يقترح ديوان الشاعر المصري نموذجا لقصيدة التفاصيل الصغيرة التي تتكئ على لغة بصرية توظف حسا نثريا، ولغة شفافة تصيغ رؤاها الشعرية كي تؤطر في النهاية تفاصيل عالم مليء بالمفارقات لا تطيقه القصيدة لأنه لا يطيق حب الحياة والجمال.

موت مؤجل في حديقة (ديوا ن شعر)

محمد الحمامصي

 هنا
أو هناك
ثقب عار لقبر يصطاد العصافير

ـ (1) ـ
وجها الباب يفتحان علي مقعد فارغ

ـ (2) ـ
رأسه أمامه
تدور وتهتز
تخفق الرؤى
وتتلوها..

ـ (3) ـ
كيس القمامة الذي يفتح فمه لفضلات المارة
دون تفرقة تذكر
حتماً جدير ببعض الاحترام..

ـ (4) ـ
في السادسة صباحاً
تراه واقفاً
في الواحدة ظهراً
تراه جالساً
في الخامسة عصراً
تراه متكئاً
في المساء
تراه نائماً
في النوم
تراه يقظاً يتهيأ للرحيل..

ـ (5) ـ
لست أكثر من صورة
سقطت من جيب أحدهم
دون أن تخلف لديه أدني شعور بالحزن
عندما ذاقت طعم التراب
والماء
ودهستها الأرجل
أشرق الفراغ..

ـ (6) ـ
ضحك المياه الضحلة
في الشوارع التي لا تعرف اسماً
ولا تستقبل الجميع
مجرد وجوه لم يكتمل رسمها
عبرت بخطو مثقل بالغبار
ونزيف ينتظر أن يجف..

ـ (7) ـ
ينزلق فيه الليلُ
فوهةَ بندقيةٍ
يُفرغُ ما يحمله من قطع الظلمة
في جوفِهِ
حتى يَرَى لجوفه هناك طافياً فوق برك الأزقة والحواري
يقرأُ عتبات الفقد
يصعد درج الخيانات
ويشهد لتعريها
يمر بقرابين وأصنام وهياكل ودماء
يصرخُ
لأنفاس تتخلق في رؤوسها الحرائق
لأقدام تكسّر الوجوه
لأيدٍ ترسم تخاريف الأرواح الذابلة
يصرخ
كل هؤلاء قتلة
كل هؤلاء وقود نار
يصرخ
حتى يبلل الموت جفنيه..

ـ (8) ـ
لا تخف أو تشمئز
حين تراها عارية تنفض الهواء،
تتكئ علي أحد أعمدة الإضاءة،
تتوسط رصيفاً أو إشارة مرور،
تخطب في جمهور موقف الحافلات،
أو تعترض المارة..
المرأة التي تكنس الوجوه بلحم قدميها
وتحمل فوق ظهرها كيس قمامتها
وعلي وجهها تاريخها
ليست إلا
مجرد خطأ..

ـ (9) ـ
الجنود الذين ينامون منتصبين علي جانبي الطريق،
وفي ساحات النصب التذكارية،
وعلي أسطح وأبواب الأقبية والقلاع،
الجنود الذين يلتحفون الأحذية والخوذات والشوم والهراوات،
في الشتاء والصيف،
في الليل والنهار..
الجنود الذين تتورم أجسادهم فرحاً بابتلاع الأنفاس
في موكب الرؤساء..
الجنود الذين يحرسون بلا رحمة
كوابيس المحتاجين والعابرين والغاضبين..
الجنود الذين يتصاعد الغناء من عرباتهم المصفحة
في رحلة الذهاب والعودة..
ميراث ميت لميت قادم..

ـ (10) ـ
نهاره الممتلئ بالشوارع والممرات والصراعات
وليله الذي خلفته الأقدام والإطارات والوسائد أشعث أغبر
لا يملكان
أكثر من لون واحد
لغطاء جثمانه
لون جلده المتهالك
الضوءُ
وحده لا ينتظر تشييعه إلي المثوى الأخير.

ـ (11) ـ
منذ أن أغلقتُ عيني علي عينيها
واستقبلت صوتها
مزقتُ ألف مشهد ومشهد
لجنازة تتكرر
ولا يتبعها أحد..
نعشها تتوسده الأمكنة
وتحمله الأسئلة..

