يقدم الناقد المغربي أحمد السعيدي رواية "بحر نون" للكاتب عبدالإله بنعرفة، الروائي والباحث في اللسانيات والتصوف والفكر الإسلامي. ويرصد الناقد رمزية حرف "نون" بحمولاته الدينية والتاريخية الجغرافية والصوفية.

«سِفر الخفايا» من مصر إلى المغرب الأقصى

عن رواية "بحر نون لعبد الإله بنعرفة

أحمد السعيدي

اختارت أعمال روائية الاستمداد من رمزية حرف "نون" بحمولاته القرآنية (سورة القلم) والتاريخية الجغرافية (بحر نون وقصة النبي يونس) والصوفية (الإنسان الكامل). ومن بين هذه الروايات: "نون والقلم" للروائي الإيراني جلال آل أحمد، ونون للروائية سحر الموجي و "بحر نون" للروائي المغربي الدكتور عبد الإله بنعرفة، وهو خبير في منظمة الاسيسكو، وباحث في اللسانيات والتصوف والفكر الإسلامي. من إصداراته: رواية "جبل قاف" سنة 2002 في 380 ص. تدخل هذه الرواية وغيرها ضمن صنف الأدب العالِم عامة والرواية العالمة خاصة، وهو صنف يستمدُّ من التراث السردي والتاريخ والتصوف والفكر ولا يبعدها، بمعنى أن الروائي يشتغل لإنجاز روايته كأي باحث في العلوم الإنسانية. من ثم فهذا الصنف من الروائيين مطالبون بقدر كبير من التهمُّم بالتأمل والعكوف على القراءة والاستبطان.. فالأمر متعلق بمجال يتداخل فيه التاريخي بالروائي أو الواقعي بالمتخيل، ومن ذلك هذه النصوص الروائية التي تكتب سيَر شخصيات واقعية أو متخيلة تنتمي إلى النخبتين السياسية والعالِمة: "مجنون الحكم" (عن الحاكم بأمر الله الفاطمي)، و "العلاّمة" (عن ابن خلدون)، بنسالم حميش، "الزيني بركات"، جمال الغيطاني، "الإمـام"، (عن المهدي ابن تومرت) كمال الخمليشي، "ليون الإفريقي" (عن الحسن الوزان الفاسي)، أمين معلوف، "آخر الفرسان" (عن بديع الزمان سعيد النورسي)، فريد الأنصاري..

وقد ذهب الأستاذ بنعرفة في مقدمته لروايته "بحر نون"، وقلة من الروائيين من يقدمون لأعمالهم، إلى بسط بعض انشغالاته وهو يكتب الرواية. فقد سبق أن خصص روايته "جبل قاف" لسيرة ابن عربي الحاتمي. يقول:"يطمح هذا المشروع إلى أن يؤسس رواية أدبية تقوم على ثلاث دِعامات: الأدب العالِم، والمعارف الروحية المتعالية، والخيال الخلاق:

1 ـ اللغة الرفيعة البعيدة عن الإسفاف والتلهيج، والأدب الذي يوظف جل العلوم والمعارف والفنون الممكنة بعيدا عن التلفيق.

2 ـ الاستفادة من التراث الروحي في كل الحضارات الأصيلة وربط ذلك مع الدين القيّم الخاتم المهيمن.

3 ـ توظيف الخيال الخلاّق باعتباره أوسع حضرة للمعرفة، وباعتباره أطلَقَ إدراكٍ في الإنسان.

والروائي عندما يقدم لعمله وأكثر من هذا يبشر بمشروع روائي مطّرد، فإنه يدفع بالقارئ والناقد إلى التماس تطبيق الروائي لما بشّر به وتبنّاه. ويعد تقديم الاستاذ بنعرفة بمثابة بيان روائي يحاول فيه التبشير بـ "أدب جديد" كما وَسَمَه، ولعل مختلف الأحكام الانطباعية والنقدية مرجأة فينظرنا الى حين صدور الجزء الاخير من هذا المشروع، وهي رواية "بلاد صاد".

تبتدئ أحداث الرواية بواسطة استرجاع بلسان الراوي البطل في لقائه بأحد الطلبة في دكانة الكتب بالمغرب، حيث قصد الحج وبعد أوبته منه مرض فاستوطن القاهرة حيث تنبثق الحكاية بعد استقرار البطل في الخانقاه ثم شفائه وزيارته لأهرامات الجيزة، حيث يقف على سر الفراعنة وخلفائهم من حراس المعابد والاهرامات، هذا السر المبثوث في كتاب "سفر الخفايا"، والمعول في كشفه على العالم المغربي في بحثه عنه ببلاد السوس الأقصى بتكليف من حرّاس المعابد الذين كلفوه بذلك لقاء اطلاعه على سرّه، ومن ثم فهو بحث عن آثار الحضارة الأطلسية في جزر الخالدات (الكناري) وسوس (جنوب المغرب) ووادي نون (أو نول) هذه الحضارة التي تحدث عنها أفلاطون في محاوراته مخبرا عن معركة قديمة انتصرت فيها أثينا على قوة عظمى أتت من المحيط الأطلسي.. "وأطلس (= 100) كناية عن ادم الذي علمه الله الأسماء كلها. والأطلس في العربية الرجل لذي في لونه غبرة مائلة إلى السواد، وهي غبرة الصلصال وسواد الحمإ المسنون في أطوار خلق ادم."

