأسجل هذه الشتيمة.

الطبيب: انتظري. أرجوك أنا لا علاقة لي بكل هذه الأمور، لقد كنت في ألمانيا، و لم أشارك بأي أمر.

الأب: لقد صمدنا في أحلك اللحظات وصممنا على أن نموت نحن و أبناؤنا دفاعا عن الوطن.

المريضة (تضحك بسخرية): و الدليل أنه أرسلك إلى ألمانيا في أحلك اللحظات مع شيك مفتوح. لكي تهيئ له مكانا يهرب إليه إذا ما تعقدت الأمور أكثر، و بان أنهم سيخسرون المعركة.

الطبيب: لكن ما ذنبي أنا؟

المريضة: قل هذا عندما يحين موعد الدفاع عن نفسك. أنت تضيع وقت المحكمة سدى و أحب أن أنبهك إلى أن قرار المحكمة مبرم و غير قابل للاستئناف و ينفذ فوراً. بمعنى لو حكمت عليك المحكمة بالإعدام فسينفذ الحكم فورا و أنا من سينفذه. 

الطبيب: انتظري لحظة من غير المنطقي أن تكوني أنت القاضي و المدعي و القانون.

الأب: ثورتنا هي القانون،  لا قانون فوق قانون الثورة. و كل من يعادينا فهو يعادي الثورة.

 المريضة: لقد أجاب والدك. الثورة هي القانون و لا قانون فوق قانون الثورة. ثانيا هذه هي طبيعة المحاكم التي شكلها أبوك و رفاقه. كانت هي الخصم و الحكم. التهمة معاداة الثورة ونحن الثورة و الإعدام عقوبة لمن يعادينا لأنه يعادي  الثورة.

(تجلس المريضة خلف المكتب و تأخذ وضعية قاض في محكمة)

الأب: سنسحق كل  أعداء الثورة.

المريضة: أسمعت؟ أبوك اليوم حاضر في كل التفاصيل. انتبه لقد أضعنا الكثير من الوقت. أنت متهم بأنك ولدت في أسرة عميدها ينتمي إلى الطغمة العسكرية التي دمرت البلاد، و قتلت العباد.

الطبيب (يقاطعها): هذه التهم موجهة لأبي.

المريضة: لا تقاطع هيئة المحكمة. كان عليك كإنسان واع ناضج أن تمارس مهامك الإنسانية فتتصدى لأبيك، و تفهمه  أن ما يفعله يعد جريمة ضد الإنسانية، لكنك لم تفعل بل إنك تمتعت بأموال السلب و النهب و قتل و تشريد العباد و بالتالي فالمحكمة تراك شريكاً من الدرجة الأولى في الجرائم التي ارتكبها والدك. بماذا تدافع عن نفسك؟

الطبيب: لن أشارك بهذه المهزلة. هذا جنون، بعد قليل سيحضرون و يأخذوك إلى مشفى الأمراض العقلية.

المريضة: كما تريد. لكن أحب أن أنبهك إلى أن قرار المحكمة سينفذ على الفور فإذا حكمت عليك بالإعدام فسأنفذ الحك فوراً، و أنت ترى أني أملك كل وسائل تنفيذه (تقترب بالمشرط من رقبته) لذلك من الأفضل لك أن تتعاون مع هذه المحكمة.

الأب: سنسحق كل الأعداء. لا حياة في هذا الوطن إلا لأبناء الثورة المخلصين. الموت لأعدائنا.

المريضة: هل سمعت ما يقول أبوك، الموت لأعدائنا. أما أنا فأقول الموت للمجرمين. و إذا ثبت انك مجرم فستموت في هذا المكان.

الطبيب (يهمس لنفسه): يا ربي ما هذه الورطة؟ علي أن أكسب بعض الوقت.

المريضة: ارفع صوتك لأسمع ما تقول.

الطبيب: أقول و ماذا يثبت صحة التهم الموجهة إلى أبي؟

الأب: لقد ناضلنا ضد الظلم و الفقر و الجوع. و أخذنا البلاد إلى طريق التقدم.