ـ (12) ـ
لم تكن أكثر من امرأة في حديقة
باعته كرسياً وحلماً
وتركته وحده
يصرخ فرحاً
علي عصافيره التي طيرتها..

ـ (13) ـ
في هذه الساعة من الليل
علي من تنادي؟
من تخاطب؟
يسأل
ولأنه يعرف أن المسافة أكبر من أن يعبرها صوته
أن يده التي تحمل شارة الغضب لن تصلها
يضحك
يضحك
حتى يرتجف لضحكه سور النافذة
لكنه يعاود النداء
استيقظي
هذه الشمس التي تخوض فيها قدميك دمي؟
استيقظي
هذا الماء الذي تروين منه أنفاسك هوائي؟
استيقظي
إنك تلبسين رائحتي
وتنامين في لوني
هل تسمعين؟
استيقظي
صوتي ليس بعيداً عن عريك..

ـ (14) ـ
فمه العاري
هتف حتى مات فيه صوته
(لست أنا بل أنت)

ـ (15) ـ
لابد أنه ميت
الذي يجهل كيف يخون مرآته..

ـ (16) ـ
هناك
بيت هناك
علي الجانب الآخر من الطريق
طابق أو طابقان أو أكثر
بلا ميزة سوى أنه غير قابل للتكرار
قبل أن تراه
سوف يلوح بكلتا يديه
يفتح شباكاً ونافذة
ويهمّ لاستقبالك
يفرغ منفضة سجائره
ويجهز كوباً من الشاي
بيت هناك
ينادي علي وحدته..

ـ (17) ـ
وحدي أمام ملابسي
وحدي اغتسل علي مرأى منها
أفسح لها الطريق لتنزع عريها مني
وترى عريي الخارج منها
وحدي أمامي
وحدي أمام عريي
وحدي وقت غير كاف للضحك..

ـ (18) ـ
الغرفةُ خلف الباب
تنتظر
والبابُ في الشارع
يصالح الوقت بطرقات الغبار..

ـ (19) ـ
ماؤنا يغسل ملامحنا تارة
يعجنها تارة أخرى
يبلل الهواء تارة
ويتدفق فيه تارة أخرى
يخلق صوراً كهيئة الضوء تارة
وكهيئة الطير في أغصانه تارة
ماؤنا صوتُ فرحٍ لا يأتي متشابهاً

ـ (20) ـ
النافذة في المرأة
تخلع ثوبها
تهيأ العري للخروج إلي الطريق
بحراً كاملاً..

ـ (21) ـ
من مصباح إلي آخر
يتواصل النداء
يقترب ثم يتدفق
علي وجه هنا
يختفي بين كفين ناما
علي سور نافذة مظلمة
أفق قبل أن تطيح بفنجان القهوة
اشرب
تكتمل الخطوط
تدخل متاهة الغائب..

ـ (22) ـ
يسمع لخطوات
يهب إلي النافذة
آثار ريح
تنتهي إلي عتبة باب مجاور
تفرغ حمولتها في أحد ركنيها وتنام
يستدير عائداً لسالف عهده
يغلق عينيه استعداداً لقادم جديد
امرأة تتأبط ذراعاً
تهمس لصاحبها
كن لي
أكن نهراً
شجرةً لعصافير أحلامك
تصرخُ
لماذا لا تكون لي؟
جدرانُ جسدك ستجد الأضلع التي تقبضها
صوتُك سيجد من يُكفّن صمته
أنفاسك ستجد من يسرقُها
كن لي
لماذا لا تكون لي؟

ـ (23) ـ
الموت وحده لا أكثر
يغطي جسده
يمنحه وسادة حقيقية
يضحك لصوره علي الأرفف
صورُهُ التي تملأ خزانة كلماته
طفلٌ حافي القدمين
يرتدي طينه
يتأبط ميراث وقته
ويسأل عن شارع يقف خلفه
كبئرٍ مهجور
طفلٌ تمزقت وجنتاه
هجرتُهُ عيناه إلي اللا شيء
يستند إلي حضن لا يبدو من هيئة صاحبه إلا الصدر
ويدٌ تقبض بأصابعها أطراف القلب
الموت وحده لا أكثر
يمضغ كلُّ شئ.

ـ (24) ـ
هي حفرة متيقظة
هو عصىً غافلة
هما قبو معتم لصوت قديم..

