للروائي والناقد المغربي أحمد المديني حضور لافت في المشهد الروائي المغربي، ومن خلال هذه القراءة التي يقترحها الناقد لروايته التي صدرت مؤخرا نكتشف سمات فنية وسردية للرواية الجديدة التجريبية كما قعدها الروائي المديني بأبعادها الفنية واللغوية والأسلوبية.

مقدمة في «رجال ظهر المهراز» لأحمد المديني

محمد معتصم

(1)

يتبوأ أحمد المديني مكانة مميزة في الرواية المغربية والعربية المعاصرة لاعتبارات عديدة، أهمها الصيغة السردية التي اختارها وسيلة تعبير عن رؤيته الفنية للذات والعالم والقضايا المستجدة في سياق التاريخ المعاصر، وتتمثل رؤيته الفنية والسردية في الانحياز للرواية الجديدة التجريبية. وهو واحد من الروائيين المغاربة والعرب الذين أسسوا لهذه التجربة ورسموا لها أبعادها الفنية واللغوية والأسلوبية. ومن تجليات الرؤية التجريبية عند أحمد المديني اللغة الشاعرية التي تخترق الحدود الفاصلة بين لغة السرد ولغة الشعر. وفي كتاباته تتداخل هذه المستويات لتشكل باقة متنوعة تمنح السرد الروائي خصوصية مميزة ونوعية، قادرة على التحول مع حالات تبدل الشخصيات الروائية، والغوص في مشاعرها ومواقفها وأفكارها الداخلية، وأهم ما يميزها المحكي السردي المتدفق حيث يمتزج الشعر، الحس الشعري مع السرد الذي يجعل الأحداث قادرة على رسم مسارها الزمني.

ونتيجة للغة الشعرية، وحالات الشخصية الروائية الباطنية، يتغير الزمن، مفهوم الزمن في الرواية العربية المعاصرة، وأيضا يتغير بناء النص الروائي. بخصوص مفهوم الزمن السردي، فإنه يميل في روايات أحمد المديني إلى زمن غير فيزيقي خارجي، متعاقب، حيث تتحكم الأحداث في المسار الزمني، بل الزمن في الرواية التجريبية لأحمد المديني يصبح المتحكم في رسم مسار الأحداث وتوجيهها حسب رغبة الكاتب، وحسب البناء الذي يختاره الكاتب، لذلك يصبح القارئ موضوع اختبار ذاته في مثل هذه الروايات التجريبية، فالقلق يأتيه من خلخلة نظام التعاقب الزمني، وترتيب الأحداث حسب الزمن الخطي الفيزيقي. ومن التقنيات التي يوظفها أحمد المديني في رواياته ذات البعد التجريبي:

     تقنية الاسترجاع.
     تقنية الاستذكار.
     تقنية التداخل بين الأزمنة.
     تقنية الزمن المطلق (المجرد عن التمييز والحدود).

أما البناء الخارجي للقصة فإنه يتأثر بقوة من هذه المتغيرات، فيبدو بدوره بناء منفتحا، رافضا للخطية، والترتيب النمطي المتوارث عن الأشكال السردية التقليدية كالسرد التاريخي، والسيرة الذاتية أو الغيرية أو الشعبية، واليوميات، والمذكرات...وأهم ملامحه:

     التداخل البنائي.
     التقطيع البنائي.
     الطفرة الناجمة عن الوقفات الزمنية أو حاجة التنضيد الذاتي (الخارجي) لا التنضيد الحدثي المتسلسل والمنطقي، وعن الحذف أو الاستباق.
     البناء الدائري... وهكذا دواليك.

(2)

في رواية (رجال ظهر المهراز) يبرز الإشكال/ الإشكالات التالية:

     هل المحكي في الرواية واقعي، ما دامت هناك إحالات خارجية مؤطرة؟
     هل المحكي في الرواية محكي سير ذاتي أو غيري، ما دامت الرواية دائما من خلال عنوانها تحيل على معين دال ( رجال)، يحدد الرؤية ويوجه القراءة، ووعي القارئ الذي لا شك، سيقرأ الرواية ليجد نفسه فيها، أو ليتعرف على حقيقة الشخصيات/ الأشخاص في الرواية؟ ولومن باب الفضول المعرفي أو الذاتي.
     هل الرواية تبعا لذلك استمرار لتجريبية الكاتب أم أنها ارتداد وتحول عن المحكي الواقعي والمحكي السير ذاتي؟ وما مكانتها في المسار الروائي لأحمد المديني؟
     وهل نحن أمام رواية أم أمام محكي ذاتي كما هو متعارف عليه في الدراسات السردية؟...

