بدلا من المراثي، يعرض الكاتب المغربي هنا لرواية «ليلة عرس» للكاتب المصري الموهوب الذي اغتاله المرض قبيل منتصف الشهر الماضي وهو في شرخ العطاء، ليكشف لنا عبر قراءته للرواية عن أن من يبدع عملا بهذه الروعة لايموت.

رمزية الاحتجاج ضد المجتمع القمعي

ليلة عرس يوسف أبو رية

هشام بن الشاوي

تبدأ الرواية باستيقاظ زكي مع أذان الفجر، وكالعادة، يوقظ أخاه حودة، الأصم الأخرس، بالماء، قبيل ذهابهما إلى السوق. حودة الذي تعود على اختلاس النظر إلى الجارة فكيهة زوجة فكري النقاش، التي تثير كل شباب البلدة، وسبق أن غافلها وتحرش بها، يتحجج بالتبول، من أجل ممارسة هوايته، والدموع شهوة تسيل على الخدين، وحين لمحها وهي تخرج أدوات زوجها أشار إلى موضع القلب، مسبلا جفنيه، ورفع أصابعه مضمومة إلى شفتيه.. تدفعه خارجا عند سماع نداء زوجها، وهو يتوق إلى لمس نتوءات جسدها المثير.. لتتعلق نظراته بجسد الجارة نوال، التي تمسك بيد أختها العمياء الشيخة عايدة، في طريقهما إلى المقبرة، للتكسب بتلاوة قصار السور، وينقض عليها.. فتوبخانه، يعنفه أخاه، ويرد: "قلت لك أكثر من مرة زوجني".

وبالتوغل في الرواية يكاد القارئ يلمس الأمكنة مع قوة الوصف، وبلغة مكثفة، غير متحذلقة، تزاوج بين الفصحى والعامية، تماما كلغة يوسف إدريس، ونصوصه الباذخة، وهذا الحضور المشع للعالم الريفي يذكرنا بـ "أرخص ليالي" للدكتور يوسف إدريس، وكذلك قصته الشيخ شيخة، التي يتماهي بطلها مع شخصية حودة، وتغوص الرواية في عالم كائنات على حافة الحياة، متواضعة الأحلام.

يركبان عربة الكارو في اتجاه السلخانة، وأخذ نصيب محل المعلم عثمان. ونتلصص ـ كقراء ـ على شمس الشابة الجميلة زوجة المعلم، وهو يغادر البيت.. يتذكر كيف كان يراقبها وهو مع أبيه الجزار، يبيعان لحم البهائم، التي تذبح وهي على وشك الموت، ثم يستحضر زواجها من المهندس، وغبّ مصرعه في حادث سير تزوجها، بعد أن صار غنيا بفضل معرفته لعلية القوم. تترجى شمس المعلم ألا يسيئ التصرف خشية الفضيحة، بعد أن أخبرته بفعلة حودة، الذي تجرأ ومدّ يده إلى صدرها، بيد أن المعلم لا يوافقها الرأي ويعتبره مجرد أبله، لأنه رغم عاهته، يفضح المسكوت عنه من خفايا البلدة.. بلغة الإشارات، لهذا يأنس إليه الزبائن، ويطلبون منه أن يحضر الطلبات أو يعد (الجوزة)، ويطلبون منه أن يقلد فلانا، وحتى المعلم عثمان شغله ليتسلى بحركاته.

ونتعرف على شخصية أخرى، فاعلة، ومؤثرة في صنع الحدث، الشيخ سعدون المتدروش، الذي يلبّي ذلك النداء السري، فيختفي ولا يعرف أحد متى يعود. يبتهج المعلم بحضوره، وبما يحمل إليه من هدايا (محفزات جنسية). يخبر الشيخ بفعلة حودة، وتتوقف عربة الكارو بالذبيحة، يعانق حودة الشيخ مبتهجا، ويلوح له المعلم غاضبا.. ينتحي به الشيخ جانبا، يخبره بأن المعلم قد قرر أن يزوجه، ويستغرب المعلم حل الشيخ معتبرا إياه مكافأة وليست عقابا. ويجدّ حودة في العمل لكسب ودّ المعلم، وعند مغادرته المحل، فوجئ بأن كل من يصادفه يهنئه، وحتى الجارات يمازحنه، ويسألنه كيف سيتصرف مع عروسه، وينظر مشبوبا إلى فكيهة، التي تغضبه بقولها أن العروس ستخونه. يستحم، ثم يدفع عربته غير عابئ بكلام الجارات. وتستبطن الرواية أعماق الشيخ سعدون، وحياته الزوجية الباردة بسبب عنته، وفي الطريق يحاصره الأطفال متعلقين به، طالبين البركة، ويقابل زكي ويحذره من أن يكون قد نبه أخاه، لأن ذلك من أجل مصلحته، أما حودة فشكره، وسأل عن العروس التي يعرفها الكل إلا هو!!

