في إطار اهتمامه بتعدد الرواة في الرواية العربية، يطرح الباحث العراقي مجموعة من الأسئلة حول الشكل الروائي وعلاقته بما يسعى الروائي للتعبير عنه، من خلال تتناوله لرواية (جريمة في رام الله) لمؤلفها الفلسطيني عباد يحيى. في إطار رصد حركة البناء السردي، ودور مختلف استراجيات الاستباق والاسترجاع وغيرها.

بناء الأنساق وهدمها

ظواهر فنية في رواية (جريمة في رام الله)

محمد رشيد السعيدي

 

مدخل:
هل يُعدُّ ضروريا استخدام طريقة تقديم، أو شكل معين، لرواية ما؛ كي يناسب موضوعها؟ وهل يمكن استخدام شكل آخر، للرواية ذاتها، قد يكون متناسبا مع موضوعها، في رؤية أخرى؟ أو إن طريقة التقديم هي اختيار المؤلف لغايات جمالية فحسب، على أساس أن أي شكل بإمكانه استيعاب أكثر من موضوع! وما الحاجة الى ذلك الشكل، وما أهمية استخدامه؟ إذا كان الخروج عليه واردا، وهل يمكن أن يكون الخروج على الشكل مقصودا؟ أي إن ذلك التغيير في النسق يأتي وفق رؤية كتابية معينة، كإضافة الى النسق، أو تجريب فيه؟ وهل يمكن أن يكون هفوة كتابية؟ وربما تكون قصدية الخروج على الشكل المتعارف عليه، في عملية تجريب دائمة؛ محاولة لاختراع شكل روائي جديد!

لا يمكن الإقرار بوجود أجوبة مقنعة للأسئلة أعلاه، ليس لصعوبة تلك الأسئلة، ولا لاستباق نتائج البحث، بل لعدم استعارة دور الراوي العليم، واجتراح صيغة الناقد العليم، والسياحة في عقل الكاتب. يتميز الشكل الفني في رواية (جريمة في رام الله) لمؤلفها الفلسطيني عباد يحيى، والصادرة عن دار المتوسط في مفتتح عام 2017، بحداثته، وهو طريقة تقديم توفر للمؤلف أكثر من فرصة، وللنص أيضا، في الخروج على أنظمة تقديم – قليلة – أصبحت رتيبة؛ بسبب تكرارها الدائم والمستمر.

قبل الخوض في الشكل الفني للرواية، ولأن موقعها يسبق الاطلاع على الشكل، لابد من التطرق الى عتبات نصية، وردت في مواقع كثيرة من الرواية، التي تتقسم الى فصول معنونة، وأخرى – داخل الفصول المعنونة – مرقمة، سنطلق على الأولى مصطلح فصول، وعلى الثانية مصطلح أبواب، للتفريق.

مواقع العتبات، وميزاتها:
تتميز العتبات النصية - التي وردت في مواقع مختلفة من الرواية - بـ: وجود تأريخ أولا، وثانيا: إن تلك العتبة خبر، وبالتالي فإنه يفترض أن يتحلى بالتأريخ! لكن الـتأريخ في هذه الحالة لم يأتِ في المتن، ولا في ذيل الخبر، بل جاء في وسط أعلاه؛ بمثابة عنوان له، وبلون طباعة أغمق، وذيلت العتبة – ثالثا – بمصدر الخبر، مصدر يتشبث بالدقة! ليست تلك الميزات فقط هي ما تتميز به عتبات الرواية، فثمة ميزات أخرى، أو إن تلك الميزات ستؤدي الى أخرى، أهمها ان لعلاقة الخبر بالنص الذي يليه مستويات متعددة، تتدرج من المتينة الى المنقطعة!

لقد جاءت العتبة الخبرية الأولى في الصفحة التاسعة، بعد الإهداء، وقبل متن الرواية، وتضمنت ما يلي: "

20 تشرين الثاني 2012

أعلنت الشرطة مقتل المواطنة ر. س البالغة من العمر 29 سـنة إثـر طعـنها في سـاعة مبـكــرة من فـجــر الــيــــوم فــي شارع فـــرعــي فـي حي المـاســـيـون فـي مديــنة رام الله، ولاتـزال الـتحـقـيــقـات جاريــة لكشف ملابسات الحادث، ولم تعلن الشرطة اعتقال أيّ مشتبه بهم.".

وهي خبر ذو علاقة متينة بالعنوان، ولكنه، وبعد قراءة الصفحات الأولى من الرواية، سيبدو منقطع العلاقة بما بعده، حتى نكتشف، وبعد أكثر من ثلثي الرواية - وعند ظهوره مرة ثانية، وهذه المرة في المتن، منقطعا عن أجزاء الرواية، فلا هو قبل ولا بعد عنوان الفصل الذي يحمل اسم إحدى الشخصيات، ولا بعد واحد من أرقام الأبواب، فقد جاء بعد نهاية باب سردي، بفاصل إخراجي، وقبل رقم الباب التالي، الذي جاء مجردا عن اسم شخصية تالٍ أو خبر - أن هذا الخبر هو ثيمة مهمة بحدِّ ذاتها في الرواية، ولكنها ليست محور الرواية، ولا موضوعها الأهم، أو الوحيد، بل هو متساوي الأهمية مع أكثر من موضوع آخر، وهي الملاحظة ذاتها على العتبة الأولى للرواية وهي العنوان: (جريمة في رام الله)، الصادم، والمثير، والتجاري ربما، مثل بعض عناوين روايات أجاثا كريستي: (جريمة في قطار الشرق السريع)، مثلا، يشير ذلك العنوان، بل يؤكد، حسب موقعه وعلاقته بالنص، على أن النص يتعلق بجريمة ذات أبعاد مثيرة، ونتائج صادمة، وذلك ما لم يكن كذلك، كما يفترض أن يجعل النص من موضوع ذلك العنوان محورا، وسيدور حوله كثيرا، وذلك ما لم يحصل، فلم تنل تلك الجريمة من النص إلا جزءا جغرافيا يسيرا، ولم تتفوق موضوعاتيا على الموضوعات الأخرى التي تضمنتها الرواية؛ كأن ذلك كان للتمويه، أو تحويل الاتجاه، وهو خروج على النسق!

إذن، الخبر السابق ذو علاقة بالعنوان، وبموضوع مهم في الرواية، وسيتبعه خبر آخر – ولو على مسافة بعيدة – يرتبط به وبالموضوع ذاته بعلاقة واضحة، وهو الخبر الذي يحمل (23 تشرين ثاني 2012) عنوانا له/ ص187، وكذلك الخبر الذي بعده (ص193)، والذي يليه أيضا (ص196)، ولو بطريقة غير مباشرة، لكن الخبر الذي يحمل عنوان (6 كانون أول 2012)/ ص199 سيكون ذا علاقة وطيدة بالنص الذي يليه مباشرة، حتى أنه يمثل عنوانه تقريبا، وصولا الى الخبر الذي يحمل عنوان (11 أيار 2014)/ ص237 الذي يمثل خاتمة لبعض فصول الرواية وشخصياتها وأحداثها، مرورا بـ، وتجاوزا لأخبار منقطعة العلاقة بالرواية كلها، وأخرى ستكون علاقاتها إشارية مثل: (28 تشرين ثاني 2012)/ ص193، مع متون وردت في فصول أخرى، إن لم تكن ضعيفة، مثل الخبر المعنون بـ (13 كانون ثاني 2013)/ ص222، والخبر المعنون بـ (30 تشرين ثاني 2012)/ ص197، والآخر الذي يحمل عنوان (24 كانون ثاني 2013)/ ص227، لكن الخبر الذي يحمل تأريخ (22 كانون أول 2012)/ ص209 عنوانا له، سيكون واهي العلاقة بالنص عموما، والجزء التالي له خاصة، مع ملاحظة أن بعض تلك الأخبار غالبا ما تأتي عتباتٍ مع أسماء فصول مختلفة، بعضها لا علاقة له بالجريمة/ الحدث/ الموضوع، أي اختلاف اسم الشخص مع العتبة/ الخبر، وبعضها الآخر لا علاقة له بالرواية، ولا بأحداثها، ولا موضوعاتها أو أشخاصها، من قريب أو بعيد، كما يلاحظ على الخبر الذي يحمل (18 شباط 2013) عنوانا له، والوارد في الصفحة (234)، أو الخبر/ العتبة المعنون بـ (23 آب 2012)/ ص156.

