تسعى هذه القصة للروائي والقاص المصري المرموق لتفعيل جدلية القص/ التأريخ، فتعود إلى مظاهرات 1977 الشهيرة في نوع من الحفر الأركيولوجي فيما أصاب النفس المصرية من خنوع، والكشف عن بذور هزيمتها المؤلمة.

الخُـبز

محمد عبد السلام العمرى

كانت هناك رغبة فى تلافى الانفجار المبكر فى الشوارع الخلفية، أذاعوا نشرة تمتص غضب الجماهير المحتشدة بالإلغاء الكامل للزيادات المقررة على الخبز، وبقية المواد التموينية اللازمة للمعيشة، وقد اقتنعوا أن الخطأ الوحيد الذى ينبغى على رجل متمتع بالسلطة والنفوذ ألا يقترفه فى حياته ولو مرة واحدة، هو أن يفرض أمراً بدون أن يكون متيقناً من إطاعته. ثم أعلنوا فى وقت لاحق حظر التجول قبل صلاة مغرب هذا اليوم من ذلك الشتاء القارس البرودة، نزلت دبابات الحرب إلى الشوارع. قرأ عمرو "نصر مبين وفتح قريب"، وعلى دبابة أخرى "إن جند الله هم الغالبون"، وبجوارها "الله أكبر"، بدت مواكب الدبابات التى تجوب شوارع القاهرة كأنها استعراض أو تدريب، كانت الدبابات تركض وتقفز، انضغطت الشوارع وتكسرت وبانت عوراتها وسوءاتها مليئة بالحفر والفجوات، بدت الأنياب الفولاذية لجنازيرها باترة. دبابات حقيقية وجنود حقيقيون، خوذات على رؤوسهم، جزء من تخطيط متكامل، أذاعت وكالات الأنباء برقيات تفيد أن كل منافذ ومداخل القاهرة قد أغلقت، ورأى وحدات المشاة الميكانيكية، قوات الصاعقة والشرطة العسكرية، يشيرون بصمت إلى المتظاهرين أن يلزموا الشوارع الجانبية إلى منازلهم، مدججين بأسلحتهم تحت حماية خوذاتهم وأجسادهم المختارة بعناية.

هناك فرقعة لأسلحة، ورغبة مجنونة متبادلة بين الشعب وأجهزة الحكم القمعية، تبودلت الاشتباكات التى بدأت سلمية، لكن عند المغيب، وبعد صلاة العشاء جاءت فصائل الحرق، ومجموعات التخريب المدربة حاملة أجنات حديدية، مقتحمة أقسام الشرطة، حارقة إياها بكرات قطن مشبعة بالكيروسين، يزداد اشتعال نيرانها تحت تأثير هواء اليوم البارد ورياحه. رغم حظر التجول دبت الفوضى وسادت أرجاء القاهرة والمدن الكبرى، سمع طلقات الرصاص وكانت الميكروفونات الخاصة بالفرق المتعددة لمقاومة الشغب تذيع باستمرار عن وجوب التزام قرارات حظر التجول، مع فجر ذلك اليوم خلت الشوارع تماما من المظاهرات. ظنت فصائل القمع أنها فى حالة حرب، فنفذوا التعليمات الواضحة، وعمت الفوضى فى صفوفهم إلى حين نبههم رؤساؤهم إلى أهمية الحفاظ على أسلحتهم المهجورة، أصدر الحاكم العسكرى لمدينة القاهرة أوامره ضربا بالذخيرة الحية، بادئا بالقنابل الدخانية. ثم بالمسيلة للدموع والتى ملأت سماء القاهرة وشوارعها بالدخان والدموع، وفاجأه لغط العامة فى الشوارع، كانت النوافذ تفتح وتغلق على كرات من نار ناشرة الرعب بين سكان المنازل طوال الليل، بينما كان سرب هلع من طيور الحمام يخترق سماء يناير المحملة بالغيوم والظلال الرمادية. رأى الذين فتحوا شيش شبابيكهم الدخان المتصاعد والنيران المشتعلة فى أجساد الحمام والطيور، أبى قردان والعصافير التى تفرك عيونها من الدخان بمخالبها، كانت الطيور تبكى، وعددها المتكاثر المشتعل نقل الحرائق إلى أماكن كثيرة أخرى.

