يكتب الكاتب السوداني في هذه القصة شيئا من مشاعر الاغتراب ومشاكله، ويضفر تحت سطح السرد العادي المشغول بتفاصيل اليومي معالجته الخاصة لقدرة الحب والجمال على الشفاء من أوجاع الجسد والروح معا.

في غرفة الانتظار

أمير حمد

«ولقد بلغت التجريدية على يد كاندنسكي أورع عطاءاتها لما استطاعت أن تحمل من ايحائية شفافة وغنية بالأنغام المتداخلة بين الأجواء المتجاورة في صورها». بلند الحيدري


منذ يومين وبطني تؤلمني. تجاهلت الألم وسوفته فربما يهدأ من تلقاءه، إلا أنه احتد في هذا المساء فتشاغلت عنه مجدداً بالإطلاع والإستماع لموسيقى البلوز(Blues). لم أكن أنام مبكراً لأنني أعشق الليل كثيراً فأتمعن طيه في شجرة الدردار حذو نافذتي، لا سيما حينما يسبل اول المساء وشاحة فوقها كعروس، انها شجرة وارفة ينداح حفيفها كخفق موج عبر نافذتي المشرعه، وهي تلقي بأغصانها الطويلة على حافة نافذتي لتصافحني، فأحس خلاصاً من ربقة وتقلبات الحياة. لاحت شجرة الدردار حزينة في صباح هذا اليوم، لأن عمال البلدية اجتثوا أغصانها الطويلة خيفة أن تسقط على البيت الهندي والأرجوحة في ملعب الأطفال الصغير أسفلها. تألمت لتألمها... وربما اشتد ألم بطني لتأثري لها، دون أن أعلم. في ذات مساء شتوي استحالت أشجار الدردار في الحقل الجليدي الممتد حذو نافذتي إلى صواري بيضاء بفعل الجليد المتهامي بشدة... تعرت أغصانها، وامتدت كأكف متضرعة بالدعاء فكتبت... كتبت أسطراً لشجرة الدردار مؤانستي:

جذع من ضياء تمتد أياديه الكثيره
لتستعين روحه
أما يكتفي في لوحة البياض
بأنه الملاك
...........
عرى الشتاء شجر الدردار
لكن العصفورالقابع وحده، فوق الغصن
حذو نافذتي
كأثر الصيف
غطى عريها، بحشمة ريشه...
بوقار العزلة

بطني تؤلمني... أطفأت المصباح جوار وسادتي... فربما انام فيهادنني الألم. كنت أتذكر احلامي دوماً حينما أستيقظ... ارتبها في تحدي مع ذاكرتي، إلا أنني في صباح اليوم التالي لم أتذكر منها شيئا ربما لوخذات هذا الألم الممض... قبل أن أذهب إلى الطبيب، في الصباح هاتفني "أوزول" زميل عمل سابق، وسألني ان كان بموسوعي أن ارافقه مع زملاء لحضور سمنارعن قضايا المهاجرين الأجانب، فاعتذرت له بسبب وعكتي.

كان الطريق العام في هذا الصباح شبه شاغر إلا من عمال البلدية، الذين يشذبون غصون الأشجار... تذكرت ترهات الصبي حينما كنا ننخل في جذوع الأشجار قلبين متداخلين وتذكارات حب. حيتني بائعة الورود قرب عيادة الطبيب بابتسامة آسرة، لكأنها تود أن تهمس لي بإحساس دافئ. لم تقل شيئا، وظلت ابتسامتها مرتسمة على شفتيها، فيما تحجرت أنا مزموم الشفتين قبالتها. لقد قال لي "مايكل" صديق أمريكي أسود بأننا أبناء الشرق معقدون بشدة، لا نجيد فن التعامل مع النساء، وحملهن على الدعابة والضحك "لا تأخذ الأمر بجدية take it easy my friend ... just easy.

حاولت في العيادة متوسلاً أن أقنع الممرضة بضرورة معاودة الطبيب إلا أنها رفضت، وأخذت تشير بسبابتها إلى لائحة المرضى الطويلة وتهز هامتها قائلة: مامن ميعاد إلا بعد يومين... حاولتها مجدداً وجلست على كرسي ممسك بطني كملدوغ... فسمعتها تقول: حسناً أدخل غرفة الانتظار ولكن سيطول وقت انتظارك إلى حين فحصك!!!.).

