وجهة نظر أخرى في راهنية المثقف

محمد زيتون

يتحدد المثقف، في الغالب، باعتباره ذاتا تمتلك رأسمالا رمزيا تستند إليه، أو تستعين به، كي تفعل في مجتمع إنساني ما، إنها ذات تتجاوز بوتقة الاختصاص المهني/ الاكاديمي الضيق كي تفيض وتتوسع على ضفاف الواقع حتى تنشغل بشأنه، وتنهمك براهنه. محلقة أسفل منطاد التصور والرغبة، أداتها الحوار والتدافع السلمي. لأن كل معطى فكري هو في الاساس معطى نسبي وينبغي أن يثبت ويستمر كذلك.

إن المثقف فعالية تتبلور من خلال ما تستشرفه وتأمله وتعمل على تحقيقه من إنتاج. أيا كان هذا الانتاج! موظفة جهازا تعتقد في جدواه، بل تجتهد قدر استطاعتها حتى يكون لهذا الجهاز جدوى. إنه على هذا النحو ليس كينونة جاهزة بصيغة قبلية، كما أنه ليس نسخة يمكن التطلع لنيل اكتمالها ـ الان ـ ارتباطا بالمعيش، حتى يمكن الاستعانة بإحدى آليات العصر لطهيه وإنضاجه، بقدر ما أنه وجود وكينونة تتطوع من تلقاء نفسها كي تفعل، وقصدها البناء على نحو غير عدمي! قد تتعدد مراجعها لكن أفقها مفتوح على نحو إنساني إيجابي. لذلك فلا يمكن إثبات صفة المثقف لأحد إلا إذا كان صاحب فعالية فردية نزيهة وحرة. فالمثقف جهاز مفاهيمي تصوري ذو نجاعة، أو هو على الأقل ذو نجاعة في اعتبار المثقف عينه، جهازا يعتقد فيه لحل إشكالات الراهن، لأن الراهن والمعيش هو سلم الانسانية صوب الغد.

أما أمر التلويح بشعار من قبيل: لا فاعلية للمثقف، والتشكيك الصريح في طبيعة ووظيفة أدواره التاريخية بدعوى انبطاح كثير ممن يحسبون على الثقافة وفق تيار النهر.. مثل الغثاء. فهي مسألة نسبية، وتحتاج إلى مزيد من التمحيص. لأن طبيعة الهزيمة التي مازال المثقف اليوم يتخبط فيها تختلف من ذات إلى إخرى، ومن مقياس لآخر. لأن الأمر في العديد من الأحيان متروك لمجرد اجتهادات. ناهيك أن الادانة قدر المثقف... مادام إلى جانب السياسي ـ وحده ـ يختص من بين كل الفعاليات الاجتماعية بالمهمة الحرجة.

عادة حين يطرق موضوع الثقافة والمثقف في المجال التداولي العربي، يستحضر برغبة منحه عين الأهمية التي يكتسيها في الخطاب التداولي الغربي. من هنا تكتسب خارطة الفعل الثقافي الغربي أهميتها المركزية كسند/ مرجع يكاد يضاهي عين البؤرة المرجع التي يكتسيها المبدأ والقيمة في سياق التناول الايطيقي/ الأخلاقي. وإذا كان هذا المدخل هو ما لا ينبغي الولوج عبره إلى ردهة الأنا/ العربية وعموم شأنها. فميسم الخصوصية الذي يطبع هذه الأنا يجعلنا نتواضع على جدوى فعالية ثقافية مغايرة لسياق الثقافي الغربي. لذلك فالفقيه السلفي الذي ارتأى أن صلاح حال الأمة في صلاح دينها مثل محمد عبده ومحمد بن الحسن الوزاني وعلال الفاسي وما إلى ذلك... هو مثقف وإن صدر في تصوره الاصلاحي عن مرجع ديني. وعلى نفس المنوال يمكن أن نتواضع على ثقافية الأنا /العربية في تعدد اتجاهاتها حين التفتت إلى مسألة التقدم والتأخر منذ منتصف القرن التاسع عشر. حيث نجد أن هناك من دعا إلى التوفيق بين المرجع السلفي والغربي مثل جمال الدين الأفغاني، كما نجد من دعا إلى تجاوز الموروث والانكفاء على الغرب فقط مثل بعض أقطاب التيار اللبرالي القومي، أو التيار اليساري الاشتراكي الذي ظهر لاحقا عقب تشكيل المعسكر الشرقي. لذلك فأن يوجد فاعل سياسي ينجح اليوم في تفعيل خطابه بين الجماهير العربية من خلال استثماره للمرجع الديني الاسلامي، فذلك معناه جدوى وفعالية مثقف في مقابل فشل ولا جدوى مثقف آخر. فلماذا لا نكون صريحين مع أنفسنا؟ أو لم تنجح كوادر حماس مثلا في ضمان تأييد غالبية الناخبين الفلسطينيين، كي تشكل خارطة السلطة على نحو مدني؟ أولم ينجح الخطاب الأصولي في توحيد الجماهير وضمان تأييدها وانخراطها خلفه في صف المعارضة والفضح، الذي تباشره هذه الاتجاهات، في العديد من القضيايا والمناسبات؟ أو ليس المثقف الأصولي/ السلفي قد حاز اليوم من الانتصار في استثمار وتشغيل أدوات الحداثة من أحزاب ونقابات... بالقدر الذي يكفي كي نحكم بمدى فاعليته؟