كانت تطفو وتختبئ عندما يظهر الدخان، ثم تتجمع فجأة فى انفجار جماعى مكتوم، تزخ زرقها الأبيض على القصر الجمهورى، يهتفون بسقوط أشهر موديل فى العالم، وينددون بموقف كبير العائلة، نصير الأمريكان. كأن الجموع قد استيقظت على أهم حدث فى العالم بعد حرب أكتوبر، تزداد ثورة الخبز اشتعالاً فيما كان العسكر قرروا ولهم الشرف العظيم تنفيذ أوامره المستمدة من تعليمات صندوق النقد بألا يخرج أحد سليماً أو نظيفاً من هذه المؤامرة، فعزفت الرشاشات الأناشيد المميتة فى الشوارع الجانبية، وأمام أبواب المنازل، قضوا على الذين حاولوا الهرب إلى الشوارع الرئيسية، اصطادوا مثل العصافير هؤلاء الذين كانوا ينظرون من خلف شيش الشبابيك والبلكونات، ازدادت كثافة القنابل الدخانية، والمسيلة للدموع، والقنابل الفسفورية، أجهزوا على الجرحى، لأن كل متبق من الحياة حسب أوامره هو عدو لدود لها، استعانوا بالكلابات التى تخترق أعضاء الذكورة، والزواحف المقرفة التى تنزلق فى فروج النساء.

كانت المدة المتبقية على انتهاء إجازة عمرو الشرنوبى أياماً قليلة، عن له أن يذهب إلى المسرح. فحجز لمسرحية (على بيه مظهر) فى مسرح 26 يوليو بالزمالك، تلقى المسرحية نجاحاً كبيراً، تصادف أن ليلة السهر وافقت اشتعال المظاهرات، وكانت إجازته سلسلة من الفشل المتلاحق خاصة موضوع ليلى، ود لو كانت معه تلك الليلة، وود قبل ذلك أن تكون معه فى إجازته وفى سفره أيضاً، بعد محاولات مضنية ورفض قاطع لأسباب عديدة منها هذا الاكتساح اللامعقول لكل شئ، وهذا الغليان، رضيت أخته أن تذهب معه، لكن ما حدث أكد أن رفضها الذهاب معه كان قمة العقل، لأن خروجها بعد صلاة العشاء كاد يودى بحياتهما معاً، حاول محاولات عديدة ومستميتة الذهاب إلى المسرح من ناحية القصر الجمهورى فى حدائق القبة، كان محاصراً بأعداد غفيرة، وبزحام لم يسبق له مثيل ولم يشاهده إلا فى جنازة عبد الناصر، منع أى إنسان من الحركة، فالتاكسى الذى استقلاه قام بمحاولات مستميته من عدة طرق جانبية وبدا كالبهلوان أو لاعب الأكروبات، إلا أن نظرية الأوانى المستطرقة تم الاعتراف بها فى أكمل صورة، الشوارع الضيقة والأزقة تصب فى الشوارع الرئيسية المكدسة، والتى لا يستطيع أن يخترقها أحد، كلما حاولا النفاذ بالحيلة من أماكن ضيقة أخرى قادتهما إلى نفس الشوارع، ونفس الزحام، لقد خرج الناس جميعاً بلا استثناء أطفالاً ورجالاً ونساءً فى ثورة عارمة لم يسبق أن رأى لها مثيلاً على مدى عمره، المحاولة الأخرى التى حاولها كانت عن طريق مصر والسودان ومنشية الصدر ومترو مصر الجديدة. وبدا أن تنقلاتهما قد أصابت قليلاً من النجاح عندما وصلا إلى ميدان التحرير، وجداه يتماوج ويندفق، أصبح الجمع مضغوطاً كأنه جسد واحد.

