رسالة فلسطين

المصالحة الوطنية والذاكرة الجماعية للشعب الفلسطيني

فيحاء عبدالهادي

"إن التصالح هو قمة أشكال المخاطبة"
كوفي عنان 


المصالحة الوطنية: بين الشعار والضرورة
"أعلن المؤتمر سنة 2009؛ عاماً للتصالح العالمي، وأقرَّ بالضرورة الملحة لعملية المصالحة، خصوصاً في تلك المناطق والبلاد من العالم، والتي بسبب حالات الصراع فيها عانت المجتمعات بتنوعاتها الداخلية وشرائحها وأطيافها الوطنية والدولية، والتي صارت بسببها مهددة مصابة مهاجَمة ومفككة، أم ما زالت تعاني".

إعلان الأمم المتحدة سنة 2009 عاماً للتصالح/ "الجمعية العامة 10536، الجمعية العامة 61، الاجتماع بكامل الأعضاء، المؤتمر 56"

إذا كانت الأمم المتحدة، قد حثَّت على وضع البرامج، التي يتم فيها التعبير عن مصطلح التصالح، بأشكال متعددة، كجسر يربط بين كل مستويات التنوع البشري تحت شعار: "الاتحاد في التنوع"؛ فماذا عن التصالح بين أبناء الشعب الواحد والوطن الواحد؟ وإذا كان "التصالح ضرورة للسلام والنظام عبر العالم"؛ أفلا يكون التصالح الوطني، ضرورة لإنجاز الاستقلال، وتحقيق السلام؛ ليس فقط في فلسطين بل وفي العالم بأسره؟! وإذا كانت الأمم المتحدة قد أدركت أن "التصالح هو الخطوة الأولى على طريق السلام والنظام والعدالة"، وأن "التصالح سخاء يُعاش وهو مهارة ذهنية ضرورية لتحقيق السلام"؛ فأعلنت عام 2009؛ عاماً للتصالح العالمي؛ فماذا عن الشعوب المحتلة والمقهورة والمفكَّكة والمهاجَمة؟ هل تنتظر تعليمات من خارجها للمصالحة الوطنية؟ أم تضع الآليات بنفسها؛ استجابة لأدق احتياجاتها للوحدة الوطنية؟

يأتي طرح "منتدى فلسطين" "مشروع مبادرة من أجل المصالحة الوطنية: نحو حل متوازن وشامل للأزمة الوطنية"؛ لينسجم مع "ألفية التحدي والتصالح بين البشر"، والتي أعلنتها الأمم المتحدة. وحين يطرح "المنتدى" مبادرته، في هذه الفترة العصيبة التي يعيشها شعبنا في قطاع غزة والضفة الغربية؛ فهو يعي أهمية سلاح الوحدة وخطورته؛ مقابل سلاح التجزئة والهيمنة والتفكيك، التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي، وكل من يسانده من قوى الاستعمار في العالم. سلاح الوحدة، هو الذي يمكن أن يشكِّل أبلغ ردٍّ على الاعتداءات اليومية المتواصلة على الشعب الفلسطيني، وعلى الإعلان عن الحرق والتدمير والذبح، على مرأى من العالم الذي يساوي بين الجلاد والضحية، حين يطالب الضحية بوقف دفاعها عن النفس، قبل مطالبة الجلاد بالتخلي عن عدوانه. يواصل "المنتدى" عبر مبادرته، جهود المؤسسات والفعاليات والقوى والأحزاب كافة، والتي كان أهمها إعلان القاهرة، ووثيقة الوفاق الوطني، واتفاق مكة، ومبادرة القطاع الخاص، والنداء من أجل فلسطين، ومبادرة المجلس المركزي؛ لكن المنتدى يأخذ بالمستجدات، ويعمل على تجاوز ثغراتها، من خلال تقديم مبادرة شاملة ومتوازنة وقابلة للتحقيق.