المريضة: ضد الظلم و الفقر والجوع كلام جميل و النتائج أجمل. ضد الظلم. الشاهد الأول (تنهض من مكانها كقاضية و تنزل إلى قاعة المحكمة لتؤدي دور الشاهدة)  لقد ألقوا القبض علي بطريقة غير قانونية، إذ لم يكن هناك مذكرة توقيف، و لم يكن هناك جرم واضح. فعلوا ذلك بأمر من سيادة اللواء الذي يتكلم عن الظلم، كما أنهم دنسوا الحرم الجامعي، و أوقفوني خمس سنوات بدون أية محاكمة، و في زنزانة انفرادية تحت الأرض. خمس سنوات في مكان لا يصلح لعيش الدواب، فالرطوبة تستقر في العظام إلى الأبد، و الظلام يستقر في الروح، كما يتشكل جسدك حسب شكلها. إن القبر لأرحم منها، و لم أكن الوحيدة في هذا الوضع،بل كان هناك عشرات الآلاف غيري. لقد مورس بحقنا كل ما يخدش الكرامة البشرية. 

الطبيب: لا أصدق حرفا واحداً مما تقولينه. ما الذي يثبت لي صحة أقوالك؟

المريضة (تمسكه من شعره): ماذا يثبت لك؟ أنا من سيثبت لك (تنزع الغطاء عن رأسها) هذا الشعر الذي سألتني عن المادة التي احترق بها يجب أن تسأل والدك عنها فقد كان يتسلى بي فأحرق شعر رأسي بعد أن سكب الكحول عليه ثم أشعله و بعدها أشعل سيكارته من النار، ثم أمر جنوده بإطفائي.  الآن بدأت تعرف لماذا لم أكمل دراسة الطب، و ما سبب هذه الندبة. ألا تريد أن تعرف لم لم أتزوج؟ سأقول لك. من حقك كمتهم أن تعرف كل الحقائق، و كما ترى نحن نختلف عنكم. نحن نوفر لكم ظروفا لم توفروها لنا. فنتحمل اتهاماتكم لنا بالكذب، ونشرح لكم تهمكم، و نستمع لاعتراضاتكم. الآن سأخبرك لم لم أتزوج؟ لقد جعلني أبوك إنسانة مكسورة، محطمة. لم يكفه أنه انتزع خمس سنوات من عمري في أقبية فرع الأمن الذي يديره، و لم يكتف بتشويهي جسدياً كي يتسلى و يشعل سيكارة. لا بل اغتصبني ...

الطبيب: لا لا أنت كاذبة. ما تقولينه غير صحيح، غير ممكن.

الأب: لقد عاهدنا الله و سرنا على طريق الشرف و الأمانة.

المريضة: لقد فض عذريتي. اغتصبني بالإكراه عدة مرات بعد أن عراني أمام جنوده، و لم يكتف بهذا بل منحني لمن يريد.

الطبيب: غير معقول. جنون. توقفي عن هذا الهراء.

المريضة: هذا هو أبوك المحترم. و أحب أن أبشرك أن حظي كان أفضل من حظ غيري من المعتقلين، لأني خرجت حية. لقد مات الكثيرون بين يديه، و هذا حال أبي، و آخرون فقدوا عقولهم إلى الأبد.

الأب: إنجازات الثورة كبيرة، و قد دخلت إلى كل بيت. كل بيت في هذا الوطن ينعم بانجازات الثورة.

الطبيب: قلت لك توقفي لا أريد أن أسمع المزيد.

المريضة: لماذا؟ هل جرحت مشاعرك المرهفة؟ ماذا كنت تحسب أباك يعمل و هو رئيس لفرع مخابرات؟ يستمع لسمفونيات موزارت! أم يقدم إسعافات أولية للمصابين بحوادث السير! بالمناسبة والدك يحب الموسيقى، فقد كان يمارس كل ساديته و أمراضه النفسية، و هو يستمع إلى موسيقى باخ مثل هتلر تماماً.

الطبيب: فظيع، فظيع. ما تقولينه فظيع.

المريضة: يا الله كم تصطنعون البراءة. ألم تسال نفسك يوما عن مصدر هذه الأموال؟ و عن هذا النعيم الذي تعيشون به؟ بينما الشعب يرفل بالبؤس و الشقاء. ألم تسال نفسك يوما عن مصدر الشيك المفتوح الذي منحك إياه والدك؟ و كيف وصلت هذه الأموال إلى بنوك سويسرا في الوقت الذي هو معاد للإمبريالية و الاستغلال الطبقي؟

صوت الأب: تسقط الإمبريالية و الرجعية.

الطبيب: قلت لك توقفي. لا أريد أن أسمع المزيد.