فى البداية كانت المظاهرات سلمية، لم يعرف لماذا تدخل الأمن المركزى الذى أطلق بعض جنوده الرصاص على دوائر الطلبة، اندس فيها من أشعل ثورة الثأر لزميل لهم قتل عشوائياً، تناثرت طلقات الرصاص، ورد الفعل المضاد، دوائر الطلبة محاطة بسياج من الحبال حتى لا ينضم إليهم غريب، وعندما انفك السياج تلاحمت الدوائر ببعضها، أحدثت هذا الزحام الذى يزداد كثافة بلا رحمة. تزداد مفاجآت ليلتهم، قالت أخته إن ليلتهما سوداء، الله يلعن المسرح وأبا (على بيه مظهر) يا أخى، أخرجنا من هذه النار! كانت ناراً حقاً تدفقت من ناحية الهيلتون والجامعة الأمريكية، وكوبرى قصر النيل وشارع قصر النيل والقصر العينى، وطلعت حرب، وبدا كأنه حصار لا فكاك منه، نيران، قنابل مسيلة للدموع، قنابل فسفورية، قنابل دخانية وغازية، تركوا لهم فجوات فى الشوارع حتى يتسللوا منها، أمكن لبعضهم التسلل فى جماعات صغيرة، عملوا دوائر رفضهم الخاصة، وهتافاتهم الخاصة، وحرائقهم الخاصة، أتلفوا العديد من المنشآت العامة، وسيارات النقل والسيارات الخاصة، وأقسام الشرطة، وسياراتها، وبعض المحلات التجارية والفنادق، أشعلوا النيران فى المبانى والمؤسسات الصحفية.

تمسك بيده ترجوه أن يسرع من هذا المكان، تريد هواء نقياً، الدخان يملأ المكان، يجرون كيفما اتفق، تطاردهم هراوات وعصى الأمن المركزى، لا تفرق بين رجل وامرأة، بين طفل وشاب، بدت السيارات المحترقة فى ظلام الليل وبرودته كأنها قنابل موقوتة، ترسل تكتكات وانفجارات مدوية واحدة إثر الأخرى فور انفجارات تنكات بنزينها. الطوفانات البشرية حددت مساراتهما، لم يعرفا أنهما فى شارع طلعت حرب إلا عندما رأى تمثاله واقفاً فى الميدان، نال الشارع من التخريب ما لم ينله فى حريق 26 يناير.. هل يناير شهر حريق القاهرة؟ حاول أن يفلت إلى (صبرى أبو علم) أو إلى (قصر النيل) بلا جدوى، يريد فقط أن يتخلص من هذا الزحام. كانت قوات الأمن المركزى تطاردهم، ترسل هذيانا من طلقات الجريند فى الهواء للإرهاب والإنذار والتحذير، لا يدرى أى مكان يريدون محاصرتهم فيه، كلما ازداد بعداً عن مكان، وجد من يقوم بمهمة مطاردتهم، والذين يرغبون فى الخلاص من هذا الزحام لا يجدون مكاناً يتفرقون فيه، يسلمونهم من جماعة أمنية إلى جماعة أخرى، أحس رجال الأمن بعدم إطاعة أوامرهم، وبعد امتثال الغوغاء والعامة والحرامية لهم، فاضطروا إلى إطلاق الرش فى الأرجل، وإطلاق النيران فى أى مكان، أوامر واضحة وصريحة، وجدا نفساهما مرة أخرى فى ميدان التحرير أمام الجامعة الأمريكية، التقط كل من أجبر على المجئ حجارة وطوبا، وقذفوها بها.

قدرته على السرعة والحركة لم تعد كما كانت، آلام مبرحة تنبعث من ساقه اليمنى، ثمة دم لزج ينحدر من سمانة ساقه، عرف وصمت، لم يقل لأخته حتى لا تلطم خديها، تركن إلى أحد الأسوار، ترسل دعواتها وتوسلاتها إلى الله، ولعناتها على الجامعة الأمريكية. تذكر الدولارات الأمريكية المئوية الخضراء التى ينثرها بدو "جارثيا" على نجوى فؤاد ليلة رأس السنة، والدولارات التى أشعلت سجائرها وسجائرهم. فى وسط ميدان التحرير، وبجوار القاعدة التى كانت أساساً لتمثال عبد الناصر اشتعلت النيران وتأججت، ووجدت من يغذيها رغم حصار القنابل وطلقات النيران من جميع الجهات، تمتلئ سطوح العمارات بالجنود المدربين على القفز، وحبال السلالم متدلية، وسيارات المطافئ جاهزة، ترسل عيونها بريقاً نارياً مخيفا، تتقاطع مع الومضات البرقية لطلقات الذخيرة الحية، النيران تتأجج، تغذيها أوراق الجرائد وسجلات الموظفين بمجمع التحرير وأوراق القضاة والسجلات الكثيرة لعتاة المجرمين.