وفي ضوء تحوّل الحوار حول سبل الخروج من الأزمة الداخلية الفلسطينية، إلى اشتراطات واشتراطات مقابلة، وتزايد المخاطر الناجمة عن حالة الانقسام الفلسطينيّ، وخصوصاً خطر تكريس انفصال قطاع غزة عن الضفة الفلسطينية، وفي ضوء اتضاح المخطط الإسرائيلي باستخدام الخلاف الداخلي وتوظيفه في محاولة لفرض الحلّ الإسرائيلي، وأمام احتمالات تحوّل هذا الحل الى أمر واقع، يطيح بالمشروع الوطنيّ، ويدمّر ركائزه التي تقوم على وحدة الأرض والشعب والقضية والمصير. وفي ضوء حالة المراوحة التي تشهدها الأزمة، دون تقدّم يذكر؛ جاءت مبادرة "المنتدى" لتطرح رزمة واحدة متكاملة شاملة لا تقبل التجزئة، أو الانتقائية، ولا تكتمل إلاّ بتفاعل أبناء الشعب الفلسطيني في الوطن وفي الشتات، وبالتشاور معهم، حول آليات تطبيقها، والوسائل الكفيلة بنجاحها، كي يتبناها أبناء الشعب المتضرر من الانقسام والتجزئة الخلاف الداخلي، حتى يدفع باتجاه المصالحة الوطنية؛ تحقيقاً لأهدافه في حماية المشروع الوطني، وركائزه، التي تقوم على وحدة الأرض والشعب والقضية والمصير. إنَّ أبلغ رد على الاعتداءات الهمجية المتواصلة على أبناء شعبنا الفلسطيني؛ هو تحقيق المصالحة الوطنية، حيث تكريس الوحدة بين أجزاء الوطن الواحد وبين أبناء الوطن الواحد، وحيث الغالب هو من ينتصر لإرادة الشعب في مقاومة الانتحار والموت، ومواصلة الصمود وإحباط مخططات العدو، الهادفة إلى تمزيق الوطن وتجزئته وتفتيته إلى دويلات وأجزاء مبعثرة.

في اقتراحات وصلت "المنتدى" حول أولوية ترتيب بنود المبادرة؛ طرح اقتراح تعديل على البند الخامس عشر، كي يأخذ الصدارة، ويسبق أية بنود أخرى، لأهميته في تحقيق البنود الأخرى. هو البند الذي يلزم جميع الأطراف، برفض كل أشكال الإقصاء، والتخوين، والتكفير، والتفرد، والهيمنة، والتحريض، واستخدام العنف؛ لحلّ الخلافات والنزاعات الداخلية، والتأكيد على الالتزام الصارم بأخلاقيات العمل الوطني، ومرتكزاته الأساسية، القائمة على التعددية، والحوار الديمقراطي، والتعايش، والتسامح، بين مختلف تيارات الشعب وفئاته، وتنوعه الثقافي والفكري والسياسي، والعودة إلى أسس راسخة، في إعادة بناء العلاقات الوطنية والمجتمعية، على أساس الشراكة الوطنية، التي تقوم على المساواة، وتكافؤ الفرص، والإنتاجية، والانتماء الوطني. إذا كان "التصالح يبدأ في داخلنا، كخبرة شخصية وذاتية"؛ فهلاّ ننمي هذه الخبرة مع أنفسنا؟!

وإذا كانت المصالحة "تتجلّى بالتواصل مع أقرب الناس إلينا"؛ فمن أقرب الناس على لحمنا سوى لحمنا؟!.

في قلب الذاكرة الجماعية للشعب الفلسطيني

ليس الحنين ذكرى، بل هو ما يبقى في متحف الذاكرة"
محمود درويش


في الخامس عشر من آذار، من العام ألفين وثمانية ميلادية، وفي الذكرى السنوية الثانية لرحيلك؛ يمتزج وجع الروح ووجع الجسد. أقترب منك، وأستحضر تلك الليلة التي تقرع باب الذاكرة دون توقف. تنتابني الأعراض التي آلمتك، وأصحبك خطوة خطوة، أستدعي صوتك، صمتك، حركاتك، سكناتك، غضبك، حماستك، آلامك، خطواتك الأخيرة، حتى السحاب. يا هذا الذي يسوِّر الذاكرة ويدمي القلب، يا هذا الوجع الذي ينخر العظم. كم أفتقدك أخي، يا فيصل.