وكثير من هذه الأسئلة الإشكالية التي لا يمكن الإجابة عنها نظريا إلا بالعودة إلى القراءة كواقع وكحكم في آن.

(3)

يتنازع الرواية اتجاهان متعايشان متوافقان هما:

1.3/ المستوى الإحالي الخارجي: ويضم عددا من الدعامات الأساس التي تقيم أوده، وهي كالتالي:

أ ـ ضمير الغائب: ويرتبط بالشخصيات الروائية المتحدث عنها في الرواية، ولضمير الغائب سلطة سردية، ووظيفة جمالية أيضا، وأبرزها شل حركة وفعل الشخصية، والتحكم في مسارها السردي من قبل السارد أو الكاتب في حال الكتابة السردية الواقعية أو السيرية، واليوميات والمذكرات. وتتمكن هذه التقنية (ضمير الغائب) من حد درجة جنوح الشخصية الروائية أو تناقضها مع الموقف العام (الفكري، والإيديولوجي و الجمالي) الذي يروم رسمه الكاتب، ويقوم بتنفيذه السارد.

ب ـ ضمير المخاطب: ولضمير المخاطب وظائف أيضا سردية إضافية ومختلفة عن ضمير الغائب. أولها اعتراف السارد أو الكاتب الواقعي بوجود وأهمية الشخصية الروائية، مما يمنحها حضورا قويا تمثله صيغ الأمر أو النهي أو هما معا، وصيغة الحوار والحجاج وتبادل المواقف، وتقابلها أو تصادمها. وإذا كانت الغاية من ضمير الغائب التحكم في جنوح الشخصية الروائية، فإن ضمير المخاطب يمنح الشخصية الروائية القدرة وإمكانية التعبير عن الرأي والموقف، وبالتالي المساهمة في نساء السرد وبلورة المواقف، وإبداء الرأي الآخر، وهكذا.

ج ـ المحكي السير ذاتي: رغم أن الرواية افتتح خطابها بضمير الغائب، لخلق المسافة اللائقة بين الكاتب والسارد، والمسافة الموضوعية التي تقيد جموح المحكي الذاتي، إلا أن عتبة الرواية المتمثلة في الإهداء، والتي تعد نصا موازيا، من وظائفه إضاءة النص/ المتن المركزي أوحت بعكس ما أوحى به الخطاب السردي. تقول عتبة الإهداء: "إلى أصدقائي وزملائي في" ظهر المهراز" بفاس العامرة، عامة، وإلى خاي "المؤسس"، محمد بوخزار، خاصة. ص (5). فصيغة الخطاب جاءت بضمير الغائب، شأن المحكي السيري عند طه حسين في "الأيام"، لكن العتبة تضمنت إشارات قوية تحيل على الذات الكاتبة. وفي هذه الثنائية: ضمير الغائب وضمير المتكلم ما يحدد "جنس" الكتاب. إنها تخييل ذاتي، تمتزج فيه الحقائق المادية، ومشاعر الذات ومواقفها وأفكارها لكنها جميعا صيغت بضمير الغائب لخلق مسافة بين مستوى التخييل ومستوى الإحالة الخارجية، وبين المحكي السير ذاتي والمحكي الواقعي الذي جربه الكاتب أحمد المديني في مجموعته القصصية "المظاهرة".