بدا البرد والمطر عاملين على انكماش وتداخل الجمع فى بعضه، الذين يشعلون الحرائق يقترب منهم الذين يغذونها بالأوراق، وجنود الأمن المركزى أصبحوا بمرور الوقت متعاطفين تعاطفاً سلبياً، تطور إلى تعاطف إيجابى بعد اقتناعهم بأنهم هم بالتحديد الضحية الأولى، فاشترك البعض منهم فى تخريب ونهب شركة عمر أفندى بالقرب من ميدان التحرير رغم أنها ملك لهم، أحضروا القطن وكثيرا من البذلات، ملأوا ثلاثا منه بالأقطان، عملوا ثلاثة تماثيل بالحجم الطبيعى رموزاً لكل من السادات وكارتر وبيجن، أوقفوها بثبات، أشعلوا خلفها نيراناً زغردت لمشاهدة التماثيل، رأى المُشاهد من الأمام تباينا واضحاً بين هذه النيران المشتعلة التى تلقى بظلال كثيفة على التماثيل التى ظهرت من الجهة الأخرى مظلمة، يستمتعون بحرق التماثيل التى لم تقربها النيران إلا بعد فترة، تماثيل تجسد سلسلة لا تنتهى من الوسائل الشنيعة المستخدمة من قبل نظام الجرائم الفظيعة هذا، تشتعل النيران فى الدمى فتتكتك وترتعش وتترنح ساقطة ألماً، ملطخة بدموعها وبرازها، أعدوا دمى كثيرة وبلا عدد، ثبتوا ثلاث دمى أخرى أكثر تماسكاً، وتنفيذها أكثر جودة.

مع حلول فجر يومهم بدا الناس أكثر تعباً، وأكثر سلاسة، سمعوا الأصوات الجماعية تغنى مقاومة للأسعار والغلاء والفساد والتطبيع. تدربوا ولديهم خبرة ولدت تحت تأثير القمع، لم يمل الحديث عن العيب قبل أن يصدر قانوناً بشأنه فيما بعد، ولم يمل تكرار الكلام عن العائلة قبل أن يصبح كبيرها، ولم يمل الحديث فى كل شئ قبل أن يصبح آخر الزعماء الفراعين. بدت رائحة البارود والدخان والقنابل المسيلة للدموع كرائحة الكبريتات المعالجة لمرض الجرب، سماء القاهرة ملأى بتلك الروائح التى اختلطت وتكاثفت، وعلقت فى الجو وثبتت، كانا يتنسمان هبة ريح أو نسمة أو لسعة برد، كان الجو مكتوماً ومختمراً، حاراً وحارقاً، يجتاح المكان المحاصر برق من الذعر، كانت الحشود تزوم وترتعد وتتحرك فى اتجاهات محددة، تروح ثم تجئ جماعياً كتلة واحدة، تغنى أغانى الليالى المنسية الساقطة من الذاكرة تلقائياً، أغانى الأيام القادمة التى بدا بزوغ نهارها شاحباً. سمعوا وشيش محركات طائرات عمودية قادمة، الصوت بعيد إلا أنه يقترب ويبتعد، ثم رأوا هذه الطائرات قادمة من جميع الاتجاهات فى وقت واحد، كل طائرة تحمل بالوناً منتفخاً وضخما، عليه صور الرؤساء الثلاثة الذين تم حرق دماهم. تتشكل الطائرات تحت تأثير إضاءة ذاتية فى الجو على شكل أعلام رؤساء تلك الدول، رأوا صقر قريش يتوسط عدداً من البالونات المدلاة، تشكل ألواناً ثلاثة للعلم المصرى، ثم شكلت الطائرات النجمة السداسية، ثم جاءت طائرات كثيرة ببالونات كثيرة وألوان زرقاء وحمراء وبيضاء لتشكل واحدة وخمسين نجمة رمزاً للعلم الأمريكى.