من هنا تستهل الرحلة الاثنوغرافية المثيرة للبطل يونس أو نون إلى سوس حيث يوغل في الجو الروحاني هناك حيث الزوايا ومجالس العلماء وأسفار الأسرار، يلتقي بأحد الشيوخ فيسعفه في تتميم بغيته، ويلتقي أخيرا بالملكة نونة وريثة الحضارة الأطلسية حيث تطلعه على تاريخها وأمجادها في الزمان الغابر، وتوكل إليه مهمة البحث عن الجزيرة الموعودة، فيصير البطل قائدا بحريا لسفينة نون ونونة، ويوغل الجمع في بحر نون، فتعترضهم أهوال ومشاق حيث يبتلعهم الحوت كما ابتلع النبي يونس، ويظل من بقي حيا منهم في جوفه يعانون زمانا، قبل أن يلقي بنون ونونة في الجزيرة الأطلسية منفردين كآدم وحواء فينكشف سِفر الخفايا أخيرا.. نقرأ في الرواية:"فاعلم يا سيدي أننا نريد منك أن تعثر لنا على كتاب قديم عنوانه "سفر الخفايا" ضاع منا في ظروف غامضة، ولا نعلم مستقره الآن. وأملنا أن تعثر عليه لأن فيه تاريخ امتنا، ويحكي قصة المصريين القدماء.. لقد كتبه احد الهرامسة منذ زمن بعيد وكنا نتوارثه حتى سرق منا. والكتاب الأصلي كتب بلغة الفراعنة، وكان ضمن كتب كنوز مكتبة الاسكندرية، ونجا من الحريق الذي أودى بها، ثم ترجم إلى القبطية بعد ذلك حين ضاع اللسان الأول. ومن القبطية ترجم للعربية.. وقد سرق الكتاب بعد الحملة الفرنسية على مصر أيام محمد علي.. واشتراه احد الكتبيين من اسرقه ثم باعه في المغرب. ثم إن ذلك الرجل أهداه هو الآخر إلى أحد شيوخ المغرب العلماء في بلاد السوس الأقصى وهو آخر عهد به لحد الآن." (بحر نون: 23 ـ 24).

وقد استطاع الأستاذ بنعرفة صياغة رواية مغايرة للنمط الواقعي المألوف، هي رواية جمعت في قالب واحد الفكر والتاريخ والأدب والفلسفة والتصوف وأدب الأسمار والمناجاة والأحاجي والسيمياء (علم أسرار الحروف) وحساب الجُمَّل.. مع إلمام كبير بتفاصيل حضارية كثيرة في الملبس والمأكل والمشرب والزينة والسكنى والتعبير.. في مصر (ترانيم الخروج إلى النهار مثلا) والمغرب خصوصا. يقول الأستاذ بنعرفة عن الرواية:"فهي تتحدث عن بحر نون الذي هو بحر الحقائق وعلم الإجمال المودَعُ في كتاب الوجود. وإن تعددت الشخوص، فشخص الرواية الرئيس هو حقيقة الإنسان الكامل." ص. 7 وقارئ "بحر نون" يحس بحضور التراث السردي فيها كألف ليلة وليلة وأدب الأسمار والمقامات وأدب الصوفية المفعم بالرمزية والعجيب والغريب.. كما يقف على قدرة الروائي بنعرفة على صنع الوقفات الوصفية في النص وأكثر من ذلك قدرته على إثارة القارئ وتشويقه بأحداث رحلة نون في بحر نون. وبعد "جبل قاف" و "بحر نون" سيصدر للأستاذ بنعرفة استكمالا لمشروعه رواية "بِلادُ صاد" التي تناظر ـ حسب الروائي ـ رسالة لابن سبعين علي مستوي النظم. وهي أول مرة يكشف فيها عن أسرار موشحة الششتري العجيبة. ومما جاء في أحد أبيات الدعاء الناصري للشيخ امَحمد ابن ناصر الدرعي: 


واجْعَلْ بِصادٍ وَبِقافٍ وَبِنونْ *** أَلْفَ حِجابٍ مِنْ وَرائِها يَكُونْ

كاتب من المغرب
ــــــــــــــــــــــــــــــ
* "بحر نون أو رحلة البحث عن الجزيرة الأطلسية"، رواية، د. عبد الإله بنعرفة، دار الأمان للطباعة والنشر، الرباط، 2007، 223 ص من القطع الصغير.