يكشف الناقد الفلسطيني المرموق هنا مدى رسوخ القدس وتجذرها في الذاكرة الثقافية ومدى تمسك الفلسطينيين برمزيتها على مختلف الأصعدة. وكيف أن إرادة القوة لن تستطيع أن تقتلعها من تاريخها وثقافتها، مهما اشتط الوهم، وتعذرت سبل المواجهة مع المغتصبين.

راسخة في الذاكرة ... أدبياً وإنسانياً

فيصل درّاج

القدس «مدينة الله»، يتوازع رموزها المسيحيون والمسلمون واليهود، فلسطينية هي وجزء من تاريخ فلسطين، قبل أن يقنع الظلمُ المنتصرُ الإسرائيليين بأنها يهودية تخص دولتهم وحدها التي أنشئت عام 1948.

تمسّك الفلسطينيون، قبل نشوء الدولة العبرية وبعده، برمزية القدس، كتبوا عنها القصائد بعد وعد بلفور، وبعد أن تبقّى لهم جزء منها في عام 1948، وواجهوا تهويداً مجتهداً بعد 1967، وانطلقوا يدافعون عنها بعد التصريح الأميركي الأخير. كانت المدينة لهم هوية، ولا تزال، عاصمة دولتهم المقبلة، كما يقولون، ومرآة لأطياف قديمة متجددة، ينصرون برمزيتها المقدسة كفاحهم المفتوح، مؤمنين بأنها مدينة منتصرة على أعدائها، مرددين: القدس باب السماء.

ولعلّ بداهة فلسطينية القدس العربية، التي أُطلق اسمها على جيوش عربية وغير عربية، ما جعلها حاضرة في ذاكرة الثقافة العربية، والفلسطينية منها بخاصة، وما أعطاها مكاناً رحباً في الروايات والقصص وقصائد بلاغية لا تنتهي، وفي سير ذاتية امتدت من أيام الانتداب البريطاني، رائد التآمر على فلسطين، إلى الشتات الراهن، الذي دفع بفلسطيني العراق، قبل عقد من الزمن، إلى الهجرة إلى البرازيل وغيرها من بلدان أميركا اللاتينية.

ساوى الفلسطيني النجيب جبرا إبراهيم جبرا بين القدس، التي عاش فيها قبل «النكبة»، وما لا يمكن التعبير عنه، كما لو كانت مدينة ـــ معجزة، فهي الذهب واللجين والزمرد والفضة في روايته «صيادون في شارع ضيّق». وهي الصخر المجلل بالقداسة والعبق القديم المتوّج بالغموض، وهي «أجمل مدينة في الدنيا» في روايته «السفينة»، وهي موقع النقاء والأرواح النبيلة المتمردة التي أوجدت وليد مسعود، الشخصية الممتدة من تربة القدس الحمراء إلى أبواب السماء.

جمع جبرا بين الجمال والمقدس والوفاء، واعتقد أن «من يلوذ بالجميل يشبهه»، متكئ على القدس وتعاليم الرومنطيقيين. لم يكن في نثره الشعري بعيداً من خليل السكاكيني، أشهر مرب عرفته فلسطين قبل الشتات، ذلك المقدسي الذي صالح بين الأديان، وكان يردّد: «لو ترك الناس جميعاً القدس لبقيت فيها وحدي». ولذلك فارق الدنيا بعد خروجه بقليل ودفن في القاهرة.

الفلسطيني الآخر، الذي ينتمي إلى جيل آخر، حسن حميد رحل بذاكرته إلى المدينة المقدسة وكتب رواية «مدينة الله»، التي رسم فيها القدس كما تراها الروح، مدينة من ورود وندى، قريبة من الله بعيدة من الشر، خيرها ينصرها، كما ذهب المؤرخ الفلسطيني محمد عزة دروزة، الذي اشتق مستقبل «اليهود» من ماضيهم المهزوم.

ومع أن جبرا وحميد وضعا ما يُرى جانباً، واكتفيا بصورة المدينة في الروح والمتخيّل المطمئن، فإن الفلسطينية- الأردنية ليلى الأطرش آثرت في روايتها «ترانيم الغواية» أن تقرأ حاضر المدينة بمنظور دنيوي، حيث ينظر الفلسطينيون إلى الحياة بعتب وروح أسيفة، بعدما تُركوا أمام «المتاريس»، في انتظار محتلين مدججين بالسلاح.

لم يسأل المثقفون الفلسطينيون عن أديان المدينة، وساءلوا عن تاريخها، إذ التاريخ أكبر من الذين ينتنسبون إليه. وفي هذا التاريخ كان الفلسطينيون يؤمنون بالمسيح والنبي محمد ومقدّسات المدينة، فأخلصوا لها كمكان ارتبطت به هويتهم الروحية والمعنوية، قبل أن يصادروا الهوية التاريخية بمعطيات جزئية ومجزوءة. فقد كانت سميرة عزّام، كما السكاكيني وجبرا، مسيحية، وكان دروزة والشاعر أبو سلمى وإبراهيم طوقان مسلمين. والتمييز نافل لا معنى له، كان السكاكيني عاشقاً للقدس واللغة العربية وعضواً في المجمع اللغوي في القاهرة، وكانت سميرة عزام لا تقايض هويتها الفلسطينية بأية هوية أخرى، وكان أبو سلمى، زيتونة فلسطين، كما يقال، يسأل الحاكم العربي: لماذا يريد أن يودّع القدس قبل أن يدافع عنها؟

