في هذه القصص السكندرية القصيرة تتصادى المواقف والأحداث في تلك الكتابة المشهدية التي تحرص على الإيماء والكشف، وتهتم بالمضمر والمسكوت عنه، دون أن تبارح الواقعي والمباشر.

خمس قصص

انتصار عبدالمنعم

1- غجريـة

تدب على الأرض بعنف، تتسارع أنفاسها فيعلو صدرها ويهبط ثائراً، رقبتها الخمرية منتصبة وعليها يتوهج رأسها الصغير منفعلاً، شعرها الأسود الفاحم يلف وجهها منسدلاً، تتقاذفه حركات جسدها النافرة.

تدب الأرض، تدور حول نفسها وتدور معها أعين تحسبها ترقص، يتماوج شعرها تخفي به دموعها الغزيرة، يدها تقبض على صناجاتها النحاسية، تدق بهما بعنف لتخفي دقات قلبها الصاخبة، تلقي برأسها للخلف في كبرياء جريح، تمسك بطرف ثوبها الموشى بلون جرحها، تلف حوله، تُدخله بين أهدابها المسافرة، ينظر إليها، يعانقها بعينيه ويقبض بيده على يد أخرى تلبس خاتمه، تقترب منه، تلفحه أنفاسُها التي تشبع منها، يشم عطرها، يتذكر عرقه الذي اختلط به، تميل عليه، تجذبه الأخرى، يحكم قبضته على يدها فيشعر بوخز الخاتم.

شعرها يخفي نصف وجهها ونصف وجهه، يرتعش، تقف مبتعدة، يظهر كل وجهه وقد اختفت معالمه، تعانقه صاحبة الخاتم، تنبت له عينان، تدب الأرض ويعلو التصفيق، ينبت له فم وأنف، ينهض ثائراً، يدب الأرض معها، يدور حولها ممسكاً بخصرها، يرتفع الضجيج، تجذبه صاحبة الخاتم، يدور حولها، يقع قلبه على الأرض، تدب الأرض بقدميها، تركع، ترفع قلبه، تضمه إلى صدرها بشوق، تُخرج قلبها، تخيطهما معاً، تنسج منهما وشاحاً، تعطيه لصاحبة الخاتم.

2 ـ حدث في رحم ما!
نظراتي الزائغة تحملق في الأضواء المسلطة على وجهي، همهمات وتأريخ لليوم والعام بالتقويم القمري، همهمات أخرى تطالبني بالكف عن البكاء، يد تحكم القناع على أنفي وفمي وتأمرني بأن أستنشق الغاز المخدر، أستنشق ولا فائدة مازلت أرى أعينهم الأسيوية الضيقة، وأسمع مزاحهم الذي لا ينقطع، أجيب عن أسئلتهم عن اسمي واليوم وبلدي، ولا أفقد الوعي، أشعر بأحشائي تنقبض تريد طرد ما فيها، المطارق تدق جانبي وتجتاحني نوبات ألم لا يشعر بها غيري، فتسلب روحي وتشل أطرافي، ولا أقوى على الحراك، رحمي صار مقبرة لقطعة مني تشكلت فيه جنينا صغيرا ويأبى أن يلفظها، أتشبث بوليدي الذي لن يحمل اسما، ويتشبث هو بي خائفاً من تراب المقبرة الجاف وظلامها الموحش، أسمعه يلوذ بي من مشرط الجراح الذي يسلبه مني، يصرخ فيّ لأنقذه، يستعطفني لأجعله يدفن فيّ كما نبت فيّ، أصرخ ويصرخ معي، ولا يسمعنا أحد، غبت عن الوعي.

جاءني يلومني، ويندس تحت الغطاء بجواري فالبرد شديد في ثلاجة المستشفى المليئة بالغرباء كبار السن الذين لا يكفون عن التذمر من العالم وأحوال المعيشة، ولا يوجد أطفال مثله ليلعب معهم، شعر بالخوف من منظر يدي اليسرى المقيدة بأنابيب المحلول فضممته باليمنى، راعتني برودة جسده الصغير الناعم فضممته أكثر حتى التأم بجسدي مرة أخرى، خبأته بين رئتي وطلبت منه أن يتوارى هناك عن أعينهم. 

