تكشف هذه الدعوة القوة للعقلانية عن أهمية التفكير العقلاني الحر، وعن الجدلية المضمرة بين الفلسفة والعدل والحرية، بصورة لا تجيز منح سُّلطة إلى وحي أو كشْف خارجي منفلتة من كل نقد عقلاني. داعية إلى رؤية ديمقراطية يكون فيها العقل والاستدلال حقّا للجميع وليس حكراً على أحد.

جدلية الفـلسفـة والبـحث الحرّ

شاييم بيرلمان

ترجمة: أنوار طاهر

لم تكن جامعة بروكسل الحرّة قد تأسست عام 1834 وهي حاملة لشعار البحث الحرّ، وإنما حصل ذلك عبر مطالبتها بحرية التعليم التي كفلتها لها المادة القانونية رقم سبعة عشر من الدستور البلجيكي عام 1851. ولطالما كانت هذه الحرية مهددة، لا سيما في التعليم العالي، من الكنيسة التي تدعي التحكم في الفكر. ألم يقسم أول عميد لجامعة مالين الكاثوليكية التي انتقلت فيما بعد إلى مدينة لوفان وسميت بها، الموسينيور بيير فرانسوا دو رام، حينما ألقى خطاب تنصيبه، على النضال بكل ما أوتي من قوة «لجعل كل عقيدة تنشأ عن الكرسيّ الرسوليّ الرومانيّ موضع ترحيب، ونبذ تلك التي لا تنحدر عن ذلك المصدر الجليل؟» وقد ثار مؤسسو الجامعة ضد الاحتكار المطلق للحقيقة الذي تدعيه الكنيسة لنفسها، وللمتحدثين بأسمها، معلنين عن مطالبتهم بالاستقلالية العلمية، ورفضهم إخضاع حقيقة العقائد للمصدر الذي تنبثق عنه.

وكان البروتستانت ومنذ ثلاث قرون مضت، قد حسموا أمرهم في رفض حُجَّة السُّلطة argument d’autorité، وعلى الأخص السُّلطة الكَنَسِيّة العُلْيا (في التعليم العقائدي والمتضمنة على الحقّ المطلق في تفسير كلام الإله وفق تقليدها المدون أي الإنجيل؛ وغير المدون أي التقليد المقدس؛ والحفاظ على العقيدة من القراءات المضللة أي المخالفة لها والمتخالفة معها أيضا). لذلك، كان من الطبيعي أن لا يروا في موقف مؤسسي جامعة بروكسل الحرّة إلا مظهراً جديداً من مظاهر تجلي مبدأ البحث الحرّ libre examen الذي سبق وأن أكد عليه مارتن لوثر مؤسس الحركة البروتستانتية الإصلاحية في أوروبا خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر المطالبة بحقّ الفحص والتحرّي/ أو الاختبار والتحقق/ أو البحث الحرّ في الكتب المقدسة. فحسب لوثر، إن المسيحيّ الحقيقي الذي يحمل في قلبه ايماناً صادقاً، هو الأقدر على أن يحكم بشأن رسالة يسوع. وليس هناك من داع له أن يكون خاضعاً، مثلما تريد الكنيسة، لسُّلطة البابا والمَجْمَع الديني.

ومن الملاحظ أن رفض السُّلطة الكَنَسِيّة العُلْيا كان مرافقاً لمعيار وضعي: لم يكن يتمثل في العقل، وإنما في «روح الرب فينا» التي تتيح لكل مسيحي حقيقي أن يفهم الكلام الإلهي جيّداً، وان يفسر الرسالة المسيحية وبما يتلاءم ومقاصد المسيح. لكن، مَنْ يستطيع الجزم بشأن ميزّة «المسيحيّ المؤمن» بالانطلاق فقط من مسلَّمة أن في قلب كل واحد منا إيمان صادق؟ ونحن نعلم كيف أصبح لوثر استبدادياً في نهاية حياته. حتى ليبدو أن استبدال السُّلطة الكَنَسِيّة العُلْيا بتلك الخاصة بمارتن لوثر، هو أمر غير مجدٍ تماماً من وجهة النظر الفلسفية. وإذا كان هناك ثمة تعدد في الطوائف البروتستانتية، فإنما هو يرجع إلى معارضتها لبعضها البعض في لجوئها لأنماط مختلفة من السُّلطات، يمكن أن تحلّ محلّ السُّلطة الرومانيّة المدانة من جانبهم. لهذا السبب، حتى المذهب البروتستانتي الليبرالي الذي دفع عجلة البحث الحرّ إلى أقصاها، لم يكن له أن يضع رسالة يسوع على بساط المناقشة والفحص، دون أن يعرض معها السُّلطة التي يدين بها نفسه للإنكار كليّاً.

