يتناول الكاتب السوداني المرموق هنا أحد أحدث الكتب الصادرة بالألمانية عن واحد من موضوعات الساعة في أوروبا وهو الهجرة، وكيف عالج مؤلفه الموضوع برصانة وخلفية فلسفية حدد بها أوجه القصور في سياسة الهجرة الالمانية والأوروبية؛ وقدم حلولا فيها قدر من التفاؤل، ولم ينج من الوقوع في بعض التناقضات.

التفكير عبر الحدود وأخلاقيات الهجرة

كتاب يوليان نيدا ــ روميلين

حامد فضل الله

تقديم
صدر عن دار Edition Körber – Stiftung كتاب (التفكير عبر الحدود وأخلاقيات الهجرة)1 للكاتب وأستاذ الفلسفة يوليان نيدا روميلين2. والكتاب من الحجم المتوسط ويضم 241 صفحة. ويحتوي بالإضافة الى المقدمة والخاتمة على عشرة فصول، بالعناوين التالية: 1 ـ الالتزامات الأخلاقية. 2 ــ المسؤولية: الفردية والجماعية والعالمية. 3 ــ الطائفية مقابل الكونية. 4 ــ العدالة الدولية: التحدي العالمي. 5 ــ الجوانب الأخلاقية لهجرة الفقر. 6 ــ الجوانب الأخلاقية للهجرة الناجمة عن الحرب والحرب الأهلية. 7 ــ الجوانب الأخلاقية للهجرة الاقتصادية. 8 ــ سبعة مُسلمات أخلاقية لسياسة الهجرة 9 ــ شرعية الحدود. 10 ــ نحو عالم أكثر عدالة.

جاء في المقدمة: "يظهر للكثير من المراقبين، بأن أزمة اللاجئين الأوروبية التي امتدت من سبتمبر 2015 حتى مارس 2016، تم القضاء عليها. لقد تراجع عدد المهاجرين بشكل واضح نتيجة أغلاق طريق البلقان والاتفاقية بين الاتحاد الاوروبي وتركيا. يبدو أن الوضع عاد للتهدئة، وقلت الاِثارة السياسية، ولكن يجب على المرء ان لا ينخدع لهذا التطور. فلا تزال اسباب اللجوء قائمة والوضع في شمال افريقيا والشرق الأوسط لم يستقر بعد؛ وتأمل الملايين من الناس في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، أن يتمكنوا من مغادرة بلادهم، إذا لم يتحسن الوضع الاقتصادي والاجتماعي. كما اتخذت الحكومة منعطفاً جديداً، فلا ذكر لثقافة الترحيب والحق في الاِقامة أصبح أكثر تقييداً. في هذه الحالة لا بد من إعادة النظر في دور حدود الدولة ومناقشة الجوانب الأخلاقية للهجرة وسياسة الهجرة. من الواضح تماما وجود أزمة في اتجاه الممارسة السياسية والخطاب العام، والتي يمكن أن تتطور إلى تهديد للديمقراطية الليبرالية والاجتماعية، فالنجاح الانتخابي للقوى اليمينية الشعبوية يثبت ذلك. سوف يتم، في هذا البحث أجراء محاولة لتوضيح الجوانب العقلانية الأخلاقية للهجرة وتجاوز المعارضة التقليدية المضللة بين المثالية الأخلاقية من جهة، وبين ما يسمى بالسياسة الواقعية من جهة أخرى. ولتحقيق ذلك لا بد من الابتعاد عن الصور النمطية السياسية التي تنتشر بين اليمين واليسار من الطيف السياسي، ولكن ايضا في الفلسفة والعلوم الاجتماعية. يطمح هذا البحث ايضا إلى إقامة جسر بين الأخلاق والسياسة، الذي يساهم في أحسن الأحوال، إلى إنهاء الأزمة الحالية. إن الذي يريد ان يعبر هذا الجسر، فليعلم بأن الطريق ليس ممهداَ، فلن يعبره إلا من هو على استعداد لإخضاع احكامه المسبقة الخاصة للاختبار والاعتراف بالحقائق التجريبية والمعيارية.

مراجعة ونقاش:
يقوم الكاتب بعد مقدمته الضافية، بتقديم أفكاره بالتفصيل عبر الفصول العشرة. عارضا وشارحا ومعارضا آراء الآخرين فيما يتعلق بالالتزامات الأخلاقية من الفلاسفة القدامى والجدد مثل أرسطو أو الفيلسوف الالماني كَانْت ومقولته عن "حق الضيافة الكونية"، كما جاء في مقالة "السلام الدائم 1795 "، و بيتر سنجر و الفيلسوف والاقتصادي الهندي أمارتيا سن ودراسته الكبيرة عن "فكرة العدالة" معارضا فيها " نظرية العدل" لـلفيلسوف الأمريكي جون رولز. ويواصل ... يمكن الحديث بوضوح عن قيم ومعايير والكشف عن أساسياتها وتحليل العلاقات المتبادلة وتبرير البيانات المعيارية الخاصة بهم، ويرى ان ليس هناك فرقا كبيرا، كما يُعتقد، بين الفيزياء والفلسفة من حيث العقلانية العلمية وان اختلفت وسائلهما وهو يتبع قول أرسطو "لا يمكن إجراء تمييز واضح بين الأخلاق والقانون والسياسة والاقتصاد". وهو لا يناقش في هذا المقال الجوانب الثقافية والسياسية والاقتصادية للهجرة في حد ذاتها، ولكن من حيث التقييم المعياري لها.