ازدحمت سماء الميدان بالأعلام التى لا نظير لها، وخوفاً من أن تحدث كارثة تصادم طائرات أمريكية، انسحبت الطائرات الطرفية لتقوم بمهام أخرى، وبقيت عدة طائرات، تحتل كل واحدة أحد المنافذ المؤدية إلى ميدان التحرير، وفى استعراض متعمد أنزلت طائرة تمثالاً مجسماً لأحد الرؤساء، ماسكاً بيده البالون، اقتربت الطائرات من بعضها ليجد المشاهدون ستة مجسمات تسبح فى الهواء، يمسكون بعضهم بعضاً، كل رئيس له مجسمان، تحرسهم الطائرات، ثم التقط كل مجسم بالونا وانزلق إلى داخله ثم انزلقت البالونات إلى داخل الطائرات، ثم جئ برذاذ مائى خفيف أقرب إلى رغاوى الصابون، أحس الجميع بذلك لحظة، مدة زمنية لا تتجاوز الدقائق الخمس، ثم سقطوا جميعاً مغشياً عليهم، مكومين على بعضهم البعض، أضحى الصخب الذى كان يعم ميدان التحرير نوماً أبدياً، هادئاً وعميقاً.

كأنه ميدان الموتى، وخوفاً من أن تكون الغازات أثرت على أعصاب الجمع بقوة غير مألوفة، وحتى لا تستطيع وكالات الأنباء أن تبث أخباراً عن الموت الجماعى فى الميادين العامة بغازات الأعصاب، اختبروا قوة الغاز المضاد الذى أرسلوه سائلا من الطائرات عينها، فاستيقظوا فاركين عيونهم، كان كابوساً جماعياً دمر حاسة الانتباه لديهم فى وقت واحد، وكأن غطيطهم قد استغرق عشرات السنين، وعندما تأكدوا من قدرة مفعول الغاز المهدئ حتى النوم، والغاز المنبه حتى القلق، رشوا الغاز الثالث الذى أحدث خدراً جماعياً، وهدوءاً لحد الاسترخاء وعدم القدرة على الحركة، وعدم القدرة على رفع الأيدى، ووجدوا أنفسهم هادئين، جالسين، غير مهمومين، وغير فرحين، بلا أية رغبة فى أى شئ، ثم غازاً رابعاً، رغم خدرهم شموا لأنفسهم من تأثيره رائحة نتنة. لأنه أثار إسهالاً لا يقهر، قمين من النتن والبهدلة، يردع الأحرار والثوار وأصحاب القضايا.

بدا الشك فى أحلامه، وفى مستقبل وطنه، اقتنع بأن الهجمة شرسة، وبأن الدكتاتورية ليست بالمرحلة المؤقتة على طريق التطور، وإنما هى المرحلة الأخيرة فى طريق الظلم الذى فرضه هؤلاء الناس. استندوا فى قمعهم الشعب إلى انتصارات حققها الشعب فى المقام الأول، وزعت منشورات تنادى بما ينادى به بريخت، نناشدكم ألا تقولوا هذا أمر طبيعى، حتى لا يستعصى شئ على التغيير. بدوا فى الميدان كفئران تجارب تم اصطيادها، واللعب بها، كما يريد دكاترة المعامل القاتلة، وبدت الرسالة واضحة ومفهومة، كلما استجمع أحدهم أية قدرة وحاول القيام سقط ثانية تحت تأثير مفعول المخدر طويل المدى. كانوا كالقطيع يؤمرون فيسمعون، غير قادرين على الاختيار، وعلى إبداء الرأى، ومثل ما يحدث فى الأحلام وفى الأفلام حدث ما هو أكثر من الخيال، إذ إن مياه النيل رغم تحاريق الشتاء فاضت، ثم ارتفعت كأمواج عاتية لتنحدر وتكتسح ميدان التحرير والناس الذين فيه، أفاقوا تحت تأثير مياه ثلجية باردة وسمك نيلى طازج، انتصبوا جميعاً وقوفاً، اندهشوا لوجود هذه المياه، رجعت إليهم ذاكرتهم التى فقدوها إلى حين، فعرفوا لماذا هم هنا فى الميدان، ثم فوجئوا بارتفاعهم عن الأرض شيئاً فشيئاً، نظروا وجدوا الأرض أنبتت قمحاً له قدرة رفعهم إلى أعلى، ثم نبت القمح على رؤوسهم وعلى ملابسهم، ثم على حوائط المبانى، وشكل أرضاً مستوية أعلى رؤوسهم، حجبت عنهم الطائرات ودخان قنابلها، وجاءهم هواء نقى منعش، وجاءتهم شمسهم الخاصة بازغة وغير مخنوقة، ثم أرعدت السماء وأزبدت، وارسلت طوفانات من الأمطار، اتسقت جميعها ورتبت وجودها مع كميات جديدة من طلقات الرش، وقنابل الدخان، وقنابل الغاز، ومع بداية يوم جديد، وخدر النوم والقنابل انساقت الجموع مرة أخرى وتفرقت، وبدا الآن تفرقها سلساً وسهلاً.