ـ (25) ـ
فرحاً أستحضره
أيها الوجه الجميل
تدفق عليّ
غطني حتى لا أراني فيّ
يداي اللتان امتلأتا بضوئك لم تعودا يديّ
عيناي اللتان طافتا بحديقتك لم تعودا عينيّ
إني هنا أودع ملامحي
                  لمساتي
أطمس معالم مقعدينا في الحديقة
الحديقة التي تحتضن النيل
إني هنا يطوقني لهبُ الخوف
خوف التخيل وحيداً علي فراش الذاكرة.

ـ (26) ـ
كل الذي أراه
أني معلق في سقف الغرفة
أن آخر يتسلقني
ينزع عني أعضاني
أعضائي تتقافز تحتي
تتركني وحدي وتهرب
كل الذي أراه
أني معلق في صوتي
أني تعريت من عيني..

ـ (27) ـ
ثقتي في أن أحداً لن يراه
تطمئنني
الموت الذي يكبر الآن في عيني
نافذة ضوء إلي من أحب..

ـ (28) ـ
الدم الذي تدفق
حتى غطى سماء وجهه
وثقب في الجسد غياباً أبدياً
لم يكن وراءه مجرد تلامس
أو عطش طال
كان وراءه مجرد صورة تقليدية
لفرح رجل يري حبيبته لأول مرة..

ـ (29) ـ
الفرح أن ترى حبك في عينيها
يزغرد حين تطل صورتك من نافذة القلب
تسمعه
يركض هنا أو هناك
يملأها بالظمأ
ويغمرها بالانتظار..

ـ (30) ـ
كل ما بقي منها
وجهُهُا
ثقب نافذة في القلب
يفتحها في الوقت الذي يحلو له
يكونني حين تتلوث الأرض
وتتناثر الأوقات والأمكنة علي الأعضاء
حين تتدفق أصوات الألم
وتملأ شهقة الروح حركة الجسد الأخيرة
كل ما بقي نافذةٌ علي وجهها
دموعُ شهوةٍ..
تضيء بقربي مني..

ـ (31) ـ
أطلت عليه
واستقبلت صعودها..
عصافيره التي حملها سراً
وقال لها وللهوى
بعضنا من بعض
فرح يبحث عن تأجيل موته..

ـ (32) ـ
النافذة ليست ببعيدة عن الطريق
واكتمال الظلمة
يحمل رائحة إناء تفحم
نار لا تزال موقدة
طقطقة شرر يتطاير منه بعض ضوء
وتراجع ظل ليس امرأة..

ـ (33) ـ
لا أحد هناك سواك
تملأ عنقها بأنفاسك
وتتمنى لو حملت جسدك كله
إلي قبرها المحفور أسفل قدميك..
أيها الجالس علي حافة الشمس
ترفق قليلاً بظلك علي الحائط..

ـ (34) ـ
الضوء الذي يتوسط الظلمة
الضوء والظلمة اللذان يقتسمان الأشجار
الماء الذي يتوسط جزر النيل
النفق الذي يغطي الرأس
الطريق التي تمضي دون عناء
النهد الذي تنشجو حلمته بين الأسنان
والآخر الذي تعتصره الكف
ثمة شيء هنا
يتعرى بلا ضجيج..

ـ (35) ـ
الظل يغزل من أشجار النهر
غرفاً وفوانيس
مقاعد وطاولات
أنفاس وقبلات
وينادي
أيتها الأوراق اخطي قليلاً
لكي تعبري بنا الماء..

ـ (36) ـ
كل شيء مهيأ للاستقبال
الأصواتُ
الأنفاسُ
الأعضاءُ
ملاءاتُ السرير
ستائرُ النافذة
الأكوابُ علي الطاولة
البابُ
إلا ذلك اللحمُ المتبلُ بالدم
في الأركان الأربعة لحجرة الدفن

ـ (37) ـ
الماء الذي يتخلل المسافة بينهما
أقام جزراً وجبالاً وتلالاً ومتاريس
رسم حدوداً
وصف جنوداً
الماء الذي يتخلل المسافة بينهما
                سقط لتوه من فوهة الكلام..

ـ (38) ـ
شفتاها اللتان تحسستهما بأطراف أصابعي
أكثر من مجرد بئر
دلوٍ يتخبط من ثقل امتلائه
كانتا جبلين الوصول لقمتهما
لا يعني فقط مجرد السقوط..

