يقدم الناقد المصري هنا قراءته لرواية محمد أنقار وكيفية ترجيعها لأصداء مدينة القاهرة المحفوظية، وهو يسعى لتخليد مدينته تطوان المغربية. ويكشف من خلال القراءة عن تضافر الواقعي بالمتخيل في السرد، وقدرته على إثراء فهم القارئ للعالمين معا.

أصداء القاهرة في مدينة تطوان

قراءة برزخية للبداية والنهاية فى رواية «المصرى» للكاتب المغربى محمد أنقار

رضا شحاته أبوالمجد

رواية "المصري" للكاتب "محمد أنقار" رواية تبحث داخل ذاكرة المكان عن الزمن الجميل الضائع فى بلاد تجيد كتابة المراثي تسمى مجازاً بلاد العرب البعيدة، رواية "المصرى" تبحث في القلب عن وطن واحد في دواخلنا، وتنقب عن روح المكان في كل ما هو قديم وعتيق شيدته الذاكرة، داخل مدينة مغربية بيضاء تشبه الحمامة في وداعتها، تسمى "تطوان" تلك المدينة التي ترقد علي حافة ماء بحر المتوسط، وتسمى مجازاً كما ينعتها الناس ببنت "غرناطة"، إنها المدينة المشعة بالنور والضوء والتي تنثر علينا بعضا من عطرها عبر نص روائي حالم يبحث عن تاريخها الإنساني ويحمل روح الكاتب الهائمة بين ذاكرة المكان فيها، وبين ذاكرة نجيب محفوظ لقاهرة المعز. وفى هذا السياق يمضي "محمد أنقار" في طريق الغواية لبناء عوالمه الإنسانية وملكوته المستقل المتمازج والموازي لتصور الوجود في الروايات المحفوظية، مخلفاً نصاً روائياً عن مدينة "تطوان" يعبق بنكهة الزقاق والحوارى القديمة ويمتلئ بالصوت والضوء والشوق للعلاقات الروحية بين الناس، وذلك في بناء روائي حي ينضح بالشاعرية والشجن للمكان.

فى الكتابة دائماً نخاف من البدايات وأحكامها المتوترة خاصة عندما نتحدث عن ناقد وروائى أسمه "محمد أنقار" ولكن عند تناول لغة الكتابة في رواية "المصري" يمكن القول أن الراصد للصياغة اللغوية فيها يدرك أن هذا الكاتب يمتلك أسلوبا سرديا سهلا متدفقا إيقاعيًا كزخات المطر، كثيف المعنى، متفجر "بطبوغرافيا" المكان وتراكم أحداث الزمان، وهذا الإيقاع الحيوي المتلاحق للسرد يواكبه حالة من التعبير متموجة تتداخل وتتقاطع فيها الآفاق الزمنية والمكانية، هذه الحالة الوجدانية تشكل حالة تشبه التيه في الزقاق والدروب المتعرجة والمتموجة في أحشاء القاهرة ومدينة تطوان. إن حالة الالتباس بروح عوالم "نجيب محفوظ". في هذا الأفق السردي للرواية تتولد من تحاور شخصيات تاريخية "محفوظية" وأخرى معاصرة تعيش بيننا في "تطوان" حيث يزاوج الروائي بين زمنين مختلفين في صيرورة واحدة، إنها حالة البرزخ في التعبير المنبثقة عن التمازج والتداخل بين المكان والزمان في القاهرة وتطوان.

إنها تقنية الهروب الكبير والتوسع التي تغرق فيها الذاكرة بالتفاصيل المتعددة في عملية السرد، هنا يفقد المرء المتلقي للرواية القيادة للزمن ويتم استلاب الإرادة منه وفقًا لمنطق الحكي. إنها حالة البرزخ التي يسعى إليها محمد أنقار ويجسدها البطل الروائى "أحمد السحلي" في حديثه عن مدينة تطوان.

