تدير قصة الكاتب الأردني هنا تناصها الثري مع رواية (رجال في الشمس) لغسان كنفاني، ومع نصوص أخرى ليساهم التناص في تركيز التعبير السردي من جهة، وليعكس الحاضر على مرايا الماضي من جهة أخرى مؤكدا أن ما كان مرفوضا قبل نصف قرن لايمكن أن يكون مقبولا الآن. مع أننا لم نتحرك قيد انملة للأمام.

الفارس الأخير داخل خَزَّانٍ بلا جدران

هشام البستاني

لشوارعَ ترحل خلف الرغيفِ،
وتغرقُ في صافِرات الشُّرَطْ
سأقولُ فقطْ:
متعبٌ من قراءة كَفي،
وسطرٍ طويلٍ من الرفض دون نُقطْ
متعبٌ... متعبٌ من زماني الغَلَط.
محمد لافي، "بيان 2" 

عينان متعبتان مجللتان بالسواد، تنظران إلى الأعلى.. الأعـلـى... ا ل أ ع ل ى... 

ماذا تريد أن ترى أيها المجهَد؟ ماذا تريد يداك الممتدتان إلى ما خلف الشفق الأحمر؟ ماذا يريد صدرك المشرع في وجه ريح الشمال الباردة؟ 

*      *      *      * 

كان يجلس، رأسه بين يديه: يُقلّبه، يُفكفكه، يَخُضّه، يُدحرجُه، ولكن لا سبيل للخلاص من ذلك الصداع. ليس ألماً أو ضغطاً. شعورٌ غريبٌ غير مريحٍ بتاتاً: تقلّب الأفكار والأحداث والأيام في الداخل كما لو أنها تتصارع، تلحق بعضها بعضاً داخل الفراغ المحاط بجمجمة، تضرب الجدران باستمرار. "لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟!"*. ولكنهم دقوا، ويدقون، ولا يموتون تحت الشمس الجحيمية. 

رنين عابر: رسالة. "أين هو غزل ما بعد الحداثة؟!". يرمي الخلوي بعيداً، فلولاها ما كان القلق. برهةٌ ثم رنين مستمر، يظهر اسمها ملوناً ومضيئاً، "لن أرد"، ويرمي بالخلوي بعيداً مرة أخرى.  

قديماً كتب على الشاشة الزرقاء:
أحياناً، تكون مظلمة،
في الداخل،
في الخارج.
تحت قدميك حفرة بلا قرار،
ولكنك لا تسقط أبداً.
مُعلّقٌ.
شَبَحِيٌّ.
لا شيء. 

لكن الرنين لا يتوقف أبداً، تغلغل في النخاع الملتف، وانضم إلى مجموعة المتقاتلين. قام، أدار قطعة معدنية فانهال عليه شلالٌ من ماء بارد، طأطأ رأسه وأحس بنقاط ثلجية تتساقط عن طرف أنفه، ساحت أفكاره ولفت بلولبية إلى داخل البالوعة، لم يعد يشعر بالمعركة. 

عندما خرج، لم يجد الغرف، ولا البيت، ولا الحديقة، ولا هاتفه الخلوي، ولا الليل ولا النجوم. سواد مطبق يحيط به كاسطوانة، وفي القرب صوت لهاث ثلاثة أشخاص، أحدهم يقول: "هل نضرب جدار الخزان، إننا نموت؟"، والاثنان الآخران يقولان: "لا يا ابن الزانية، ستفضحنا، ونعود جميعاً إلى حيث أتينا، اصبر إن الله مع الصابرين". وما أن انتهت الجملة حتى مات الثلاثة اختناقاً. سمع صوته: 

"فماذا ترقبُ يا ابن العبدِ؟!
أن تعبر فوق بقاياكَ الخيلُ
وينكركَ الفرسانْ؟
أن يتوحد فيك الضِدّانْ
فتُصلب بين الحانة والحانةِ
يشرب من دمك الشعراءُ
الشحاذون؟"** 

بصق على الجثث، وقفز داخل البالوعة مسرعاً، وطفق يلملم أفكاره وصداعه الغريب، وتردد صوته في المزاريب: 

"من يملك عنقاً لا تحُنى
بل تُكسر
يَتبعني"** 

في انسيابه لم يصطدم إلا بجرذان وصراصير. انتظرهم طويلاً، فلم يأت أحد. عاد إلى حيث كان، جلس ورأسه بين يديه: يُقلّبه، يُفكفكه، يَخضّه، يُدحرجه..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* غسان كنفاني، "رجال في الشمس".
* فاضل العزبي، "شاعر".
 

القصة من مجموعة "عن الحب والموت" والصادرة مؤخراً عن دار الفارابي.