ـ (39) ـ
وجهه المنكفئ
ويداه العاجزتان عن طرد الغبار
ليس إلا حزناً يشغل قلبه
إذا مررت بجواره
يمكنك أن تري كيف تغيب الروح
كيف يُستقبل الغيابُ في الجسد
يمكنك أن تسمعَ طقطقة أنين ينخر الوقت
المقعد الخالي
يدرب ساقيه علي حمل الفراغ..

ـ (40) ـ
السور
النيل
قصار الأشجار
فوانيس الإضاءة
فنجان القهوة
السيجارة
الكرسي الفارغ
نظرات النادل
صخب القدمين أسفل الطاولة
ارتعاش اليدين
الرأس الممتلئة بالفرجة
غياب الكلام
جفاف الجسد
غبار علي كرسي
موت مؤجل في حديقة..

ـ (41) ـ
لو أظلتني الشجرة
لو أطعمني الوقت
لو رأيتُني في عينيك
لو رأيتُك
حتماً كنت سأبقي
هناك
أعلي الجسد المقابل للروح..

ـ (42) ـ
كنت أتجرد من جسدي وأنزل
أمضي إلي هناك
إلي حيث لا يراه أحد،
يتدفق،
أغتسل وأخرج فيه،
الماء كلام الغياب..

ـ (43) ـ
هل أعري ملامستك
ضوء عينيك
ماء وجهك
رائحة عطرك
الشارع
السنة
اليوم
الساعة
وأقول للمارة هذا هذيان روحي
هذا هو الحب فاقتلوني..

ـ (44) ـ
لأن زمناً ممن خبرت،
لا يعترف بخلقها
لأن أرضاً مما خطوت،
لا ترى لها أثراً
لأن أحداً ممن رأوها لم يرغب لها في البقاء،
روحي تنام في العراء
لا يدخلها ليل أو نهار..

ـ (45) ـ
العظام المتطايرة
ليست إلا مؤشراً
لقرب إجهاز الجدران علي الرأس..

ـ (46) ـ
أيها الضال
العمي بانتظارك
لا تحدق أكثر
الوجه مقبض سكين
والرأس نصلها..

ـ (47) ـ
بادرني بقرب موته
الفرح
يلوح لي بثياب حداده..

ـ (48) ـ
النوافذ تعري ثيابها للهواء
وتنام مستلقية عليه
تستقبل تخلل نسمته العليلة
وريحه الحارقة
بجوع يوقظ نوم المارة..

ـ (49) ـ
عتبته التي حررها الفرح
تفضي إلي كل الأكف التي طرقتْهُ
البابُ
يدربُ لحمه علي شهوة الاتساع..

ـ (50) ـ
الروح التي تنتظر قبراً يليق بعارها
لا تؤمن بموتها
ثيابها لا تزال تربط الجسد
تجرجره مكشوف الحواس من وحل لوحل
تأكل
تشرب
تبيع وتشترى
تخون وتسرق
تنام وتصحو فوق مائدته
ماذا يمكن أن يفعله جسد ساقط في ظلام النهايات؟

ـ (51) ـ
بوح الجريح
مصباح ينزف أخر قدرة له علي الاشتعال..

ـ (52) ـ
البئر جف ماؤها
العطش
الآن
بلا وجهة..

ـ (53) ـ
عند الوصول إلي هناك
لن أستقبل أحداَ
لذا أناشدكم نزع المخ،الأحشاء،
القلب، الكبد، الرئتين،
نظفوني كشاة يتم تجهيزها لوليمة عظيمة
وبعد أن تملأوا أيديكم وأفواهكم
وتتأكدوا أن شيئاً مني لا يحمل منكم شيئاً
غادروني
الغياب وحده هو القادر علي حملي إلي هناك..

ـ (54) ـ
حتى السقوط لا يملكه
الرجل الممدد علي أسوار هروبه
من أين له بكل هذه الخطيئة؟

ـ (55) ـ
الوقت يصطاد الجسد
المصباح يفضحه
الجدران تعتصره
التدفق ينتظر حدثاً يشبه الدم
لكنه ليس دماً
الغائب خطيئة اشتعال..

ـ (56) ـ
يحتضن خياله،
يبكي ما آلت عليه صوره،
الفراش يحفر لحده..

ـ (57) ـ
في حديقته
تنام خطوات شهوتها
مقيدةً بيقظةِ عصافيره..

ـ (58) ـ
أطلق ما شئت علي ما شئت
السهم يعرف الطريق إلي جرحه..