لم تكن غرفة الانتظار مكتظة بالمرضى كما توقعت. سحبت رقما وجلست قرب النافذة إلى جواري مريض ألماني شبه ميت، وسيدة عربية حامل مع طفلين يحاولان تركيب بيت بمربعات ملونة، وسط ألعاب أطفال متناثرة، وثمة مرضى آخرون يقلبون صفحات مجلات المانية بقلق وضجر واضح. سمعت صوت مريض يلعن ويكرر جملا بذيئة إلى أن دخل غرفة الانتظار برفقته سيدة. سحب رقم 11 وجلس جوارها.

كان هذا المريض غريب الأطوار يجلس ويقف فجأة ثم ينحي نظارته المعفرة السميكة جانباً، ثم يضعها على أنفه المعقوف وينظر من فوقها متفحصاً وجوه المرضى واحداً واحداً ويردد أكثر من مرة "ياماري.. ياماري" وهو يحدث من رافقته. لا شك أنها زوجته.

قبالتي... على جدار ناعم أطلت لوحة لكاندنسكي صرفتني بطلاسمها عن كل ما يدور في غرفة الانتظار. ماذا كان يريد أن يقول بلوحته هذه... بتجريده وقوالبه الهندسية الدقيقة والوانه المنتقاه؟ ماذا بحق السماء!!! أأرادنا أن ندلف الى لوحته ونتنزه بين أروقتها والردهات!!

هذا المسطح الشاحب أصفر اللون ينبسط كأنه اللانهاية نفسها.! لماذا أغرم فان كوخ برسم حقول عباد الشمس؟ فأدمن تذويق لوحاته بالأصفر الفاقع... لماذا لم يكتف من جمع هذا التبر المنسكب من قرص الشمس؟

ها أناذا أتمعن لوحتك يا كاندسكي مأخوذا بألوانها المتداخلة بين المسطحات والأفاريز الصغيرة. ماذا كان يدور في خلدك بحق السماء وأنت تخصب باللون الفراغ كما يخصب الماء رحم الأرض؟

هكذا كان يتساءل بروفسير هارتمن في معرض لوحاتك. كان يجيب ويدحض اجابته من ثم لمجرد تقاطع مكعب صغير بآخر أو بخط مائل يتراءى بين قوالبك الهندسية المتقنه. وأنا ماذا أطلب من حرم الجمال هذا قبالتي؟ المشاهدة، تزجية الوقت، أم اريد استنطاق صمت الألوان وتقاطيع اللوحه الخجوله؟.

كل مسطح طيها خطأ كان أو زاوية شامخ كحراب قبيلة الماساي إلا هذا الخط المنثني كالأفعوان. أهو رمز للنيل؟ النيل الذي انحدر إلى قاعة «مصطفى سعيد» كمن يذرع عقبات سلم الى الأسفل... كنعاس يهبط بالصحو الى حلم. حانت ساعة الوداع ياصديقي... لا داعي لخداع النفس... اوصيك بإبنيّ... جنبهما عناء السفر... ماذا ترك مصطفى سعيد بعد انتحاره؟ يقولون لاشيئ، لا إرث ولا ذكرى، ذهب كما أتى. هكذا قالوا إلا أنه قدم نفسه قرباناً لكي لا تنتهي كنهايته، وأضاء بقعاً فينا مظلمة كمن يضيئ عتمة بمصباح يدوي. النيل الأفعوان لا يقتل أحداً يامستر مصطفى سعيد، بل يضمه اليه كأم حنون... وداعاً يا مستر مصطفى سعيد... وليترك لي باب غرفتك مشرعاً، في القرية النائية تلك على ساعد النيل فإني أريد أن أقرأ ما كتبته بخط رفيع في ثنايا مذكراتك. ثمة شيئ لم تذكره... وأنت تدعي أن سيرة حياتك صفحة بيضاء كما تهيا (هالر/ ذئب البوادي حياته)... مامن شيئ يذكر يا كاندنسكي.. لوحتك قبالتي منممة، مموسقة، جاحظة ببهائها تكاد تترجل من سطح الجدار.

