تتتبع الباحثة المغربية هنا بزوغ مصطلح مابعد البنيوية في الخطاب النقدي الحديث، وتحولاته في الخطاب النقدي الأمريكي، بالصورة التي أدت إلى ميلاد مقترب نقدي مغاير ضمن بنية فسلفية مختلفة هو النقد الثقافي.

النقد الثقافي وما بعد البنيوية

حدود ومعالم

سعيدة تاقي

يهتم هذا الموضوع، في ظل استجلائه لصلة النقد الثقافي بما بعد البنيوية، بالمفاصل الناظمة لتعالقهما نقديا. فهو ليس معنيا بملاحقة تطورات ذلك التعالق على مستوى التنظير الفكري أو التوثيق التأريخي أو الاشتغال النقدي، وهو ليس معنيا أيضا بالخوض في معالم نقل النقد الثقافي عن التجربة الغربية، ومحاولات تبيئته ضمن نسق النقد العربي، أو تأصيل ريادة بعض القراءات الثقافية لنقاد عرب في أواسط القرن العشرين. ورغم كون البحث في مفاصل ذلك التعالق يغري باكتشاف (أو إعادة استكشاف) نشأة النقد الثقافي وتحققات النقد البنيوي والتجليات الفلسفية والنقدية لما بعد البنيوية، إلا أن تفعيل ضوابط المقاربة المنهجية يدفع مزالق ذلك الإغراء، فالمطمح في هذا السياق يتمثل في التساؤل حول حدود التعالق بين النقد الثقافي وما بعد البنيوية وليس التأريخ لنظرية الأدب. 

مدخل:
يصرح جاك دريدا، في معرض تحديده لمفهوم التفكيك، قائلا: "حصل في الولايات المتحدة جمع بين "موضوع" التفكيك و "ما بعد البنيوية"(Post - structuralisme)، والمفردة الأخيرة مجهولة في فرنسا إلا عندما تكون "عائدة" من الولايات المتحدة". ("رسالة إلى صديق ياباني" ص60). تأسيسا على هذا التصريح، يتحتم على هذا الموضوع استمداد مرجعيته في تحديد "ما بعد البنيوية والنقد الثقافي" من النقد الأمريكي أو الإنجليزي، وهذا لا يقصي بالطبع الانفتاح على ما أنتجه "أعلام" ما بعد البنيوية، دون أن ينضدوه تحت تلك التسمية. 

(I) ـ ما بعد البنيوية
يتفق المشتغلون بالتأريخ للنظرية الأدبية المعاصرة، أو لنظرية الأدب في القرن العشرين حول تحديد "ما بعد البنيوية"، ويختلفون حول حصر أعلامها. فما بعد البنيوية، حسب نيوتن، هي البنيوية المتأخرة التي حمل لواءها جاك دريدا، ومثلها رفقته رولان بارط وجاك لاكان وميشيل فوكو. وهي النظرية التي أثرت بشكل كبير خلال السبعينيات، في النقد الأمريكي ونقاده من تفكيكيي "ييل" ومنظرهم بول دي مان، والأمريكي الفلسطيني إدوارد سعيد. (نيوتن ص 156 ـ 155). وما بعد البنيوية، حسب سلدن، هي النظرية الأدبية التي تقلل من الادعاءات العلمية للبنيوية، فممثلو ما بعد البنيوية هم بنيويون اكتشفوا قصور المنهج البنيوي في قراءة النص الأدبي، فيما يشبه نقدا ذاتيا دعاهم إلى تأسيس مشاريع نقدية وفكرية متميزة. وهم في الأصل رولان بارط وجوليا كريستيفا وجاك دريدا وميشيل فوكو. بل ويدرج سلدن، ضمن هذه النظرية، التفكيكيين الأمريكيين أمثال بول دي مان وهارولد بلوم وجيفري هارتمان وهيللزميللر وباربارا جونسون، كما يدرج كذلك ضمنها إدوارد سعيد. (رامان سلدن ص 117. 158).