ومن بعد أن كان البحث الحرّ معبراً في الأساس عن رفض السُّلطة الكَنَسِيّة العُلْيا، اخذ يسري مفعوله تباعاً على ما يمكن أن توضع في محلّها من أنماط مختلفة من السُّلطات، حتى جرى في نهاية المطاف عدم الاعتراف إلا بذلك المعيار المستقل في الحُكْم والتقييم، وهو العقل عند كل كائن بشري. وسوف يُعرِّف المذهب الفلسفي العقلاني نفسه برفض كل سُّلطة خارج العقل تفرض محددات لاعتقاداتنا وقناعاتنا، وإقامة مبدأ البداهة العقلانية بوصفها المعيار النهائي. وسوف يعارض النور الخارق للوحي بذلك النور الطبيعي، أي انعكاس العقل الإلهيّ الذي ينير كل كائن بشري. فمَنْ يتبع قواعد المنهج، سوف يفلح في الوصول إلى التحرر من الأحكام المسبقة والأخطاء الناتجة عن التعليم التقليدي، وسوف يعثر على الأفكار المتميزة والواضحة وضوح الشمس خلف السحاب. هذه الأفكار التي تفرضها البداهة على كل كائن عاقل، إنما تتألف من مجموعة المسلّمات الكلية وذات الصلاحية الأبدية حيث تكون قيمة الحقيقة مضمونة حسب ديكارت لأنها تصدر عن العقل الإلهيّ الذي يتجلى فيه الصدق المطلق والخير الأسمى والكمال التام.

ومَزَّية ذلك التصور تتمثل في انه لم يعد يجيز منح سُّلطة إلى وحي أو كشْف خارجي، يمكن لها أن تفلت من كل نقد عقلاني. وتكمن أيضا في معارضته لمفهوم نخبوي في المعرفة مقتصر على أولئك الذين لديهم حَظَوة، برؤية ديمقراطية على قدر ما يكون فيها العقل والاستدلال هو حقّ للجميع وليس حكراً على أحد. غير أن مثل هذه النظرية في المعرفة ما زالت تشكل امتداداً لمفهوم لاهوتي، لأن النور الطبيعي وإن لم يكن يشير إلى وحي أو كشْف بعينه، فمصدره مع ذلك مقدس، وهو الذي يضمن حقيقة البدهيات.

هذا المرتكز المقدس في تشكيل معارفنا، ليس ميزّة خاصة بالعقلانية الحديثة. فالتجريبية الحديثة لمؤسسها الفيلسوف الانجليزي فرانسيس بيكون (1561-1626)، لم تخرج هي الأخرى عن ذلك المفهوم اللاهوتي، مع اختلاف وحيد أن الكتاب الأول من مؤلفه الاورغانون الجديد جعل الطبيعة وسيطاً بين الإله والإنسان، وبفضلها أمكن للإله تبليغ رسالته للبشرية جمعاء. إذن، مع العقلانية أو التجريبية في القرن السابع عشر، لم يكن على الإنسان سوى التسليم والرضوخ لتعاليم ربه. ولغرض أن يتجنب الخطأ والضرر الناجمين أساساً عن تدخل الخيال والإرادة البشريين، كان ينبغي على الباحث، كما الوَرِع، أن يبرهن على الفضيلة المسيحيّة بامتياز ألا وهي التّواضع. وهو ما سوف يفرض عليه أن يستبعد كل فرضية وكل نظرية ينتجهما الخيال والذاتية اللذان يعتبران مصدرين للخطأ، ليحقق، في نهاية المطاف، إدراكاً وتقييماً دقيقين للوقائع. وبالطريقة نفسها، ستكون الحرية في مجال السلوك الإنساني هي خضوع للإرادة الإلهيّة؛ وللأحكام الإلهيّة. وما الابتكارات الإنسانية إلا حصيلة للغرور والانحراف وفساد الأخلاق، يجب إدانتها في حقل المعرفة كما في مجال السلوك أيضا.

