هاتان قصيدتان من طرديات عبدالله التي يعود فيها الشاعر إلى عالمه الريفي الأثير، حيث يتحدث الطمي وتنطق الأساطير، فيتعامل مع مفرداته بشعرية فائقة ترتفع بها إلى سماوات المجاز والرمز، وتشحنها بطاقات تعبيرية ودلالية متراكبة.

قصيـدتـان

محمد عفيفي مطر

مواسم الصيد
دودة مسمومة يلقطها الهدهد في غفْلته
ـ وهو كليم الأنبياء
وحفيظ السر عراف بأخبار اليقينِ
لم يكدْ حتي ارتوتْ نمنمة الألوان بالشمس،
ودبٌّت نشوة الخفة والسم البطيء
بجناحيه، ورفٌّتْ نسمة في خفقة أو خفقتين
فهوي منتفضّ الزينة،
والثعلب يرنو من حقول القطن
في وثبة قنْص سانح ينقضٌ
فالهدهد فيِ شدقيه مطحون العظام
رفع الذيل وولي هاربا
في وثبة أو وثبتين
كان منفوخا ومفضوحّ الرميم
تحمل الريح نداءاتِ اشتهاء لخشاش الأرض،
كلب يرفع المعْطسّ، يهديه الشٌّميم
فرٌّ من رِبْقّتِه يعويِ ويعدو،
وارتمي يعْرق أو يْحضم أو ينهش
ـ من جوعي مقيم ـ
فلذة أو فلذتين
وارتمي حيث اشتهي تخصبه الريح بجمر القيظ،
واستلْقي بقايا ميتي فوق بقايا ميتي
وانتبه الثعبان فيِ مكمنه بين شقوق الأرض
فازٌّاحفّ وانصبٌّ انصبابّ المرمر اللين فيِ قلب الظلام
عضٌ واسترخي، فقد أفرغ نابيه
ـ وسمٌ الصل لا يقتله ـ
أتْخمه اللحم فلم يقدرْ علي زحفي، فنام
مثلما ينْعّس حبْل مرتخي فيِ ليفه،
حتي ارتأتْه حِدأة حوٌّامة فيِ أفق الصبح
فحطتْ كالشهاب
تنْقف الرأسّ وفيِ مخلبها ينتثر الحبل
فتطويه وتعلو للسحاب
يتدلٌّي ميتا،
يقعي وراء القش صياد وعيناه علي الحدأة،
دّوٌّتْ طلقة باترة التهديفِ..
والحدأة تهوي
ظلها يفترش الأرض
فلا تخرجْ لهذا الصيد
عبدالله لا يسمع ما أحكي
ويصغي لدماه
قلتْ: يا عمري الذي أولْه أنتّ
أمنذور لصيدي لا يري؟
قال: أراه
شاردا منذهلا بين سماوات وأرض
فاحتطبْ من حطب الأيام فيِ مّجْمّرة الأحرف
واسمعْ
وانتظرْنيّ

13/ 8/ 2007م
رملة الأنجب


مراوغة الغراب
وجه الضحي ذهب
تعلو من الأفق الأقصي مراياه
والطير بعض شظايا ظلمةي تركتْ أظفارها
فيِ أديم الضوء رفرفة تعلو وتهبط
والغربان غّوْغّقّة ترتجٌ منها
رؤوس النخل والشجر
والشمس تنفخ من أنفاسها صخبا ملءّ السماء
وملءّ السمع والبصرِ
أمي، وقد سمعّتْ، تومي وتكشف ما
يطوي عليه كلام الله فيِ السورِ:
هذا ابن آدمّ يغْلي في خوالجه
كِبْر الصغيرِ وطغيان الغرائز والأهواءِ من
حسدي يمور مّوْرّدمي فيِ عاصف الشررِ
مدٌّ القتيل يديه قبل مقْتله
بالخبز فوق إناء الماء
فاندلعْت من ومْضّةِ الغدر سكين
مشّطٌّبّة علي الضغينة،
والغربان شاهدة
تري القتيلّ علي أكتاف قاتله،
تصغي لغرغرة الحصْباء تّشْرّق من هواطله.
قالت: فكلٌ دمي من يومها نطّف
تسري مواريثّ فيِ الأّصلاب
تّدْفق ما بين الترائبِ،
ما من جمرةي وّقّضّتْ فيِ دمع ثاكلةي مدي الدهور
سوي أطيافِ ذاكرةي من دمع حواءّ
فيِ الآماق ترتحل
جيلا فجيلا، وفي الثٌارات تشتعل
قلت: الضحي ذهب قد شقٌّقّتْه غرابيب الشهودِ
وشقٌّتْ غاق مرثيتي عمقّ الفضا
والصدى ترتجٌ منه رؤوس النخل والشجرِ
ظلي علي الأرض ممدود.. يروٌِعني:
هذا أنا.. فمن انْحلٌّتْ مفاصله،
أّرْخي يديه، علي كتفيٌّ ينهدل?!
هل كنت أحمله حتي أفرٌّ به عبر التواريخ
والغربان شاهدة أن التواريخّ
مّجْلي القتل مجزرة في إثر مجزرة?!
قلت احتمله علي الأكتاف واصطبر
ماثّمٌّ بين سوأة تعلو معٌّرتها
عن سوأة الدفنِ في النسيان والحفرِ

28/ 8/ 2007م