يكشف الكاتب السوداني المرموق هنا عن فساد المدعي العام السابق للمحكمة الجنائية الدولية، وعن تحكم الغرب في تعيينات المؤسسات الدولية بالصورة التي تخدم مصالحه، ويتم عبرها التضحية بقيم العدل والشفافية والأخلاق. وخاصة في منصب المدعي العام لمحكمة كان المنشود منها أن تحارب كل تجليات الظلم والقهر والفساد في العالم.

أوكامبو: على الجانب الخطأ

حامد فضل الله

نشرت مجلة ديرشبيجل الاسبوعية والواسعة الانتشار مقالا بتاريخ 30 سبتمبر 2017 بالعنوان أعلاه مع عنوان فرعي: «جسَّدَ لويس مورينو أوكامبو المحكمة الجنائية الدولية، فهو سلطة أخلاقية. وتظهر الوثائق الداخلية: أنه اُستخدم وبمحض إرادته وبأجر مدفوع لحماية ملياردير ليبي من التحقيقات والملاحقات القانونية.» نقوم هنا بتلخيص هذا المقال الهام أو التحقيق المثير الذي يصب حسب تعبير المجلة في منطقة "الفضائح".

فالموضوع يتعلق، كما جاء في أعلاه، بـ أوكامبو الأرجنتيني والمدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية السابق. «وقف لويس مورينو أوكامبو في قصر السلام في لاهاي وعلى كتفيه ثوب أسود ساطع ورافعا يده ليؤدي اليمين في 16 يونيو 2003، بصفته أول مدعي عام في النيابة العامة للمحكمة الجنائية الدولية ومتعهداً "على الوفاء بواجباتي بطريقة مشرفة ولن أسئ أبداً استخدام سلطتي كمدع عام".»

إن الاِبادة الجماعية في روندا ومذبحة سربيرينيتسا قد بينت بأن العدالة الدولية تحتاج الى مكان دائم، ولذلك قرر المجتمع الدولي إنشاء المحكمة الجنائية الدولية. حيث لا ينبغي لأي مجرم حرب أن يشعر بالأمان بعد الآن، وكذلك تحقيق العدالة لضحايا الصراعات الدموية، انها خطوة كبيرة على طريق حقوق الاِنسان العالمية. لقد كان المحامي الأرجنتيني أوكامبو، بحكم خبرته كمدعي عام في الثمانينيات من القرن الماضي في الدعاوي المرفوعة ضد قادة المجلس العسكري، وتخصصه في حقوق الاِنسان ومحاربة الفساد، هو الخيار الأفضل والأمل لتحقيق هذه العدالة.

بدأ أوكامبو لمدة تسع سنوات وبمساندة 300 موظف، في تعقب والبحث عن أكبر الأشرار في العالم. واصدار مذكرات اعتقال ضد قادة دول، وقد فتنت شخصيته الأخرين الذين يتوقون الى العدالة والأخلاق. ولكن هذه الصورة، كانت خادعة، كما بينته عشرات الآلاف من الوثائق التي لم تكن معروفة من قبل، بما في ذلك الأوراق الداخلية للمحكمة الجنائية الدولية والعقود، والسندات المصرفية والبريد الإلكتروني، التي حصلت عليها ميديا ــ بارت الفرنسية*، وقام فريق من ديرشبيجل بتقييمها، جنبا إلى جنب مع شركاء شبكة البحث إيك.**

لقد ظهرت صورة المدعي العام على حقيقتها، الذي يحب الظهور في وسائل الاِعلام التي تجذب الانتباه، والتقرب، بل وأحيانا ملاحقة المشاهير من نجوم السينما الامريكية، مما يتعارض مع طبيعة ووقار القاضي. ولا يأخذ في الاعتبار تضارب المصالح والذي لديه مشكلة مع المال، وحافظ وتعامل لسنوات طويلة مع العديد من الملاذات الضريبية، أي التي توفر التهرب من دفع الضرائب. ولكن الأمر الأكثر خطورة، هو الاتفاق الذي حصل عليه أوكامبو بعد انتهاء فترة ولايته، ويحصل بموجبه على ثلاثة ملايين دولار لإسداء المشورة إلى حسن تاتاناكي، ملياردير النفط الليبي المشبوه، والمؤيد السابق لنظام القذافي، والمشارك بعمق في الحرب الأهلية الليبية. ومن أجل حماية موكله من قبضة المحكمة الدولية ومستفيدا من معلومات داخلية يحصل عليها عن طريق أحدى العاملات في المحكمة الجنائية، كاشفة له قرارات واسترتيجية خليفته مما يعتبر خيانة لمُثل وروح المحكمة.