ويرى في قضية المسؤولية أنه من المفيد، ولمزيد من الحجة، أن نوضح أولا فهمنا للمسؤولية وما هي المعايير التي يمكن اتخاذها بالنسبة للمسؤولية، سواء أكانت فردية أم جماعية أم عالمية، وما هي العلاقة التي تربط بعضهم ببعض؟ وهل يمكن اختزال أي شكل من أشكال المسؤولية إلى المسؤولية الفردية؟ وهل تواجهنا العولمة الاقتصادية والثقافية، كأفراد أو دولة، بمسؤولية لا يمكننا الوفاء بها؟ أو هل نحن نعيش في فترة من تاريخ العالم تذوب فيها المسؤولية السياسية أو على نحو متزايد في نظام عدم المسؤولية المنظم؟ أن مفهوم المسؤولية ضروري لأي شكل من أشكال الرأي الأخلاقي. فعندما لا يتحمل الناس أو التجمعات أو الدول، المسؤولية عما يفعلون، فلا لزوم أطلاقا لأي تقييم أخلاقي.

يناقش الكاتب التعارض بين الطائفية (الجماعتية3) التي تؤكد الهوية الخاصة وبين الكونية (الكوزموبوليتانية) التي يتمتع بموجبها كل الأفراد بمكانة أخلاقية متساوية، وحقوق مواطنة عالمية. وبما أن الهجرة ظاهرة عالمية والاسئلة التي تطرحها لا يمكن أن تقتصر على انتماءات المجتمع المحلي، فعلاج هذا الموضوع يحتاج الى نظرة كونية. أن مناقشة أخلاقية الهجرة من منظور إنساني عالمي، وليس من منظور قومي أو من وجهة نظر مجموعة محددة، لا ينفي مشروعية وجهة النظر المحلية.

ويقول في فصل، "العدالة الدولية: التحدي العالمي"، بان العالم ليس عادلاً، لأن الملايين من الناس يعانون سوء التغذية المزمنة، على الرغم من أن القطاع الزراعي في جميع العالم ينتج أكثر من تغطية الاحتياجات الغذائية الضرورية لسكان العالم. والعالم ليس عادلاً، لأن جزءاً كبيراً من سكان العالم لا يزال في حالة فقر على الرغم من أن هذا البؤس يمكن معالجته من خلال تعاون منصف في جميع أنحاء العالم. إن عدم المساواة ليس في حد ذاته مؤشراً على الظلم فحسب، بل نتيجة عدم مساواة الأفراد واستمرارهم في الحرمان. إن الاحترام الفردي الذي يستحقه الانسان، يدعو للمساواة كمواطن وكبشر، والتي يجب فرضها وتأمينها من خلال حقوق المواطنة وسيادة القانون. "أن المساواة في المعاملة كإنسان تدعو الى العدل في العالم".

يقوّم الباحث في الفصول: الجوانب الأخلاقية لهجرة الفقر، والهجرة الناجمة عن الحرب والحرب الأهلية، والهجرة الاقتصادية وشرعية الحدود، بتزويد القارئ بكثير من التفاصيل الهامة التي تتعلق بالسوق والاقتصاد والعولمة وفتح الحدود والعمالة الرخيصة. فالطبقة الدنيا في الدولة المضيفة، التي تعيش تحت الضغط الاقتصادي سوف تتعرض لضغط أكثر من خلال الهجرة، مما يؤدي الى تأجيج الصراع بين العاملين في الدولة المضيفة واللاجئين. وتَعَّرضَ لسياسة الدول الغربية، التي تراعي المصلحة الذاتية على حساب مصالح وشعوب الدول النامية.

فهو يرى، فيما يتعلق بالقضية المركزية الأخلاقية في حالة الحرب والحرب الأهلية للاجئين، بأن اندماج المهاجرين بشكل عام، ليس مفيداً. إن الاندماج في سوق العمل والمؤسسات التعليمية وفي الثقافة ولغة البلد يحتاج الى منظور طويل الأجل، أي إقامة دائمة، ولكن الغرض هو توفير الحماية الموقتة، ثم العودة لدعم إعادة بناء أوطانهم. وهو ضد الحدود المفتوحة، ويرى بأن مشكلة اللاجئين لن تحل عن طريق فتح الحدود، ولا عن طريق ثقافة الترحيب. فمن الحقائق المؤلمة، بأن بؤس أكثر من ملياري شخص في العالم لا يخفف بشكل كبير في ظل ظروف ثقافة الترحيب الأكثر سخاء والحدود المفتوحة في البلدان الغنية. كما انتقد أيدولوجية السوق اللبرالية الجديدة (النيولبرالية) وتدخلات الغرب في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بمساندتها نظما تسلطية أو الاطاحة بها أحيانا عن طريق التدخل العسكري المباشر، كل ذلك من أجل المصالح الذاتية، التي قادت الى الفوضى السياسية التي تعيشها المنطقة الآن.