يؤكد ذلك وجود مستويات متعددة للعلاقة بين العتبة الإخبارية ذات العنوان التأريخي، والرواية، أو النص التالي للخبر، هي:

  1. علاقة متينة.
  2. علاقة اشارية.
  3. علاقة واهية.
  4. علاقة منقطعة.

ولأن هذه العتبات الخبرية موجودة ومنتشرة في مواقع كثيرة من النص، ابتداء بعتبة الرواية (20 تشرين ثاني 2012)/ ص9، وانتهاء بـ (11 أيار 2014)/ ص237 التي توجز مصائر بعض أشخاص الرواية، وتختتم أحداثها المهمة، وتلخص بعض موضوعاتها، فإن عدم وجودها، في مواضع أخرى من الرواية سيثير الانتباه، وهو وإن جاء بشكل نسبي يميل الى الوجود، فإن العدم سيؤكد ميزة الإختلاف، أو بتعبير هذا النص هدم النسق، وثمة أمثلة على ذلك، تؤكدها براءة الصفحات (83، 90، 96) من العتبات!! لكنها، وللسبب عينه أو لسبب آخر، ستنوجد عتبة (8 شباط 2012)/ ص107، بعد نهاية باب تحمل الرقم (3)، متجردة عن عتبة إخبارية، وقبل باب تحمل الرقم (4)، متجردة أيضا من العتبة الإخبارية، وذلك في الفصل الذي يحمل إسم (نور) عنوانا له، والذي سيتحلى بعتبة (19 كانون ثاني 2012)/ ص81، تقع بين اسم الفصل ورقم الباب!

حضور العتبات وغيابها:
تنقسم الرواية الى ثلاثة فصول، معنونة بأسماء بعض أبطالها، وهي، على التوالي: رؤوف، ونور، ووسام، كما انقسم كل فصل من تلك الفصول الى أبواب، ولم يكن عدد الأبواب واحدا في كل فصل، كما في الجدول التالي:

الفصل

عدد الأبواب

رؤوف

12

نور

8

وسام

13

وحتى هذا الحساب البسيط قد يحتمل الخطأ؛ بسبب تسمية باب التي اقترحتها هذه الدراسة، إذ تعني الباب جزءا مستقلا من النص، يأتي استقلاله بواسطة عنوان أو رقم، يتبعه جزء من النص كمتن حكائي، وهذا التعريف يمكن تطبيقه على أبواب الرواية كلها إلا الباب الأخير، الثالث عشر في فصل وسام؛ لأنها جاءت كرقم وخبر معنون تأريخيا، ولكنها خالية من متن! ليس هذا فحسب، إذ سيتبع ذلك اختلاف في عدد العتبات الخبرية، وفي مواقعها بالنسبة للمتن اللاحق، ومع عدم القدرة على اعتبار العتبة الخبرية الأولى في النص خارجة عنه، مثل التمثيل بقول أو بيت شعر، أو تضمين من كتاب سابق؛ لأنها ستتكرر في المتن في موقع لاحق، مما يؤكد أنها جزء من النص، وأنها إحدى ثيماته، كما مرت الإشارة الى ذلك، فضلا عن وقوعها بعد الإهداء، أي منذ بداية النص، ولكنها ستعتبر عتبة خارج متن النص لضرورات هذه الدراسة، وللتفرغ لملاحظة العتبات الخبرية الأخرى، ولرصد حالات ظهورها.

الفصل الأول، والذي يحمل اسم رؤوف عنوانا له – لم يرد اسم رؤوف ولو مرة واحدة في هذا الفصل – ينقسم الى اثنتي عشرة بابا، في كل باب عتبة خبرية، معنونة بالتأريخ ومذيلة بالمصدر، تقع بعد رقم الباب، بينما ينقسم الفصل الثاني، والذي يحمل اسم نور عنوانا له، الى ثماني أبواب، لكنه يحتوي على خمس عتبات فقط، وهذا النقص في العدد، فضلا عن سبب آخر سيذكر لاحقا، تسبب في تغير طفيف لموقع هذه العتبة، فأصبح قبل الرقم، ولأن أكثر من رقم/ باب ستتجرد عن العتبة، فإن العتبة – تحصيل حاصل - ستشمل الأبواب الخالية من العتبات، بالعنوان والتأريخ، فيكون ظهورها كالآتي:

  • العتبة الأولى ستشمل ثلاث أبواب.
  • العتبة الثانية ستشمل بابين.

ليتسبب ذلك، أو يُتبع على الأقل، بنسق ثالث، مؤداه: عتبة لكل باب، تقع قبل الرقم!

أما فصل وسام، الذي يتميز، أو يحتوي على اختلافات مع الأنساق السابقة، وفيما بين محتوياته، فإنه يضم ثلاثة عشر رقما - لا يطمئن الى لفظة: باباً – لا تختص كلها بوسام، الذي يحلي إسمه الفصل كله، بل تتوزع عشوائيا على الأبطال الثلاثة للرواية، إذ تتحلى باب واحدة بإسم رؤوف، وتتحلى أربع أبواب بإسم نور، وستظهر العتبات وتختفي بشكل عشوائي أيضا، كما هو مبين في الجدول التالي:

العتبة

الصفحة

عدد الأبواب

الأبواب

19 تشرين ثاني

162

2

1، 2

20 تشرين ثاني

172

2

3، 4

23 تشرين ثاني

187

1

5

28 تشرين ثاني

192

1

6

30 تشرين ثاني

197

1

7

6 كانون أول

199

1

8

22 كانون أول

209

1

9

13 كانون ثاني

222

1

10

24 كانون ثاني

227

1

11

18 شباط

234

1

12

11 أيار

237

بدون

13

ترتبط العتبتان الأولى والثانية فيما بينهما بـ: 1. عدم وجود حذف زمني، وهي المرة الوحيدة في النص. 2. لكل عتبة بابان وتأريخ واحد، وعنوان/ اسم شخص. 3. رقم ثم عنوان اسم الشخص/ البطل، وتختلفان فيما سبق مع الأبواب الأخرى إلا في حالة العنوان، فهما تحملان اسم وسام، مثل أربع أبواب أخرى، وهو إسم بطل لا راوٍ، وذلك ما جعل للنص راويين داخليين وواحدا خارجيا، نائبا عن وسام، الذي ربما لم تسمح له مشاعر الحزن والصدمة – والرواية تؤكد بقاءه مذهولا، منقطعا عن الدنيا، عازفا عن العمل والعلاقات مع الأهل والأصدقاء – بسبب فقده حبيبته بالحكي، وتذكر هذه الحالة بانتقال الحكي من ضمير المتكلم الى الغائب في فصل منيرة في رواية (الرجع البعيد)([1]) عند الوصول الى الحدث الحدث.