أتهيأها على غرة، كورقة بيضاء... كسيرة مصطفى سعيد إلا أن ثمة عالم تقنفد خلف حيز البياض هذا! (كل شيئ سيهزمه الموت إلا الفن) هكذا قلت ياكاندنسكي وذهبت لتدعنا نحاور خلودك في الفن المؤطر... خلودك ياشاعر الريشه.

هاهي لوحتك قبالتي، تبتسم لي في الخفاء... تحدثني بصمتها عن صمتها وعالم تقنفد خلف البياض. أتمنعها... ألج اليها كزائر بستان، إلا أن اللون الأسود فيها يخيفني... يقلق تناغم أفكار ترسبت في مخيلتي، ترسب طين على قاع نهر.

اللون الأسود (لون الحداد)... هكذا رددت الجارة الهرمة ياكاندنسكي، لم تكن تهاب الموت... ولا تريد أن تعيش أكثر قالت: اكتفيت. وطلبت من الطبيب أن يوقف نبض حياتها بمصل قاتل دون احساس بالألم. أزعجت برغبتها المتطرفة ذويها إلا أنها انتصرت في نهاية المطاف، فشيعت في مراسم دفن بسيطه، لم يتبق منها سوى اغصان زهو يابسه على قبرها ونصب تذكاري ابيض كراية للسلام. هكذا اذاً تنتهي الحرب ياكاندسكي. نصب أبيض ذكرني بقصة (تابوت بحار) ظل على سطح الأرض (دون أن يوارى) ذات شتاء في قلب المقبرة لأن البحارة المشيعون، تركوه وذهبوا لإحتساء الجعة في حانة نائية، ولم يرجعوا بعدها لدفنه. ولما انصرم الشتاء ذاب الثلج فوق تابوت البحار، فبرز كروح شريرة.

من يودع من؟ هذا المكعب الأسود صامت تلوى حول سره وعصى ياكاندنسكي... أتراك تريد الترميز الى بقعة فينا مظلمة؟... تريدنا إكتشافها. لوحتك قبالتي على جدار أملس كأهاب حسناء تسالني فأجاوبها بحذر... رموز مبهمة ترتب فوضى مشاعرنا. هل قرأت قصة مخبول زعم بموسوعة ترتيب الضياء وغسله؟ أو أقصوصة غول أهاب أهل قرية بشرب ماء النهر كله أن لم يهبوه حسناءاً من بناتهم. في أي حل فضاء خيال ترفرف فراشات وحيك ياكاندنسكي؟ قبالتي تتفاعل طي بوتقة لوحتك قوالبك الهندسية في حيز مضاء... تتجاذب وتتنافر في خلودك المؤطر... إلا هذا التقوس الكرزي كشفتي مسز روز.... كانت تجلس عاقدة ساقيها الطويلتين الممتلئتين، وتنحني بين الفينة والأخرى، لتبرز مفرق نهدينا، متظاهرة بترتيب أشيائها الصغيرة في حقيبتها اليدوية.

اللون الكرزي المتواتر في مسطح لوحتك كقمرات قطار برلين الليلي حيث التقيتها. قالت لي سأزور موطنك في ذات مره، في إحدى عطلاتي الصيفيه. من يأبه بوطني الصحراوي؟! كتبت عنواني الالكتروني على علبة سجائرها وافترقنا. أتراها تتذكرني بعد! يقولون وحده الخط ـ اللون ذو ذاكرة حافظة لما هدمه الزمن ياكاندنسكي. ذاكرة كألوانك هذه... ها أنت ترحل من مسرح الحياة فتظل ريشتك ندية... تنهض كشراع مبحر في اللانهاية يا شاعر الريشه، هاهو صداك يترجع في الآفاق (كل شيئ سيهزمه الموت إلا الفن).

أمواج هذا الأزرق اللانهائي المنسرح في آفاق لوحتك...؟ ها أنت تأطر... البحر تعبأه في قوالبك الهندسية، وتشخذها كأفلام.