جمع الكاتب مختلف الحجج، التي ناقشها من أجل العدالة العالمية في سبعة مُسلمات أخلاقية، مع شرح وافي لكل مُسلمة ومُعللا غايتها وواضعا بذلك الأساس لسياسة هجرة إنسانية:

1 ــ بناء سياسة الهجرة بحيث تساهم في خلق عالم أكثر إنسانية وعدلاً.

2 ــ بناء سياسة الهجرة في الداخل، بحيث ينظر اليها في المجتمعات المضيفة كأثراء وليس تهديدا.

3 ــ يجب أن تكون قرارات سياسة الهجرة متوافقة مع حق تقرير المصير الجماعي للمواطنين بالداخل.

4 ــ يجب أن توضع سياسة الهجرة بحيث لا تودي الى تفاقم عدم المساواة في البلد المتلقي ولا تهدد هياكل المساواة الاجتماعية (دولة الرفاه) وامكانية قبولها من جميع الطبقات الاجتماعية، فعدم تحقيق ذلك، يدفع الى تنامي القوى اليمينية الشعبوية والنزعة القومية، مما يهدد الديمقراطية بصورة عامة.

5 ــ إن سياسة الهجرة بصورة عامة وخصوصا المتعلقة بالاقتصاد والعمالة، والتي تترتب عليها أضراراً لمناطق المنشأ، يجب أن يتم تعويضها بالكامل.

6 ــ بما أن الهجرة، حسب كل المعلومات المتوفرة ومقارنتها مع الوسائل الأخرى لمكافحة الفقر في العالم وتخفيف التفاوت بين عالم الشمال وعالم الجنوب وبين المناطق المتطورة اقتصادياً والأخرى الأقل تطوراً، اثبتت بأنها غير فعالة وفي معظم الحالات تأتي بنتائج عكسية، فيجب ألا ترتبط موارد تضامن المجتمع الدولي في الغالب بالهجرة العابرة للقارات فحسب، بل يجب أن تستخدم التحويلات السخية لبناء نظام اقتصادي عالمي عادل في المناطق الفقيرة.

7 ــ لا تطلب شيئا من سياسة الهجرة، ما لا ترتضيه لمحيطك الاجتماعي الخاص، ولا تمارس في محيطك الاجتماعي الخاص ما تتوقعه من سياسة الهجرة.

قدم روميلين في كتابه "أخلاقيات الهجرة" مادة رصينة وتحليلا واقعيا حدد فيه أوجه القصور في سياسة الهجرة الالمانية والأوروبية؛ وقدم حلولا بكثير من التفاؤل، الا أن التناقضات القليلة في بعض تحليلاته ــ مثل نقده لإيديولوجية السوق النيولبرالية وفي نفس الوقت يدافع عن سياسات اللبرالية الجديدة للمستشار جيرهاد شرودر، التي اثبتت فشلها، وحتى حزب شرودر، الحزب الاشتراكي الديمقراطي، بدأ يتنصل منها الآن. وكذلك عندما ينتقد بحق الحرب على العراق ويرفض تصدير الديمقراطية، الا أنه ينتقد دعم أوروبا للمعارضة السورية وزعزعة استقرار الدكتاتوريات في شمال أفريقيا ــ لا يقلل من قيمة هذا البحث الهام والجاد، بما يقدمه من مادة غنية وخاصة للقارئ الذي يريد ان يتعمق في الموضوع، فالكتاب يحتوي على مصادر مهمة تحتل 42 صفحة.

إن قراءة المادة تتطلب جهدا، فأسلوب الكاتب ليس سهلا، وحججه لها خلفية فلسفية، ولكن القارئ الصبور هو الرابح في النهاية. يختتم روميلين "بما يلي: "لا توجد وسيلة للخروج من المسؤولية؛ والعمل السياسي يجب أن يستند إلى القيم والأعراف الانسانية. أن قدرتنا على محاربة الفقر في العالم هي بمثابة اختبار لإنسانيتنا. أذا استطاع هذا البحث زعزعة التحيز الايديولوجي وتعزيز الأساس العقلاني للتقييم الأخلاقي والسياسي للهجرة وسياسة الهجرة، يكون قد حقق الغرض منه. إن القدرة على التمييز والوصول للحكم الصائب لها ثمنها. وهي قدرة تبقى بلا تأثير في غياب الشجاعة الأدبية".

برلين

هوامش:

1-Julian Nida – Rümelin. Über Grenzen denken, eine Ethik der Migration, Edition Körber – Stiftung, Hamburg, 2017

2 ــ يوليان نيدا ــ روميلين، استاذ الفلسفة في جامعة لودفيج مكسيميليان في ميونيخ ووزير الثقافة السابق في الحكومة الائتلافية الأولى للمستشار الألماني السابق جيرهارد شرودر. تتركز ابحاثه في الفلسفة السياسية ونظرية العقل والأخلاق.

3 -)Kommunitarismus , communitarianism)