المريضة: هل تريد مزيدا من الشهود على القهر  الفقر و الظلم. كل واحد من هذا الجمع الذي يخطب أبوك به هو شاهد. مريضك الذي لم يستطع دفع أجر العمل الجراحي. هؤلاء الذين لا تعرف ما الذي يدفعهم للمشاركة بهذه الاحتفالات. أنا سأقول لك سبب مشاركتهم. إنه الخوف و فقدان الأمن. من المسؤول عن هذا؟ إنه والدك و رفاقه. لقد حولوا البشر نتيجة الخوف إلى حيوانات لا هم لها سوى أن تأكل و تشرب و تنام، مؤثرة السلامة عما عداها. هل أوضحت لك الصورة أيها الطبيب العبقري؟

الطبيب: و ما ذنبي أنا بكل هذا؟

المريضة: أليس عندك ما تدافع به عن نفسك سوى ترداد هذه الجملة الغبية. ما ذنبي أنا بكل هذا؟ ما ذنبي أنا؟ بل أنت مذنب، لأنك لم تتدخل لمنعه.

الطبيب: لم أكن أعلم شيئاً عن أفعاله.

المريضة: لا بل كنت تعلم. و إن لم تكن تعلم فلأنك لا ترغب بذلك. ألم تسال نفسك لم تذهب إلى المدرسة بسيارة،  بينما بقية الطلاب يأتون سيراً على الأقدام؟ ألم تسأل نفسك يوما لم يوجد رجل يرافقك كظلك؟ ألم يدهشك منظر السيارات التي تقف أمام باب بيتكم، و أنت تعرف كيف كان يعيش جدك في القرية؟ ألم تتساءل عن مصدر الفيلا و أجهزة الرفاهية و رحلات الاستجمام إلى أوربا كل صيف؟  ألم تركب السيارة لتقودها بأقصى سرعة و أنت مراهق، دون أن يسألك أحد عما تفعل؟ كم سيارة حطمت دون أن يرف لك جفن؟ و الآن رجعت إلى البلد متكبراً متعجرفاً بعد إلحاح من أبيك. بالمناسبة ألم تفكر يوماً ما سبب إصرار أبيك على أن تكون جراح تجميل؟ جراح تجميل شيء مثير للسخرية. (تقترب منه و تهم أن تطعنه نتيجة انفعالها)

الطبيب (يصرخ): الرحمة. الرحمة.

صوت الأب: لن نرحم أعداء الثورة!

المريضة (تهدأ): الرحمة! هل تعرفون معنى هذه الكلمة. اسأل أباك عنها. انظر إليه كيف ينتشي بانتصاراته على النساء و الأرامل كالديك المنفوش، و ما زال يعلن بكل تبجح أنه سوف يسحق، و سوف يدمر، رغم أن البلاد فرغت من الرجال المعارضين، و لم يعد هناك من يهددهم. لقد خرجوا منتصرين بالجولة القاضية، و هذه هي أفضل اللحظات للرحمة، لأن المنتصر يستطيع أن يمارس العفو و الرحمة، و أن يبذخ بهما فلا خطر يهدده. لكنهم لم يفعلوا ذلك بل ظلوا يقتلون و يدمرون و ينتقمون لأجيال. و الآن أنت تطلب الرحمة من المهزوم المنكسر الذي لا يستطيع أن يمنحك إياها، لأنه إن فعل ذلك فهو يغامر بحياته. الموت هو العقوبة الملائمة لك.

الطبيب: الرحمة أنا ضحية مثلك. كنت أسير بغير إرادتي. رسم لي حياتي سلفاً. لم أفعل شيئا بإرادتي، حتى زوجتي اختارها هو، ابنة أحد الضباط الكبار من أجل تلاقح السلطات، و أنا  الآن لا أستطيع حتى أن أسألها أين كنت. كي لا يغضب والدها، فأتسبب بأزمة أمنية خطيرة في البلد. أنا لا ذنب لي لو كنت مكاني ماذا ستفعلين؟ على أية حال سأصلح  التشوه الذي سببه لك والدي. سأجري لك العمل الجراحي، و لن أتقاضى منك شيئاً مقابل ذلك.