ـ (59) ـ
البحر الذي يحتضنه
حتى يبلل أضلاعه
يشبه حلمه بالفرح..

ـ (60) ـ
لماذا كان عليه أن يضحك فيما يسمع صوت ارتطامه؟
تساءلت،
بعد أن ابتلعت سقوطه
وشهدت براءتها من صوره
بعد أن طافت مودعة
وغادرته إلي آخر..

ـ (61) ـ
دعني أتردى في صوري
صوري الغنية بحبها
إذ لن يصلح تغييبك لي في محوها
دعني أراني أنزف كل مائي
وأنتشي من فيض تيبسي
دعني أقترب من الأرض
أرسم لي حدوداً
وأزرع وقتي
دعني أرها وهي تتنفس أزهار روحي
وهي تطحنها ثم تشربها بعمق
دعني أحتضن نعوشي
دع نعوشي ترفرف
تملأ دروب الهواء صخباً
دعني أرى كيف يكون السقوط في حفرة؟
كيف ستتلقفني الأرض؟
أي ضلع سينكسر أولاً؟
هل يطال الغبار والظلمة قلبي؟
دعني
إني أرى كيف تحيى جذوري علي الجانب الأخر من الحب..

ـ (62) ـ
انتصب كجبل
ثم بادر بتحدي الريح
تجهم
أو اضحك
المهم ألا تنكفئ علي وجهك بعيداً عن موطأ قدميك..

ـ (63) ـ
سيجارة عند النصر
سيجارة عند الهزيمة
تجول دامٍ بين الجدران والأسطح
بين وسادات الأسرة والكراسي..
الرأسُ تقاتل
تَقتل
تذبح
وتراوغ..
الجسد متقطع الأواصر
قدماه في جبهة
ويداه في أخرى
وعيناه غائمتان..
الحصار نصف موت
أو موت كله..
سيجارة عند النوم
سيجارة عند اليقظة
دخان تفضحه النار..
فهل بقى شيء لم يفعله الغريق لكي ينجو بعجزه؟

إنه يحدق هناك

ـ (1) ـ
طالبته كثيراً أن ينظر في عينيها
أن يغتسل بمائهما
أن يشرب
أن يتزود
لكنه أجبن من أن يفعل
كان يكتفي بأن يراه هناك يملأ صفحتيهما
تلفه الماء والأشجار ولا تبلغه
فلا شيء يحتمل الرحيل دونه..

ـ (2) ـ
لم يكن يود أن يقول أكثر
الفرح لحظة عزيزة
حين قبضها بكلتا يديه
لم يصدق أنه هو
أنها له
أخذ نفساً عميقاً
ثم أغلق الباب..

ـ (3) ـ
حين همت بالرحيل
أحس بثقل البناء
من قبل لم يكن يبالي
كان يسمع خطواتها
ضحكاتها
كلماتها المملة
وهي تحفر في القلب
تبني غرفاً
تنقل إليها أعضاءها
وتؤثثها بذاكرة وصور وحكايات
.........................
.........................
حين همت بالرحيل
كان يتأمل غفلة الشارع
ويكتم أنفاسه من عادم السيارات
ويغوص في وحل الذاكرة..

ـ (4) ـ
أقسمت له أنها تحبه
إذ لابد أن تحبه
وأمسكت بيده حتى انفجر منها الماء
الماء يلامس وجهه
الماء يجرف الجسد
الماء علي عتبة الروح
الماء مقعد في غرفة

ـ (5) ـ
كل ما فعله في ذلك اليوم
ضحكة خاسرة
دفع بعدها الباب
وخرج..

ـ (6) ـ
وجهه للشارع وعيناه علي المارة
العتمة وحدها لا تكفي للاحتماء
حتى في ظل الأشجار..

ـ (7) ـ
اقترب حتى لفحه بياض ساقيها
وسقطت عيناه في الماء
ويداه علي وجهها
وشفتاه علي يدها
الآن
يدها في صدره
صدره لم يعد هناك
صدره يدفع ثمن الذكرى

ـ (8) ـ
يُغرق الطاولة بأزمنة انتظاره
ويرتعش من هول الصور
الجالس إلي ذاكرته
يحتضن كفيه
ويمضي إلي منتهاه

ـ (9) ـ
ليلتها أغمض عينيه
دون خوف من ابتلال وجهه،
ودعاها للضحك،
ألبسها كل الفساتين،
وناجاها بكل الأسماء،
تأكد أن كل ما فيها جميل
فقط.. في مرآة كفها الموحشة..