وعلى العكس من تلك الرؤية المركزية اللاهوتية التي أوجدت في الإله كل حقيقة وقيّمة، واستبعدت كل ابتكار إنساني باعتباره زيف ورذيلة، تأتي نظرية المعرفة والفعل المتمركزة حول الإنسان، لتظهر أن التصور الذي يطلب منا أن ندين مقدماً أي مساهمة خلَّاقة ومثمرة للنوابغ الأكثر إبداعاً بين أبناء البشرية، هو أمر غير مقبول ومخالف لتعاليم التاريخ. فبفضل هؤلاء تشكَّل العلم والثقافة وليس عقب حدوس بدهية وفريدة من نوعها. والعلوم والثقافة هي نتاج جماعات محلية بشرية يستعمل أفرادها لغة معينة، تمثل الأداة التي لا غنى عنها في إقامة تواصل سواء بين الأجيال المتتابعة خلال حقبة من الزمن، أو بين الناس المنتشرين على سطح البسيطة.

إن اللغة التي تعتبر عملاً بشرياً بامتياز، وجرى تطويره منذ قديم العهد بجهود العباقرة العُظَماء من البشرية؛ وبقي محفوظاً في التقاليد العلمية والثقافية؛ وانتقل بالتعليم والابتكار مع الاشتغال على تحسينه من قبل الأجيال المتعاقبة، هي مُؤَلّف الخيال الإبداعي. وبوقوعه رهينة ضبط التجربة، لغرض تكييفه والحاجات العملية، فقد كوَّن عملاً غير كامل، لكنه مع ذلك قابل للتحسين والتطوير. وكما أنه أمكن للأدوات من جميع الأنواع أن تخدم تقنيات عديدة، فأنه سوف يمكن على الدوام تكييف المفاهيم concepts التي هي أدوات ذهنية، مع تجارب جديدة لتلبية حاجات جديدة وذلك بفضل النظريات العلمية والفلسفية والأخلاقية والقانونية والسياسية.

وبغياب أي سُّلطة لا تقبل الجدل كالسُّلطة المقدسة، سوف يصبح الأفراد الذين يتبادلون النقد بفضل ما يبذلوه من مجهود في التفنيد والتبرير، في حالة من التفاعل الجدلي. وسوف يقودهم ذلك، في نهاية المطاف، إلى أن يأخذوا على عاتقهم هم أنفسهم مسؤولية إصدار القرارات في مختلف المجالات. بهذا المنظور، لن تكون العلوم والثقافة حقائق معطاة لمرة واحدة ومسلَّم بها للأبد، كما هو الحال في مُؤَلّف مكتوب سلفاً، وحيث يكفي معه فكّ الرموز وحسب. وسوف يقع على الأفراد الخلَّاقين والمبدعين، مسؤولية إخضاع ما يقومون بنقله عبر أجيال وأجيال من الأفكار والاعتقادات المقاوِمة للنقد، على بساط المناقشة بصورة دائمة، بهدف إعادة تقييم وتطوير المعارف؛ وتصحيح الأخطاء؛ وتقديم فرضيات وأطروحات جديدة وأيديولوجيات جديدة. ومن باب ضرورة حُسن التصرّف وإصدار القرار بأجراء عمليات التحكيم في القضايا المطروحة للنقاش وترشيح الخيارات المناسبة، سوف يقتضي عليهم في أي مجال كان سواء ما تعلق منه بالعلم أو السياسة؛ بالأخلاق أو القانون، تبنيّ قواعد ومناهج يرونها الأكثر ملائمة للخبرة والحاجات العملية، والأفضل إثباتاً لفاعليتها في مختلف ظروف تطبيقها.

لا تصدر العلوم والثقافة عن وحي خارق ولا عن سُّلطة قابضة على الحقّ ولا تقبل الجدل. إنما هي حصيلة تعاون الكثيرين ممنْ لم يصلوا إلى الحقّ والخير بفضل حدوس بدهية مباشرة، بل أحرزوا تقدماً شيئاً فشيئاً، بتضافر جهود عدة أجيال. وإذا كان الأمر كذلك، فهذا يعني أن المشاكل المنهجية التي يواجهونها هؤلاء هي من طبيعة تختلف تماماً عن تلك التي كان يتعين على ديكارت وبيكون حلّها. ففي حين تقتصر المشكلة في المنهج عند هذين الأخيرين على كيفية اخذ الاحتياطات اللازمة لمنع أي تحريف أو تشويه قد تتعرض له الرسالة ذات الأصل المقدس، بمحتواها العقلاني أو التجريبي، بسبب من غفلة الناس وتجاهلهم. فأنها تشير بالنسبة لأولئك الذين ينظرون إلى العلوم والتقنيات وجميع الأعمال الثقافية بوصفها ظواهر محض إنسانية، إلى ضرورة الالتزام بإعداد وتطوير المعارف والمعايير والقواعد والأساليب والمناهج ونقلها عبر الأجيال والاشتغال على تحسينها وتقويمها حتى تبدو بالمظهر الأكثر ملائمة والحاجات البشرية الراهنة.