يقول النظام الأساس للمحكمة: «يجب على المدعي العام أن يتمتع بـ "مكانة أخلاقية رفيعة"، ولا ينبغي له أن يشارك في أي أنشطة قد يمكن أن تؤثر على الاِيمان باستقلاليته». ولكن الوثائق التي تم الوصول اليها تهز هذه الاِيمان. ولا ينعكس هذا الظل على أوكامبو فحسب، بل على المحكمة في لاهاي، التي تأسست من أجل انتصار الأخلاق على الجريمة.

بالطبع ينفي أوكامبو كل هذه الاتهامات، ولكن اعماله تسير بصورة جيدة: فهو يملك مؤسسة استشارية في نيويورك، وفي صدد تأليف كتاب عن المحكمة الجنائية، و"أستاذ زميل" في مركز حقوق الاِنسان في جامعة هافارد، ومستشار لشركة التبغ "فيلب مورس". أما أكبر مشروع له في الوقت الحاضر، فهو "فنزويلا"، فهو يبحث وينقب بتكليف من جمعية في الولايات المتحدة الامريكية، للكشف عن جرائم ضد الاِنسانية في ظل نظام نيكولاس مادورو. وهكذا يعود أوكامبو ليقدم خدماته الجليلة للغرب ضد فنزويلا، التي تعاني أزمة اقتصادية حادة بسبب هبوط أسعار البترول، ومن المعارضة التي يقودها اليمين المتطرف ورجال الاعمال الجشعين، بمساندة الولايات المتحدة الامريكية، من أجل العمل على اسقاط النظام وخلق فوضى واشعال حرب أهلية.

عندما بدأ أوكامبو في لاهاي، جلب الزخم والقوة في المؤسسة الجديدة. وقد قرر التحقيق ضد أمير الحرب الأوغندي جوزيف كونى، والتحقيق في الجرائم في جمهورية الكونغو الديمقراطية وجمهورية أفريقيا الوسطى. وفي عام 2005 كلف مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة المحكمة الجنائية بالتحقيق في احتمال حدوث إبادة جماعية في دارفور. ولكن سرعان ما أصبح واضحا أن أوكامبو بدأ بأشياء كثيرة وأحب الاستعراض الكبير، ولكنه وجد صعوبة في انهاء قضاياه بصورة قانونية نظيفة. فالإجراءات ضد قائد المقاومة الشعبية المدنية الكونغولية، توماس لوبانغا، كانت تعتمد على شهود مجهولي الهوية، وكاد مشروعه ان يفشل مرتين.

لم يكن النقد الداخلي مفقودا، كما غادر كثير من ذوي الخبرة القانونية المحكمة. بعد انتهاء فترة ولاية أوكامبو، وفي عام 2012، قال القانوني الدولي الألماني هانز بيتر كول وكقاضي لسنوات عديدة في لاهاي، بان أوكامبو قدم لنا شهودا إشكاليين لم يتمكنوا من المساهمة بأي شيء ولا يعرفون شيئا. كما أن الحجة القانونية كانت فقيرة في كثير من الأحيان". واردف بأن أوكامبو "قاد إدارته" كأحد كبار ملاكي الأرض الأرجنتينيين.

ربما كانت بداية الربيع العربي، قضية أوكامبو الأكثر أهمية. ففي 26 شباط/ فبراير 2011، أعطى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة مهمة التحقيق في جرائم الحرب. وبعد اندلاع الصراع كان احتمال الشهود والأدلة أكبر من أي وقت مضى. واتيحت الفرصة للتحقيق على الفور، ولكن كعادته لم يكن أوكامبو مهتما بشكل خاص بالتفاصيل. وتظهر الوثائق الداخلية أن أحد محققيه كان يخطط للسفر إلى ليبيا. وقال في اجتماع داخلي، في 8 مارس/ آذار: "من الضروري التحقيق في مسرح الجريمة لجمع الأدلة الجنائية والوثائقية". لكن أوكامبو عارض ذلك مبيناً "يجب أن نركز على ما يمكن ان يمدنا به الأخرون ". فهو يعني بالأخرين، الصحفيين والمرتدين.

