نادرا ما نقرأ أغانينا بهذا العمق التأملي الذي يقيم تناظرا بينها وبين ما دعاه رايموند وليامز ببنية المشاعر، إنها قراءة رائدة تحث العقل النقدي على التفكير من جديد في هذا الفن الذي لم يحظ بعد بما يستحقه من درس.

الأغنية .. بلاغة الوثيقة

أحمد الفخراني

الغناء يحمل شفرة الذاكرة.. نبضها النهائي المجسد في فرح وعديد ونهنهات وصراخ وبهجة ومقاومة وسخرية..

والأغنية رهان استثنائي علي إمكانية خلود الأشياء الصغيرة والتافهة بقدر خلود الأشياء العظيمة.. في الغناء يتجاور المقدس بالمدنس.. الصخب بالوحدة.. هي أبسط الأشكال التي تجلت بها انسانية الانسان.. وأكثرها وصولا وبقاء في وعيه.

(1)

أن تبحث عن هوية، هو المفتاح الذي تحولت به الأغنية من شجن إلي وثيقة.. اصطياد التفاصيل التي يتجاهلها التاريخ. قناة السويس أحد الموارد الرئيسية لمصر شاحبة الموارد إلا من بشرها.. قناة افتتحها خديوي ليستفيد منها الأجانب.. وعندما أممها جمال عبد الناصر كان تأميمها هو السبب الرئيسي الذي جعل المصريين الذين هتفوا لمحمد نجيب ضد عبد الناصر في عام 1954 بحثا عن الديمقراطية، يهتفون له بعد أقل من ثمانية عشر شهرا بحثا عن زعيم. خلد التاريخ اسم الخديوي وديلسيبس وجمال عبد الناصر.. لكن الأغنية اختارت أن تخلد من حفر القناة بالفعل.. اختارت من ذهبوا عبثا بلا اسماء أو تفاصيل.. مجرد أرقام تقديرية..

«يا مليح الحلو نادي
ده أنا ببيع الورد ونادي
يا مليح الحلو نادي
أيوة ببيع الورد وأنادي».

أغنية ببلاغة الوثيقة.. ظهرت في وقت حفر القناة.. كانت تغني لكل من شارك في حفر القناة.. من جاءوا من بلاد بعيدة من كل أقطار مصر. صعايدة وفلاحين وبدو وبحاروة. فحملت تلك الأغنية ملمحا عجيبا فكانت مقاطعها خليطا من لهجات مختلفة.. فنري في الأغنية نفسها لهجة البدو «قطع الردي واللي ضربوه/ خايس ومرضاته جليل/ أنا ببيع الورد وأنادي/ يا مليح الحلو نادي»؛ والصعيد «جابلت أنا مكحولة العين/ أم الدهب والأساوير/ يا مليح الحلو نادي»؛ وفلاحي الدلتا «وطلعت بدري أتفرج/ علي الجنينة البحرية/ هب المسا/ وضلام الليل/ واللي يجاور يجاوي/ يا مليح الحلو نادي».

أنشد المغني.. المصريون الذين نفذوا بالسخرة أحد أهم انجازات السلطة.. انجاز من أجل مصلحة التجارة في أوروبا. مات من مات، كانوا يدفنون في أماكنهم.. كان الموت المكتسح وقتها لا يقو علي تذكر اسماء قتلاه.. فانتشرت العدودة التي تنعي فلان ابن فلان. كوثيقة تنتصر علي الموت تسجل اسماء من شاركوا في الحفر. تبخرت هذه العدودات مع الوقت. لم يبق منها أثر. لكن أي طموح كان يتملك خيال المغني لتوثيق اسماء لا يخلدها الموت نفسه في ذاكرته. كان الحفر يبدأ من طرفي البحرين في نفس التوقيت. ليتلاقوا في المنتصف عند المنجز الذي سمي مدينة الاسماعيلية نسبة إلي صاحبه.. الخديوي اسماعيل! 

(2)

للانسانية ذاكرتان..