توقف إدوارد سعيد طويلاً أمام «زحف التهويد»، على المدينة، بعد 1967، قبل أن يحتلها كلها، وحاجج محافظها «كوليك»، الذي قال ذات مرة: «مع الوصول إلى عام 2010 لن يتبقى من قدس العرب الشيء الكثير». أراح رئيس الولايات المتحدة «ترامب» محافظ القدس السابق، وأعلن المدينة عاصمة يهودية موحدة إلى الأبد. دعا سعيد، المثقف الإنساني النزعة، إلى مدينة يتحقق فيها حوار الثقافات والأديان، محتجاً على تصور صهيوني يحوّل القدس إلى ملكية خاصة لليهود ويعتدي، كما يشاء، على رمزيتها المتسامحة. كان عمر بن الخطّاب حين دخل القدس، فاتحاً، قد سمح لغير المسلمين، أن يستأنفوا حياتهم بطمأنينة وأن يمارسوا معتقداتهم بحرية وسلام. ولم يكن سلوك صلاح الدين الأيوبي مختلفاً، بعدما أعلى من التسامح وألغى ثنائية المنتصر والمهزوم.

حين تحدّث الشاب محمود درويش، شعراً عن «القدس العتيقة»، كان يحاور أطياف أمكنتها التاريخية المقدّسة: «جامع الصخرة، باب العمود، كنيسة القيامة وقبة المعراج....»، ويستعيد ما تعلّم عنها طفلاً في عائلة فلسطينية، تساوي بين المدينة والمقدس والذاكرة وتاريخ مدينة زارها عمر بن الخطاب ولم يزر غيرها، واضعاً القدس فوق دمشق وبغداد وخرسان، كما لو كان الخليفة الثاني قال برمزية المدينة، وساوى بين رمزيتها والتصالح بين البشر.

وسواء عرف الفلسطينيون تاريخ المدينة، من ريتشارد قلب الأسد والحروب الصليبية وصولاً إلى الكولونيل البريطاني لورانس، الذي اعتبر القدس عام 1916 مدينة للسوّاح والمتسولين، أم عرفوا عنه القليل، فإن صورة مدينتهم صدرت عن «ثقافة البداهة» الموروثة، وعن تاريخ يومي عاشه الأجداد والأبناء والآباء، علّمهم أن القدس مركزهم الروحي، وسجّل في ذاكرتهم أسماء أماكن شهيرة زاروها، أو سيزورونها في مستقبل قريب، مثل: باب العمود والحرم الشريف وباب الساهرة، واسماء أخرى أدرجتها سحر خليفة في أكثر من رواية، قبل أن يتذكروا معركة «باب الواد» التي قضى فيها شهيداً عبد القادر الحسيني، «الفلسطيني الألمع»، بلغة المؤرخ الفرنسي هنري لورانس.

بيد أن لفضاءات المنتصر والمهزوم مفارقاتها، التي تمحو كتابة قديمة بكتابة وافدة، محشوة بالأكاذيب، كأن يقول شيمون بيريز: «إن القدس تشكّل جزءاً من ذاكرة طفولتي». لم يولد بيريز في فلسطين، بل اشتق ولادته من «الحفريات»، التي تبرهن عن يهودية المدينة بعظام نخرة، تحرسها الدبابات والمدفعية الثقيلة. سخر الإنجليزي الفلسطيني الأصل كارل صبّاغ من مفارقات القوة والضعف والإدعاءات الكاذبة في كتابه «فلسطين ــ سيرة شخصية»، حين سأل صاحب مخزن يهودي في صفد عن حواري المدينة: وأجاب «أعرفها كلها فقد وصلت إليها من كاليفورنيا قبل بضعة سنوات»، وأجابه الفلسطيني: «إن أبي وأجدادي ولدوا في هذه المدينة».

ينظر الشاعر الفلسطيني عز الدين المناصرة إلى القدر الفلسطيني: «وأرضها رعب وقتل، القدس عاصمة الدماء، يسوقها وغد ونذل..». يعطي المناصرة للمدينة المقدسة أبعاداً تتجاوز أبعادها الجغرافية، تضم الأرض والسماء معاً ويعود فيعطيها أبعاداً أرضيّة كابوسية مصنوعة من الدماء وإرادة الأوغاد. وقد يسأل الشاعر، كما غيره من الفلسطينيين، ما الذي يجعل من عاصمة السماء عاصمة للدماء؟ وما الذي سمح لشمعون بيريز أن يتحدث «كمقدسي قديم»؟ تنحرف الأسئلة المنطقية ويأتي «عبث الأقدار»، وتتراجع الأقدار العابثة وتأتي إرادة القوة، حيث من لا يملك يعطي لمن لا يستحق، والرئيس الأميركي يغتصب شهادات التاريخ ويسلّم مفاتيح «المدينة المقدسة» إلى رئيس صهيوني.

وإذا كان الفلسطينيون في رواية ليلى الأطرش عاتبوا القدر الذي لم ينصر مدينتهم، فإن المناصرة رجع إلى الخليفة عمر وأخبره: «هذه الأرض تعرفنا جيداً، والنقوش القديمة تعرفنا جيداً، والبلاغة محفورة، في النصوص، منذ كان القماط وكان الكفن». أما المواجهة بين المقدّس والمدنّس، فلها أحاديث أخرى، وفيها وعود ودماء وأحزان وانتفاضات وبلاغة، وقنابل حارقة وإرادة فلسطينية تموت ولا تموت.