كانت عيدان القمح قد أيرقت وتزهزهت، وظهرت سنابلها الذهبية التى تم حصادها ودراسها وطحنها وعجنها وخبزها، ليأتى الخبز طازجاً وساخناً فى هذا البرد القارس، خبز متوهج قابب، ملدن، لا يحتاج إلا من يأكله، يمسكون الأرغفة الساخنة بأيديهم ويجرون متفرقين، وهى معه منهكة تماماً، فقدت القدرة على التفكير والمقاومة فانساقت، بدا أن فى الأمر انفراجه ما، فتحت تأثير طاقة الخبز الطازج اجتاحت الجموع قدرة مقاومة وطاقة جديدة، قررت أن تذهب إلى المنزل الآن، لن تنتظره مرة أخرى، لن تقف بجواره، لن تعتمد عليه، لأن ليلتها تلك فعلاً أسود ليلة فى حياتها، أو هى الليلة السوداء الأولى فى حياتها، تتمزق تمزقاً من نوع خاص، طارت بكل ما تملك من هذا العطف الأمومى القاتل إلى ابنتها التى أوصت أمها بها. بدا أن كل شئ يحدث لأول مرة، رأى وشارك فى مظاهرات 68 ومظاهرات الطلبة عام 72، أما هذه فثورة شعبية اتفق الجميع عليها، خرجوا فى غضبة كاسحة جامحة، جارفة.

كان قلقها على ابنتها مفزعاً، لم تهدئ توترها الألعاب الأكروباتية للرؤساء الثلاثة أثناء طيرانهم الذى استمر طويلاً، فساعد اشتعال النيران فى دماهم على ازدياد توترها وقلقها، المواصلات حرقت وتعطلت، وسدت الطرق، لاح لها عند متحف الآثار مرور مترو مصر الجديدة، اندفعت بلا هوادة، اندفع خلفها إلى أن اطمأن، وقف بجوارها، ثم جلسا، تكدس المترو فى المحطات التالية إلى أن وصل محطة جامعة عين شمس بعد توقف متكرر وعناء شديد. اندفعت إلى ابنتها باكية قائلة: توبة والله توبة، لن أسمع كلامه مرة ثانية. منذ هدأت بدأت تشم لنفسها رائحة غريبة، نفرت الابنة منها، مترددة فى المجئ إليها، رائحة من دخان قنابل وبارود وخدر، لاحظت شرابها الذى تنز منه مياه النيل، تأتى إليها ابنتها باكية، وأحياناً جائعة، وأحياناً ترغب فى تغيير حفاضتها المبلولة، توالت طلباتها الكثيرة، سمعتها تقول لأبيها "خش بره". دموع ابنتها دموع مؤلمة وقاسية، يقابلها هذه الشفافية، وهذه اللهفة لقلبها على ابنتها.