فعندما تجردت البابان الثانية والرابعة من العتبة الخبرية؛ فقد شملت العتبة الخبرية السابقة للبابين الأولى والثالثة البابين الثانية والرابعة! وسيتبع ذلك عودة النسق الأصيل وهو لكل باب عتبة، ثم خروج مختلف في عدم وجود متن في الباب الثالثة عشرة! يلاحظ على ذلك كله، تجلي أحد مظاهر ميزة (بناء النسق وهدمه) في الرواية، من خلال عدم التزام العتبة بعلاقة على مستوى واحد مع الرواية أو النص التالي للعتبة، وظهورها في أكثر من موقع مختلف، أو حتى عدم وجودها!!

لكن العتبات الخبرية كلها تميزت بوجود نسق لم تخرج عليه أبدا، وجاء بديلا عن شيء معروف متفق عليه، وإن لم يكن ثابتا! هذا النسق هو وجود التأريخ بمثابة عنوان للخبر، وعدم وجود عنوان للخبر! استبدال العنوان بالتأريخ، التخلي عن العنوان، وهو أحد المكونات الأساسية للخبر الصحفي، ويكاد لا يوجد خبر بلا عنوان! والمجيء بتأريخ الحدث، الذي ربما سيكون في متن الخبر، أو في نهايته، أو انه لن ينوجد أبدا؛ بسبب وجوده واحدا من مكونات (رأس الصفحة/ الترويسه) في الجريدة، أو في أي مكان في المجلة، التأريخ موجود في أي منشور صحفي، وحسب نوعه، أو إخراجه.

ولكن المجيء بالتأريخ الى (قمة الخبر) سيثير أكثر من سؤال، ويستدعي أكثر من جواب أو تأويل: هل كان ذلك الأمر لأجل الاختلاف فقط؟ أي للتجديد في طرق تقديم النص، وللتجريب بحثا عن جماليات أخرى لكتابة الرواية؟ أم للتحرش بجنس كتابي آخر، هو الخبر الصحفي، وفرض طريقة كتابية أو إخراجية جديدة عليه؟ أو – وهو السؤال الأكثر دقة، والأقوى علاقة بالنص كرواية – هل استخدم المؤلف عنوان الخبر/ العتبة - مستفيدا من كونه خبرا يحتاج الى تأريخ، ومن موقعه في المتن الروائي كعتبة – لتوضيح البناء الزمني للنص؟؟

يوحي تأريخ العتبة الأولى (20 تشرين ثاني 2012)/ ص9 – يلاحظ تخلي الجزء الثاني من اسم الشهر عن أل التعريف؟؟!! – للقارئ بأن بداية النص ستكون من هذا التاريخ، وهو تأريخ اغتيال (ر. س)، الشخصية المهمشة جدا في الرواية، والذي يثير الاستغراب في الرواية أنها تستعير عنوانها الصادم من هذه الحادثة، وهي حادثة غير عادية، لا في رام الله وحدها، ولا في البلدان الإسلامية والشرق الأوسط فقط، بل في العالم كله، هذه الحادثة مثيرة لاهتمام منظمات حقوق الإنسان، وغيرها مما لا مجال للتفصيل فيه هنا، القصد من ذلك إن هذه الشخصية، ضحية هذه الحادثة - التي جعلت عنوانا للرواية، وما عنوان الرواية إلا ثرياها، وعتبتها الأهم، وأحد الأسباب الرئيسية الدافعة لـ أو عن قراءة الرواية، وعلى الرغم من ذلك كله - ستكون في هامش هذه الرواية!

يكاد يكون (نور) هو البطل الرئيسي للنص، مع الأخذ بنظر الاعتبار ان جنس الرواية متعددة الرواة يتميز بعدم وجود بطل واحد، بل بوجود عدد من الشخصيات التي لها مستوى واحد في الرواية، المنسجم، أو الموضح بآلية تقسيم البطولة والحكي مما سيبحث لاحقا، ويأتي بعده من حيث الأهمية السردية رؤوف، ثم وسام، وقد كان بناء الشخصيتين الأولى والثانية أكبر من بناء الشخصية الثالثة، أما (ر. س) فقد كانت حبيبة وسام، وما جاء عنها أو منها في النص، لا يشكل إلا نسبة ضئيلة جدا منه .. لا يشكل هذا الكلام اعتراضا على رؤية تأليفية، لكنه وصف لطريقة تقديم الشخصيات في الرواية، وهي واحدة من ميزاتها الفنية.

يفترض أن تكون (ر. س) هي البطلة الرئيسية للرواية([2])، يمكن أن تمثل النار، وتمثل شخصيات: نور، ورؤوف، ووسام الفراشات التي تدور حولها، في رؤية كتابية أخرى، لا تقلل من قيمة رؤية المؤلف أبدا، ولكن ذلك هو ما يدل عليه عنوان الرواية، ذلك هو التأويل الأقرب للعنوان (جريمة في رام الله)، الذي تعززه العتبة المهمة جدا (20 تشرين ثاني 2012)، والتي ذكرت مرتين سابقا.

كان تأريخ العتبة الأولى في النص هو (20 تشرين ثاني 2012)، ليكون (11 أيار 2014) هو تأريخ العتبة الأخيرة فيه، والتي كان يمكن أن تكون بابا في فصل، أو فصلا متميزا، يحتوي على خواتيم النص ومكوناته، لو كتب بصيغة أخرى، وكأن الرواية بدأت في التأريخ الأول، وانتهت في الثاني، لكن الخروج على النسق لم يسمح لذلك بالصيرورة، فجاء اسم رؤوف عنوانا لفصل، ليوحي بأن هذه الرواية تعتمد طريقة تعدد الرواة كصيغة تأليفية لها، وجاء الباب الأول، بوجود الرقم (1)، ليشير الى وجود تقسيمات ثانوية في التقسيم الأول، تقسيم النص على عدد من الرواة، لكل راو عدد غير متساوٍ من مقاطع الحكي، أو المشاهد السردية التي تتحلى بالأرقام عناوين لها، وجاءت عتبة (الخبر المؤرخ) - جواز الفتح والكسر – بين الرقم والمتن، أيضا لإيجاد - فضلا عما سبق ذكره في هذه الفقرة - أو انوجاد مخالفات للنسق.

أهمية العتبة الأولى في فصل رؤوف تتوضح في أكثر من متغير، واحد من تلك المتغيرات هو الإشارة الى تأريخ ما، فيلاحظ أن (13 شباط 2009) العنوان (التأريخي) للخبر، أقدم من العنوان التأريخي للعتبة الأولى في الرواية بحوالي أربع سنين!! مما يجعل ما ورد في النصوص المحصورة بين التأريخ السابق و (20 تشرين ثاني 2012) استرجاعا ذاتيا خارجيا، ولا يفتقد الى استرجاعات أخرى ضمنية، أي عدم الاكتفاء بطريقة العنوان المؤرخ، وبالباب ككل، بل استفادت من طرق ووسائل الاسترجاع النصية المختلفة، ومن الأجزاء في الفصول أو الأبواب.

شيء من الإيهام، وليس من التوهم، ستؤدي اليه العتبات الثلاث تلك، فالفرق الزمني بين (20 تشرين ثاني 2012) و (11 أيار 2014) سنتان وستة أشهر وتسعة أيام، وهو ما يمكن اعتباره زمن القصة، حسب عتبتي الإفتتاح والإختتام، بموقعهما المؤكِّد ذاك، لكن عتبة الإفتتاح ليست كذلك؛ لأنها جزء منقول من متن الرواية، وموقعها سيظل خارج النص، أما الفرق الزمني بين (12 شباط 2009) و (11 أيار 2014) والذي هو ثلاث سنوات وتسعة أشهر وسبعة أيام، فهو زمن الرواية، لأن الحدث الأول في الرواية حدث بتأريخ، أو إن الرواية بدأت من (12 شباط 2009)، والحدث الذي تسرب الى العنوان، واستبقت عتبته الخبرية الرواية كلها، يقع على نقطة ما، في النصف الثاني من المسار الزمني للرواية، وما احتوي عليه النص من استرجاعات، في فصلي رؤوف ونور خاصة، تعود الى زمن قبل (12 شباط 2009)، ستكون استرجاعات واقعة خارج زمن الحكاية.