هذا الأزرق والأصفر المنفرد خلفه بانوراما صحراء لإنتهاء تدثرها سماء خالصة الزرقه. هكذا تحدثني ريشتك عما كان يعتمل في مخيلتك ياشاعر الريشة. الأزرق... يخصب اللوحة، يندرج... وينتهي بغة ببناء هرم ويستقيم في فضاء آخر. انه الشراع الذي يمخر في الضباب ياكاندنسكي. كم من أديب وفنان مثلك الهمه والتهمه البحر بسحره؟! كم؟ ربما بارح همنغواي جنون البطولة ليستقيل، ليخلع قبعته امتناناً لخليج كوبا (الشبح والبحر) أيأمن الانسان قدره؟ أيكون صراعه مع الحياة تحدي لها أم فطرة عمياء؟ أتدري ياشاعر الريشة، أتدري ماقاله كاتب كوبي عن همنغواي حينما سأل عنه قال: أنه يذكرني دائماً باللون الأزرق... بالبحر والسماء ومياه الجليد الذائبه التي كان يصطاد فيها! لماذا اذاَ انتحر همنغواي وقد أحب الأزرق اللانتهاء، وتداخل مع البحر، تداخل الموج والشط. ونحن جلوس على شط البحر ياكاندنسكي قال لي صياد اسباني بأن الذي يبحر يوماً واحداً في حياته، سيحمله الحنين للمعاودة الابحار ولو على لوح خشبي وأشار بيده الى الفضاء الممتد وقبة السماء.

كان الموج ينسرب خلال رمل الشاطئ كإنسراب الغبطة في قلبي. حركت قدمي في الماء وقلت له، بمثل ما أحب البحر أهابه... أهاب البحر... هز رأسه مستغرباً ياكاندنسكي وأجابني:

ـ هل أحببت امرأة.؟
ـ نعم
ـ أتكتفي بمشاهدتها أم تريدها ان تكون جزءاً منك... أن يتقمص بعضكم البعض؟

عرفت وقتها ما أراد الصياد قوله... البحر الأزرق اللانتهاء لا يقبل التجزئة وأنصاف الحلول...

كيف جزأته ياكندنسكي بأنامل جراح... عبأته في قوالبك الهندسية ومضيت لتنام، كأن لم يكن شيئاً. وهذا الحيز الأبيض... كضيف غريب على لوحتك يتمركز بؤره أقواس متشابكة مع قوالب مجردة. حيز أبيض محور ألوانك كلها: الأزرق اللانهائي، الكرزي، الأصفر الشاحب، وسواد الحداد... يتموج الحيز الأبيض في انعكاس خيوط الضياء كتموج ستار شفيف نهره نفثات النسيم. في ما كنت تفكر وقتها ياشاعر الريشه؟! ها أنا أقرأك كأشعار الهايكو... مقاطعاً مثلثه بلون واحد، تنفتح بغه على دهاليز ألوان لا انتهاء/ قوس قزح. فيما كنت تفكر؟ أفي نافذة مضاءة في عمق ليل يهز مشارها الأبيض شجو غناء غريب تذكر فجأة موطنه النائي... قرية على ساعد النيل؟؟

هذا الحيز الأبيض بؤرة ألوانك الصارخة، والدافئة ومرقد النيل الأفعوان الذي يشطرها كبيت شعر موزون. هكذا الأمر ياشاعر الريشة. اشعة مسلطة بدربة تنغرس في قلب الألوان... لكأني أبصر دماً يتفطر من فنك المؤطر قبالتي.

أفقت فجأة من تأمل اللوحة في غرفة الانتظار، لصوت المريض رقم 11 وهو يشتم مجدداً، فيما تحاول مرافقته سدى تهدأته.

أتدري ياماري أن دكتور استفان، يضع ساعة كبيرة على طاولته، ليحسب الدقائق التي يعالج فيها كل مريض، ويضرب بكفه على الطاولة ما ان انصرمت خمس دقائق ثم بمديده ليودع المريض قائلاً: أراك في المرة القادمه. ذهبت الى طبيب آخر. ما اسمه؟ دونالد... لا أدري على وجه الدقه، المهم ياماري انه يضع كتاباً طبياً تحت طاولته كما يبدو.. يسحبه ويقلب صفحاته بعد ان يسمع تشخيص المريض لألمه. يبحث ياماري مقلباً الصفحات ثم يقف فجأة مشيراً بسبابته ويهتف... ها... انك تعاني من مرض كذا وكذا، ربما تشكي فيما أقوله ياماري، ولكن الأمر هكذا كما قلت. وربما يختلف من ناحية أو أخرى.