والجدير بالملاحظة أن اصطلاحي "ما بعد البنيوية" و "التفكيكية " يستخدمان في بعض الاستعمالات مترادفين؛ إذ يعرف تيري إيجلتون، المنشغل بالدراسات الثقافية، ما بعد البنيوية في سياق حديثه عن فروع النظرية النقدية بقوله: "أما ما بعد البنيوية ـ التي ينتمي أحد روادها البارزين إلى مستعمرة فرنسية سابقة (المقصود هو جاك دريدا الذي ولد بالجزائر) ـ فهي تضع موضع المساءلة ما تعتقد أنه ميتافيزيقا غارقة في المركزية الأوروبية". ("صورة الثقافة" ـ فصول عدد 63، ص 41). وفي استعمالات أخرى تمسي التفكيكية جزءا من حركة أكبر هي ما بعد البنيوية، التي لا تقتصر على دريدا، الذي جعله إيجلتون الرائد لها، بل تشمل لاكان وفوكو، فضلا عن لوي ألتوسير ورولان بارط وجيل دولوز وجوليا كريستيفا وجان فرانسوا ليوتار. (ليتش ص 300). وقد حفز هذا الخلط بين المصطلحين فيليب لويس (في كتابه "الحالة ما بعد البنيوية"). إلى اقتراح تسمية ما بعد البنيوية "البنيوية النقدية"، وحفز جوناتان كولر إلى الدعوة إلى الاستغناء كليا عن مصطلح ما بعد البنيوية.

بيد أن ما يميز شمولية مجال ما بعد البنيوية مقارنة بمجال التفكيكية ـ حسب ليتش ـ هو إدماج المباحث التاريخية والاجتماعية والسياسية لفوكو، والصياغات التحليلية النفسية عند لاكان. وتمثيلا لذلك يقول ليتش : "فناقد اجتماعي مثل إدوارد سعيد، وهو من أتباع فوكو ونقاد دريدا، ما بعد بنيوي ـ إن شئنا الدقة ـ أكثر مما هو تفكيكي. أما ناقد مثل ميللر وهو مخلص لدريدا وليس كذلك لفوكو ولاكان، يوصف بدقة متناهية بأنه تفكيكي، لا ما بعد بنيوي" (ليتش ص 300). وينطوي تحديد ليتش على التباس آخر للنقد الثقافي بما بعد البنيوية يستوعب الدراسات الثقافية لإدوارد سعيد، ويقتضي إيضاح ذالك اللبس محاولة تمييز معالم التداخل بين النقد الثقافي و ما بعد النبوية والدراسات الثقافية وعوالم ادوارد سعيد. 

(II) ـ النقد الثقافي والدراسات الثقافية
يعلن العدد الأول من مجلة "النقد الثقافي" المؤسسة سنة 1985 في جامعة مينيسوتا أن «الهدف من وراء النقد الثقافي يمكن التعبير عنه بأقصى قدر من الشمولية، على أنه دراسة القيم والمؤسسات والممارسات والخطابات الموروثة في إطار أصولها وتكوينها وآثارها السياسية والاجتماعية والجمالية". (ليتش ص 410). وتجمع هيئة تحرير المجلة مثقفين يساريين من ماركسيين مثل فريدريك جيمسون وهيدن هوايت، ويساريين غير متحزبين مثل بول بوفي ونعوم تشومسكي وادوارد سعيد، والرائدتين في مجال النسائيات أليس جاردين وجاياتري سبيفاك، والماركسيين البريطانيين تيري إيجلتون وريموند ويليامز .. وغيرهم. وينفي ليتش أن يكون كل تفكير يساري في أوروبا أو أمريكا مرتبطا بماركس، ولذلك يسمي النقد الثقافي "بما بعد الماركسي". فالاشتراكية والنقابية، في نظره، تعودان إلى ما قبل منتصف القرن التاسع عشر. والماركسية، وفق رأيه، إن كانت ملائمة لمجتمعات الرأسمالية الصناعية، فهي ليست كذلك بالضرورة لمجتمعات الرأسمالية الاستهلاكية في القرن العشرين؛ حيث لم تعد الصراعات الحقيقية ـ في أمريكا ـ ضد الطبقية، بل ضد الأسلحة النووية والحروب الأسيوية والتفرقة العنصرية.

