هنا نص الكلمة التأبينية التي ألقاها الشاعر أحمد الميموني في ندوة نظمت شمال المغرب تخليدا لروح الشاعر الكبير محمد الميموني والذي شكل رحيله خسارة كبرى للشعر المغربي الحديث، على ضوء ما قدمه للقصيدة المغربية الحديثة وللمشهد الثقافي، الكلمة التي تستعيد مكانة الراحل، لكن بروح شعرية صادقة معبرة على وجع الفقد.

أمسكت أصابع يده اليمنى

أحمد بنميمون

محمد الميموني: "إنعتني بما أنا أهلٌ له"

 

الكلمة التأبينية التي ألقيتُها مساء السبت 04/11/2017 في ندوة (سلامٌ علَى روح الشاعر الكبير محمد الميموني) بمناسبة عيد الكتاب بالمكتبة العامة والمحفوظات بمدينة تطوان....
تصورتُ وأنا أُمْسك بأصابع يده اليمنى وقد ألقى بها إلى جانبه في وهن، على الأريكة حيث كان يجلس بعض الوقت أو يلقي برأسه على وسادة في طرفها الأقصى، أنني أدعوه إلى البقاء بينا كان يلح هو في كل كلمة أو إشارة تصدر عنه على رغبته في الذهاب، فقد كان كمن يشعر أنه تأخر عن ميعاد يستعجله، فيعظم في نفسي حجم الخسارة التي ستصيبني بغيابه، ويكبر إدراكي لما ضيعتُ من فرص في حضوره، وأشهد أنني لم أكن أقوى على قول أي شيء مما يكرره كلُّ من يعودونهُ، ممن ليس على نفس درجة قربي منه، فقد كنا ، أنا وإياه، نكاد نستغني عن الكلمات بالإيماء إلى ما نريد، وبكنايات أسعفتنا وهو يشرف على النهاية، على أداء معان كثيرة، فمنذ أم قال لي، في سخرية مُرَّة:

ـ "لم يبق إلا حق الفأس والقياس".

تأكد لي أصرارُه التام على الذهاب، فقد كان صادقاً، لكنه حين سألني في آخر لقاء عما إذا كان أحد من الشعراء المغا ربة لا يزال يذكره، وعمن سيسير منهم في جنازته، تصورت أنه كان قد بدأ أولى خطوات الرحيل، إلى حد أنني لم أدر بأية قدرة كانت لا تزال لديه ، استطاع أن يفضي إليّ بوصيته الأخيرة:
ـ" إذا مت، فانعَني بما أنا أهل له".

أدركتُ مع ذلك أن توقُّدَ ذهنهِ ظل سليماً مما صوَّر لي أن ألمه وهو يغادر ، بل وحتى قبل ذلك، كان عظيماً.
وأدركت أيضاً أنه كان يحَمِّلني أمراً جسيماً.ويوصلني برسالته بما يشبه وشائج رحِمٍ أفخر أنها جمعتنا قبل أن أطأ هذه الأض أو أرى نورالحياة عليها.

فقد كان شقيقي أكبر مني سناً وتجربة وحكمة، جاء إلى العالم في زمن الحرب والجوع واشتداد الأزمات، فكانت طفولته أقسى مما صور في كتابه السير ذاتي(كأنها مصادفات) ولذلك تمنى أن يكون شبابه في تاريخ المغرب (آخر أعوام العقم) "1974" تلك العبارة التي جعلها عنوان ديوانه الأول، وقد كانت على رغم ما تفيض بع من تفاؤل، تشير إلى ما آلت إليه الأحوال في بلادنا بدءا من إطلالة السبعينات غير البهية.
وعلى رغم ما عبرت عنه كتاباته الشعرية والسردية من رؤى تفاؤل تاريخي،في ديوانه ( موشحات حزن متفائل) إلاأنه كان تفاؤلاً كالتشاؤم، وليس كذاك التفاؤل البليد الذي أشار إليه أحد النقاد عند بعض الشعراء، فليس أقسى من عبارة عنوان ديوانه الثاني (الحلم في زمن الوهم) وإن لم تغادر كلمة "الحلم" في هذا السياق ما تشير إليه من إيمان بالحياة وبالمستقبل، حتى وهو يرى من حوله أن كل شمس تضيء هذا العالم مهددة بالأفول السريع. كما أن الشاعر أصَرَّ في جميع مواقفه وكتاباته ألا يغادر رؤيا الخصب والتمسك بالإقامة قريباً من (طريق النهر)" 1992". الذي وإن كان نهراً في الحلم إلا أنه لم يبخل بإنْبات (شجر خفي الظل) "1996، ذلك الشجر الذي يشمخ في الرؤيا والقلب.