ان الأطباء يعالجوننا كعضو منفرد، وليس كبشر لقد أرهقت ياماري. ذهبت لأول مرة في حياتي إلى طبيب فأحالني إلى آخر، ومن ثم إلى المستشفى، وانتهت لأبدأ من جديد. اللعنه، متى أخرج من دوامتهم. لقد أمرضوني تماماً كمضاعفات الأدوية، أمرضوني وقد كنت معافاً. انهم يقّسمون المرض كمؤنات الإغاثة ياماري. كل طبيب واختصاصه. كدت أن أعمى فأحالني دكتور استفان إلى طبيب العيون، فأحالني هذا الى آخر وقالوا لي في نهاية الأمر أن نسبة السكر مرتفعه! اللعنه، اللعنه ياماري فأحالني من ثم الى المستشفى الى متى أتردد بينهم ككرة تنس بين لاعبين. صمت المريض رقم 11 ونظر الى لائحة الأرقام، ثم نهض، وجلس، ومسح نظارته السميكة. كل شيئ كما هو في غرفة الانتظار المريض شبه الميت، المرضى وهم يقلبون المجلات بقلق... حتى أطفال السيدة العربية هدموا بيت المكعبات وسط الألعاب وشرعوا في انشاء آخر. أتسمع ياكاندنسكي اللون الأبيض أذاً ليس زي ملائكة الأرض الأطباء وانما هو حرب صريحة بين المصلحة الذاتية وحياة الآخرين. حرب دامية حياتنا ياكاندنسكي. أندمي ألوانك حين تشتبك؟... أكانت الخرقة الحمراء لتهييج ثور الحلبة الأسباني، وحي الهام بيكاسو لرسم لوحة الثور؟

الدم القاني الذي قطرته ريشتك على اللوحة يرحل بذاكرتي الى حرب مجهولة... كحروب كثيرة، تندلع وراء الكواليس، انني أتذكرها ملياً... تمر في ناظري كشريط سينمائي... هؤلاء القتلى زملائي الجنود، رحلوا دون أن يوارى جثمانهم في تلك الأدغال تحت قبة السماء الاستوائية... فنبت العشب بين أضلعهم.

من يودع من؟ انها حرب ككل الحروب!! هكذا زعموا، كان قصف المدافع... والطلقات الطائشة يستاف الأثير حولنا، لا ندري من أين يثب الموت (هيا ازرني أضغط على الزناد، لم أعد أطيق مرارة الألم).

كانت رصاصة الرحمة كل ما ينشدونه في غمار، آلامهم من اصابات الرصاص. الأحمر القاني يخاطبني ياكاندنسكي غير أني لا أملك رداً سوى كلمات تتداخل كأشباح في قصر مهجور. ها أنا أبحث عن فضاء آخر سعيداً غير الدم القاني. وذكرى الحروب وسواد الحداد. لماذا يلاحقنا اللون الأحمر بهوس الموت والاغتراب:

هل ثمة غير الغربة
نلبسها فتعرينا
وذكرى من رحلوا
للحزن قنوت
كأزهار، نبتت في قلب الصحراء
على غرة
فطواها الموت

الوداع ياكاندنسكي... سأغلق لوحتك ككتاب ثمين لوحتك ماخظة البهاء، متى تترجل من الجدار الأملس وتهدأ من حرب طواحين الهواء؟ بطني تؤلمني... دخلت إلى الطبيب وأخبرته بالألم المضني.

نهض من كرسيه الجلدي الوثير، وضغط على بطني بشدة، فتأوهت من شدة الألم. قال لي أن لا آكل اليوم شيئاً، فقط أن أشرب، وأعود اليه في الغد الباكر ليشخص مجدداً، وربما استدعى الأمر احالتي إلى المستشفى لإجراء عملية استئصال للزائدة الدودية. لم يرهبني توقعه، فقط كنت أود التخلص من هذا الألم بأي علاج.