د ـ المحكي الغيري: ومما يشي به "الإهداء" حضور شخوص واقعيين في الرواية (المحكي الذاتي التخييلي). وإذا ذكر الكاتب الصحافي "محمد بوخزار" بالاسم الصريح الفصيح فإنه لم يكن كذلك في المتن/ الخطاب الروائي، والشيء ذاته ينسحب على باقي الشخصيات الروائية التي طمست أسماؤها من أجل الخروج من إشكالية الإحالة الصريحة التي تفقد الرواية درجات التخييل وتضعه موضع الصفر كما هي الحال في السرد التاريخي (ج.م. آدم)، والسرد السير ذاتي. وأعتقد أن هذا التداخل من صميم تجريبية أحمد المديني، ومن خصائص الكتابة لديه. وهو عكس التجربة الروائية الملتبسة عند العرب بداية الخمسينيات حيث مزج الكتاب بدون وعي جمالي وفني ونقدي بين الرواية والسيرة الذاتية والرحلة. ولعل هذا التصور الذي يفصل بين الأنواع الأدبية وأجناسها الكبرى هو ما يمثله قول الناقد (عبد الله أبو هيف) في كتابه "الجنس الحائر، أزمة الذات في الرواية العربية"، حين يقول:... "فقد ساد الرواية العربية حتى مطلع الخمسينيات نزوع إلى إدغام الرواية بفن السيرة أو الرحلة، ثم ما لبث الروائي العربي الحديث أن فارق مثل هذا الفهم المختلط لفن الرواية الذي يصور التنازع بين شكل الرواية والسيرة الذاتية أو التنازع بين الصدق والحقيقة من جهة، والتخيل من جهة أخرى، فالرواية نتاج التخيل بالدرجة الأولى، بينما السيرة الذاتية نتاج الصدق والحقيقة أساسا، على الرغم من أن الحقيقة والصدق أمران مختلفان أحدهما عن الآخر". ص (12). والسبب في الفصل الصارم بين الأنواع الأدبية لدى عبد الله أبو هيف ينبني على الغاية التي وضع من أجلها الكتاب، وهي دراسة الرواية العربية ليس في ذاتها ولكن كوسيلة لتبرير "أزمة الذات العربية" في التاريخ والواقع المعاصرين والحديثين. وأيضا لأنه منهجيا اختار المنهج التاريخي الموضوعي القائم على تجسيد الفكرة (إسقاطها) على العمل الفني (الرواية) بينما أحمد المديني فتجربته الروائية تقوم على فهم ووعي مختلفين تماما، كما أسلفنا. وتمتاز السيرة الغيرية في "ظهر المهراز" ببعدها التخييلي الذي منحه إياها (طمس) الاسم العلم. وهي إمكانية ساعدت على الخروج بالرواية من إشكالية الكتابة السير ذاتية والغيرية والسرد التاريخي (التأريخ لمرحلة من مراحل الدراسة بكلية ظهر المهراز بمدينة فاس المغربية)، وإن لم يغب عن الرواية التركيز على محطات/ أحداث هامة في التاريخ المعاصر وفي تشكيل الوعي الطبقي، وعي الطلاب والحركات الاجتماعية الاحتجاجية. ويشكل الحديث عن (الآخر) بكل أشكاله وصيغه الصريحة والمضمرة بعدا من أبعاد الإحالة الخارجية (خارج الذات).

هـ ـ المحكي الواقعي: يتحدد البعد الواقعي في التركيب الإضافي "ظهر المهراز" في اللهجة المحلية المغربية، المتضمنة للفظ والمعنى الفصيح. وواقعيتها فاضحة لأن الإحالة اللفظية لها مرجعها في الواقع ويمكن التأكد منه. كذلك المحطات الاحتجاجية التي ركز عليها الكاتب والروائي أحمد المديني في المتن السردي وهي محددات زمنية مجردة (خارجية) غير لفظية، كما يرى اللسانيون. لكن حضور الخارج أو الواقع المجرد ليس طاغيا كما في الروايات ذات الطابع الواقعي والطبيعي، أو في كتابة السيرة، أو اليوميات والمذكرات أو السرد التاريخي. إنه مجرد زوايا وعلامات طريق تحمي القارئ من التيه، وتحدد للسرد بعض المؤشرات الخارجية الضرورية من أجل حبكة متقنة. أما الأوصاف الخارجية للشخصيات الروائية فإنها تتأرجح بين الوصف الدقيق، والوصف المسرود، الأول ثابت (واقعي) والثاني يعزز صيغة ورؤية الكاتب التجريبية، ويندرج في هذا التصور الاسم العلم الخاص بالشخصيات الروائية.  