المريضة (تضحك بسخرية): تلميذ نجيب و ابن أبيك تريد أن تدفع رشوات صغيرة مقابل تمرير الأمور الكبيرة. ماذا ستصلح؟ هل ستعيدني إلى كلية الطب لأتابع دراستي التي لو تابعتها لكنت طبيبة ناجحة الآن. هل ستعيدني فتاة عذراء؟ يقال إنكم تصلحون هذه المسألة أيضاً. و ماذا عن الخراب النفسي الذي سببه لي والدك؟ كيف ستصلحه؟ قل لي هل ستعيد أبي الذي مات تحت التعذيب؟ أم ترجع أخي المنفي خارج البلاد؟ قل لي هل ستصلح كل ما  خربه أبوك؟ لا لا فائدة منك، و يجب أن تموت. يجب أن أطبق عليك حكم المحكمة.

الأب: نحن باقون على طريقنا و لن نحيد عنه!

الطبيب: انتظري. انتظري. ماذا ستستفيدين؟ انظري إلى الخارج كل شيء مستمر و سيستمر كما كان. أما حدود محكمتك فلا تتجاوز هذه الغرفة، و زمنها هذه الساعة فقط. و لن يتغير شيء في البلد.

المريضة (تذهب إلى النافذة و تنظر إلى الجموع التي بدأت تنفض بعد نهاية الخطاب): لقد انتهى أبوك من خطابه.

الطبيب: و الآن ماذا ستفعلين؟

(تحمل المريضة المشرط بيدها و تتجه نحوه فيظهر الرعب على وجهه)

الطبيب (يصرخ): الرحمة.

الفصل الرابع

(الطبيب يجلس على الأرض بعد أن فكت المريضة وثاقه، أما المريضة فقد عادت للجلوس على الأريكة و هي تضع رأسها بين كفيها و تبكي)

الطبيب (غير مصدق بأنه قد نجا من الموت): شكرا. شكرا لك.

المريضة: هل حسبت أني سأقتلك؟ أتمنى لو أني أستطيع، لكني لا أقدر على ذلك.  لسنا مجرمين ولا قتلة مثلكم. نحن قادرون على العفو و الرحمة في كل الظروف. لو قتلتك لارتاحت نفسي، لأن الانتقام يجلب الراحة إلى نفس المظلوم. لكن عندها نكون قد تساوينا في الجريمة. أبوك دمر حياتي لأنه يعتبر أبي مذنباً. و أنا دمرت حياتك لأني أعتبر أباك مجرما. عندها سنكون متساويين. أنا و أبوك. لكن لا لن أمنحه هذا الشرف، شرف أن يكون مساوياً لي. أنا  من جنس البشر أما هو فلا. هو لا يستحق أن نمنحه شرف المساواة معنا نحن الضحايا، لذلك عفوت عنك.

الطبيب: لقد دمرت حياتي. هل تحسبين أني أستطيع أن أستمر مرتاح البال كالسابق؟! صورتك ستطاردني ما حييت، وسأتعذب أبد الدهر.

المريضة: أتمنى أن يحصل هذا. عندها أعرف أن الخير متأصل في النفس البشرية وأن الشر طارىء. و أن المثل الشعبي الذي يقول إن الشوكة تخلف وردة صحيح. لكني مع الأسف أشك بذلك. أنا متأكدة أنك ستنسى هذا اليوم سريعاً، وستعود هادئا مطمئن البال دون أن تذكر الجماجم التي بنيت عليها ثروتك وعلمك ومجدك الشخصي ونجاحك العلمي. على أية حال لا بأس فهذا قدرك وذات يوم هذه الجموع التي تصفق الآن في الخارج لأبيك ستحاسبكم. متى؟ لا أدري، ربما غدا، ربما بعد جيل، أو بعد جيلين. لكنها ستحاسبكم، وستعفو عنكم أيضا لأنهم طيبون، لا علاقة لهم بالجريمة وبعقلية الانتقام، والآن دعك من كل هذا. سأطلب لك سيارة اسعاف، ثم سأغادر و لن تراني بعد اليوم.

الطبيب: ألن أجري لك العمل الجراحي؟

المريضة (تبتسم بسخرية): لن أمنحك هذا الشرف. تريد برشوة صغيرة أن تشتري راحة ضميرك. أبدا لن تحلم بهذا. هل عرفت الآن لماذا أصر والدك على أن تختص بالتجميل.

(تمسك سماعة الهاتف وتدير رقم الإسعاف. بينما يعلو في الخارج مكبر الصوت بالأغنيات الحماسية الثورية)

النهاية