أحدهما للتشوه، للتخريب، للتزييف، للميديا، للتسالي، للتعرجات.. ذاكرة قوية خلقت لتحمل الصدأ.. ذاكرة تهضم لتبقي.. تتحمل لتفني في سلام.. أما ذاكرته الأخري فهي ذاكرة شفافة، حية، تقبع في الظل.. لاتقبل القسمة علي ثنائية الخير والشر.. ذاكرة لاتعترف بالخير والشر.. ذاكرة اصطياد الجمال.. تلك الذاكرة هي التي احتفظت بالغناء.. هي التي جمعت قصاصاته المطوية.. هي التي أوفت بالنذر.. لاخالد إلا ما يستحق.. إلا ما صدق.. ندي الانسان في غناؤه.

السلطانة
بعد العشا
يحلي الهزار والفرفشة

كان الغناء عثمانلي كان المزاج الذي يصدر إلي المصريين.. هو مزاج الباب العالي.. هكذا كانت تغني منيرة المهدية.. آخر علامات الأتراك الصريحة في الغناء.. لم تصدق سقوطها.. في بلد تبحث عن هويتها.. حتي أن لقب السلطانة الذي أطلقته علي نفسها، أطلقته فور سقوط السلطنة العثماينة.. حتي أن أحدهم علق في المقتطف لم يبق من السلاطين إلا منيرة المهدية. كان انهيار السلطانة في سهولة سقوط الدولة العثمانية علي يد أتاتورك.. علي يد الآنسة أم كلثوم، وموسيقي عبد الوهاب الذي بدأ في مسرحها كما بدأت أم كلثوم بأدوراها.. كانت منيرة تشيع في أغانيها جو الحب السلطاني المليء بالبخور والجواري والسلطان.. بينما كان الأحبة يتطلعون إلي مدنية أوروبا.. أوروبا الرومانسية.. حب لايقيم وزنا للوصل.. بل حب معذب ومجروح..

منيرة المهدية عرفت أن جمهورها لم يعد يصدق في الولاية العثمانية لمزاجه.. فذهبت إلي تركيا لتغني لهم بالتركية!! 

(3)

ما أعجب أمر الغناء.. كله خير.. إذا ما غنيت منفردا تونس القلب بذاته.. وعرفت أن لنفسك قدرها عندك.. وإذا ما غنيت في جماعة تجاوزتم بالأمر إلي الطرب.. وإذا ما طربتم توحدت أرواحكم.. وعرفتم إنها من ذات الأصل والمنشأ.. حينها فقط تعرف قدر أخيك عندك.. وأن فطرتكم جبلت علي المحبة.

الرقابة الحقيقة في مصر لم تلتفت إلي قدرة الأغنية علي اختراق التابوهات.. كبعد العشا يحلي الهزار والفرفشة.. وارخي الستارة اللي في ريحنا، وأغنية شهيرة للمثليين، وأغاني عديدة اشتغل بها كبار المطربين والملحنين كالقصبجي وعبد اللطيف البنا. لكن الرقابة بدأت تنتبه عندما تجاوزت الأغنية التابو السياسي.. مع ظهور سيد درويش الذي حول الأغنية إلي منشور سياسي يغني علي القهاوي.. فصنع أغنية لازالت السلطة تخشاها حتي الآن (أغنية قوم يا مصري) لاتذاع كاملة أبدا إلا سهوا في فيلم (سيد درويش). وسيد درويش هو صاحب الكم الأكبر من الأغنيات التي وثقت لتلك الفترة فألحانه كانت تحمل فوق عبقريتها اللحنية طاقة كاريزمية قادرة علي اختراق القلوب والالتصاق بالأذهان بكلمات سهلة لاتشبه لغة الشارع.. بل هي بالفعل لغة الشارع.

سيد درويش هو أول من منعت أغنياته بفعل الرقابة.. في تلك الفترة اتخذت الرقابة وسبل التحايل عليها شكلا وسلطة وحكايات.. فبينما منع حكم قضائي بيرم التونسي من انشاء جريدة أو مجلة.. فتحايل علي الحكم باصدار (المسلة.. لاجريدة ولا مجلة). وكانت سلطة الاحتلال منعت ترديد اسم سعد زغلول فغني له سيد درويش بهذه الطريقة.. يا بلح زغلول.. وثق سيد درويش مشاكل العمال والصنايعية والجرسونات بل ووثق لهوس المصريين بالحشيش دون تعال، بل كان يغني محبا للحشيش. ووثق لفترة انهيار صناعة السقاية في مصر.. وسيطرة الأجانب علي الاقتصاد، وواكب طموحات طلعت حرب في تأسيس اقتصاد مصري، والحث علي تعليم الفتيان والتجنيد الاجباري لحروب لا ناقة لمصر فيها ولاجمل.. في ذلك الوقت كانت أغاني بيرم التونسي تترجم إلي ألحان هي الأخري فيكتب بيرم عن غشم العسكر/ الرقابة:

«اتنين عساكر يفتحوا برلين/ ماسكين بتاعة حلاوة جاية من شربين»

ثم انتشرت الأغنية النكتة.. المكونة من بيت واحد عبارة عن إفيه مقفي وملحن.. كنكتة النابلسي أحد الظرفاء. عندما حدث انشقاق في حزب الوفد بين جماعة سعد زغلول وجماعة محمود عدلي.. فلما سأل النابلسي :إنت عدليست ولا وفديست.. أجاب قائلا: أنا فلست.. كانت النكتة تعبر عن انحياز المصريين لمعركة لقمة العيش الأهم من صراع السياسيين.. سرعان ما كانت تنتشر هذه النكت لتلحن وتغني.. وقد ارتفعت الأغنية بالسقف السياسي إلي مداه بل وتجاوزت ذلك في ألحان سيد درويش بصناعة الأيقونة السياسية (عشان ما نعلي ونعلي ونعلي لازم نطاطي نطاطي نطاطي).. وبسلامته الوالي أبو زعيزع.. ضاربة عرض الحائط بالمساس بالذات الملكية باعتبارها ذات مقدسة.

لازالت أغاني سيد درويش تعبر عن قضايانا في تلك الفترة.. اضراب العمال واعتصام الموظفين وتحرك الفئات كالأطباء والمهندسين والمدرسين من أجل تحسين أوضاعهم المادية بدون شعارات سياسية.. فقط أيديولوجية لقمة العيش. تجاوزت أغاني سيد درويش فكرة الخلود.. لفكرة البقاء بدم حي وطازج دائما.. فهو خلود شخص غني لقضايا شعب وليس لمنجز فرعون.. لم يكن في حاجة أبدا إلي التقديس أو التحنيط ليظل خالدا.  

(4)

أفضل الغناء ماكان فوقه ورد وتحته ورد وبينهما ورد.. وأجمله ما خرج حرا من قلب عفي وغير عفي.. فمن ذلك القلب ينطلق الغناء بقوة واندفاع.. كالسيل لا يخرج كي يمسك بشيء أو ليعود بشيء.. فقط هو الخروج حيث العلاقات ملتبسة والكون غائم.. ينبئك عنك.. يخرج بشوقك لشيءما إلي البراح.. فلا أنت تعرف كنه هذا الشيء ولا هو.. وربما يخبرك مثلا وهو في هذا لا بالصادق ولا بالكاذب عن علاقة ما بين نطق حرف ميم وحزن الأحبة. فالحب سبيل لا ينقطع للغناء.. من الحب السلطاني المليء بالجواري والغلمان.. إلي حب أم كلثوم الآنسة المليء بالعزة، وأغاني عبد الوهاب المتطلعة لمدنية أوروبا، فاستخدم آلاتها بل واستمد من موسيقاها.. ثم جاء عبد الحليم.. ليصنع مشاعر جيل.. كان عبد الناصر قد صار أبا، بينما تحولت الآنسة أم كلثوم إلي الست.. في تعبير فريد ينضح بمفهوم الأمومة.. لم تكتمل الدائرة إلا بدور عبد الحليم.. الابن المعذب.