يفترض، والحال كذلك، ان استخدام التأريخ عنوانا للخبر، بشكل مغاير تماما لصيغة كتابة الخبر المألوفة والمتفق عليها، لم يكن سهوا، بل بقصد الإفصاح عن زمن النص، تأريخ التخييل، الذي قد لا يمت بصلة الى واقع مسجّل في وثائق منها الصحف أو وكالات الأنباء أو مواقع الشبكة الدولية للمعلومات (الانترنيت)، بل يمكن أن يكون، ويحال في القراءة الفنية المتخصصة، كل ذلك على التخييل الروائي، الذي يرينا الواقع بصورة أوضح وأجمل مما هو عليه!! ولكن تلك الأرخنة لن تكون الوحيدة في النص، فلم تستطع الصيغة الكتابية له أن تتخلص من الطرق التقليدية في التزمين، أو الإشارات الزمنية التقليدية، مثل: "باستثناء تلك الأيام" (ص43)، و "بين حين وآخر" (ص44)، التلخيصية، و: "بعد أسبوعين عادت الغريبة" (ص71)، المنقطعة عن أي تزمين سابق، أو الغريبة عنه، مثل غرابة شخصية (الغريبة) حسب وصف الرواية لها، باستثناء - وهو ما لا وجود لدليل يؤكده - وجود (25 آذار 2010) عنوانا لخبر/ عتبة الباب (11) من فصل رؤوف، مع ملاحظة أنها ليست كثيرة في الرواية، اذن، هنا الاقتراح التجديدي هو تزمين النص بواسطة العتبة، لكنه تزمين خارجي، أو تزمين مباشر؛ متأثر بنظرية تداخل الاجناس، وامكانية استفادة الرواية، وقابليتها الدائمة لذلك، من الصحافة، الا إذا لم يتم العكس، أن تتأثر صيغة كتابة الخبر الصحفي بأرخنة المتون الروائية، في عناوينها، ورغبة الرواية في تقديم نفسها منافسة قوية للفنون والآداب الأخرى، وقدرتها على استيعاب المزيد من الألعاب الجديدة!!

ومن الألعاب الموجودة في رواية (جريمة في رام الله) لعبة تعدد الرواة، وهي لعبة مهمة ومتميزة من الألعاب الحداثية في الرواية، والتي خرجت على النسق التقليدي في وجود راوٍ وحيدٍ وعليمٍ للأخبار والأحداث كلها، تظهر تلك اللعبة أولا من خلال وجود فصول معنونة بأسماء أشخاص: "رؤوف" ص11، و: "نور" ص79، و: "وسام" ص161"، هم أبطال الرواية، ويحكي اثنان منهم بضمير المتكلم، وتلك بعض ميزات الرواية متعددة الرواة([3]).

رافق هذا الجنس الروائي منذ ولادته تعدد الفهم، أو التباسه، ربما بسبب تعدد مصادره، إذ يمكن نسبته الى (الصخب والعنف) لفوكنر، وربما ينسبه البعض – من غير دقة – الى (رباعية الاسكندرية) للورنس داريل، وربما أوجد له آخرون وشيجة بـ (هنري جيمس)، الذي اقترح وجود أكثر من رأي أو بؤرة سردية في النص، ويفترض أن تكون هذه الميزة عامة وشائعة في الروايات كلها، وثمة من يحيله على (دوستويفسكي)، عبر جسر (باختين)؛ ولكن القراءة المتفحصة لبعض الروايات العربية تؤكد أن لا شكل موحدا للرواية متعددة الرواة، ولا نسق ثابتا، وهي النتيجة عينها التي تخرج بها قراءة الروايات المؤسِّسة، والروايات العالمية عبر تاريخها([4])، وربما تكون هذه ميزة شائعة في النوع الروائي عامة، مما جعله يتقبل التجديد والتطوير، والإستعانة بفنون أخرى سردية أو أدبية أو غيرها.

وكذلك لم تلتزم رواية (جريمة في رام الله) بشروط الرواية متعددة الرواة، عن قصد أو بدونه، وخاصة في استخدام ضمير الروي، الذي كان ضمير المتكلم في فصلي (رؤوف) و (نور)، كاملا تماما، ولكنه تحول الى ضمير الغائب في فصل (وسام)، مما يؤكد قدرة الراوي العليم على الصمود أمام محاولات التخلص منه؛ فيكون هذا التحول واحدا من ظواهر الخروج على النسق/ الأنساق، في عموم اشتغالات الرواية، مثلما يمكن رصد اختلافات، أو خروجات أخرى.

مواقع الرواة:
يفتتح الراوي الأول رؤوف الحكي في الرواية، متحدثا بضمير المتكلم، ومشاركا في الأحداث: "طوال حياتي كنت أظن ان المصائب والمآسي، أشياء تقع للآخرين، وليس لي، حتّى عرفتُ دنيا"/ ص13، ويستمر بالضمير نفسه، والصيغة نفسها، دون أي تغيير، على مساحة (66) صفحة، في فصل تقسم الى (12) بابا، ثم يأتي دور الراوي الثاني في الرواية وهو نور، الذي سيحكي بضمير المتكلم أيضا، في فصل تقسَّم الى (8) أبواب، وتمدد على مساحة (81) صفحة، وإن كانت تلك المقاييس غير ضرورية في قراءة الرواية، لكنها تفتح أفق الأسئلة، أو تتكتل ملاحظاتٍ على آليات بناء الرواية وصيغة تقديمها.

قد يكون السؤال مبكرا، أو أوسع من هذه الفقرة، حول ضرورة اختيار طريقة تعدد الرواة لتقديم رواية (جريمة في رام الله)، لكن الأسئلة الأسهل، والمنبثقة من صلب الملاحظة أعلاه، هي: لماذا تقسمت فصول الراويين أعلاه الى أبواب؟ ولماذا كانت أبواب فصل الراوي الأول (12) بابا، وكانت أبواب فصل الراوي الثاني (8) أبواب؟ وفي الوقت نفسه كانت مساحة حكي الراوي الأول (66) صفحة، ومساحة حكي الراوي الثاني (81) صفحة؛ مما يؤدي الى نسبة عكسية: عدد أبواب أكثر وعدد صفحات أقل، وبالعكس!! وإن كان هذا – تأكيدا لما سبق ذكره – ليس من المقاييس المهمة في النوع الروائي عموما، والرواية متعددة الرواة أيضا، لكنه يوضح أمرين، هما: عدم وجود نسق ثابت في شكل النص، مما يؤدي الى، أو هو في الوقت عينه، انوجاد نسق الاختلاف والمغايرة، أو نسق عدم الالتزام بالنسق، أو هو اللانسق، الذي قد لا يكون من مواصفات الحداثة، التي تلتزم بأنظمة فنية، تم الخروج عليها في مابعد الحداثة، لمتغيرات ليس هذا موضع الخوض فيها، مما يؤكد أن الخروج على النسق، بعد ايجاده والاهتمام به، هو خروج على المدرسة الفنية ذاتها، أو تداخل تجريبي لمدرستين، وإن كانت الثانية بنتا للأولى، إلا أنها مناقضة لها.. اذن سيكون البناء الفني للرواية قائما على التناقض، وهو ما سيلاحظ في الفصل الثالث!

