يتناول الشاعر التونسي في هذه اليوميات بعض تجليات الواقع الأدبي في المشهد التونسي ليكتب عبرها تصوره للشعر، ولرأسمال الشعراء الرمزي، وللحداثة في آن.

كان سعدي يوسف الأكثر حداثة

يوميتان

صلاح بن عياد

 

الخميس 6 ديسمبر 2007

أمسية شعريّة للشاعر الفلسطينيّ محمود درويش:

رنّ هاتفي الخلويّ أكثر من عشر مرّات من أصدقاء يسألون عن موعد الأمسية (لا علاقة لي طبعا بالبرمجة أو بالتنظيم ولست أكبر مما أنا عليه كي يكون لي علاقة شخصية بالشاعر الكبير درويش) ولا عجب أن يهاتفني الأصدقاء فأنا على ما يبدو شاعر اشتهر في قصائده الأولى بالدرويشيّة كنت أعين درويش على كتابة ما يمكن أن ينفلت منه في خضمّ لحظاته. لم يكن عندي جواب، ما لا يتوقّعه الأصدقاء ولا يعرفه أحد. ليس سرّا بيني وبيني وإنما خضت عراكا حامي الوطيس دفاعا عن نفسي وتخلصت نهائيّا من الطريقة الدرويشيّة كما يفعل كلّ شاب يكتشف الفعل الشعري الحقّ. ما لا يعرفه الأصدقاء أيضا هو أني حازم على ألا أذهب لسماع شعر محمود درويش في المسرح البلديّ بالعاصمة رغم أن الفرصة سانحة. قرّرت ألا أذهب لدرويش ذهابي الأعمى القديم وأصفق دون أن أدري لماذا وأقضّي الأمسية فاغر الفم أمام الأعجوبة الاستعارية التي على الركح.

ولم أذهب مقتنعا تماما بما أفعل.

ورغم ذلك كان نبضي غير عاديّ فهو متسارع تماما كما الطفل الشعري القديم المطل برأسه بين الرّؤوس المبتسم طوال الإلقاء. فما الذي يجري معي؟.

كنت أودّ أن أكتب قصيدة صوتي الخاص بينما محمود درويش يلقي صوته "المعهود" الخاص لكن دون أن يدري أني أتمرّد في مقهى بعيد عن المسرح البلدي، ولا علاقة له في معنى من المعاني بمريدي هذا الشاعر. وكنت أودّ أن أتصدّى في مقهاي الصغير للنقاد الأقل من الأصابع الحاملين لشريعة شعراء أقل من أصابع اليد الواحدة. كنت أودّ إعلان شريعة الحداثة كما ألمسها دون أن يعلم أصدقائي المقرّبون طبعا فهم لا يعلمون البتّة ما ألمّ بي وهم سيرفضون كأي قارئ عربيّ، أعني تلك الملكية الخاصّة لأسماء أقل من أصابع اليد الواحدة.

الشاعر محمود درويش لا يكتب قصيدة النثر لكنه يدعو لها، ظلّ وفيّا لجدّنا المتنبّي بينما بعيدا ينوح ألف "أبي تمام" مع حمامة أبي فراس. وظلّ يقطع الطريق الشعريّة نفسها والمسافة نفسها من المسرح البلدي بالعاصمة التونسيّة إلى الجانب الآخر من شارع الحبيب بورقيبة، أين يتبعه الصحفيون وأولياء الثقافة الصالحون من أجل ضجة قليلة في العالم.

أما أصدقائي فسوف يتلاحقون من أجل صور برفقة الشاعر لشيء ما يحدث في غرفهم الصغيرة المليئة بزوجة وذكريات. أنا لم أتزوّج كمعظم الأصدقاء الفارين إلى الزوجات اتقاء الأسئلة لم أتزوّج لمشكلة غير بعيدة عن الحداثة. فالمرأة التي تريد إقناعك بحداثيتها هي نفسها التي تريد الزج بك في القانون العائلي الأبوي كالتبرك بأجدادها الأولياء مثلا، أو جلب خاتم أجمل من خاتم الخطيبة التي في الجوار. الأمر مرتبط ارتباطا وثيقا بسلوك حداثي يعاش قبل أن يتحول إلى نص، ذاك من ذاك على ما اعتقدت منذ تحسست صلصال صوتي وطرد الأصوات عنه ما أمكن.

الشاعر محمود درويش بطل الشعر والمسرح في دورة مهرجان قرطاج الدولي للمسرح، صاحب الاستعارة الساحرة وصاحب مشاعرنا التي نلقيها من هنا إلى هناك "المقدّس" ونقصد فلسطين. محمود درويش هو شعر وأشياء أخرى. أنا في مقهاي لم أذهب لأني بحاجة للشعر الذي سأعتبره أخطر من الأشياء الأخرى. 