إن رواية "المصري" للكاتب والناقد المغربي "محمد أنقار" هي واحدة من الروايات التي نستشعر صعوبة في تصنيفها، فهي حالة برزخية لها وجه نحو الواقع ووجه آخر نحو الخيال، وهذا التوسط في الرواية يتحقق من خلال هذه الأصداء التعبيرية الناتجة من التقابل وتردد المعاني الملتبسة في السرد بالإضافة إلى التعدد الزمنى بين العوالم المتقاطعة للحياة في القاهرة ومدينة تطوان داخل الرواية. ومن المظاهر اللافتة أيضاً عند قراءة هذه الرواية هي استشعارنا صعوبة الصنعة في التأليف بين هذه الأحداث الروائية المتفرقة. وظني أن الصعوبة ترجع إلى تحول مسارات السرد المكانية للأحداث في تناوب، والتنقل بين طبقات الزمن المختلفة. فليس للزمن في هذا النص أفق واحد كي تحتله سلطة الدراما فى الرواية.

وقبل الانتقال بالحديث عن البداية والنهاية في رواية "المصري" وبعيدًا عن وحل الكلمات الكبيرة في النقد الأدبي، أريد أن أذكركم بأننا أمام كاتب نقرأه من خلال رواية مضى عليها عقد من الزمن. إنه "محمد أنقار" الذي يحمل مخيال برئ ويمتلك قلبًا أخضر مفعم بالإنسانية والشاعرية، ممتلئ بالحنين للأماكن يتملكه شعور بالحزن ويسيطر عليه هاجس الفقد وتأنيب الضمير عبر سياق الرواية نتيجة لضياع هذا الزخم من الذكريات الجميلة في تلك المدينة المغربية تطوان. وانعكس هذا الحس على تعبيراته فجاءت حميمية دافئة وتركت بعضاً من رواسبها على بطل روايته "احمد الساحلي" الحريص على صلاة الفجر وعلى تلاوة القرآن، ففي كل خطوة كان يخطوها هذا البطل في أزقة وشعاب مدينة "تطوان"، حين كان يطارد الروائح ويتتبع الوجوه ويسجل الدروب والحارات القديمة المشبعة بعطر الأحباب، نجده يملأ الرواية بشلال من الوصف الإنساني المعجون برحيق الحياة والتي كل شيء فيها يذكره بشيء يقول أحمد الساحلي عن الأماكن "وفى زنقة المقدم زكمت أنفى توابل علوس، وتقدمت خطوات فزكمت أنفى ثانية رائحة الكفتة المشوية على جمرات في مطعم الحساني، وتراءت لي صورة الطريق القاهري العتيق كما رسمته رواية قصر الشوق باكتظاظه وزعقته كم مرة قرأت تلك الصورة؟ كم مرة اصطحبت ياسين أبن بطل رواية نجيب محفوظ في زحامها وهو يطارد زنوبة؟"

أما الآن يا صديقي. أريد أن أهمس إليك القول بأن الرواية هي فن التحولات ولرواية "المصري" بدايات ونهايات وهى كعتبات البيوت، التي يجب أن نعبرها قبل الولوج إلى فضاء النص، أو نخطو عليها ونخرج لنغلق أبواب السرد في الرواية ونوقف جريان الأحداث بها لنصل إلى النهاية، أتذكر جدتي حين قالت ببساطة العتبات رزق، وفواصل في المكان عليها أبواباً كثيرة، المفتوحة منها تعنى البداية وتتدفق منها الذكريات والأبواب الموصدة تعنى الوداع والصمت ونهاية الكلام.

ورواية "المصري" هي أنشودة شجية في تصوير المكان، وعتبات الأبواب فيها كالأنفاق السرية التي تأخذك للعبور من عالم إلى آخر داخل مجاهل هذا النص وتحولاته، وهى كالإيحاء المستمر المسلط على المعنى ويصعب على القارئ المتأمل التحرر من سلطانها، عند القراءة فلا شيء محايد في عوالم هذه الرواية الفريدة متعددة الأزمنة.

وفي هذه الرواية يتلقى القارئ أولى العتبات وهو العنوان. تلك الرسالة المقصودة الصادمة التي تعطى الرواية إسمًا وهوية ووجودا، والعنوان هنا جزء لا يتجزأ من إبداع الكاتب فهو نص مختصر ومختزل، يمثل أعلى اقتصاد لغوى ومع هذا يوضح فضاء السرد ويكشف أغواره.