فصل (وسام) هو الفصل الثالث في الرواية، وتمدد على (75) صفحة من المساحة الجغرافية/ الورقية للرواية، وتقسم الى (13) بابا، حيث سيلاحظ هنا أنه الأوسط مساحة، وأنه يزيد على الفصلين الأول والثاني في عدد الأبواب، لكنه سوف يختلف بأكثر من متغير عن الفصلين الأولين كليهما! منها إن الباب (13) خالية من المتن، إنها رقم وعتبة فقط، ثم إن الحكي سينتقل الى ضمير الغائب، وستتحلى تقسيماته - الى أبواب مرقمة - بأسماء، هي الأسماء الثلاثة عينها لأبطال الرواية؛ مما يؤدي الى عدم استقلالية هذا الفصل بوسام، وإنقاص عدد الصفحات والأبواب التي أشير سابقا الى أنها مكوناته! يمكن القول هنا أن بعض أبوابه منقولة، أو مستلبة، من فصلي رؤوف ونور؛ مما يؤدي الى ضعف مبرر حمله ذلك الإسم! وما يؤكد أن الأبواب الخاصة برؤوف ونور، والموجودة في الفصل الذي يحمل إسم وسام عنوانا له - لا يمكن اعتباره فصل وسام تماما - هي أبواب منقولة من فصولهم؛ لأنها تحمل ميزات تلك الفصول نفسها، وخاصة الحكي بضمير المتكلم، وحكي الأحداث التي يكون الراوي بطلها، أو مشاركا فيها، بينما يكون وسام بطل أحداث بعض أبواب فصله، لكنه لا يحكيها، إنه بطل فقط، وتطلَّب، أو هكذا صيغ، أن تكون أرقام الأبواب في فصل (وسام) سابقة لعناوينها، لتؤكد كونها جزءاً من الفصل، وكي لا تتناقض مع حالة عدم وجود عنوان للباب، والإكتفاء بالرقم! لتضاف أكثر من علامة، أو صفة، للخروج على النسق، أو انوجاد نسق اللانسق. الـ (13) بابا الموجودات في الفصل المعنون بـ (وسام)، تحمل عناوين مختلفة، يوضحها الجدول التالي:

ت

رقم الباب

عنوان الباب

1

(1)

وسام

2

(2)

نور

3

(3)

بدون عنوان

4

(4)

نور

5

(5)

وسام

6

(6)

وسام

7

(7)

رؤوف

8

(8)

نور

9.

(9)

وسام

10.

(10)

نور

11.

(11)

وسام

12.

(12)

وسام

13.

(13)

بدون عنوان

 

والذي يوضح:

  1. الفصل الأول كان لـ (رؤوف)، بينما حمل الباب التالي لباب (وسام) – في فصل وسام - اسم (نور) عنوانا له، وكان له، حكيا وأحداثا.
  2. وجود باب واحدة بدون عنوان، في حين لم يكن في الرواية فصل بدون عنوان!
  3. تقسمت الأبواب على الأبطال الثلاثة هكذا:
  • وسام: ست أبواب، أي كان له نصف الفصل الذي يحمل اسمه عنوانا!
  • رؤوف: باب واحدة فقط؛ فبقى عدد أبوابه أكثر من عدد أبواب نور!
  • نور: أربع أبواب؛ تعويضا عن الأبواب القليلة في فصله، وزيادة في عدد صفحاته.
  1. الأبواب التي تحمل إسم (وسام) عنوانا لها، والباب المتجردة من العنوان، تُحكى بضمير الغائب، والأبواب التي تحمل إسمي (رؤوف) ونور تُحكى بضمير المتكلم؛ فتميز فصل وسام – أو ما يمكن تسميته هكذا تجاوزا، أو حسب الرواية – بأنه يُحكى بضميري الغائب والمتكلم.
  2. وجود باب واحدة بدون عنوان ولا متن، لخصت عتبتها نهايات بعض أحداث، وشخوص، النص.

ويمكن جعل الملاحظات السابقة كلها، أو بعضا منها، من ضمن الميزات التي تعزز ظاهرة اللانسق في رواية (جريمة في رام الله)، وإن اختصت بالفصل الذي يحمل عنوان (وسام)؛ لأن فصل (وسام) هو جزء من الرواية، كما أن هذا الفصل بحدِّ ذاته يتمتع بفائض الإختلاف، فيمكن أن تكون الملاحظات السابقة جزءا مستقلا من الملاحظات التي تؤشِّر، أو تؤكد اللانسق في هذه الرواية؛ لخصوصيتها بفصل ما، أو إدراجها مع الأخريات لتشكل كلَّا واحدا خاصا بالرواية كلها!

ثمة ملاحظة أخرى، يمكن إضافتها الى الملاحظات السابقة، أو الإتيان بها مستقلة، وهي: إن فصل (وسام)، وبعد إخراج ست أبواب منه، سيكون الفصل الأقصر، للخروج بنتيجة مباغتة، أو صادمة – قصدية أو عفوية – هي: إن العنوان الصادم، وتوقع كونه الثيمة الرئيسية في النص، سيشكلان خروجا على أفق التوقع، لأنهما سيتعلقان بالأقل مساحة ورقية، وعدد أبواب، وضمير حكي؛ لأن ضمير المتكلم في النص ليس أكثر حميمية، وأقوى وثوقية، أو الأقدر تعبيرا عن المشاعر الذاتية فحسب، بل هو الأكثر إفصاحا عن هوية البطل.. الأنا محور الهوية! وهو ما تم تجاوزه هنا. وحتى تلك الأبواب القليلة الخاصة بـ (وسام) تم انتهاكها، والتجاوز على مساحاتها، ليس فقط من خلال ضمير الغائب، او عودة الراوي العليم الى النص، بل من خلال السماح للطبيب النفسي – مثلا – بالحكي، واعطائه مساحة واسعة، وهو شخصية ثانوية جدا في الرواية، لا يتناسب دورها مع المساحة الورقية التي منحت له، وهي أكثر من عشر صفحات.

أما العلاقة بين المتن والإهداء، فإنها تنبثق من لفظة، جاءت وحيدة في الإهداء، ورسمت، وإن شابهت الأخريات بذلك، أو إنها كانت سببا في ذلك، وحيدة، هذا باعتبار الإهداء عتبة أولية، لا علاقة بينها وبين المتن، لكن لا يفترض استبعاد وجود علاقة ما، علاقة نصية، توضحت هنا بين المهدى اليه "الى وسام" ص7، وبين إسم أحد أبطال الرواية، وعنوان أحد فصولها، وهو الفصل المنطوي على أكبر عدد من الاختلافات، أو أكثر عدد من الأنساق! إن التأثيرات التي تتمخض عن القراءة، وتتسلل الى الدراسة، عفوا، أو من خلال تفاعل أكثر من عنصر، من النص ومن القراءة؛ قد تؤدي الى الخروج على نسق الدراسة، وهو ما لا تهدف اليه، ولا تؤكد وجوده، مثلما لا تنفيه، ولا تتهرب منه!