ـ (10) ـ
ألمه الساقط علي كفيها
لم يكن أكثر من جرح
لا يذكر تاريخه
جرح من جراح
بعضها علي هيئته
بعضها علي هيئة الطير
أخرى علي هيئة البحر
من بعيد يبدو كشرخ في جدار
من قريب يبدو كوحل
في كل الأحوال يجب علي المارين جواره التزام الحذر..

ـ (11) ـ
يدخل غرفتها
يبحث عن مفتاح الإضاءة،
شباك أو نافذة لاستقبال الهواء،
لتسلل بعض النور،
يتأكد أن لا شئ هناك
يشعل عود ثقاب
ينتظر أن يضئ
لكنه لا يفعل
يعود للباب
يصرخ: أين الباب؟
لا يسمع لصراخه
يلامس الأرض والجدران والسقف
يمسحها بيديه ورجليه وبطنه
يلعقها بلسانه
حتى إذا انغرس رأسه
لطمه الماء
والهواء
والنور
ساعتها فقط
تحسس روحه
انتهي من حيث يجب أن يبدأ..

ـ (12) ـ
يدفع بقدميه إلي الأمام
وظهره إلي الخلف
حتى يكتمل تمددها
تضحك علي عينيه المغمضتين
وأنفاسه المبعثرة علي صدرها
أسنانه التي تبني قلاعاً من الألم حول رقبتها
وتغيب
تحمل ماءها وتصعد
تصعد
تصعد
إلي حيث لا يستطيع أن يراها
تصعد
حيث لا يكون سواها تطارد تدفقها..

ـ (13) ـ
هو وحده الذي يعرف حجم غيابه
لحظة الحزن
ومع ذلك ينبغي عليه أن يكرره
كي يعلن
أن الموت كله حرّ..

(الأعداء)

ـ (1) ـ
الأعداء وحدهم يؤنسون وحدته
ينامون
فوق نعشه
تحته
علي جانبيه
وخلفه
مستحقين شكره الخالص
الذي يمد به يده،
كلما حاول أن يموت،
إذ كيف يتسنى له أن يموت
والأصدقاء الذين يكرهونه
لم يصلوا بعد
.....
.....
لا موت
قبل أن يجتمع اللصوص كلهم
علي سرقة حياته..

ـ (2) ـ
هتفوا لحياته
لتراب أرصفته
لصناديق قمامته
لضحكات رجال شرطته..
هتفوا لعبوره علي أجسادهم في سلام..
الأطفال القذرون
يتجولون
في محبة
بين الأقدام والأيدي
مطمئنين تماماً
إلي أن أحداً لن يؤذيهم
في نعمة الغبار..

ـ (3) ـ
لن ترى قبراً أو تاريخاً بعد يومك هذا
كل ما ستراه دماء بناتك العذري،
يسقي جثث الخصوبة في شبابك الخصيان.
أيها الميت
سوف يرفعونك فوق أعمدة
لن تطالها الكلاب الضآلة
ولا الحيات والثعابين
ولا تجار الأعضاء
حتى لا يبقى لك منك شئ.

ـ (4) ـ
انفجار الدم في الجسد العاجز
علي الموت
مستحيل..

ـ (5) ـ
نسجوا خيوط قماشه خيطاً خيطاً
وبعد أن غمسوها في دمائهم
خاطوا منها حتى السراويل الداخلية..
فالآن أزياء العار
تخالط الدم والعظم
تقتسم الخصوبة
فهل جاء الوقت الذي أصبح فيه العربي رداءً للعار؟

ـ (6) ـ
عرايا
في موكب الفخر
عرايا
إلا من أظافرهم
رماح أفواههم
يقيمون الموائد
ويفترشون أسرة الوقت
وطاولات باراته
فرحين بما آتاهم
يحطّون علي بعضهم البعض
يحشون بطونهم بجثث الأطفال
التي دفعها حظها العثر في طريق حراسهم
وحين ينفضون أظافرهم
يقرعون كؤوس دم عتّقته الظلمة
عرايا
يمشون علي أربع تارة
وعلي بطونهم تارة
وعلي ظهورهم تارة
عرايا
حراس المقابر
يحفرون ظلمة القادمين
يبيتون هناك
علي أرداف السفلة
في ماخور التاريخ.