أحست أنها كانت تملك العالم وفقدته هذه الليلة، سجينة عمرها الآتى، فتحت أمامها رؤية أشمل وأوسع لكيفية محافظتها على أسرتها التى لم تع قيمتها وكم افتقدتها، وإذا ما رجعت إليها فلن تخذلها مطلقاً، يالله كم كانت غبية، حتى أنها لم تقدر التقدير المناسب لمعرفة قيمة أن يكون لك عائلة صغيرة، افتقدت لسنوات طويلة قادمة الأمن والأمان، وعرفت قيمة ما هى فيه. بدأت تحيط أسرتها بأمان خاص، تسرع بإحداث بهجتها المؤجلة واستدعائها، وتسرع إلى بهجتها القادمة، وفى رؤية مستقبلية أعطت الابنة كل الجرعات اللازمة لإحداث سعادتها وبهجتها، إذا هى تركتها لأمر ما خارج نطاق إرادتها. أحدثت هذه الفكرة قلقاً من نوع آخر، قلق الرحيل عنوة، قلق السجون والمعتقلات، وتذكرت طائرات ميدان التحرير. والفلاشات التى أحدثتها الدمى السابحة عبر آلاتها غير المرئية، وأنها بالتأكيد قد مسحت وصورت القاهرة بتلك الأجهزة التى ركزت على هؤلاء اللصوص.

قال لها عمرو: "برتولد بريخت كان يؤثث منزلاً يمكن حمل كل شيء فيه خلال ساعات، وكانت حقيبته دائماً معدة للرحيل"، شاهدت له مسرحية فى المسرح القومي من إعداد صلاح جاهين.

رمقته بنظرة ثاقبة، عرف وفهم خلالها أنه استطاع أن يقرأ ما تفكر فيه، انتابها رعب من نوع خاص، غير متعارف عليه. تخاف من دخول أقسام الشرط لأى سبب، بات قلقها مؤرقاً ومزعجاً. باتت أمنيتها الوحيدة هى الاستقرار، والابنه هي الأمان، لا تقدر أن تتحمل ولو لحظة عبور حواجز معنوية، وعبور أسوار، ولا تقول بصلابة اليوجا الروحية، لا تستسيغ ذلك، هذا الذى يصاحبه الباب المغلق على الحرارة والرطوبة والبق والصراصير، لا تستطيع أن تتحمل أن تكون محدودة الإقامة بين أربعة جدران لأى سبب، حتى لو يستأنس الإنسان إليه، ويرغب فيه كالانفراد بالنفس والوحدة، والتأمل فى الأشياء والعالم فى هدوء. لا تصدق ما عاشته، ولا تصدق أنها خرجت من كوابيس ليلتها، ولم تستوعب وتدرك ما سبب التوالى السريع للأحداث، حالة من هدوء رعشات الهلع، لا تستوعب المباغتة، فكرت وهى تتثاءب عما يمكن أن يحدث لها مستقبلاً، هل لمشاركتها تلك الليلة نتائج، أية نتائج، لم تبرح مخيلتها عربات الأمن المركزى الزرقاء المحملة بالجنود، وعربات الصناديق المغلقة ذات الفتحات الضيقة المحملة بالمساجين، تدوى الصناديق من الداخل بالغناء والثورة، والخبط والرزع، أمامها مزيد من الوقت لتتخيل وتعرف ما يحدث داخل مباحث أمن الدولة، لا شئ يخبأ، لا شئ يطمس ويضيع، إن الناس تعرف مصير هؤلاء المساجين الذين ما يلبثون أن ينكسروا ويتخاذلوا ويتواروا، ثم يرتدون بشراسة لقمع الآخرين.