قلةٌ هم الذين يتركون بصماتهم عبر حياتهم، وقلةٌ من هذه القلة بين رجال الأعمال. رجال الأعمال عادةً يتركون أموالهم عندما يعبرون؛ ولكن "فيصل عبد الهادي"، كان من ندرة الندرة، من الذين تركوا بصماتهم فيمن حولهم، كان رجل أعمال، وكان يحمل همّاً ثقيلاً، همّ قضية وطنه وأمته، واستطاع بذكاء وإخلاص أن يوظّف إمكانياته المالية، وعلاقاته العملية، لخدمة قضية سامية، أخلص لها، وقدَّم لها، ورحل عنّا سريعاً؛ لكن إنجازاته استغرقت ضعف الزمن الذي قضاه بيننا. عرفت فيصل، من خلال مؤسسة التعاون، ومن خلال نشاطاته الكثيرة، في لجانٍ عديدة في الإمارات، وفي دبي بالذات، وكان دائماً رجل الإنجاز. إذا استعصت بعض الأمور علينا؛ كان فيصل لها، كانت له قدرة وطاقة للعمل وتحقيق النتائج. من خلال مؤسسة التعاون، ونشاطه الذي زاملته فيه؛ استطعنا أن نقوم بعدد من الفعاليات والمهرجانات لخدمة قضية الوطن، وحققت إنجازاً رائعاً على المستويات: السياسية والإعلامية والمالية للقضية؛ كان فيصل أحد المحركات الرئيسة للعمل، ومنظماً وفاعلاً، واستطاع بعلاقاته وإدارته وتنظيمه، أن يحقق الكثير. تولى فيصل إدارة لجنة المشاريع والبرامج، في الهيئة الإدارية لمؤسسة التعاون، وهي من أهمّ اللجان في المؤسسة. استطاع بعقليته العلمية والعملية، أن يحقق كثيراً من التغيير في هذه الإدارة، ويحقق كثيراً من الإنجازات؛ لأن كثيراً من المشاريع والبرامج كان يواجه بعض القصور، أو بعض التأخير؛ ولكن بدأبه على العمل وقدرته الفائقة؛ استطاع أن يحقق إنجازات خلال هذه الفترة القصيرة.

فيصل كان جندياً مجهولاً، كنت أزامله عن قرب، كنا نلتقي أسبوعياً تقريباً في لجنة دعم الأهل في فلسطين. عملنا لجنة لدعم الأسر الفلسطينية "من أسره لأسرة"، وكان من أبرز النشطاء في هذه اللجنة، كان يتولى اللجنة المالية، واستطاع أن يحقّق الكثير لهذه اللجنة، التي ما زالت تقوم بواجبها، والتي تقدم شهرياً لثلاثة آلاف أسرة فلسطينية منذ بداية الانتفاضة. حتى الآن تم تحويل حوالي خمسة وسبعين مليون درهم، للأهل الصامدين في فلسطين. فيصل، كان جندياً مجهولاً بعيداً عن الأضواء، لم ألحظ منه في أية مرحلة رغبة بالظهور، كان يعمل بصمت، واستطاع أن ينجز ويحقق. فيصل رجل يندر أن نراه بيننا هذه الأيام، رحم الله فيصل، عزاؤنا أن ذكراه ستبقى محرّكاً لأجيالنا ولأبنائنا لعملٍ دؤوب مخلص، ولا أنسى أننا واجهنا في مرحلة ما صعوبة في استمرار عمل اللجنة، كان فيصل بطل هذه المرحلة، استطاع بحنكته وعلاقاته وقدرته، أن يجتاز بنا ومعنا هذه الأزمة، وأن تستمر هذه اللجنة في عطائها حتى الآن.