ـ (7) ـ
العار الذي تجره الخيول
العار الذي تزفه الراقصات
وتلعب في حلبة موكبه القردة والخنازير
العار لحم ودم
كسرة خبز
سنبلة وزهرة
وأحياناً وطن..

(فرحي يغرر بك)

ـ (1) ـ
عيناك
أنفاسُُ
تنذر الهواء الغياب.
فيما أغمض الطرف
                انتظاراً
لصدمة التدفقِ
                ميتاً
                في الفرح.

ـ (2) ـ
كل شئ علي مقربة منهما
الماء
والهواء
الجسدان في المواجهة
لكن أحدهما لا يرى الآخر.

ـ (3) ـ
لم يكن أحد سواه
هناك
يقظاً ومنتبهاً
الجسد الذي شربتُ منه
             حتى سَكِرتُ
لايزال غارقاً في امتلائه.

ـ (4) ـ
كنتُ نائماً علي كفيك
      مبحراً في نعمة جودك
وكنتِ تغرسين ضلوعك في ضلوعي
                          تبنين بيتاً ووقتاً
                              تزينين فرحاً
                          وتنضجين خبزاً
كنتُ وكنتِ بانتظارٍ
لقادم يكون.

ـ (5) ـ
أنادي عليَّ
ولا خطو أو جدار يمكن أن أعرفني فيه
أنادي عليَّ
حتى إذا ما رد عليّ بعض صوتي
حططتُ علي بقايا متناثرة
لأطراف جسدٍ خمد لتوه
وروح لاتزال عالقة
وصدى أحرف تتلاشى
عرفتُ..
لا صوت
يعلو وجودك.

ـ (6) ـ
يملأ بوجهه ما بين ذراعيك
فرحك الذي تغلقين عليه عينيك
يضرب بجناحيه في الليل والنهار
                      في البر والبحر
                      في الحضور والغياب
يبحث عن أرض لأطرافه
التي تلدها أنفاسك..
أرض عطشى
لفرح ميت..

ـ (7) ـ
أضحك علي خوفي
أضم يديّ إلي صدري
أربط قلبي
أواري رجفتي
         لهفتي في الارتماء علي ركبتيك
وأضحك..
علي عطشي يتحايل للقبض
علي ماء كفيك
أضحك..
ولا أجرؤ علي الشراب
دافعاً بقدمي في الأرض
وبعيني إلي الطريق
لو أن أحداً يمر
يأخذ بعيني بعيداً عنك
أو يصلح ما يتكسر فيّ
لو أنني أستطيع احتضان وجهك
أشعل نوره في جسدي
لو أن عمقك ليس غريقاً
لو أجرؤ علي الموت

ـ (8) ـ
تفتح بابها
تدعوني لأقبل العتبة
وتنادي علي حواسها
هلم إليّ
حتى إذا تدفق فرحها
صار صوتها يملأني
(ادخلْ)
أدخل
أدخل حتى انتهي بي إليّ..

ـ (9) ـ
لا أثر لشيء
كان أو ينتظر أن يكون
القلب هنا
قطرة ماء
يملؤها النور..

(حداد الجسد)

ـ (1) ـ
ليلة أمس
دفع بمعدته للأرض
بعد أن عاجلته بدس فمها في فمه
كان يود لو رفض
لكن جوعها كان شرساً بما لا يدع فرصة للمحاولة..

ـ (2) ـ
المرأة التي خرجت لتوها من ثياب الحداد
تجرح الظلمة بالعري
وتتكئ عليه
يُسمعها ما كان يحدث
ويزيد
ويزيد
ويزيد..
حتى إذا سقطت أنفاسه
وثَقُل عليه حمل أعضائه
تعرى
العري حداد الجسد
العري معصية الجسد..

ـ (3) ـ
هل نامت
يدخل الخوف متأخراً مشرعاً سكين شهوته
 سبقه الأرق بملعقته
والخيال بآنيته
لا تستطيع أن تنام قبل عمل السكاكين والملاعق
علي مائدته..
ـ تعرف كيف تموت دونه
ـ ماذا تقصد؟
تعتدل
ـ كم من العمر مضى؟
ـ ليس مهماً
لأن المهم: هل ما بقي من الشهوة يكفي لإطعامه؟
ـ الشهوة في ذبول
ـ لا
تتعرى في المرآة
تخاطبه
ـ كيف ترى طعام الشهوة أيها الجميل؟
ـ كثير
سيدتي تعرف كيف تموت دون جسدها..