2.3/ المستوى التخييلي: ويضم بدوره عددا من الدعامات الأساسية التي يمكن تحديدها كما يلي:

أ ـ ضمير التكلم: وهو الضمير الضمني في ضمير الغائب. لأن القارئ لا يمكنه (المغربي) الفصل بين الكاتب الموضوعي والسارد في رواية "ظهر المهراز" بالرغم من عناصر التشويش الكثيرة الموزعة على مكونات الخطاب سردا وزمنا وأحداثا، وشخصيات... ويتمثل المتكلم المضمر في صوت الغائب في محكي السارد، بينما يتمثل ضمير المتكلم بوضوح أكثر في صوت المخاطَب، عندما تخاطب الشخصيات الروائية السارد. ولعل حضور الضمير المتكلم المضمر في الغائب والمخاطب يبرز الفرق بينالسرد السير ذاتي والروائي، ولعله يبرز حقيقة نشوء التخيل الذاتي (Autofiction) وبعض أشكال تمظهره في الخطاب. يحيل ضمير الغائب على ضمير المتكلم أنا/ السارد والشخصية. ويحيل ضمير المخاطب على ضمير التكلم/ السارد الشخصية.

ب ـ اللغة الشاعرية: لن أضيف جديدا في هذا الباب لأن الدراسات النقدية التي اهتمت بالرواية عند أحمد المديني أجملت رأيها على هذا الملمح، لكن يمكنني الإشارة إلى أن رواية "ظهر المهراز" قد وظفت اللغة الشاعرية، ولغة الشعر بمستويات متعددة. أي أن حضور الشعر كان له حظ، ولأن المرحلة التي اختارها الكاتب إطارا زمنيا للقصة والخطاب معا، اشتهرت في المغرب المعاصر بتقدم الصوت الشعري، والصوت الشعري المواكب للحراك السياسي والاجتماعي آنئذ. ومن أشكال الحضور الشعري:

ج1 ـ النص الشعري كمرجع ثقافي خارجي أدمج في السرد لترميم القصة، ولبلورة الأحداث، ولمساعدة السرد في التقدم والنماء والتطور. فخاصة السرد زمنية محض، أو حضور الشعر من خلال أسماء الشعراء من مختلف العصور والأجيال والتجارب كما يتجلى في الفصل السابع من الرواية تحت عنوان "المحبون".

ج2 ـ التدفق السردي الملتاع الذي يسترجع وسيتذكر مواقف من الماضي، وهو يشكل في الرواية القصص الصغيرة والصغرى مثل حكاية فتاة سيدي مسعود بمدينة الدار البيضاء (في الطفولة).

(4)

هذه المحطات تمكننا من تحديد بعض المحكيات الصغرى التي قام عليها الخطاب في رواية "ظهر المهراز". وسأقف باختزال في هذه المقدمة على مستويين:

     المحكي الخارجي: وهو المتضمن لكل الإحالات ذات المرجع الثقافي/ النصي من قبيل النص الشعري للشاعر المغربي عنيبة الحمري، والنص الشعري للشاعر المغربي إبراهيم السولامي، أو مقتطفات من كتاب "روضة المحبين" لابن قيم الجوزية، أو من كتاب "أسرار البلاغة" لعلي بن أبي طالب... وهكذا. وهي نصوص خارجية موازية أو تضمينية لها وظائف تناصية أو هي مجرد عتبات تحيط بالنص المركزي.

     المحكي الداخلي: ويتضمن كل السياقات السردية التي تمتح من ذات الكاتب/ السارد/ الشخصية الروائية، كالمونولوجات والتأملات، والمشاعر الداخلية المنقولة كتابة على الورق، لكنها تظل محافظة على حرارتها، وعلى وظيفتها في توسيع المحكي وتطويره في آن. وأبرز أشكال المحكي الداخلي في رواية "ظهر المهراز" لأحمد المديني:

أ ـ محكي الذات من تأملات ومشاعر متدفقة وأحلام.
ب ـ المحكي الاسترجاعي ويتعلق بكل القصص وأحداث الماضي التي تستدعيها سياقات سردية معينة وتُحَينُها.
ج ـ المحكي الذاتي الملتاع، وهو ما فصلنا فيه القول في كتابنا "الشخصية والقول والحكي/ 1995م" تحت عنوان "أنماط الحكي"، كالاعتراف والبوح... ويعد المحكي الذاتي الملتاع ملمحا من ملامح الكتابة التجريبية والجديدة. 

ناقد أدبي من المغرب 

* المديني، أحمد، رجال ظهر المهراز، رواية. منشورات أحمد المديني. ط 1. 2007م