3 ـ وللبحر شئون
وقف على شاطيء البحر بقامته العالية كنخلة في الوادي، لا يرتدي غير سروال قطني قصير ينتهي أعلى ركبتيه، قدماه العاريتان مثل مرساة سفينة خشبية، ساقاه يابستان تنفر عروقهما من تحت جلده المتغضن فتظهر ككثبان رملية، كتلك التي تحيط بمدينته، ظهره لفحته الشمس حتى صار بلون خبز جدته اليابس المقمر في تنورها الطيني. يحمل على كتفه الأيمن شبكته الغريبة المثبتة بين ثلاث قوائم خشبية لتأخذ شكل مثلث حاد الزوايا، ومن واحدة من هذه الزوايا تمتد قائمة خشبية متوسطة الطول لتكون عصا التحكم في شبكته. وحول رقبته وعلى كتفه الأخرى يحمل كيسين من الرمال الناعمة، ومعهما جبال من الأمنيات الضائعة.

لامست أقدامه موج البحر فشعر ببرد إعتاد عليه منذ ستين عاماً فتحول عناقاً يشتاق إليه كل صباح. يبدأ في الدخول، الماء يرتفع، يبكي يريد الذهاب للمدرسة، يغطي الماء قدميه، لابد أن يساعد عمه في البحر، يرتفع إلى كاحليه، التعليم له ناسه، بنت عمه تدخل الإعدادي، يرتفع الماء حتى أعلى ركبتيه، أحب الحورية، الماء يزداد برودة، العين لا تعلو على الحاجب، قدماه تتشبثان بالأرض، ينزف الجرح، هنية الخادمة على قدك، إبني سيجفف الدماء ويحول الملح سكر، ألم الظهر يعاوده، الأولاد يضحكون عليّ، رائحتي تفوح، يتخلص بالتدريج مما يحمل من الرمال، لن أذهب للمدرسة، أنزل شبكته من على كتفه، لن تقرب البحر، هوى بها على البحر يشطره، يقتحمه، غرسها في رماله، الموبايل لابد أن يكون بكاميرا، ضغط ثم سحب، الكل يعمل هكذا. ينخل البحر بشبكته، لابد أن تتزوجها، تخرج الرمال من بين ثقوبها وتبقى من جاء من أجلها، حفيدي سيداوي جرحي ويحول الملح سكر، يقطر العرق من جبينه، يختلط ملحه بملح البحر، تنبت على شفتيه نبتة صحراوية، يشبه جدته الحورية، يخرج إلى الشاطئ يضع ما معه، يقبل الحورية فيه، يدخل مرة أخرى. يضمه إلى صدره، يلقي بشبكته لآخر مرة.

يدخل مرة أخرى، يحتمي بماء البحر، سأربيه أنا، ينزع سرواله المبلل، يملأ حقيبته بالأقلام، يرفع يديه عالياً يدخلهما في أكمام القفطان الكالح، الأستاذ عوض مسرور جداً، يدخل رأسه، سأذهب للمدرسة والبحر، يتجه نحو الشاطئ، التكريم كان في طابور الصباح، يحرر القفطان لينزل بالتدريج يواري ما كان يستره الماء، الحورية تغوص في البحر، على الرمال يريح شبكته، ينشر عليها سرواله، الحورية لم تعد، يجلس القرفصاء يمسكها واحدة واحدة كحبات معقودة في مسبحته التي ورثها عن أبيه، إقرأ الفاتحة للحورية، يبدأ في عملية الفرز والتصنيف، كانت تحبك مثلي، هذه بلدي وتلك إنجليزي وهذه صغيرة وتلك كبيرة، الناس كانت مقامات.