ونتعرف على زبائن فرح، وحكاية المعلم الفخراني، الذي كسدت تجارته بسبب الإقبال على المواد البلاستيكية، فهدم فاخورته وأنشأ مكانها زاوية ليتعبد فيها لوحده، وحاول الانتحار أمام الأهالي بأن يرتمى في النار، مدعيّا النبوة، ويتحسر على زمنه، وليعزي نفسه، يخبر الشيخ بأن (الموكيت) أتى على صناعة الحصير، ويقص عليه الشيخ حكاية حمارة الدهشان، الذي عاقبها بحرمانها من البرسيم، بعد أن أوقعته من فوقها، وحين تمكنت من قطع الحبل، راحت تلتقط الفضلات في الشارع، وحينما وقفت أمام الجامع، لاح لها الموكيت الأخضر، ظنته حقلا ممتدا من البرسيم، وبقيت بين الصلاتين تقضم بنهم، حتى مجيئ المؤذن.

يصافح الشيخ عثمان حمادة، وحيد فرحة الذي أخطأه الموت، المتشبه بالنساء، ويتحسس جسده الطري، وهو الذي تأثر بالغواني اللواتي كن يزرن بوظة جدته، ويسافر معهن إلى الموالد والأفراح. صارحه الشيخ بأنه يريده يوم الخميس، وقد اختاره لأن يكون العروس، ثم غادر بوظة فرحة، وأصابعه تعبث بمسبحته الطويلة، متوجها إلى بيت نسناس لشراء المخدرات، قاصدا دار (أبو عاشور) حيث يحلو السهر في بيت الرجل، الذي لا يفارق مؤشر مذياعه إذاعة القرآن، ويتجادلان حول تفسير بعض الآيات، وسط قهقهات الحشاشين، في حضرة المعلم عثمان. ثم يبدأ همس الشيخ والمعلم عثمان حول تفاصيل الزفاف.

يعود السارد إلى حودة، ويتحول السرد إلى ضمير المخاطب، إلى مونولوغ مسترسل، ويغرق حودة في ترحيب وتهاني الأهالي، يتجه إلى المحل للتأكد من وفاء المعلم بالوعد، وبعد أن يقتني جلبابا وحذاء جديدين، يمضي صحبة صبي المحل عمور إلى بيت المعلم عثمان.. يلمح زوجته في الشرفة، تتجاهله وتتفادى تحيته، وحين ضاقت بصياحه بصقت على الأرض، وأشارت إليه بيدها متوعدة بأنها ستذبحه، وأخذه عمور إلى غرفته فوق سطح المعلف، ثم اتجه إلى بيت العروس/ حمادة، الذي تذكر حلمه القديم بالتمثيل، حين كاتب سعاد حسني، وردت عليه متمنية أن تراه في استوديو التصوير، لكن أمه عارضت رحيله.. وأيقن أن هذه فرصته لإبراز موهبته.

أمام محل الحلاق هلل الشباب لظهوره، منتظرين العريس حتى يزفونهما، ويستقبله الشيخ طابعا قبلة على خده، ويشرح له التفاصيل. ويأمر المعلم زكي بإغلاق المحل، ويوصيه بألا يضعف ويتعاطف مع أخيه. بيد أنه يحس بتأنيب ضمير لتواطئه معهم ضد أخيه عند عودته إلى غرفته، وأدرك بأنه يمكن أن يخسر مورد رزقه، بينما الجميع فرحون من أجل هذه الفرجة، وكأن بينه وبين كل واحد منهم ثأراً شخصياً!. يجد أخاه يغتسل، والجارات يسألنه للتأكد إن كان المعلم سيوزع اللحم. عند مغادرته الغرفة، وجد حودة المكان خاليا.. الكل هناك، واندهش عند رؤية فكيهة، التي اشتهى أن تكون آخر من يرى قبل المغادرة.. تدعوه إلى فنجان شاي، يسألها عن زوجها، يعرف أنها وحدها في البيت، يلبي الدعوة، وتترجاه ألا ينفعل، وتقص عليه لعبة المعلم كاملة..

يحس بأنه يريد أن يصرخ، لكنه غير قادر... يسألها كيف عرفت، تخبره بأن زوجها علم حينما طلبه المعلم لدهن غرفة العرس، والبلدة كلها تعرف، وسألها إن كان زكي يعرف أيضا، فردت بأنه أول العارفين.. ودفن حزنه في حضنها، ووجد نفسه يستسلم لغوايته، عريسا غارقا في بحر حنان متلاطم. عند تأخر وصول العريس، طلب المعلم من زكي البحث عنه، غير مصدق أن يبوح أحد بالسر، وبإشارة منه انفض المولد، دون أن تكتمل الفرجة.

صباحا تعود الحياة كالمعتاد، ولا أثر لحودة في البلدة.

ويلمح زكي عربة الكارو، والركاب يدفعونها في المطلع الصعب، ثم يقفز فوقها إلى جانبهم، وتندفع في اتجاه السلحانة. للإشارة فإن هذه الرواية فازت بجائزة نجيب محفوظ للأدب الروائي عام 1995، وترجمت إلى لغة شكسبير، وبعد هذا العرض الموجز للرواية، سيوقن القارئ بأن المبدع الحقيقي لا يموت، وأن هذه المتعة السردية الصافية هي سلوى قلوب محبيه، أصدقائه وقرائه الملتاعة... ومن الأعماق سيهتفون: "ستبقى حيا في قلوبنا.. يا يوسف، حتى لو خذلك عبدة حطام الدنيا. فلا تبتئس يا عزيز، أنت الحي وهم الأموات!!!". 


كاتب من المغرب