والعنوان في رواية "المصري" جاء موجزاً واضح الدلالة من كلمة واحدة تحمل طاقة بيان هامسة في توجيه القارئ، تستثير العديد من التصورات، وتوحي بالجانب غير المرئي، فهي تشبه قمة جبل الجليد المختفي في المياه الغيبية للنص، وإذا ربطنا العنوان بأحداث الرواية. فهو يمهد للوقائع ولصدمة الدخول إليها، وفيه إشارة رامزة للافتتان بالهوى والعشق لكل ما هو مصري في النصف الأول من القرن العشرين. ومن ثم فالأهمية التي يحظى بها العنوان نابعة من اعتباره مفتاحًا يمنح السرد الروائي بابًا للخروج إلى النهار، ويفضح المكنون الداخلي والحالة الوجدانية المستباحة التي سيطرت على الكاتب في الرواية.

يقول صديقي الحكيم الرجل الناقد المكين ذي الطربوش الأحمر وهو ينفث في وجهي دخان سيجارته المصرية من نوع كليوباترا، أن أبواب النص يا بنى لا تفتح للغرباء، هكذا تقتضى قواعد اللعبة في مملكة الرواية. ويضيف قائلًا إذا كان الغلاف هو المرايا التي تعكس روح النص فالعنوان هو الثريا التي تضئ فضاءه وتساعد على اكتشاف أغواره الدفينة. أظنك ما فهمت!
ويستطرد هذا الصديق الناقد في القول أن عتبات الروايات تحددها البدايات والحكايات. وإذا استعرضنا البداية في رواية" المصري" فليس صدفه أن تكون الدراما الحقيقية فيها تبدأ بمشهد سردي يصف ما يطلق عليه جنائزية وقت العصر، تلك العادة "التطوانية" الفريدة. في دفن الموتى. وهذه البداية المشحونة بهذا الحزن الجنائزي النبيل فتحت بابًا لأصداء الشجن الذي يتردد في فضاء الرواية، ويتقاطع مع أحداثها، كمرثية للحياة.

إن بداية الدخول من خارج النص الروائي إلي داخله بدأت مع بطل الرواية "أحمد الساحلي" عند دفن رفيق دربه "عبد الكريم الصوري" قبل أسبوع من تقاعده وخروجه على المعاش، وهو ما أزكى في وجدانه هاجس الإحساس بدنو الأجل على شاكلة صديقه فهو أيضاً أشرف على التقاعد، لقد فتح الموت خزائن الحزن الكامن بداخلة، لقد أدرك أنه قبل أن يموت مات، وكيلا يسرق الموت المرُ حياته كان عليه أن يبحث عن وجود آخر وحلم حياة يمنحه ميلادا جديدا في الأيام المعدودة المتبقية من عمرة. هنا يمنح أحمد الساحلي هواه للأشياء التي تحيا. فاستحضر أمنياته القديمة في تخليد مدينة "تطوان" في قصة يرويها كما خلد "نجيب محفوظ" القاهرة، معتقدًا أنه بهذا الفعل ربما يخلد روحه التي يزرعها في فضاء وكائنات هذه المدينة. هنا شرعت الذات في غواية الكتابة الروائية كصيغة إنسانية في الحياة والتواجد عبر الزمن، حيث يقرر إنتاج نص سردي يمسك بسحر الأمكنة واللحظات الزمنية وتحولاتها ويسترجع عتاقة ورائحة دروب "تطوان". وظني أنه يذكرني هنا بحالة التوهم لهذا الفارس العجوز "دون كيشوت" البطل المحارب لطواحين الهواء معتقداً بأنه عندما يمسك رمحه، فهو قادر على ثقب جدار الليل في سماء المدينة لينفذ ضوء النهار إليها، لعل الإشراق والزمن الجميل يرجع مرة أخرى إلى محبوبته "تطوان".

إن استحضار بطل رواية المصري "أحمد الساحلي" هذا السيد المسكون باليأس الجميل، لعوالم روايات "نجيب محفوظ" بغية القبض على روح المكان والأشخاص فيها وهى تخوض مغامرتها في الحياة، معتقداً أن هذا التداخل والتزاوج المكاني سيمكنه من تشكيل نماذجه الروائية "التطوانية"، انطلاقاً من افتتانه بالفضاء المشرقي المصري، وولعه القديم "بنجيب محفوظ" ورواياته. وهذا الأمر سيعطي نكهة خاصة للحكاية التي يكتبها "الساحلي"، فيقول "خض مغامرتك الأخيرة مع "تطوان" حقق إن استطعت حلمك المشرقي القديم، واكتب قصة طويلة عن مدينتك العتيقة."