في الحادية عشرة تأتيه جلجلة حماره العجوز يجر العربه الكارو وعليها سكر البحر جاء كعادته ليصحب جده في رحلة العودة. يتكئ على كتفه الصغير ويصعد... يتمدد على العربة مغلقاً عينيه ومخفياً وجهه بقبعته القماش الدائرية ذات الأطراف المتهدلة تاركاً لحماره مهمة الطريق بينما حفيده ينادي: حلوة يا أم الخلول. 

4 ـ انتحـار
قرص الشمس يغرق في البحر، فتيان وفتيات بين متشابك للأيدي ومختلس للنظرات، يقف أحدهم ببذلته السوداء ليلتقطوا له صورة مع عروسه، صبي صغير يحمل أطواق الفل يغري بها متشابكي الأيدي، أصوات السيارات تعلو على صوت البحر الهادر، أمشي وحدي واضعاً كلتا يدي في جيبي البنطال، أتأمل أضواء كوبري ستانلي المتلألئة، أتفحص المارين والواقفين، أدقق النظر في وجوههم لعلي أجد أحداً أعرفه أو يعرفني فيخبرني من أنا.

الكل مشغول ومنهمك في الحديث، لا أحد غيري يحدق في قرص الشمس الذي ذاب الآن في البحر مخلفاً وراءه خطوطاً ذهبية مخضبة بالدماء، لا أدري أهي نازلة من السماء لتلتقي بالبحر؟ أم متفجرة من البحر لتصبغ زرقة السماء من فوقه؟ اختلط الظلام فوق البحر بضوء القمر وانعكاس ضوء المصابيح، فظهر موجه كحيتان تطفو.

رأيتها وحيدة تقف على حافة السياج الحديدي للكوبري لتلقي بنفسها في الماء، أسرعت إليها الخطى، تسارعت أنفاسي، إهتز جسدي مترجرجاً على وقع أقدامي، قبل أن أصل إليها، هوت، فقدت الجاذبية، حركتها الرياح هنا وهناك، رقصت معها، انعكس عليها ضوء المصابيح فأشرقت.

وصلت سطح البحر كأنها مشتاقة إليه، التصقت به جيداً، ولكنها لم تخترقه، لم يحتوها، ولم يغيبها في أحضانه، طفت فوقه يؤرجحها، يهدهدها. حينها تمنيت أن يقول لي أحدهم أني ورقة شجر. 

5 ـ قل لي: أوحشتني!
تهوي اليد الغليظة على الباب الخشبي، تتواطأ معها القدم العمياء وتركل الباب، يهتز الباب مترجرجا مترنحا، تفقد الحناجر أحبالها الصوتية تحت وطأة صراخها المحموم، تمتد يد تائهة، تلتقط الهاتف، يأتيه صوتها لاجئا متكسرا، ضارعا، ومقاوما دموعا مخنوقة:

ـ قل لي أوحشتني!
يستغرب قولها، يستفسر، فتبتهل اليه ألا يسأل. يردد وراءها ما تريد سماعه.

تمتلئ بصوته الدافئ، تستنشق وجوده البعيد فلا تعبأ بخوفها الناشب أنيابه في حناياها، تتجه نحو الباب الذي مازال يصارع القدم العمياء، تصم أذنيها، تجلس خلف الباب مستندة عليه، تطوي أجنحة خوفها على رأسها فلا تراهم وهم يدخلون، يعبرون على جسدها المحتمي بصوته، يدهسونها بسانبك خيلهم، يعبثون بعرائسها وكتبها، يحطمون أواني زهورها، يخفون عطورها في جيوبهم، يبعثرون ملابسها، يصادرون ملابسها الداخلية، تسمعهم يضحكون وهم يتقاذفون عُريها بين أيديهم، ينصرفون بعد أن تتلقى وعودهم بالعودة قريبا، تلملم مابقي منها، تلتقط صورته الملقاة على الأرض، تعيدها إلى الإطار المهشم، تجمع قطع الزجاج المتناثرة، تعيد ترتيبها على الصورة، تضمها إليها، تهتف به: أوحشتني! 


الإسكندرية