ويستضمر نفي ليتش لماركسية "النقد الثقافي" ـ في العمق ـ التصور "الماكارثي" الأمريكي ذا النزعة العدائية والإقصائية لكل ما له صلة بالشيوعية (تداعيات حرب "فيتنام"). ولعل ذلك هو الحافز الذي دفع ليتش أولا إلى ربط بدايات حركة "النقد الثقافي"، "بالنقد الاجتماعي" عند الجيل الأول من "مثقفي نيويورك" في أواخر الثلاثينيات، مع ادموند ويلسون وإرفنج هو وفيليب راف ومجلتهم "بارتيزان". ودفعه ثانيا إلى تجاوز اشتغال تيودور أدورنو سنة 1949 على مفهوم النقد الثقافي في مقالته "النقد الثقافي والمجتمع" حيث انتقد أدورنو مسلمات الثقافة الأوروبية وقيمها السلطوية، وهو يهاجم النزوع الألماني التآمري ضد الأقليات، وشاركه في تلك الناهضة أمثاله من ذوي الانتماء اليهودي. (الرويلي والبازعي ص 306 ـ 307). ينعت ليتش النقد الثقافي بما بعد الماركسي أو بغير الماركسي، ويوضح قصده بما بعد الماركسية عبر الإحالة على تحول العمل التقدمي الراديكالي منذ الستينيات، من الصناعيين إلى الناشطين من أجل السلام والتوازن البيئي وحقوق النساء والتمكين العنصري. ورغم أن حديثه عن النقد الثقافي لا ينفصل عن الهوية الأمريكية، إلا أن ليتش يؤكد أن فضل التحول من التحليل الكلي إلى التحليل الاختلافي، في كتابات المثقفين ما بعد الماركسيين، يعود إلى الفرنسي ما بعد البنيوي ميشيل فوكو "الذي تفوقت أعماله كثيرا في حقبة ما بعد فيتنام على أعمال دريدا أو لا كان من ناحية التأثير والانطباقية في أوساط نقاد ثقافيين أمريكيين ما بعد ماركسيين أو غير ماركسيين مثل جرينبلات وسعيد وشولز وسبانوس". (ليتش ص 404).

حرص النقد الثقافي بميسمه اليسارى على وضع الظواهر والمنتجات الجمالية في علاقة مع كل الهيئات الاجتماعية والأعمال الثقافية الأخرى. ويفترض هذا الحرص في الناقد، فضلا عن التحليل النصي، البحث في الأسس الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والمؤسسية والتاريخية للإنتاج والتوزيع والاستهلاك الثقافي. من عمق هذه الشمولية نبعث دعوة النقاد اليساريين والأكاديميين إلى إنشاء أنماط اكتمالية من الدراسات الثقافية كفيلة باستدعاء كل تلك المداخل وكفيلة بإغنائها. وساد الإجماع (الأمريكي/ الأنغلوسكسوني) منذ الستينات، عند نقاد الأدب اليساريين أولا على توسيع مفهوم الأدب، معارضة للأدب المؤسسي وانفتاحا على النصوص النسائية والأدب الشعبي وأدب الطبقة العاملة، وثانيا على إعادة تعريف الأدب ليشمل المادة غير الأدبية. وأطلق على هذا المشروع اليساري لإعادة تحديد الأدب وإعادة تصوير النقد منذ أوائل الثمانينيات اسم "الدراسات الثقافية" وتم اعتماده. (ليتش ص 408).

بناء على كل ذلك، تستوعب الدراسات الثقافية النقد الثقافي وإن تولدت عن نضجه؛ فيستعاض في النقد الثقافي عن مفهوم الأدب التقليدي بفكرة "النص" عند "ما بعد البنيوية" خاصة مع بارط ودريدا، ويتسع النص في الدراسات الثقافية ليحيط بكل أنواع النصوص، منزاحا إلى ما وراء حدود الصفحة والكتاب، ليشمل الممارسات المؤسسية والأبنية الاجتماعية. وقد تصور روبرت شولز نشوء مشروع "الدراسات النصية" (في كتابه "القوة النصية" 1985)، وعد تيري إيجلتون مصطلح الأدب مصطلحا وظيفيا متغيرا وتشكيلا اجتماعيا وتاريخيا، ولذلك يقول: "من المفيد أن ننظر للأدب" بوصفه الاسم الذي يطلقه الناس من وقت لآخر، ولأسباب مختلفة على أنواع معينة من الكتابة داخل مجال كامل أطلق عليه ميشيل فوكو اسم الممارسات الخطابية" (ليتش ص 410). ومن ثم لم يعد موضوع الدراسات الثقافية منحصرا في الأدب، مثل النقد الأدبي، بل موضوعها الممارسات الخطابي التي تقدم أبنية بلاغية تلتحم فيها المعرفة بالقوة، ويحيل هذا الأمر على استثمار ثان لمفاهيم "ما بعد البنيوية" داخل مجالات النقد الثقافي والدراسات الثقافية؛ رصد ـ آنفا ـ استثمار مفهوم "النص" عند بارط ودريدا، ويلمح الآن استثمار مفهوم "الخطاب" عند فوكو. 