صديقي يا من تمر في الحياة بمدن بلا ذاكرة، ولا تقف عبر عتبات الرواية هنا. تذكر أن التقاطع بين الأحداث الحية وبين الوقائع المتخيلة في أزمنة مختلفة هو الذي يولد السحر والشاعرية والخيال في رواية "المصري" ومن هنا تتجلى تقنية "المونتاج" التي تقوم بضبط نوابض الإيقاع فيها وتوحد بين اللقطات والمشاهد المتعددة والمتعاقبة في أزمنة متناغمة بها حتى تنتظم في بناء روائي حي متماسك وهذا الحضور الإيقاعي يؤثر في انبثاق صيرورة النص وحيويته. وفى هذا السياق تتعدد التقنيات السردية في الرواية. ومن المظاهر البارزة والأثيرة فيها، هو استراتيجية استدعاء شخصيات لها رنين إنساني داخلنا، لتسكن في الرواية كشخصيات ورقية تخضع لسياق النص المحكي.

وفى هذا الصدد سنتوقف عند هذا المكر الجميل في رواية "المصري" حيث يقوم "أحمد الساحلي" باستدعاء وانتقاء لشخصيات حقيقية من الورق تختبئ في ثنايا روايات "نجيب محفوظ" كانت ضمير عصرها، جذابة "كاريزماتيكية" عميقة، جاهزة الصنع ومكتملة تتنفس بعمق في مخيلة القارئ الذي يطالع النص. فتنهمر على رواية "المصري" شخصيات عديدة مثل المعلم "كرشة" بزقاق المدق، "فرج إبراهيم وعاشور الناجي" في الحرافيش، "نور" في اللص والكلاب، "عايدة شداد محبوبة كمال" في بين القصرين وغيرهم من شخصيات الحارة المصرية وهى شخصيات يجمعها الحس الإنساني، ما يلبث الكاتب بتوظيفها من منظورها الخاص، ويجيد تحريكها في النص المحكي، لتعيش زمن الرواية في تطوان بحيث تتسق مع الدراما في النص ولا تتصادم معها.

وهذه التقنية في السرد من شأنها أن تمنح الكاتب أفقًا روحيًا وفكريًا مفتوحًا يتجاوز الأحداث، فهذه الشخصيات لها دواخلها ومنظورها الخاص العميق في ذهن القارئ باعتبارها نماذج بشرية قادرة على أن تحفر أثرها في الذاكرة، مستغل في ذلك ظلالها وعلاقاتها الرامزة وحساسيتها في نفوس الناس. وهو ما يوفر إيحاءًا دراميًا مسلطًا على المعنى في الرواية، يعمل تحت نسيج سطح النص.

وها أنت يا صديقي وصلت أخيرًا .. إلى عتبة النهاية العميقة التي تغلق السرد وتوقف جريان الأحداث والتي تمنحنا باباً للخروج من الرواية فعبر لحظات صدق تراجيدي، يعترف فيها "أحمد الساحلي" بهزيمته وضياع حلمه في الحياة، وعجزه عن منح الخلود "لتطوان" في كتاب يقرأه الناس. وفى نهاية المطاف يقف خجولاً مخاطباً سيدي "على المنظري"، مؤسس مدينة "تطوان" فيقول "ها هي أمانتك الوديعة أردها إليك ... لست في مستوى الأمانة ... أنت بنيت المدينة وكان لك مجد البناء الخالد وأنا عجزت عن وصف ما بنيت ... وأقسم بالله العظيم أنى كنت مخلصاً في نيتي وتجوالي وسعيي، وقبل هذا وذاك كنت مخلصاً في نيتي، وقبل هذا وذاك كنت مخلصاً في حبي، أرجو المعذرة فأنا لست أول ولا آخر الفاشلين". وهنا تنتهي الرواية فمن فتح الأبواب فيها عليه أن يغلقها خلفه. يا أصدقاء لشد ما أخشي الآن الانتظار علي عتبات الأبواب المفتوحة.

 

كاتب وباحث أكاديمي من مصر.