ـ (4) ـ
يتململ في جلسته
يكاد يميل علي قلبه فيقتله
يصرخ فيه: تحرك
يتأملها تارة
ويبتسم تارة
يغازلها تارة
كل شيء يغرى بالتقيؤ
الشارع
الظلمة
الجسد
لكنه لابد أن يشرب حتى نهاية الأمر..

ـ (5) ـ
رمت بكلتا يديها عليه
وقالت أن صدرها يتسع لاحتوائه
واعتدلت في جلستها
ثم مالت برأسها
وقتها كانت شجرة الجميز تمطر شارع البحر الأعظم بثمارها
وتلقي ببعض ظلها علي السيارة
والتلميذات المراهقات يجربن الحب
علي مقربة منهما
والكناسون في غفلة بانتظار الثمن
أما هو فغارق في كرسيه
يسمع لوسوسة عينيه وهما تهمان بالهروب
يتجاهل رائحة شهوة تقترب
وفم يبدأ في الانقضاض
وذراعان تنغرسان في جسده
تلتقيان في الظهر
يتحرك
يبحث عن دور مختلف عن ذلك الذي أداه بالأمس
يبحث عن رجل آخر غير الذي يعرفه..

ـ (6) ـ
لم يبق شيء لم يصله غبار جسدها
لكن أحداً لا يريد أن ينتبه للمرأة التي تجلو مرآتها
وتستعد للتمدد تحتها
.....................
.....................
مقبرة الزوج لا تبعد كثيراً عن سرير الزوجة..

(ضد الحرب)

ـ (1) ـ
هل نقول غداً
هنا كان بيت تعلو نوافذه سماء صافية
وأشجار تعد بالفاكهة
حين مررنا به كان طفل يلعب
وعصافير تغرد
رجل يقبّل امرأة
وأرجوحة تداعب الهواء
وتنتظر طفلاً أخر
هل نقول غداً
مر من هنا دبابة وقنبلة وقلب أعمي..

ـ (2) ـ
أهيئ طفلي للنوم مبكراً
أوأدعوه لمشاركة أمه وأخيه اللعب
المهم أن ينأى
بعيداً عن الشاشة
لحظة سقوط القنبلة علي مائدة العشاء
لحظة حفر القبر
لحظة انكفأ الأب والأم والأطفال..

ـ (3) ـ
يلقم فاه جثة تلو الأخرى
ويتفل الأشلاء..
يتكئ علي أريكته ثم ينتصب
يداعب كاميرات التليفزيون
الرجل في البيت الأبيض
يرفع أسناناً مخضبة بالدم
حالماً بجثة كل طفل..

ـ (4) ـ
يداه اللتان يطوحهما في الهواء معلناً
العصفور يُقتل
الشجرة تُقتل
الأرض تُقتل
الطفل يُقتل
الأم تُقتل
الأب يُقتل
البحر يُقتل
النهر يُقتل..
يداه اللتان تعددان القتلى
بلا عينين..

ـ (5) ـ
يداك لن تترك ذكري لطفل
لأرملة
لأم ثكلي
لكفن
لنعش
لقبر
فهل تأكل جثث قتلاك سيادة الرئيس؟

ـ (6) ـ
في أي رحم تَخلّـق
أي غذاء أكل
أي هواء تنفس
من يغسل وجهه بالدم؟

ـ (7) ـ
كل طلقة
تنسج كفناً
وتحفر قبراً
بإمكانها أن تسع الجميع..

ـ (8) ـ
الجسد ممزق وعارٍ
في الأفواه التي تلوكه
والدم يحاول تجاوز العار
تدهسه الأقدام
وكاميرات التليفزيون تنقل المشهد
إليكم
أنتم
نعم أنتم
أيها الأعداء..

ـ (9) ـ
الجسد بيت الوطن
الوطن ليس بيتاً للجسد..

ـ (10) ـ
لا يسد جوعها ملء الأرض موتي
الحماقة فوهة الحرب..

ـ (11) ـ
يلملم أشلاءه ويمر
يحمل قوته ويمر
يحتضن أطفاله ويمر
يحفر صمته ويمر
يهيل التراب عليه ويمر
يصقل سكينه ويمر
يضحك هازئاً ويمر
الثأر يعبّئُ طعنة القصاص..

شاعر من مصر