العلاقات بين الفصول:
واذا كان تقديم الرواية بشكل متعددة الرواة؛ لإتاحة الفرصة للشخوص للتعبير عن آرائهم بحرية، فإن ذلك لن يتوضح تماما إلا بحكي الحادثة عينها أكثر من مرة، من قبل أكثر من راوٍ، واذا لم تتوفر الرواية – أية رواية – على تكرار للمسرود([5])، لتبيين وجهات النظر المختلفة، فما الحاجة الى كتابتها بهذا الشكل؟! الا إذا كانت ديمقراطية الحكي، والتخلص من الراوي الواحد، العليم، سببا كافيا لذلك، وهو أيضا ما لم يتحقق بشكل كامل في هذه الرواية: "ويظل وسام هامدا في مقعده، يكرر في رأسه..."/ 177؛ إذ ان استخدام ضمير المتكلم، وحصر منطقة الحكي بالذات، يمكن ان يجنبا النص الوقوع في فخّ المبالغة في العلم! فندرة وجود تكرار للمسرود، هنا، قد تعززت بوجود فصل، أو أجزاء منه محكية بضمير الغائب، وبواسطة راوٍ خارجي! إن وجود فصول معنونة بأسماء شخصيات في الرواية، غيرُ كافٍ وحدَه لاعتبارها متعددة رواة، خاصة مع عدم وجود علاقات بين تلك الشخصيات، وعدم وجود أحداث مشتركة، وعدم وجود حكي متكرر عنها، مثلما لا يستطيع الزمن السردي، لوحده، أن يجعل من النص رواية؛ لأنه ليس علاقة سببية تربط بين أجزاء/ أبواب/ مشاهد النص.

هنا قد يكون الأقرب الى الملاحظة: إن إيجاد، أو الإستعانة بنسق ما، هو جنس الرواية متعددة الرواة، لم يُتَّخذ إلا للخروج عليه، أو لمخالفته، محاولة في التجديد أو التجريب ربما. فانتفاء تكرار المسرود، أدى الى انتفاء التباين في الآراء حول الأحداث أو الأفكار التي وردت في الرواية، وعدم الإكتفاء بالرواة الأبطال/ المشاركين، والإتيان براوٍ خارجي – وهو نسق أصيل في هذا الجنس الروائي([6]) – يشارك الراويين الآخرين وظيفتهم، يشير الى عدم الحاجة، أو عدم الاكتفاء بالرواة المشاركين!

وقد أدى التأريخ الموضوع كعنوان لعتبات الفصول والأبواب وظيفة أخرى في النص، وظيفة عرضية، عفوية، ولكنها ليست اعتباطية، بل جوهرية في طريقة بناء النص، وهي عدم إتاحة الفرصة لبناء عمودي للنص، أو عدم إتاحة الفرصة للسرد المتوازي، بتعبير آخر، فاستمرارية العتبات، منذ (13 شباط 2009) الى (11 أيار 2014) جعلت من الفصول ذات بناء أفقي تتابعي، وإن احتوى النص على بعض من الإسترجاعات، لكن الفصول والأبواب أكدت السرد الأفقي، ومنعت من ظهور سرد متوازٍ وبناء عمودي!

إذن ماذا تبقى من ميزات الرواية متعددة الرواة؟ لا وجود لتكرار المسرود، وعدم الاكتفاء بالرواة المشاركين، والإفتقاد الى آراء متعددة ومتباينة ومختلفة مع بعضها، متناقضة ومتصارعة، وهو ما يفترض وجوده في هذا الجنس الروائي، الأدق في رؤية العالم، المليء، أو القائم على صراعات بعضها خطير وقاتل، بل يمكن القول أن لا وجود للعالم بدون الإختلافات في الآراء والتصرفات، والنظرة اليه وما يحتوي، فربما يمكن القول: إن العالم ليس إلا رؤى متضادة.. السؤال الواقع في صلب تكوين الرواية، عن مدى قدرتها على استيعاب أسئلة الصراع هذه؟ الصراع الخطر، بين قوى "الشر" وقوى الخير، أو الصراع بين الذات والآخر، وعن إمكانية إتيان الرواية ببطل من قوى "الشر"، ومنحه المجال للتعبير عن وجهات نظره؟ وتقدير صعوبة ذلك، بسبب رقيب خارجي وآخر داخلي، ورقيب يتوزع عليهما يقول: إن ذلك يتيح اشاعة الافكار "الشريرة"، الرواية تحتاج الى نماذج تثير الانتباه أو تشكل ظاهرة، تبيّن مناظرة بين طرفي الصراع، وطرفي الحرب، ربما في بعض الروايات يؤتي بالآخر المختلف عقائديا، اما ضعيفا، أو للإنتقام منه وإذلاله وإظهاره بالصفات غير المرغوب فيها.

ليس بإمكان عنوان الرواية المحافظة على وحدتها العضوية، مثلما لا يتمكن تقسيمها الى فصول من تفتيت وحدتها المفترضة، لكن قراءتها هي التي تمنحها صفتها التجنيسية، بعد الإطلاع على العلاقات الممتدة بين الفصول والأبواب، أو المشاهد، إذ يمكن للحدث أن يتسبب في سلسلة من الأحداث، ويستمر دور الشخصية أو تفاعلها مع الأحداث، وهو ما لم يتحقق في هذه الرواية، لأن فصلها الأول ليس سوى سيرة ذاتية (تخييلية) لرؤوف، منبتة الصلة بالفصلين التاليين، ولو اجتزأ من الرواية فلن يؤثر ذلك عليها أبدا، واذا تحققت فرضية الإجتزاء تلك، وشملت الفصول الثلاثة كلا على انفراد، فإن إطلاق مصطلح رواية على (جريمة في رام الله) لن يكون يسيرا!

وكذلك فصلها الثاني، هو سيرة ذاتية (تخييلية) لنور، لا يؤثر انتزاعه من النص بشيء عليه، وحتى العلاقة الشخصية بين رؤوف ونور، والتي تحدث عنها الثاني كثيرا في فصله، فإن الأول لم يذكرها ولو مرة واحدة! وبمستطاع القارئ إجراء تجربة على هذا النص، بعد تقسيمه فعليا الى ثلاثة أقسام، أي جعل الكتاب ثلاثة كتب، حسب تقسيمه الفصلي الأصلي، فيقرأ الفصل الأول منفردا، ثم يقرأ الفصل الثاني بعد مرور أشهر، والثالث بعد الثاني بشهور أخرى، سوف لن يجد أي رابط بينها الا ما كان مفتعلا!! مثل الإستعانة بالأقواس الصغيرة (")، والتي وجدت في بداية الجملة، وافتقدت في نهايتها، وكذلك استخدام الحرف المائل إخراجيا، واذا كان ثمة سهو متكرر في النص في استخدام أقواس التنصيص، ومحاولة الإلتزام بالخروج على النسق – إن الاستمرار في الخروج على النسق سيكون نسقا! – أو لإضفاء جماليات بصرية ما تساعد أو تشوق المتلقي، فإن الابتداء برؤوف سوف يكون افتعالا مضاعفا؛ فكون مفردة رؤوف هي الثالثة في فصل نور، سيذكِّر القارئ فورا بعنوان الفصل السابق، مناقضا عدم ورود إسم نور، ولا أية إشارة الى العلاقة بينهما، في فصل رؤوف، لقد ذكر نور أن رؤوف هو من اقترح له هذا الإسم بديلا عن إسمه في البطاقة الشخصية صهيب، والإتيان بفصل نور لاحقا لفصل رؤوف سوف لن يمنح القارئ فرصة لنسيان رؤوف، فضلا عن تكرار إسم رؤوف مرات غير قليلة، وأهميته في حياة نور، وكأنه محورها! وما يؤكد ذلك، وعلى العكس مما يفترض في البناء السردي، فإن الخروج من أي من الفصول الثلاثة، الأول والثاني خاصة حسب إخراج الرواية، والدخول في الفصل اللاحق، كان خاليا من أي تمهيد، أو إشارة الى ما سيأتي.