الجمعة 07 ديسمبر من نفس السنة المذكورة أعلاه:

أمسية لسعدي يوسف في البار.

يوافق الشاعر العراقي أن يقيم أمسية شعرية في إحدى البارات بالعاصمة التونسية غير بعيد عن المسرح البلدي الذي لازال بعض مريدي درويش من الأصدقاء يقبعون على المدارج أمام بناية المسرح  ربما لطرد بعض الفراغ بتشمم أمسية البارحة.

البار لا أحبذه فهو حمال التباسات من كل الأنواع لعل أهمّها التباسات ذات منحى ثقافيّ، هو مثلا يوحي إليك بأنه المكان المناسب لبعض الهذيان والفيضان السفسطائيّ  لشعراء باحثين عن "الأين" لكنه مكان ظلّ عاديّا لا يروده سوى المتشنجون الذين لا يحملون مشاريع وأن حملوها فهي  أشباه مشاريع.

سعدي يوسف الشاعر العراقي ذي السبعين سنة وافق أن يقيم أمسيته هنا في هذا المكان. هو معروف بمواقفه الشعرية الكثيرة، كان في الفضاء يساريون (أنصار القضايا العربية ومستغلي الظروف التاريخية من أجل بعض الجعجعة) لكن سعدي يوسف الشاعر الذي جاء إلى المكان الموصوف أعلاه، تلفف بالدخان المتصاعد في الفضاء المختنق وقرأ شعرا لم يكن عن العراق، كان أخطر كان شعرا خالصا يحمل هموم الإنسان العراقيّ وغيره. حاول بعض الحاضرين الزج بالشاعر العراقي في الجعجعة الشعريّة، لكن الشاعر المنساق وراء لحظته ظلّ متينا "ينزل سلالم الحياة" في حركة عكسيّة عميقة. ولم يكن سعدي يساريا بالمعنى الملتبس الساري بين السكارى في البار، لم يكن شيوعيا طائرا كان حداثيا: "شيوعيا يتعلم النزول من سماء خيالاته بالمظلّة".

سعدي يوسف المبتسم للكل.

سعدي يوسف الذي يعلّم هنا الشعراء مهنة التّواضع، كانت المقالات التي قرأتها ضدّ وجودي كشاعر في الساحة العربيّة المصغّرة من طرف بعض النقاد تتمزق، وتتمزّق كلّ الفتاوى الجائرة لأصحاب المحاريب المطلقين السهام في قلب الحداثة الحسناء، كان الشاعر الهابط من ساحة عراقية اقصائيّة خاصّة في مرحلة ستينيّاتها العظيمة يعلّمني في البار ألا أكون غيري، وألا أذهب إن خيّروني البارحة الخميس 06 ديسمبر بين الذهاب لمقهاي الحزين أو للمسرح البلدي لاخترت مقهاي.

ابتسامة سعدي يجني من ورائها الناس في البار أموالا وصيتا وصورا تذكارية.

كان الناس الأصغر سنا من الشاعر المسنّ سعدي يوسف أقلّ حداثة، كان رغم سنواته السبعين يلد في لحظته تلك في البار، شاعر جاب الأراضي (جغرافيّا وشعريّا)، كان رغم سنواته وعراقيته ومنفاه في لندن أقرب إليّ من يساريّ تونسيّ،  محلّق في السماء بمظلته، ومثقّف تونسيّ، لا بل قل من أي شاعر تونسي في البار إذ كان سعدي يتغنى بتفاصيل حياتي البسيطة. الشاعر سعدي يوسف هو طرف الثالوث العربي المقدّس ارتكازا على "التراكم الجودة الحضور" على أرض أكثر حداثة يعلّمني في البار بقراءته وهدوئه أن لا آلهة توجد في سماء الثقافة حتى الحداثة نفسها وقصيدة النثر العظيمة نفسها.

ماذا جني الأصدقاء من خشبة المسرح البلدي؟.

ماذا جني الناس من صورهم مع سعدي في البار؟.

ليس الشعر نصّا في نهاية المطاف، ولا المشروع الثقافي بمشروع بعيد عن مشروع الحياة الملموسة، كان ما يقوله سعدي يوسف في البار بمنهج حداثي، وما لم يسمعه أحد في البار ولا أحد في المسرح البلدي ولا الأصدقاء الذين لم يأتوا للبار رغم مجيء سعدي إليه.


كاتب من تونس