ربما كان سيظل في حيز الفعالية الواقعية، داخل خارطة الوجود العربي الاسلامي، مثقف سلفي يخبط في مسالك جهله خبط عشواء. يوظف فهمه للدين في غير ما خدمة للانسان والزمان! وهذا ما يجب الانتباه إليه! وربما كان سينافسه مثقف سلفي آخر يحيد عن جادة الصراط تارة، ويعاود جادة الرزانة تارة أخرى. رغم أن هذا الأخير هو الأعقل والأرشد، إلا أن السؤال الذي سيظل ينطرح على مائدة الأنظمة العربية تحث وصاية الغرب هو: ترى كيف يمكن إلجام هذه الطينة من المثقفين وقد عفرت أقدامها مقدسات الحداثة؟ لذلك فليس غريبا أن يتداول قول كالذي تصرح به مثلا نخبة مما كان يعرف باسم اليسار المغربي، تبريرا للانخراط الذي أقبلت عليه في سياق انخراطها الحكومي الأخير: إننا جئنا إلى الحكومة كي نقطع على الاسلاميين/ الارهابيين الطريق عبر التحالف مع النظام! قول كهذا نلمسه أيضا مستعملا لدى فصيلة من المثقفين تمد أياديها وشفاهها كي تقبل قفازات أمريكا، وتمرغ وجوهها في مرمدة الكيان الصهيوني، باسم السلام والتعايش في انتظار الظفر بجائزة نوبل... رغم أن الامر ينبغي أن ينجز باسم الهزيمة، والهزيمة فقط وليس باسم التعايش والسلام!

ربما كان الانصراف لاشادة الاشكال الذي ينبغي من خلاله تناول أوجه الحل، إحدى أهم مهام المثقف، لكن الثابث في حقل الممارسة التحليلية النقدية التي تروم، ما ترومه من بناء أو هدم، هو كونها تستند باستمرار على ـ أنا ـ مضاعفة، يتداخل في سبكها الفردي والموروث والجماعي، وكذا ما تنشده الذات وتشرئب إليه. ففعالية الأنا المثقفة يمكن التمثيل لها على نحو دائم داخل تعامد خطي الزمان والمكان كمنحنى هوية. تتقاطبه العديد من الاتجاهات والتوازنات، في مسار رحلة الفعل. فأن تكون للمثقف ذرائع للفعل فهذا مخالف تماما لإمكان وجود ذرائع للمهادنة والخضوع. لأن المثقف حتى حين انحصار دائرة ضوءه فهو لن يكون مثقفا إلا بحسب جاهزيته للنضال والعطاء. وهذه الملامح الأخيرة شراع ماثل دوما للتقييم الخارجي لا مجال فيه للاعتبارات الذاتية. لذلك فالحكم على مثقف بالفشل ليس معناه فشل جميع المثقفين، وليس معناه كذلك أن هدا المثقف قد مات أو يستحق... بين أقدام السلطة!

قد نسلم ربما بأن هناك من أشباه المثقفين من افتقدو بوصلة النضج، وأقبلوا على الصمت والفراغ ينفضون غباره، مستسلمين لعموم الأقطاب التي بإمكانها أن تفيض عليهم بما يحقق أمل الذات في الامتياز، طمعا في الفتات. شأنهم شأن البعوضة التي تسترشد بالهواء الفاسد كي تحيط بمكان وجود غنيمتها. وهؤلاء فقاعات! وشتان بين الفقاعة وبين المثقف! لذلك فالامل سيظل معقودا على المثقف، سواء أكان أديبا أم فيلسوفا أم صحفيا أم... قوميا أو سلفيا... لقد صرنا اليوم في ظل ثورة المعلومات وتزايد القنوات الفضائية نستضيف المثقف الذي يعيش معنا وإلى جانبنا في الوطن من نافدة قناة لا تمول بدراهمنا. كما صار المثقف المنفي في ديار الغرب يتواصل معنا في جميع القضايا... وكأنه يحيى بيننا... إن المثقف ينخرط إذن في الخصوصية المحلية على نحو عالمي.