ولكن لماذا كان ذلك افتعالا؟ أليس هو بناءا سرديا تخييليا؟ لماذا تأتي الملاحظة هنا بصيغة الاحتجاج أو الاعتراض؟ ألا يكون ذلك مصادرة لحق المؤلف في اختيار صيغ كتاباته؟ بل ربما هو اعتراض على التخييل الذي هو العمود الفقري للنص السردي! لا، لا اعتراض على التخييل، ولا تضييق على حرية الكاتب في اختيار صيغه التأليفية، بل ثمة رصد ووصف لحركة البناء السردي، من خلال تجارب أخرى، منها: لو تم استبدال إسم رؤوف في فصل نور، بأي إسم آخر، مثل: سمير، أو بسام، أو أمين... الخ، مع الإبقاء على إسم رؤوف عنوانا للفصل السابق، فما الذي سيتغير؟ لن يتغير شيء؛ لأن رؤوف لم يذكر نور ولو مرة واحدة في فصله، مما يؤكد إمكانية قطع الفصلين عن بعضهما، وعدم وجود صلة سردية بينهما، ولو تم استبدال موقع الفصل الأول بالثاني، حتى بالإبقاء على الإسم، فهل سيحدث شيء؟ كلا، ولن تشفع التواريخ المعنونة للعتبات بشيء في هذا، ولو تم الإستغناء عن الفصل الثالث، طبعا بعد تغيير العنوان، أو بعد جعل الفصل الثالث فصلا مستقلا عن الفصلين الأولين، ويحمل عنوان الرواية، فما الذي سيحدث؟ لا شيء أيضا.

ربما يكون الإتيان بباب أو أكثر، لنور أو رؤوف، وتضمينها في فصل وسام؛ لتوشيج العلاقات بين الفصول، أو لخلق تأثير سردي ما، وقد يكون الإستغناء عن أبواب نور ورؤوف في فصل وسام ممكنا؛ وربما سيبقى الحال كما هو عليه، باستثناء أن فصل وسام سيكون مختصرا، وسوف تكون علاقته بالعنوان أقوى. ثمة مقاطع سردية قصيرة جدا، وقليلة جدا، قد تكون تكرارا لحكي عن حدث، تحاول إقامة علاقات من نوع ما بين الفصول، لكن تلك القلة، والاختصار، قللت من أهمية تلك العلاقات، أو إنها لم تستطع توكيدها؛ فيمكن رؤيتها واهية، إن لم تكن مفتعلة، ووجودها مثل عدمه، حتى أن مبرر الإتيان بها، مثل مبرر الإتيان بأبواب من فصلي رؤوف ونور الى فصل وسام، ضعيف! وقد يكون التمثيل موثقا لها كلها، أو لأغلبها:

  • البار: يتحدث رؤوف، في فصله، عن عمله في البار، أكثر من مرة، الأولى استباقا: "أصبح في ما بعد ساقيا في بار مشهور في المدينة" ص40، ثم توضيح البدايات: "بعرض العمل معه في المطعم"/ ص42، و: "فض مشاجرات السكارى"/ 50، وغيرها، ثم يبدأ حديثه في الباب رقم (7) المعنون بـ (رؤوف) في فصل وسام بالإشارة الى العمل في البار: "حين حصلت جريمة القتل أمام مطعم أبي وليم، لم يكن لي أي اتصال بالبار حينها"/ ص197، رابطا بين موضوعي العمل في البار والجريمة. فهل يمكن أن يكون هذا الذكر المتكرر في فصلين، وفي الباب الخاصة برؤوف في الفصل الثالث المعنون بـ (وسام) كافيا؟! الشخص نفسه، في صيغة الحكي نفسها، وبتقسيم مفتعل، يسلب فصلا ما إحدى أبوابه ويجعلها في فصل آخر، بافتراض مبرر سردي هو خلق علاقات سردية بين فصول، أو شخوص وأحداث الرواية، ذلك الشخص يكرر حكي حدث صغير ما، فهل يمكن اعتبار هذا علاقة، أو تكرارا لمسرود؟ لا على الأرجح، حتى مع تكرار الإشارة في فصل آخر، وبواسطة راوٍ آخر، حيث يرد ذكر البار والعمل فيه في فصل نور: "سأذهب الى العمل"/ ص95، مبهما هكذا في المرة الأولى، ثم: "... زميلي في العمل... ممكن تكمل الشغل عني"/ ص102، مبهما أيضا، ومرتين أخريين بلفظة العمل فقط، ثم: "أفكّر بالاتصال بالمطعم، والسؤال إن كان أحدهم..."/ ص112، غير الواضحة تماما، وصولا الى: "حين اقترح عليَّ رؤوف العمل في بار يعمل فيه"/ 129، الواضحة والمؤكِّدة لوجود علاقة لرؤوف بهذا الأمر. ثم إن حكي نور عن الجريمة، بل عن تواجده في مكان حصولها، سوف يؤكد ما سبق أيضا.
  • دنيا: الشخصية الحاضرة الغائبة، فقد غابت عن النص، إلا في مشهد صغير في بدايته، لكنها حاضرة بقوة في ذهن وذاكرة وحكي رؤوف، كبديل نوعي وشيئي عن نور، يذكرها رؤوف في بداية حكيه: ".... حتّى عرفت دنيا"/ ص 13، ويكرر ذكرها عددا غير قليل من المرات في فصله، ولكنها غائبة تماما في حكي نور، وفي فصل وسام أيضا، الذي قد لا يحتاج الى التمثيل به، لأنه فصل وشخصية ملصقة، ويبدو اللصق هو صفة فصول، وأحداث، وشخوص هذه الرواية، ولكنها ستظهر مرة أخرى، مثل الأولى أو أقل، كنسمة عابرة: "كانت هي دنيا"، "وقفت... على طريقة المراسلين التلفزيونيين"/ ص197، فهل سيشكل تكرار ذكرها هذا مبررا لتجنيس الرواية بـ متعددة رواة؟! لا، فلم يذكرها الا واحد من الرواة.
  • الجريمة: مفتتح عتبات النص، وبؤرة ضوء ثرياه، لم تستطع أن تكون سببا لوحدة النص؛ لأن رؤوف منقطع العلاقة بها، أما نور فقد خلقت الصدفةُ له علاقةً بـ (الجريمة) أقوى من المكان، إذ يمكن أن يكون موقع الجريمة بعيدا عن البار، يمكن أن يلتقي وسام وربا في أي مطعم أو بار أو كافتيريا أخرى.. علاقة المكان هنا لن تكون مؤثرة، لافتقاد علاقات كان يمكن خلقها في النص؛ لتقوية أواصر توحيده وتجنيسه: رواية! إن التمثيلات الآتية، والتي يؤتى بها لإظهار وشائج وعلاقات وتكرارات، ربما تحتوي على ما يشير الى الإنقطاعات والإفتراقات، بعيدا عن القصدية أو العفوية، فـ :"المطعم فارغ إلا منهما، والساقي يبالغ في حركات الانتهاء من يوم طويل حتى يلحظا تأخرهما"/ 163، لم تحتوِ على اسم الساقي، وربما لم يؤتَ بإسم (نور) الساقي في هذا الفصل أبدا، فهل هذا توكيد لمعلومة ما أو تشكيك بها! ثم يأتي الوصف الفائق لمشهد الاغتيال، الخالي تماما من وجود شاهد، خاصة نور! "ولم يجد شيئا، الشارع خال من أي شيء.... الشارع الفارغ"/ 165، ثم: "والساقي في المطعم كأنه غادر دون ان يلحظه أحد"/ 166، التي تحاول التقليل من حتمية كونه نور، بقدر محاولتها إبعاده عن الاشتراك في حدث (الجريمة) بالمشاهدة، ثم الحكي! إلا ما تدارك – مع الانتباه الى تغير ضمير الحكي، من الغائب الى المتكلم - ذلك في: ".... وأنا أنتظر رحيلهما، وبالقبلات الخفيفة، ...، كنت أخفف من إضاءة المطعم"/ 168، التي لها وجود سابق، في الباب الأول من فصل وسام: القبلة الخامسة... والساقي يبالغ في حركات الانتهاء"/ 163، بما يمتلك الإحتمال الكافي لتوكيد أن الساقي هو نور، وأنه راوٍ مشارك في الحدث، أو في أغلب تفصيلاته: "غادرا... وأجدهما"/ 168، متحدثا عن ربا ووسام، و: "خرجت من الباب فرأيتها هناك ممدة على الأرض"/ 168، ثم: "اقتربت منه"/ 168، لكنه لم يذكر إسم أي منهما؛ لأنه لا يعرف ذلك، ولأنه لا تربطه أية علاقة سابقة بهما، حتى علاقة العمل لم تتمدد لتعرِّفه بإسم أي منهما! لكن وصف المشهد في حكي وسام وفي حكي نور يؤكد، مع الدقة في القراءة، أنه مشهد واحد، وهنا، ربما، يكون الإتيان بباب لنور يحكي فيه أو يصف مشهد الاغتيال في فصل وسام يكون مبرَّرا بواسطة هذا المشهد، وإن كان ممكنا بصيغة كتابية أخرى أن يكون هذا الباب في فصل نور!