عبد الحليم.. هو أبو الحداثة ـ إن جاز التعبير ـ في الأغنية المصرية.. حداثة تخليص المشاعر من الزركشات، والآهات الطويلة المملة، وسيطرة الصوت القوي بدلا من الصوت المعبر. الابن المسحوق الذي يحلم ويمرض ويغني للكل بعيدا عن مفردات النخبة. حول شعارات الثورة وميثاقها إلي أغنيات تحفظها الناس. نفخ فيها بغناؤه ليمنح غلظتها مشروعية الحلم بأجنحة من حرير. عذاب عبد الحليم يشبه عذاب بروميثيوس.. حالم تخفق أحلامه ـ تماما ـ كالشعب الذي غني له. فارق شاسع بين جيل صاغ عبد الحليم مشاعره وجيل تلاه صاغ هاني شاكر مشاعره. الفارق بين جيل حلم وأحب وانهزم بصدق. وجيل بمشاعر مزيفة لعيب في مطربه ومنشده الأساسي. هؤلاء الذين لم يستسلموا لصدق عدوية مثلا في تعبيره عن الافراز الشعبي بعد تخلصه من ضغط الأحلام الكبري وشعارات الثورة. جيل اختار أن يراهن علي الحصان الخطأ، لمجرد تشبثه بصورة عبد الحليم التي فشل هاني شاكر أن يكونها. خطيئة كبري أن تنشد بغير صدق. مفارقة عجيبة أيضا أن يكون استقبال الناس لوفاة أم كلثوم باهتا مقارنة بوداع عبد الحليم.

أم كلثوم محركة جماهير بامتياز.. من قبل كان القصر الملكي في حاجة إلي مطرب للقصر قادر علي تحريك الجماهير. ففي عام 1948 كانت الاذاعة المصرية تذيع أغنية «أخي جاوز الظالمون المدي» عند تحرك الجيوش العربية لمحاربة اسرائيل.. الأغنية التي تم إعادة تدويرها بعد الثورة.. لكنها لم تكن في بكارة أغاني عبد الحليم.. كانت صحيفة الأهرام تنشر نص القصيدة التي تجاوب معها الناس، رغم عدم استيعابهم لمعناها مع تنويه بموعد إذاعتها في الاذاعة التي لم تكن تصل إلي القري وقتها.

رغم تاريخ أم كلثوم التي صارت أما للمصريين جميعا لم يودعها المصريون كما يجب. فقد جاءت وفاتها أمرا طبيعيا بعد وفاة الأب عبد الناصر. أما وفاة الابن المعذب. كان تعبيرا عن انتهاء عصر كامل من الأمل والأحلام. لم تخرج مصر لتودع مطربا كما خرجت لوداع عبد الحليم الذي ترك أرشيفا هائلا من شعارات الثورة والحب الايجابي. الذي يرنو ولايغوص. يقف علي الخط الفاصل بين الوصل والهجر. يغامر رغم ضعفه. 

(5)

يا بنت.. في الغنا مقامِك عالي.. ووردك بيحلي شوكه.. ساب الغنا مواجعي. واحتكم لأجمل ما فيكي.. عمل منِك ولي.. وسابنا نحيا في عشقِك.. زي دروايش في حضرة.. يا بنت.. الغنا مش أول عشاقك.. الغنا مش من عشاقك.. لكنه عارف مقامِك.. وخلاه عالي.. يا بنت. التاريخ كعادته يروي تفاصيل صانعيه الحقيقيين.. يحتفي التاريخ بالقادة ولا يحتفي بالجنود علي خط النار.. لكن سمسمية القنال فعلت.. الكابتن غزالي.. استطاع علي آلته.. التي تبدو بلا امكانية رغم قدرتها المذهلة علي تفجير البهجة والقنبلة.. الحماسة والرصاصة.. الآلة التي تبدو غزلية ويبدو عازفها كعاشق يحوم من أجل لحظة وصل حقيقية وحميمة مع معشوقته، هي نفس الآلة التي حمت تفاصيل عمليات المقاومة من الطمس.

في عام 1967، توجه أحمد فؤاد نجم إلي الاذاعة المصرية ليقدم أغنية حماسية للمعركة النهائية مع إسرائيل التي ستلقي فيها إلي البحر.. ولكن الهزيمة أعلنت فمزق نجم القصيدة.. ليكتب «الحمد لله خبطنا تحت بطاطنا يا محلا رجعة ظباطنا من خط النار». ليلحنها الشيخ إمام. يري نجم نفسه امتدادا لبديع خيري وبيرم التونسي ويعتبر الشيخ امام امتدادا لسيد درويش.. وهو أمر حقيقي إلي حد كبير. ففي الخمسينات والستينات كان التاريخ يكتب بالفعل.. لكن بعيدا عن صناعه. عاد المؤرخ الغنائي ليكتب عن العمال والشقيانين والطلبة والمعتقلات ويسخر عامدا من كل صناع تاريخه المهزوم في أغاني طالت عبد الحليم وصلاح جاهين والأبنودي بل ومهاجما أم كلثوم نفسها. تحول علي يديهما عبد الناصر إلي عبد الجبار والسادات إلي منافس للسماسرة بحكم الجوار.