*     *     *

جرت الأمور فى منزلهم بلا أية حوادث تذكر، كمنازل المصريين الذين يأخذون كل الأمور الجادة والمعقدة ببساطة متناهية، وبتخاذل يفوق الوصف، بلا مبالاة لأية نتيجة، أو أى أثر، الغليان يمور فى الخارج، والمنازل نائمة بوداعة واطمئنان، فعلاً زمن تناقضات لا تحتمل، لم تقلق الأم على ابنتها مطمئنة لوجود أخيها معها، لم يقلق الزوج كذلك، والصغيرة وجدت لدى جدتها كل شئ، كان المنزل هادئاً وعادياً. نظر إليها وهى تتثاءب مطمئنة، أشفق عليها مما دار فى عقله، كان مرهقاً وجائعاً عندما نبهته والدته، جلسوا إلى المائدة، جبنة قريش بالطماطم والزيت والشبت، فول مدمس وبيض، أكل كأنما يخزن لأيام الجوع القادمة والتى تخيلها مواكبة لأحداث ثورة الخبز، نام نوماً عميقاً إلى أن أيقظته أخته على إذاعة قرار حظر التجول ابتداء من الخامسة مساء إلى صباح اليوم التالى. ما زالت الشوارع تعج بالبشر، مليئة عن بكرة أبيها، انضم إليها أناس كثيرون، لم يعلموا بقرار الحظر، فامتلأت الشوارع بالقتلى، كان الحاكم العسكرى واضحاً وصريحاً، لديه من الأوامر ما يجعل صفحة تاريخه ناصعة البياض، وما يجعل ضميره وطنياً مخلصاً وشريفاً، وبدت وظيفته فرصته لتأكيد وتدعيم وطنيته وانتمائه، وتأكيداً لزمنية التناقضات، كان الناس كلما مضى الليل وأوغل بهم ازدادوا تدفقاً على تجمعات المتظاهرين.

هل كانوا يعلمون بقرار الحظر لذا ازداد تدفقهم، أم أن الناس لم تعد تستمع أو ترى أو تقرأ، وأن حاسة غريزتهم الصادقة هى التى تقودهم، وتقرر مسيرة حياتهم، تنبه أحدهم إلى أهمية إذاعة قرار الحظر عندما وجد الناس لا يتراجعون، إن الأوامر قاطعة، ما فكر فيه كان صحيحاً بدرجة ما، البعض يعلم ويشارك، والبعض لا يعلم، ويصر على المشاركة إذا تنبه، كان عنداً فاضحاً ومتبادلاً، لم يجدوا الحكيم أو العاقل الذى يختار وقت إذاعة مثل هذا القرار. أضحت القاهرة مسرحاً للضجيج والميكروفونات، ازدادوا إصراراً على قرارهم، وإعلام الناس بكل وسيلة، نزلت فصيلة الإعلام الكلامية المدججة بالميكروفونات الأمريكية الحديثة، أعدوا شبكات إذاعية داخلية قصيرة الموجة، موجهة توجيهاً شخصياً لكل شخص حسب درجة تذبذبات تنفسه وارتفاع صوته، حاصروا الأحداث بالدبابات والميكروفونات والإذاعة، مع ازدياد عدد القتلى تكاثف الدخان، تدفقت أعداد أخرى وأنواع جديدة من القنابل، أحسوا بالدم والغثيان والدخان، أحكموا الحصار حتى إذا تيقنوا أن الجميع علموا بالقرار فتحوا الثغرات إلى الشوارع الجانبية التى تدفق إليها الناس جماعات مكثفة، ثم بدأ مع الفجر الهدوء الذى انتظروه طويلاً، خلت الشوارع والميادين من الناس إلا القتلى الذين قذفوهم واحداً إثر الآخر فى عربات الجيش التى بدأت تجول الشوارع للقيام بمهام تنظيفها، أوكلوا المهمة لأحد القادة المشهورين، بدا أن الرعب والقتل لم يؤديا إلى فرض النظام، زرع حقداً لن تكون حصيلته إلا مزيداً من العنف، آمن أنه ليس وحيداً فى حمل هذه المشاعر تجاه هذا القمع الذى أججه الفشل الاقتصادى والتفاوت الاجتماعى الصارخ ووحشية النظام، وفساد المحيطين به والمسئولين.

ومع صباح اليوم الجديد، فى ذلك الوقت الذى تم فيه حظر التجول، خرج الناس إلى أعمالهم، حزانى ومقهورين، تبدو الذلة والانكسار على وجوههم، وفى تراخى أعصابهم ومشيتهم، لا يلقون تحية الصباح، ولا يتبادلون الكلام، وكانوا كطوابير الأسرى الذليلة، هؤلاء الناس الذين لاقوا هزيمة مروعة، ومع الساعة الثانية ظهراً أذاعوا قراراً بإلغاء ارتفاع الأسعار فيما كانت مظاهرات الطلبة والعمال فى أوج اشتعالها تحفزاً للأيام القادمة.

قاص وروائي مصري
elemary290ct@yahoo.com