آسَى فأندم بصدق أنني ضيعت كثيراً من فرص مصاحبتي لشقيقي، فيعظم شعوري بهول فقدان صار يجتاحني إثرَ وفاته، لكن ما يواسني هو هذا الدفق الكريم من كتابات صادرة عن محبة وتقدير كبيرين عبر عنهما كل الشعراء والنقاد الذين هبوا إلى نعْيِه، على كل المواقع والصحف في المغرب والمشرق، بكل "ما هو أهل له" ، وبما يثبت أن إبداعه كان كلمة طيبة أصلها ثابت في وعي قراء أشعاره المنتشرين في كل أقطار هذا العالم الذي وصلته أصداء من إيقاعاتها، وأضواء من رؤاها.
وليست هذه المناسبة، وإن كانت مناسبة الاحتفاء بعيد الكتاب العربي في المغرب، مناسبة تحليل نقدي لشعرك أو قراءة متأملة لسردك ، أو للوقوف للأمام ما قدمته من دراسات جادة، لكنني في موقف تأبينك لا أحب أن أنتهي من نعيك بما أنت أهل له حقاً، دون أن أشير إلى ما فاجأت به قراءك في نهاية مسارك ، عنيتُ: روايتك الضخمة ( عودة المعلم الزيْن) "2015" التي لم تدل على ذلك النفس السرديٍّ وعنى المتخيل الروائي اللذين لا يتمتع بهما في العادة إلا كبار الموهوبين في مجال السرد، بل دلّتْ أيضاً على حرصك إلا تنسحب من حياتنا دون أن تجأر بشهادة الحقٍّ عما شهده شمال المغرب من تحولات ومتغيرات عرفتها الساحة السياسية غداة استقلاله عن الاحتلال الإسباني، وما آلت إليه أحوال أبنائه مع بداية ما سُمِّيَ بعهد الاستقلال/ وكأنك كنت تؤدي شهادة عن جيلك الموتور إلى الأجيال القادمة، شهادة رائدٍ عاش كثيراً مما عاشه وطنه الكبير.

إن عبارة : " إنعني بما أنا أهلٌ له" كأنها كانت موجهةً إلى ضمير النقاد والأدباء وكل التاريخ، لدلالتها على ما يحسه الشعراء والأدباء من غبن بصفة عامة، ولما كان يملأ نفسك من تواضع، إذ ينسحب الشاعر والأديب والمبدع في هدوء تام، وبمواراتهم في التراب، ينتهي كل وجود لهم، دون أن ينالوا ما يستحقون، كائنا ما كان إسهامهم الذي قدموه.

فسلام على روحك الطاهرة أيها الشاعر الرائد الذي لم يكذب أهله في الشعر والحياة. فقد كان صدع بالأعلان عن رحيلك (بداية ما لاينتهي)، بداية إقامتك في ضمير هذه الأمة الثقافي ووجدانها الإبداعي التي دل عليها أحساس الفقد الفادح الذي غمر نفوس قرائك ومحبيك.

 

هامش:

نعى بيت الشعر في المغرب الشاعر الكبير محمد الميموني، عضو بيت الشعر في المغرب وأحد رواد الحداثة الشعرية في المغرب وقال البيت في بيان له: استطاع الفقيد على مدى عقود، ومنذ خمسينيات القرن الماضي، أن يلج عوالم الكتابة الشعرية بما توفر لديه من ثقافة عربية أصيلة وكذا من خلال احتكاكه بالشعر المكتوب بالإسبانية، الذي تأثر به و بشعرائه مثل: خوان رامون خيمينث ولوركا ووبورخيس وغارسيا ماركس وأوكتافيو باث ونيرودا. وعلاوة على منجزه الشعري الباذخ الذي بصم ذاكرة الشعر المغربي، انخرط السي محمد الميموني سنة 1965 برفقة ثلة من شعراء مدينة الشاون في تأسيس مهرجان الشعر المغربي بهذه المدينة والذي يعتبر، إلى اليوم، أحد أعرق المهرجانات الشعرية ببلادنا. ساهم الفقيد في عملية التحول التي شهدتها القصيدة المغربية و انتقالها، في أواسط الستينيات من القرن المنصرم، من أجواء التقليدية إلى أجواء تجديدية حديثة، وظل، رحمة الله عليه، منذ ذلك التاريخ يطور قصيدته و يعبر بها الأجيال و الحساسيات الشعرية منفتحا على راهنه الثقافي و الشعري و السياسي، مشكلا نموذجا للشاعر المنخرط في قضايا وطنه وبلده.

ولد الشاعر الراحل محمد الميموني عام 1936 في مدينة شفشاون (المغرب)، تابع دراسته الابتدائية والثانوية والجامعية، قبل أن يتخرج من كلية الآداب بالرباط، ويعمل بالتعليم بكل من الدار البيضاء وطنجة وتطوان". كما بدأ تجربته الشعرية عام 1958 حيث نشر قصيدة في مجلة (الشراع) بشفشاون، وباشر الكتابة في الصحف الوطنية منذ عام 1963، إذ نشر أولى قصائده في جريدة "العلم". كما ترجم عن اللغة الإسبانية قصائد للشاعر غارسيا لوركا، فضلاً عن عديد الدراسات النقدية. وأصدر الشاعر الراحل عدداً من الدواوين الشعرية، نذكر منها "آخر أعوام العقم" (1974)، و"الحلم في زمن الوهم" (1992)، و"طريق النهر" (1995)، و"شجر خفي الظل" (1999).. أصدرت له وزارة الثقافة في المغرب، في 2002، سلسلة أعماله الشعرية الكاملة، متضمنة دواوين جديدة، هي "مقام العشاق"، و"أمهات الأسماء"، و"محبرة الأشياء"، و"ما ألمحه وأنساه"، و"متاهات التأويل"؛ فيما أصدر الشاعر الراحل، بعد ذلك، أعمالاً أخرى، شعرية وسير ذاتية، بينها "بداية ما لا ينتهي" و"كأنها مصادفات".