بلمسات القصة القصيرة المركزة يكشف لنا القاص العراقي بلامباشرة عن بلقع الحياة اليومية في العراق، وإنسداد الأفق فيها، ومداهمات الموت المجاني اليومي الذي يلتهم أحلام البسطاء.

الطبعة الأخيرة

قصة قصيرة

على كاظم داود

تنطبع الوجوه العابرة على واجهة المكتبة الزجاجية المقابلة للبائع العجوز، تمرّ عليها مثل شريط من الذكريات، بلا صوتٍ وبلا توقف، وجوه بالليل وبالنهار، ملامح وألوان، آثار السنين، صور للثراء وللفقر.. صور تحملها بطاقات البريد والطوابع والصحف والملصقات، وصور تبقى سنة كاملة ترافق التقويم.. تنظر إليها عيون كثيرة وتغيب عنها عند الإطار المعدني، حيث تنتهي دائما وجوه القادمين والذاهبين، بينما يُسمع لأقدامهم وقعٌ سيتلاشى على إسفلت الشارع العتيق.

سيكون دائما هناك يقتعد علبة من صفيح، على الضفة الشرقية لشارع التربية ـ الذي يسميه كبار السن في مدينة العِمارة شارع المعارف ـ مفترشا مئات الصحف أمامه، صحف لا حصر لما تحمله في طياتها من كلمات.. عناوين ومتون، نقاط شروع وتوقيعات وكلمات ابتداء وانتهاء، وحتى كلمات متقاطعة.. صحف لكي تُقرأ أو لتباع أو لترمى أو لتفرش للأكل عليها، أو لا لشيء إلا لتسمى صحفا!. الصحف تصل قبل أذان الظهيرة بساعة تقريبا، وحتى وصولها يَعرض ما تبقى من إصدارات الأمس، الناس ينظرون إليها مثل كومة قمامة، يقفون لثوان فتنطبع قاماتهم على الزجاج، ما يلبثون أن يغادروا تاركين خلفهم كلمات ـ لن يسمعها ـ تحمل امتعاضهم أو شتمهم.. تذوب ألوان ملابسهم على احد جانبي الواجهة بعد أن تحمّى إطارها بشمس الصباح.

يتذكر عندما كانت الشمس تسقط لاهثة على الإسفلت واضح السواد، قبل أن تتلفه السنوات والأنواء والمارة، يتذكر تفاصيل الحكايات الصامتة، والوجوه كلها، لم تكن بهذه الكثرة أو بهذا الاعتناء، لكنها كانت أكثر تفاؤلا وبراءة.. ولأنه ولد أصما فقيرا فمن الهزل التفكير في احتمال تعلمه القراءة والكتابة، خصوصا في تلك العقود، لكنه اتخذ من التأمل هواية له، وقراءة الوجوه وسيلة المعرفة التي أتقنها بدلا عن قراءة الكلمات، فهو يعرف ما تعنيه تقاطيعها وعلاماتها الفارقة.. ولطالما دأب في التقاط تعابير الوجوه وتفاصيلها الدقيقة، إذ يجد في هذا متعة لا مثيل لها تمنحه سعادة لن يعرف طعمها أحد غيره.

حتى الصحيفة يفتحها لا لكي يقرأ طالعه، أو ليعرف كم أن الحياة تغيرت وأصبحت أكثر تعقيدا، بل لينظر لصور الوجوه فيها.. في كل يوم يفتحها ليجد أن صور الأمس قد تبدلت بصور ووجوه أخرى.

كان يعيش وحيدا منذ سنين طويلة، يأتي الليل فتقل الوجوه على الزجاج، يرزم الصحف الباقية، يضعها في سلة دراجته الهوائية وينطلق قاطعا الشوارع نحو الجسر الذي تصطف أسفله النوارس.. وحده يقف مسندا مرفقيه إلى السياج الحديدي الأخضر للجسر، واضعا خديه في باطن راحتيه، مواجها الماء، وبساتين النخل على الشطين.. في تأمل صوفي لا يأبه بالزمن.

لحركة المياه سحرها؛ تنساب مويجاتها متوالية حتى ارتطامها بإحدى الضفتين، حيث تفلح نسائم الصيف بنسج بساط رقراق تطرزه الأضواء العابرة للمياه.

بعد أن ينهي صلاته الإيمائية في المسجد، يقصد آخر المطاعم في شارع دجلة، يشتري "سندوتش فلافل" ـ كل ما فيه حمص مفروم ومقلي على شكل كرات، وسلطة خس أو خيار ومكعبات طماطم مع قليل من التوابل والملح ـ ليأكله على مذبح عشائه المعتاد.. يوقف دراجته على رصيف الجسر الكونكريتي، مصابيح لسيارات معدودة تمر قربه، يأكل على مهل، عيناه ساهمتان في فضاء المشهد الليلي، كأنه في صالة السينما يشاهد عرضا أسطوريا لن يتكرر.. يبقى في محرابه حتى تعلن المدينة بصمت أنها غاصت في غمرة نومها الطفولي، فيستقل دراجته منحدرا نحو غرفته في الطابق الثاني بفندق متهالك.

في إحدى الليالي وفي وضح تأملاته وذروة انبهاره الأخاذ شعر أن قوة خفية منحته قدرة على الطيران.. ذُهل من مجرد التفكير بكونه إنسانا طائرا!! تلفت فوجد الشوارع خالية، والمدينة ربما استمتعت برؤية أحلام عديدة من بعد نومها، فكّر أن يحاول الانسياق خلف القوة التي اجتاحت جسده بعنفوان آسر، وضع كفيه على السياج وقفز إلى الأعلى فاستقر واقفا فوقه، وأخذ يلامس الهواء، أدرك أن ما يفصله عن التحليق هو أن يسلم نفسه للريح.. وبمجرد انفصاله عن الجسر شاهد الوجوه تطير معه والصحف والنوارس، لامس الماء وأمواجه وسمع، لأول مرة، اصطفاق المويجات بالضفة الإسمنتية الصقيلة، وشاهد وجهه مرة لن تتكرر منطبعا على صفحة الماء المتكسرة.

في اليوم التالي كان مكانه خاليا، الشارع بدا فقيرا بالمارة، زجاج الواجهة المكسر لا زال على الأرض، الصحف وحدها أتت وهي تحمل خبر تفجير حصد أرواح ثلاثين شخصا من أبناء مدينة العِمارة. 

alidawwd@yahoo.com