(III) ـ النص والخطاب
بارط : موت المؤلف ولذة النص
يهدف هذا المحور إلى تحديد للمفهومين استنادا إلى تكثيف انتقائي، اعتمدت فيه المقالات والكتب المحددة في مرجعية كل مقطع وهي: "موت المؤلف" ـ "لذة النص" ـ "حوار مع دريدا" ـ "رسالة إلى صديق ياباني" ـ "نظام الخطاب" ـ "حفريات المعرفة". ويحرر بارط ضمن "موت المؤلف" القارئ ـ في مقاربة هذا الأخير للنص الأدبي ـ من أي التزام بمدلول نهائي، فالكتابة قد غيبت سلفا كل الأصوات، وضيعت كل الهويات بدءا بهوية النص ذاته، معلنة موت الكاتب. والنص ليس ترجمة لعواطف أو مشاعر أو نزوات كاتبه، بل ترجمة لمعجم معد من قبل لا يمكن تفسير كلماته إلا بكلمات. وبتناسل العلامات والدلالات تبطل دعوى فك رموز النص لأن الكتابة إنما تضع معنى لتبخره. ومن ثم يغدو القارئ مانح وحدة النص. ويعمق بارط في "لذة النص" سمات ذلك النص بمدارات اللذة والمتعة. فالنص الذي يلتذ القارئ به هو الذي يمنحه قراءة مريحة، أي النص الذي يأتي من صلب ثقافة القارئ ولا يقطع صلتها به. أما النص الذي يستمتع به القارئ فهو المتعب الذي يزعزع ثبات أذواق القارئ وقيمه وذكرياته، ويؤزم علاقته باللغة، ويخلخل قاعدته التاريخية والثقافية والسيكولوجية. غير أن النص الممتع ليس إلا التطور المنطقي والعضوي والتاريخي للنص اللذيذ.

دريدا : عن الكتابة والاختلاف
لئن عد بارط الخطاب حول النص نصا في حد ذاته، فإن جاك دريدا يسمي النص أثرا وليس مجموعة دوال ومدلولات. ويرتبط لذلك النص عنده بمفاهيم الاختلاف والكتابة والأثر والنطق والإلحاق .. وغيرها. ففي سياق "غراماتولوجيا" دريدا التي تنزع إلى زعزعة التمركز حول اللوغوس وتحييد الجانب النطقي/ الصوتي لصالح الكتابة وأثرها المكتوب، لا ينظر إلى النص بوصفه مجموعا متجانسا، ولذلك يهتم دريدا عند قراءة النص، بالاستقرار في البنية غير المتجانسة للنص قصد العثور على توترات أو تناقضات داخلية، يقرأ النص من خلالها نفسه، ويفكك نفسه بنفسه. فالنص يحتوي قوى متنافرة تعمل على تقويضه وتجزيئه. غير أن دريدا يرفض الانحباس في القراءة داخل النص، لأن من شأن ذلك أن يكون احتماء بالحدود المقامة تاريخيا. ولا يقابل ذلك الرفض بأي تشجيع على ممارسة سوسيولوجيته النص أو سيكولوجيته أو سيرة المؤلف، إذ ينعت دريدا كل ذلك بالممارسات الساذجة، تفضي دائما إلى أن يظل شيء ما ناقصا. ومن ثم فالتفكيك، عند قراءة النص، ليس تحليلا ولا نقدا ولا منهجا، وهو ليس فعلا وليس عملية، وإنما يحدث التفكيك "حيثما يحدث شيء"، إن التفكيك "حدث لا ينتظر تشاورا أو وعيا أو تنظيما من لدن الذات الفاعلة ولا حتى من لدن الحداثة".