اقتعد كرسيه الهزاز ومنحني بضع أقراص مسكنة من مستودعه الطبي الخاص. سألني بتهذيب بالغ:

ـ من أين؟
ـ من راينكن دورف
ضحك، وأعقب قائلاً:
ـ لم أقصد من أي حي ببرلين، ولكن من أي دولة؟
ـ من السودان

أفضيت الى ذاتي بأن هذا القطر لا يعني له شيئاً البته دون شك، ففاجأني قائلاً:

لقد زرت السودان مع وفد سياحي أكثر من مرة لرؤية الآثار في شماله وجنوب مصر، وملتقى النيلين في الخرطوم عند
(توته).

ترددت من تصويبه، فقد عنيَ (توتي) دون شك، بؤرة التقائهما، وليس (توته) كما ذكر. قلت له أنني أحفظ قصيدة (توتي في الصباح) لأديب سوداني رحل في شرخ الشباب. لاحظت تأثره وانكسار نظراته، قال:

ـ ثمة عظماء كُثّر بارحوا مسرح الحياة في مقتبل العمر، أمسلمُ أنت؟
ـ نعم، وكل أفراد أسرتي، وعشيرتي وأسلافي كذلك.

قال مواصلاً:

ـ إن إلهكم يدعوا إلى التأمل في الكون والأنفس، أليس كذلك؟ لقد ظللت، ولم أزل، أبحث في ماهية أعضاء الإنسان وفسيلوجيتها. لكم شائك وعصى لغزه. أنتم تسمون إلهكم الله، وغيركم ينعته بالروح العظمى، ويهوذا، وغيرها من مسميات عدة، كحروب عدة أضرمت بإسمه تنزه عنها، أتوافقني فيما أقول؟ لا أدري إلى أين تسير بنا قواه الخفيه، ومقولة ازلية الكون وانتفاء الخالق؟

كان يحدثني ساهماً بنظراته في فضاء الغرفة، فتراءى لي كمجذوب أثمله الحال.

قلبت نظري فلم أر ساعة لتحديد مدة الفحص، ولا من ثمة كتب طبية مدرجة في زاوية مظلمة يستعين بها كطبيب في تشخيص المرض. أترى يهزأ المريض رقم 11؟ حينما خرجت سمعته يلعن حظه من جديد ويكرر ياماري ياماري... من يدري ربما ألتقيه ذات مرة، فأحدثه عن قصيدة الزائدة الدودية للطبيب الأديب غود تفرد بن G.Benn أوعن عبث الحياة، للبرت كامو... ربما، ربما.

خرجت فقادتني خطاي الى بائعة الورود ثانية. حيتني بابتسامتها تلك فصارحتها بجرأة أخافتني، قلت لها أنها سيدة مستحيلة الجمال، لاأدري كيف أبادرها الحديث، فصراعاً ما تشتد ضربات قلبي وأتلعثم. صرفت نظراتها بحياء وتورد وجهها كقرص شمس جانحة للمغيب.

ـ هل لي أن ألتقيك؟
ـ لم لا.

التقيتها في صباح الغد غير آبه بميعاد الطبيب. كان لقائي بها منعطف خطير في حياتي برمتها. خمسة أعوام لا بل سبعة لم أحس فيها بوطئة مرض ولم أتردد على الأطباء ولو ليوم واحد، إلا ذات مرة ذهبت أحيي الطبيب هذا وأتمعن ثانية في لوحة كاندنسكي الملّغزة، وأفك طلاسم حب طيها أعيتني وقتها. لم يكن شيئا. فقد هاجر الطبيب الى جزيرة نائية تاركاً خلفه صخب المدينة، وحل محل عيادته مكتب لحماية البيئة.

اشارات:
ـ مصطفي سعيد البطل الذي انتحر غرقاً في رواية موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح.
ـ هالر بطل رواية ذئب البوادي لهرمان هسه الكاتب العالمي.
ـ قصة (تابوت بحار) اشارة إلى قصة من أدب امريكا اللاتينية.

كاتب سوداني مقيم في برلين