التغيير أصبح موضة الخطابات اليوم، الكل يلهج بالتغيير، لكن أي تغيير نقصد؟ ومن أين يمكن أن يبدأ هذا التغيير؟ وعلى أي صعيد؟ هذا هو التساؤل الذي يمكن أن نطرح! إن الأنتلجنسيا باعتبارها فئة مجتمعية، تفعل بحكم قيمها ورأسمالها الرمزي الذي أنشأت تستثمره في سياق نخبوي يكاد يصل إلى حد القطيعة التامة مع الشرائح الأوسع من المجتمع، تكاد تنجز إحدى أهم العوائق القائمة في وجه التغيير. لأن التغيير ربما بالنسبة إليها مازال رهين التصور والخيال. كما أنه شأن ينبغي أن يقدم على إثباته فعليا الآخر الذي تنصبه هذه الأنتلجنسيا دوما في خانة الاتهام. نافية عن نفسها كل مسؤولية، متجاهلة أن التغيير أيا كانت مضامينه ينبغي أن تسدد وجهته بوصلة الأنا ذات الرصيد الأخلاقي الالتزامي! فالطبيب والمحامي والمدرس... وغيرهم من أعمدة الأنتلجنسيا مطالبون، إن هم شاءوا التغيير، عدم التلويح بالتهم ضد الآخرين. كما أنهم مطالبون بنوع من الالتزام الذاتي أخلاقيا في علاقتهم بما يجب عليهم، لأن الواجب أولى من الحق. فكيف يمكن التغيير في أمة لا تتكلم أنتلجنسيتاها اللغة القومية؟ وكيف يمكن التغيير في أمة مازالت تلعب دور وزارة الثقافة فيها القنصليات الأجنبية، والشركات اللبرالية الغربية؟ بل أي ثقافة ستروج لها هذه الجهات؟ وأي فلكلور سنصير في ميزان طرحهم؟ إن شروط التغيير إذن، التي يجب أن توجد، لا تبدأ من الميزانيات والمشاريع والظروف التاريخية... رغم أهمية ذلك، وإنما تبدأ من إرادة الانسان وبمبادرة من الانسان وانطلاقا من مصلحته. لذلك ففي انتظار أن توجد أنتلجنسيا تعي أهمية الجهد الذي ينبغي أن تباشره كي تتحرر من الاستلاب الذي هي عليه، تبقى شروط التغيير قائمة، ولكن في اتجاه الأسوأ!

السلطة محكومة دائما بهاجس خلق التوازنات التي تعود عليها بالفائدة، وجميع ما ليس في مصلجة السلطة فهي تقبل عليه وتتعامل معه بصيغتها. وعموم ما يصدر عن السلطة في هذا الشأن، يمكن اعتباره وسائل للردع، حتى وإن بدا أن السلطة تميط اللتام وتغض الطرف. ففي المغرب مثلا كل آليات الديمقراطية الموجودة هي آليات لخدمة الوضع واستتباب الأمر على ما هو عليه، أكثر من كونها آليات للفعل أو التغيير!

وبحكم المتغيرات الأخيرة التي وقعت على مستوى الخطاب على الأقل من انصاف ومصالحة، وانتخابات أقل تزويرا وملفات المرأة والتنمية وحقوق الانسان... نستنتج أن التغيير لا يكون إلا في مستوى ما يضمن استمرار توازن النظام. والذرائع ما أكثرها لتحقيق هذه التوازنات، الجميل في الأمر هو أن طبيعة المرحلة يتحقق بها الوعي لدى فئة لا بأس بها من النخبة، وعلى رأس هذه النخبة العديد من الصحافيين. لذلك ترى النظام يحارب في مقدمة من يحارب رجال الصحافة وقنوات الاعلام الحرة مستثمرا نفس الذرائع التي حارب بها من قبل أحرار النخبة المناضلة في هذا الوطن. ربما فرخت السلطة أعداد هائلة من العناوين والجرائد، غير ذات مصداقية على الاطلاق، ربما هيأت منذ سنين وأعدت جحافل هائلة من الأميين، مما جعل الكتاب والرواية والقصة والقصيدة في منأى عن القراءة، فأفلست واحدة من أهم وسائل التواصل والتوعية... لكن الأخطر هو الشعار الذي ترفعه السلطة أخيرا: أي شعار محو الأمية! مادامت هذه الأخيرة عائقا وفضيحة شنعاء! لكن أي أمية تلك التي ينبغي أن نمحوها؟ ذلك حتما مجال المضاربات ! لقد ارتكبت السلطة على مدار التاريخ العديد.. العديد من الأخطاء، وربما الكوارث! لذلك فجميل أن تنتبه لأخطاءها كي تعرف ما ينبغي أن تقدم وتأخر. لكن ماذا لو كان الاصلاح هو الآخر برعاية خارجية؟ وماذا لو كان الاعتراف بالاخطاء فقط كائن لتلميع الواجهات الخارجية؟

إن كينونتنا الجماعية تفترض أن نشرك عموم اجتهادات الذوات المشكلة لهذه ـ النحن ـ على مستوى أفقي تواصلي سلمي حر ونزيه. تلتزم فيه كل ذات بمسؤولياتها في علاقتها بالكائن والممكن.. تجاوزا لكل دواليب الاكراه. فهل الأجزاب والنقابات والجمعيات الثقافية وغيرها من الاطارات تتشكل فيها خارطة مصالح وأهداف النحن وفق فاعلية الافراد، الحرة والمسؤولة؟ أم أنها مجال الاستتباع والاستغباء والاقصاء!؟ ذلك هو السؤال الذي ينبغي أن تعالج من خلاله المسألة، لأن كل تكتل جمعوي أسري هو دولة صغيرة، وسؤال السلطة ينبغي أن يبدأ من هناك. 


مبدع من المغرب