فوكو: نظام الخطاب وحفريات المعرفة
ينطلق فوكو في تأسيسه لمفهوم الخطاب ضمن حفرياته المعرفية، من كون إنتاج الخطاب داخل كل مجتمع هو إنتاج مراقب ومنتقى ومنظم، فهو يجمع الرغبة والسلطة، لأن الخطاب يمثل تلك السلطة التي يسعى الجميع للاستحواذ عليها. ولأجل ذلك، ليس الخطاب مجرد اقتران بين الكلمات والأشياء، بل هو ممارسات تكون بكيفية منسقة الموضوعات المتكلم عنها. ويكشف فوكو كيف ترمي شروط استعمال الخطاب إلى تقليل عدد الذوات المتحدثة، وتقليصه فيمن يستجيب لتلك القواعد. وهكذا تضبط المؤهلات اللازم توفرها في المتحدثين، وتقيد الحركات وأنماط السلوك والرموز المصاحبة للخطاب، كما تحدد الفعالية المقترحة أو المفروضة وأثر الخطاب على المخاطبين ومدى قيمته الإكراهية. وتأسيسا على ذلك تمارس عملية تملك للسر ولللاتبادل حتى ضمن نظام الخطاب المنشور قي "كتاب". ووعيا بذلك الاستثمار للقوة الرمزية، يدعو فوكو إلى عدم الانخداع بألاعيب "جماعة الخطاب"، المتملكة لأسراره، والمتحكمة في انتظامه، والممارسة لسلطته المحتكرة.

(IV) ـ تحيين التركيب: النص والناقد والعالم
يقارب إدوارد سعيد في مقالته "مشكلة النصية: موقفان أنموذجيان" الوعي النقدي لنظريتي جاك دريدا وميشيل فوكو الرافضين لسيطرة الثقافة المهيمنة أو لما يسميه سعيد "سيادة المنهج المنظم". ويقر سعيد باستفادته من النظريتين الضروريتين، وفقه، لكل موقف نقدي. "فنقد دريدا يتقدم بنا في النص، أما نقد فوكو فيتقدم بنا داخل النص وخارجه"، وذلك من منطلق أن النص مهم عند دريدا لأن سياقه الحقيقي هو عنصر سحيق الغور كان النقد عاجزا بشكل حقيقي في معالجته. والنص مهم أيضا عند فوكو لأن ذلك النص يسكن في عنصر قوة مع ادعاء الحقيقة. وبمنأى عن كون سعيد يستشرف مشكلة النصية ممهدا لموضوعه بنقد فوكو لدريدا، فإنه لا يتوانى في جل محاور المقالة عن تأكيد عدم إنكار كل من فوكو ودريدا للخاصية التعديلية والثورية الصريحة لنظريتيهما، مستدلا على اشتراكهما في المبدأ الروحي للنص عبر محاولتهما أن يجعلا "ما هو غير مرئي" عادة في النص "مرئيا" (أي الأسرار المختلفة لنصيته وقواعده وعملها)، واشتراكهما كذلك في رفض المزاج العام اليقيني للثقافة الغربية المسيطرة في أعرافها الموجهة والموحدة والمميزة.

(يخلص ادوارد سعيد في مقالة ـ فيما يذكرنا بمواثيق النقد الثقافي ـ إلى الإعلان الآتي: "إن اهتمامي هو أن أوظف ثانية الخطاب النقدي في شيء أكثر من جهد أو منهج قراءة تقني دقيق للنصوص والموضوعيات غير المحددة". فالنقد عليه، حسب رأي سعيد، أن يخرج من النص الأدبي الكبير إلى السكن في حيز ثقافي متنازع عليه هيمن على تطور معارفه "الدال" وترك آثارا باقية في الذات الإنسانية. ويختم بيانه الثقافي قائلا: " سنكون قادرين ـ فيما أحسب ـ على أن نقرأ ونكتب ونحن نحس بالخطر العظيم للفعالية التاريخية والسياسية التي امتلكتها النصوص الأدبية، وكذا كل النصوص"). ادوارد سعيد. ضمن نيوتن. (ص 174 ـ 179). ولقد فعل ادوارد سعيد ذلك البيان التعاقدي وخصصه فيما أبدعه من دراسات ثقافية منهجية، يستلزم ولوج عالمها إنتاج نص آخر عن الناقد. فالأفكار في "الاستشراق" وكذلك "الثقافات والتواريخ" لا يمكن أن تفهم بجدية دون أن تدرس قوتها، أو بشكل أدق، تشخصات قوتها". (الاستشراق ص 41). والسلطة تفيض وتنتشر وهي مقنعة وذات مكانة، تؤسس شرائع للذوق والقيم، ولا تفرق عن أفكار تمنحها، ولا تفرق كذلك عن التقاليد والمنظورات والمحاكمات التي تشكلها وتنقلها وتعيد إنتاجها، مما يستدعي الحاجة إلى تحليل تلك السلطة. (الاستشراق 53). وتحليل السلطة، حسب سعيد، لا يقضي تحليلا لما هو خفي في "النص الاستشراقي" مثلا بل يقتضي تحليلا لسطح النص، لخارجيته بالنسبة إلى ما يصفه. (الاستشراق 54).