كان الظهور على المسرح العالمي، أكثر اهمية لـ أوكامبو من العمل المضنى الدقيق والجمع والنظر في البراهين والأدلة، مثل نتائج الطب الشرعي الخ. وكما أظهرت الوثائق عدم حيادته بالرغم من انه لا يزال يقول أن المحققين "لا ينبغي أن يهتموا بالمسائل السياسية، فهذه هي مهمة السياسيين"، ولكنه لم يلتزم بهذه القاعدة في حالة ليبيا. فبعد وقت قصير من بداية الغارات الجوية على نظام معمر القذافي من فرنسا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة وبلدان أخرى، اتصل أوكامبو تلفونيا بوزارة الخارجية الفرنسية في 6 أبريل، ليبلغها بالتحقيقات الجارية، ووضح وكشف عن رغبته في "مواجهة القذافي، أو أحد أبنائه، أو ثلاثة أو أربعة من كبار الشخصيات الليبية"، وهي معلومات لا ينبغي للمحكمة أن تتقاسمها مع أي شخص، ولاسيما مع الطرف الآخر من الصراع. وبذلك تسربت بسرعة أسماء المتهمين عبر وسائل الإعلام وتم بذلك تحذيرهم.

"إن رئيس الادعاء ليس مدعيا مستقلا بل هيئة قانونية تتبع تعليمات مجلس الامن"، هكذا جاء هذا الحكم القاتل على أوكامبو ضمن أحدى الرسائل الدبلوماسية الفرنسية. وفي رسالة مؤرخة 6 نيسان/ أبريل 2011 موجهة إلى السفير البريطاني في لاهاي، كتب أوكامبو "أنه يرى موسى كوسا، أخر وزير خارجية للقذافي "كشاهد متعاون أكثر من مشتبه به". وتظهر مراسلاته، اجتماعه مع الفرنسيين والبريطانيين، وأصبح بذلك جزءا من التحالف المناهض للقذافي. لقد ارتكب خطأ جسيما أخر: فهو لم يفصل بين السياسة والقانون. كما يكشف التقرير عن مسار وتدفقات أموال أوكامبو والبنوك العديدة وشركات وراء البحار وصناديق بنما، بليز أو جزر فيرجن، وهي أماكن مثالية لتخفي التدفقات المالية والتهرب من الضرائب. والمحزن أن أوكامبو يعرف ذلك جيداً فقد كان رئيسا لمنظمة الشفافية الدولية لأمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي؛ المنظمة التي دأبت دائما على مكافحة هيمنة الملاذات الضريبية.

والمقال يحفل بنقاط أخرى عديدة ومثيرة، ولكن ما استعرض منه يكفي ليكشف عن شخصية واخلاقيات المدعي العام السابق، الذي يجري وراء الشهرة والمال وحب الذات. والنظرة الفاحصة تظهر بأن سجله لم يكن مجيداً، كما يتصور البعض، فمن 300 مذكرة اعتقال تم الحكم على واحد فقط.

إن المواطن في العالم النامي الذي يعاني من الفقر والجوع وغياب الأمن والعدالة ومن صلف وسلطوية حكامه المتشبثين بالسلطة الأبدية، يفقد الثقة والأمل في المنظمات الدولية، التي ينشئها الغرب من أجل خدمة مصالحه، ويختار عامليها وموظفيها بدقة لتنفيذ أجندته، وهؤلاء يؤدون دورهم من دون واعز أخلاقي من أجل البقاء أكبر فترة ممكنة في المنصب، ومن أجل الجاه والمال. ولكن هنا يستوجب الحذر وعدم التعميم، فلا شك إن هناك بين الموظفين والعاملين الدوليين، من يتوخى الصدق والاِخلاص والأمانة في عمله، من أجل تحقيق العدالة وإظهار الحق ، ولكنهم أقلية.

جاء في مقال لكاتب سوداني يحظى بكثير من التقدير والاحترام، بعنوان:

"وداعاً لويس مورينو أوكامبو .. وألف شكر .. وما قصرت تب"، «كيف بالله لا أحزن وانا ارى تجاهل السودانيين بالداخل والخارج للسيد لويس مورينو أوكامبو نصير المهمشين والمسحوقين، وبصورة خاصة وقوفه المشرف مع أسر الضحايا وارامل ويتامى دارفور.»

والسؤال العادل هو: هل كان أوكامبو حقاً نصيرا للمهمشين ولقضية دارفور، ام أضر بهم وبها؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

Auf der falschen Seite, der Spiegel Nr. 40 / 30 . 9 . 2017

* Die französischen Enthüllungsplattform Media – part.

** Recherchenetzwerk EIC