سخروا من كل من دفعوهم إلي أحلام كاذبة.. ربما توقفوا لحظات لتقديم أغنيات مثل «قيدوا شمعة ـ مر الكلام» كانت أغاني جميلة.. تحيا بعيدا عن فلك المنشور السياسي.. كانت أشبه باعتذار عن خطأ السلطة في حق أبنائها.. فسلطة عبد الناصر.. ظلت وستظل جزءا أصيلا في تاريخهم. 

(6)

الليلة الكبيرة.. هي أفضل ما أنجزه عهد عبد الناصر.. أوبريت عبقري يلتقط صورة للشعب وهو في قمة فرحته.. في المولد.. أوبريت كهذا لم يكن يكتب بتلك الطريقة.. لولم تكن هناك تلك الثقة العارمة في شعب يخطو بكرامة.. فلا يجد غضاضة من تلحين كلمات هي في أساسها من موروث شعب. ومن ثم حفظها واستعذب ترديدها.. الليلة الكبيرة وثيقة مهمة لشعب كان يؤمن بذاته.. لقطة نادرة لشعب يغني ذاته بذاته.. شجيع السيما والأراجوز والعمدة والمطرب الشعبي وبائع الحمص والملبن والطراطير والراقصة والمتطفل علي القهاوي.. أشك في قدرتنا الآن علي الكتابة بنفس الثقة التي كتب بها جاهين ولحن بها مكاوي.. جملة كاسعي اسعي اسعي خدلك صورة ستة في تسعة.. فمصر الآن صارت كختام الأوبريت بنت تايهة طول كده رجلها الشمال فيها خلخال زي ده. 

(7)

مفارقة تستحق الاهتمام.. أن أجمل أغانينا الوطنية هي التي كتبت بعد النكسة.. كأن الهزيمة استطاعت أن تمحو كل ما هو مزيف.. لتبقي الصادق والخالد.. والأغرب أن أغاني الانتصار جاءت باهتة.. كأنها كانت تؤكد أن لاشيء يمكنه تعويض ما خسرناه والأغنية الوحيدة التي وجهت الانتصار إلي أبناؤه الحقيقين هي أغنية فؤاد نجم وإمام التي غنتها سعاد حسني بلحن آخر هي دولا مين ودولا مين دولا الفلاحين. بعد ذلك بسنوات.. تم اختزال الانتصارفي وطنيات محمد ثروت السخيفة. ورغم أن الأبنودي صاحب أجمل الأغاني الوطنية هو كاتب بعضها.. لكن كانت مصر فقدت الكثير لتملك القدرة علي التباهي.. فجاءت أغاني هذا العصر ممجوجة.

اللافت هو غياب أغنيات الرفض منذ الثمانينات.. بل وغياب فكرة الرفض نفسه.. انخفض السقف السياسي مرة أخري لتعود الذات الملكية إلي ذات لا تمس.. ولم تعد إلي الارتفاع الا منذ سنوات قليلة لم يواكبها المؤرخ الغنائي.

ربما مناوشات قليلة لأغاني وجيه عزيز وعلي سلامة.. لكنها ظلت أغنيات تؤكد الضياع الانساني وانكماش الهوية.. جاءت أغاني كناتج لوضع سياسي راكد.. مطربو الثمانينات هم آخر الأجيال التي حملت مشروعا يبحث عن هوية.. منير والحجار ومدحت صالح وايمان البحر درويش.. لم يتبق منهم سوي منير الذي يرواغ السوق من أجل البقاء.. والحجار الذي أعلن عن نفسه كمطرب نخبة.. أما مدحت صالح صاحب واحدة من أهم أغاني جيله رافضك يا زماني انتقل بعدها إلي «حزمني يا». وتدروش إيمان البحر.. من يؤرخ لهذا الوقت سياسيا.. الأغنية تستسلم.. ربما ينجح شعبان عبد الرحيم!.