د. تيسير النابلسي/ رئيس لجنة العمل لدعم الأسر في فلسطين/ عضو مجلس أمناء مؤسسة التعاون.

أصدقاء فيصل كثيرون، وصفاته الغالبة، سمعناها وهي تتردد في كل مكان، وأجد نفسي أكررها، مثل: الإخلاص، والوفاء، وحسن الخلق، والتفاني في العمل، لأهله وقضيته، ولقد عرفنا المرحوم فيصل منذُ فترة طويلة، أنا شخصياً عرفته منذُ أكثر من ثلاثين عاماً، ولا أذكر أنني سمعت منه كلمة ذمٍ، أو كلمةً نابية في حقّ أحد. ومنذُ أن عرفته جمعنا هاجس مشترك، وهو هاجس الوطن والقضية، ثم انخرطنا معاً في العمل الإنساني، من خلال عملنا في مؤسسة التعاون، ولجنة دبيّ الأهلية، لدعم صمود الأهل في الوطن المحتل، فازدادت صلتي به كثيراً، وكان المرحوم في طليعة من قدَّم وقته وجهده وماله لتلك الأنشطة، التي كان آخرها، الحفل الذي أخذ المرحوم على عاتقه التحضير له، لدعم خريجي كلية الطبّ في جامعة القدس، وكان من أنجح الأنشطة التي عملنا لها معاً، ولا أذكر مطلقاً أنه رفض القيام بأية مسؤولية طلب منه القيام بها؛ بل كان دائماً على أتمّ استعداد لبذل المزيد من العطاء والجهد، حتى أنني كنت شخصياً مستعداً دائماً، للمشاركة في أي من تلك الأنشطة، شريطة أن يكون فيصل أحد المشاركين فيه، لمعرفتي الجيدة بأن مهامي ستكون سهلة، من خلال عملي مع المرحوم، فكان نعم الشريك في العمل الدؤوب الصامت.

كان المرحوم دائماً على أتمّ الاستعداد لحمل المسؤولية في عمل اللجان، وتنظيم المؤتمرات، والمهرجانات الإنسانية، والثقافية، وكان خير رفيق وصديق في التصدّي والجدل، دفاعاً عن قضيتنا، في المؤتمرات العالمية التي حضرناها، من خلال منظمة الرؤساء العالمية. وكان من أوائل العرب الذين انتخبوا في "مجلس الإدارة للمنظمة العالمية" (WPO)، وقد نال احترام وتقدير الجميع، من خلال وعيه الكامل بكيفية التعامل مع مؤيدي القضية ومع أعدائها، وطوَّر علاقته الشخصية مع الكثير من المسؤولين، الذين كانوا ينظرون إليه بكل محبة واحترام. كان المرحوم بسيطاً في حياته الخاصة، لم تغيره الأيام، كان بسيطاً في ملبسه، وفي مأكله، ومشربه، وكان كريماً على كلّ من حوله، كريماً في ماله، وكريماً في حبه، ورقيقاً في معاملته. أحبَّ من كان حوله، وأحبَّه من كان حوله لرقته، لم يغير نظرته للحياة بريق الأضواء ولا الأسماء ولا الألقاب ولا الأماكن البرّاقة، وكنت أعلم كغيري من الأصدقاء، أنه كان يعود إلى المنزل بعد العشاء في أحد المطاعم، يقول لزوجته ريما: أريد بعض الجبن والبطيخ، أو حبّة زيتون وبندورة؛ لأنه لم يستمتع بالعشاء. تلك هي شخصيته التي عرفناها، وأحببناها، والتي فقدناها وسنفتقدها دائماً".

رياض كمال/ عضو مجلس أمناء مؤسسة التعاون/ رئيس شركة أرابتك. 


faihaab@gmail.com