أما الثقافة في "الثقافة والإمبريالية" فيصفها سعيد بالمهجنة المولدة المتخالطه. فهي ليست نقية أو منفردة بل منشبكة إحداها بالأخرى فهي ثقافات وليست ثقافة واحدة. (ص 70) وتستحث هذه الخاصية ادوارد سعيد لاستجلاء تاريخ المغامرة الإمبريالية المصاغ في شكل معطيات ثقافية. لكنه منهجيا، لا ينتقد الثقافة الإمبريالية، تلك الإمبريالية التي تقدمت دون هوادة خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، وإنما يستقصي بالنقد كذلك ثقافة الشعوب المستعمرة ـ في تلك الفترة ـ مركزا على ثقافة المقاومة والمعارضة. (ص 68). نظرا لأن مبدأ الهوية يتم استفزازه وتحديه حاليا وبشكل متنام، في ظل التحالفات والاصطفافات الجديدة المنسوجة عبر الحدود والأنماط والأمم والجواهر (ص 69).

في الختام يظل بارط من بين أعلام ما بعد النبوية الحاضر الغائب، وكأنه حين أعلن موت المؤلف أعلن موته أيضا، فهو الناقد الذي نستحضره حين نمارس متع القراءة دون أن نذكره، مقاومة أخرى تقتضيها ربما ثقافة المعارضة. 


saidataqi@gmail.com 

المراجع:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـ دريدا جاك: "في الاستنطاق والتفكيك": حوار أجراه مع دريدا كاظم جهاد.
"رسالة إلى صديق ياباني" في الكتابة والاختلاف، ترجمه كاظم جهاد، تقديم محمد علال سيناصر، المعرفة الفلسفية، دار توبقال الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1988.
ـ نيوتن ك. م : نظرية الأدب ـ قراءات أعدها وقدم لها نيوتن، ترجمة عيسى علي الكاعوب، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، الطبعة الأولى 1996.
سيلدن رامان: النظرية الأدبية المعاصرة، ترجمة جابر عصفور، دار قباء القاهرة 1998.
إيجيلتون تيري: "صورة الثقافة" في مجلة فصول العدد 63 ـ 2004.
ليتش فنسنت: النقد الأمريكي من الثلاثينيات إلى الثمانينيات، ترجمة محمد يحيى، مراجعة وتقديم ماهر شفيق فريد، المجلس الأعلى للثقافة 2000.
الرويلي ميجان والبازعي سعد: دليل الناقد الأدبي، المركز الثقافي العربي ـ الدار البيضاء ـ بيروت الطبعة الرابعة 2005.
ـ بارط رولان: "موت المؤلف" ضمن "نظرية الأدب" نيوتن، ترجمة عيسى علي الكاعوب 2000.
ـ لذة النص، ترجمة فؤاد صفا والحسين سبحان، المعرفة الأدبية، دار توبقال، الطبعة الأولى 1988.
فوكو ميشيل: "نظام الخطاب" في جينيالوجيا المعرفة، ترجمة أحمد السطاتي وعبد السلام عبد العالي، دار توبقال، الدار البيضاء. الطبعة الأولى 1988.
ـ حفريات المعرفة، ترجمة سالم يفوت، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت الطبعة الثانية 1987.
سعيد ادوارد: "مشكلة النصية: موقفان أنموذجيان "ضمن" نظرية الأدب"، نيوتن، ترجمة عيسى علي الكاعوب 2000.
ـ الاستشراق: المعرفة.السلطة.الإنشاء، نقله إلى العربية كمال أبوديب، مؤسسة الأبحاث العربية، شوران ـ بيروت، الطبعة الخامسة 2001.
ـ الثقافة والإمبريالية، ترجمة كمال أبوديب، دار الآداب، بيروت الطبعة الثالثة 2004.