ومع انعدام وجود الحلّ بطابعه المتفرد والكامل؛ بأصله المقدس أو المعطى بوصفه تعبيراً عن معرفة يقينية ثابتة؛ والذي من شأنه أن يفرض نفسه في المعرفة كما في الفعل، فأن المتخصص المتبني لنهج البحث الحرّ والذي لا ينظر لحجُّة السُّلطة باعتبارها الكلمة الفصل في أي حقل من الحقول المعرفية، يعلم جيّداً انه أمام عدد وفير من الحلول غير الكاملة تماماً. وسواء تعلق الأمر بالنظرية أو التطبيق، فأنه بصدد مواجهة نظريات وأيديولوجيات متعارضة ومتجذّرة على امتداد التقاليد العلمية والثقافية، والحاجة الملحّة إنما تقضي عليه أن يختار فيما بينها رغم قصورها. المهم في هذه الحالة، معرفة المناهج التي تتيح له نقدها واختبارها؛ تقويمها وتحسينها. وبهذه الطريقة، سوف تحل محل البحث عن الكمال والحقيقة المكفولة بالبداهة، جميع تلك التقنيات التي تسمح بالكشف عن أسباب الخطأ في الحقل النظري؛ وأسباب الإحباط في الحقل العملي، والقضاء عليها إن أمكن ذلك. وهو عمل لن يستكمل انجازه إلى الأبد، لأنه حتى نحُسن التصرّف بما نتوفر عليه من حلول ناقصة، ينبغي علينا أن نحرص دائماً على حماية إمكانيات التقدم.

وفي ضوء هذه الرؤية، لن تكون الدوغمائية ولا التعصب مقبولين إطلاقاً. لان المتخصص المتبني لنهج البحث الحرّ وبما يملكه من وعي يدرك به تماماً نسبية الحلول البشرية وقصورها، ويستوعب جيّداً تعددية القيّم، سوف يكون من المتحمسين الداعين للحوار والى حرية التعبير عن الأفكار والتسامح، وبالشكل الذي يعزز من تنظيم المجتمع تحت شعار التوافق والمشاركة، وليس سُّلطة الاستبداد والطاعة العمياء.

في الواقع، عندما تنشأ جميع الصلاحيات عن جماعات محليّة منظمة، وليس عن إله، فيجب أن تستند شرعيتها على التوافق المعبر عنه بطريقة ديمقراطية، مما يفترض مسبقاً ضمان بعض الحريات الأساسية. وبدون احترام هذه الأخيرة، ودون الاتفاق حول التقنيات/ أو الإجراءات الابستمولوجية النقدية التي تفسح المجال أمام البحث المشترك عن حلول مقبولة وعن قرارات معقولة، سوف لن يكون في الإمكان تحقيق التعايش المشترك بين قيمتين تكفل التنمية للأفراد والجماعات البشرية رغم تعارضهما للوهلة الأولى، وهنّ: الحرية والمساواة.

سعت هذه اللّمحة الموجزة في إطارها التاريخي والجدلي حول تطور مبدأ البحث الحرّ، إلى توضيح أن انطلاقه من رفض السُّلطة الكَنَسِيّة العُلْيا والذي أدى به إلى نبذ عام لحجُّة السُّلطة بمختلف أشكالها، أوصله إلى ضفة نزعة إنسانية تعددية humanisme pluraliste هي أساس كل مجتمع ديمقراطي تعددي. وقد تبدو أن مثل تلك اللّمحة المعايِنة للطريقة التي أمكن لمبدأ البحث الحرّ أن يؤثر فيها على مسار فلسفي برمته، هي مغامرة طريفة فريدة. لكنها تجربة يمكن لها، في واقع الأمر، أن تكون أنموذجاً، لأنها تبيين كيف يمكن للجدلية الفلسفية المتأصلة فيما هو مادي في التاريخ، أن تقود وتوجه بوصلة التفكير الذي يسعى حثيثاً لتجاوز التاريخ على الدوام.

 

الهوامش:

*مقال لفيلسوف البلاغة الجديدة البلجيكي ش. بيرلمان (1912-1984) نُشر في:

Chaïm Perelman: Libre examen et Philosophie, un article dans Le Livre Blanc Du Libre Examen, Sous la direction de Marc Van Keymeulen : Editeur responsable: Le Cercle des Etudiants rationalistes de l’U.L.B., 1978, pp. 85-91.

()ما بين القوسين يعود للمترجمة.

**باحثة ومترجمة من العراق-متخصصة في الدراسات الفلسفية والحِجَاجية.