يتبدى هنا القول بأن الفلسفة ليست مجرد تفكير وتنظيم للأفكار ومعارف مجردة، بل أيضا خطاب يوجه للآخرين قصد التواصل معهم، وشاغل الفيلسوف ليس محض إيصال أفكاره، بل الإقناع بصحتها وسلامة دلالاتها وتماسكها عن طريق البرهان.

البحث في «ماهية الفلسفة» اقتحام لقلعتها العتيدة

رشيد عوبدة

إن الفلسفة هي شكل حي من أشكال الثقافة، وليست فقط نتاجات ميتة، إنها مجهود يسعى لتمثل الأعمال الماضية ووضع الوسائل لتطور الحاضر، لهذا لابد من إظهار قيمتها كوسيلة لتطوير الإنسان وتربيته. يقول الجرجاني: "الفلسفة هي التشبه بالإله، بحسب الطاقة البشرية لتحصيل السعادة الأبدية، كما يقول الصادق صلى الله عليه وسلم: (تخلقوا بخلق الله)" أي تشبهوا به في الإحاطة بالمعلومات والتجرد عن الجسمانيات، فهل يمكننا، بعد هذا، التساؤل عما تعنيه "الفلسفة"؟

إذا قصدنا بهذا السؤال التعرف على موضوع جاهز قابل للتعريف فلابد أننا سنصاب بخيبة أمل، أما إذا أخذ السؤال معنى فلسفيا فعندها تطرح إشكالية تعريف متعدد الأبعاد، ويمتنع عن إعطاء تعريف بسيط "للفلسفة"، هنا نجد انفسنا مجبرين على الاستعانة بالتساؤلات التالية علها تمكننا من التدقيق في مقاربة السؤال:

ما الذي يميز الفلسفة عن غيرها من أشكال التفكير؟ ماهي ضرورتها في حياة الانسان، فردا كان أو جماعة؟ وكيف تجد مكانها بين أشكال أخرى من التفكير أو المعرفة أو الخطاب؟ هل الفلسفة علم؟ وإن لم تكن علما فهل لها علاقة بالعلوم؟ وهل هذه العلاقة هي علاقة تقارب ام علاقة تنافر؟

إن هذه الاسئلة تلامس عن قرب طبيعة التفكير الفلسفي، كما تلامس مميزاته أيضا، والأكيد أن التفكير في هذه القضايا يتطلب اندماجا في هذا التفكير ذاته، ومعنى ذلك ان نتناول تعريف الفلسفة من خلال الحديث عن أصولها.

إننا نلج عالم الفلسفة بطرحنا لأي سؤال حول مصيرنا وسلوكنا ورغباتنا وقدراتنا... لكن تنوع الأسئلة التي نطرحها واختلافها من حيث الشمولية والعمق يؤكد أمرا أساسيا، وهو أننا كلما وضعنا سؤالا من تلك الأسئلة إلا ونضع معرفة جاهزة لدينا، وأجوبة حاضرة موضع تساؤل، وكأن الخطوة الأولى هي البحث في تلك المعرفة المكتسبة والتساؤل حولها وفحص قيمتها: ماذا أعرف اذن؟ وكيف أعرف؟ وهل أعرف فعلا؟ هذه أسئلة لا يطرحها جميع الناس لأن فيها مراجعة لمكانة الفرد الإجتماعية ولامتيازاته، لكن الفيلسوف يطرحها لأنها بداية طريق التفلسف.

إن الفلسفة إذ تبدأ مع رفض الجاهز أو وهم المعرفة فهي تنفصل عن قيم ومبادئ الحياة العملية السائدة بين الناس، لهذا تبدو وكأنها هروب من العالم ولكن قبل ان نحكم على علاقتها بالعالم الخارجي حكما خارجيا، نتساءل هل الفلسفة بحث عن المعرفة؟ أم انها هي أصلا معرفة؟ وإذا كانت كذلك فبماذا تتصف؟

إن أول سمة حاول الفلاسفة أن يميزوا بها الفلسفة هي أنها تتجاوز المعرفة الجزئية الى معرفة كلية وأساسية/ شمولية ، على أن هذه الصفة الأساسية تنتهي الى بحث أول عن الأساس الذي يجعل من الفلسفة معرفة صادقة، ذلك أنه لا يكفي أن نرفض المعرفة العامية السائدة، ونعتقد أننا تخلصنا منها، بل لابد من التمييز بينهما وبين معرفة واضحة لا شك في صدقها ووضوحها.

إن الفلسفة ليست مجرد تفكير وتنظيم للأفكار فحسب، بل ايضا خطاب يوجه للآخرين قصد التواصل، وشاغل الفيلسوف ليس مجرد إيصال أفكاره إلى الآخرين، بل هو إقناعهم بصحة أفكاره وتماسكها معتمدا في ذلك على البرهان،لكن ماذا يبلغ للمتلقي؟ هل يبلغه معرفة؟ وهنا يبقى على الفلسوف أن يوضح المقصود بالمعرفة، فإذا ظلت الفلسفة تحاول أن تجد لنفسها معرفة رغم اختصاص العلوم ببناء المعارف، فهي معرفة خاصة ومتميزة، فما الذي تبقّى للفلسفة لكي تقدمه؟

إننا بمجرد أن "نبدأ التفكير بطريقة فلسفية حتى نرى بان الاشياء العادية نفسها تطرح اشكالات لانجد لها سوى إجابات غير كاملة" (برتراند راسل B.Russel)، وهذا النوع من الإجابات لا يعني النقص في الإجابة بل يعني التساؤل المستمر الذي ترتبط به الفلسفة، وبهذا يكون وضع الحقيقة فيها وضعا خاصا، لكن الاتفاق أو الإختلاف حول الفلسفة ومكانتها الخاصة لايعني حل مشكلها في علاقتها بالإنسان، فهل هي نشاط فردي منعزل؟ ألا يمكن أن تكون فردية تبعا لنشاتها ذاتها ولتطورها ولطبيعتها؟ وعندما تدرس في المدارس والجامعات ماذا يلقن فيها؟ ينبغي ان نقول أولا بأنها أخلاق تضمن حرية التفكير واستقامته، وأنها ثانيا التزام اتجاه الآخر، فهل الفيلسوف، اذن، نسيج وحيد لا يمت للآخرين سوى بصلات يكون فيها الازدراء أو العدوان؟ أم تراه بطلا لا يمكن أن يكون له نظير بين عامة الناس بل إن خطابه يتعالى عنهم؟

يقول موريس ميرلوبونتي (M.Merloponty): "إننا لا نتفلسف بمغادرتنا لموقف الإنسان" وهذا يعني التزام الفيلسوف بعلاقات انسانية واجتماعية، ومن موقع عقلي خاص يتكلم الفيلسوف ضد العنف، وهذا ما يعطي خطابه معنى ويجعله فعلا حيا باستمرار ومتعاليا عن المباشرة والعدوان وسلطة القوة.