وإذا كانت الإشارة الأخيرة هي الأهم أو الأقوى، فإنها والإشارتين السابقتين قد تكونان كلَّ شيء، أو أهمَّه، مما يحسب على علاقات الإشتراك والتكرار، مما يستحق الذكر؛ لأن إشارات أخرى أصغر بكثير، واهية الى حد بعيد، وقليلة أيضا، تتناثر هنا وهناك، وخاصة في الفصل الثالث، وفي أبواب نور، عن نهايات رؤوف: (رآه أحدهم في مسجد، يتحدث البعض عنه في البار، زملاء العمل يتذكرونه)، وهي أوهى مما سبق ذكره، ولا تؤكد ميزة؛ لتتجنس رواية (جريمة في رام الله) متعددة رواة.

وإذا كان ذلك شيئا يذكر، أو يُنتبه اليه، مما يمكن أن يحسب – على وهن – كعلاقات بين الفصول أو الشخصيات، فإن فصل وسام، والأبواب الخاصة به، التي تسلل اليها الراوي العليم؛ فحكاها بضمير الغائب، خالية من أية علاقة، ومنقطعة عن الفصلين الأولين، ويفتقد الى مبرر([7]) احتوائه على أبواب لنور ورؤوف، فضلا عن الإفتعال، والخروج من المتن الى السطح، الذي تسبب، أو الذي انتاب العتبة المتجردة عن المتن:

 
 

11 أيار 2014

في العدد القادم، نستعرض الكتاب والفيلم التوثيقيين للكاتب آرنو بريير العائد من الشرق الأوســـط، وهـذه المرة الحكاية من الأراضي الفلسطينية. كيف ترك الشابّ "رؤوف الخطيب" صديقه، وانتهى به الأمر معتقلا عند الأمن الإسرائيلي، ومتهما بالتنسيق والتخطيط مع جماعات مسلحة لتنفيذ اعتداءات إرهابية في المنطقة. شهادات طويلة مع صديق الخطيب الذي قدم مؤخرا

الى فرنسا

مجلة Miroirs الفرنسية

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

فلا مقدمات عن نهاية رؤوف هذه؛ توخيا لافتعال الصدمة، والذكر المتأخر، والوحيد، للفظة الخطيب، لقبا لروؤف، لقب افتراضي ربما؛ لعدم وجود أصل له، فضلا عن ورود خبر نهاية رؤوف، وخبر نهاية نور - هجرته الى فرنسا - في خبر صحفي، بدل أن يكونا متنا لهذه الباب، ولكن المبالغة في الإفتعال، جمعت أخبار اثنين من الأبطال الرواة، في عتبة متنها مفقود، في فصل معنون باسم شخص يفتقد الى دور بطولة، مثلما فقد دوره في الحكي!!!

بل إن انحرافا ما حصل في محور العتبة السابقة، أو التفافا يبحث عن مبررات، لأن محور العتبة السابقة كان رؤوف، ولم يكن نور، ولأن الأخير كان أوشج علاقة بـ (آرنو بريير)، وكانت خصوصيات نور تتخلل حواراتهما، ربما يكون هذا الإنحراف بسبب دوافع خارجية، أي خارج النص السردي، فالإرهاب ثيمة مهمة بالنسبة للأوربيين، والخبر/ العتبة وارد في مجلة فرنسية، في حين لم يكن الإرهاب ثيمة في النص!!

هل تكفي علاقة قوامها كون نور ساقيا في المكان الذي شهد اللقاء الأخير بين ربا ووسام، وهو المتهم الوحيد "أنا المعتقل الوحيد على خلفية الجريمة"/ ص199؛ هل تكفي علاقة: نور هو الساقي في المكان الذي تم فيه اللقاء الأخير بين الحبيبين، واتهام نور، لسببين أحدهما ذو علاقة بالفصل الثاني، والثاني عمله، هل يكفي ذلك ليكون علاقة تجعل من النص - المتشظي الى قصص - رواية؟؟! ببساطة، يمكن استبدال ذلك، فيلتقي وسام بربا في أي مطعم آخر، أو حديقة، ثم تحدث الجريمة.. ليس هذا اعتراضا على رؤية تأليف النص، ولا حكما تقييما له، انما هو بحث في نوع العلاقات، ووصفها، وتعيين مدياتها، التي ستكون أساس تجنيس النص.. فاذا لم يكن نور ساقيا في المطعم الذي التقى فيه وسام بربا لقاءهما الأخير، أو إن مكان لقائهما الأخير لم يكن هذا المطعم، أو لم يكن مطعما اطلاقا؛ سيتم الإستغناء عن بعض أبواب نور في فصل وسام، أو كلها، وفي الوقت عينه لن تكون حبيبة رؤوف مراسلة فضائية؛ سيتم الإستغناء عن باب رؤوف من فصل وسام، برفع تلك الإشارة الصغيرة، والمفتعلة، وإعادة الباب الى الفصل الأصلي، كذلك يتم تنظيف أبواب نور في فصل وسام، من أدران الجريمة، وإرجاعها الى فصلها الأم.

واذا كانت عنونة الفصول بأسماء أبطال الرواية، ميزة أساسية من ميزات الرواية متعددة الرواة، وتقسيم تلك الفصول الى أبواب مرقمة نسقا موجودا في بعض روايات ذلك الجنس، فإن وجود عتبات ليست ميزة ولا نسقا معروفا، أما عنونة العتبات بالتواريخ فهو تجديد في ظاهرة رافقت هذا الجنس الروائي، وإن لم تكن من أساسيات بنائه، تلك الظاهرة هي وجود تواريخ كما في (الصخب والعنف)([8])، أو عناوين مؤرَّخة كما في (المبعدون)([9])، فالتأريخ لوحده مرة، والعنوان المرفق بتأريخ مرة أخرى، أصبح عتبة خبرية معنونة بتأريخ هنا، وفي الحالات الثلاث المارة كانت للتأريخ وظيفة مختلفة عن الأخرى، وإن كانت قريبة من بعضها، ففي رواية (جريمة في رام الله) تبدو وظيفته واضحة وبسيطة، ومنقولة من المتن الى العنوان، ولم يبدُ عليها أنها قامت بدور مؤثر في مسار النص، مع الأخذ بنظر الإعتبار ما للزمن السردي من دور في بناء النص، والإنتباه الى أن لوجوده في النص أكثر من طريقة.. إنها هنا الأبسط والأكثر مباشرة، والإنتقالية من العمق الى السطح، والتكرارية أيضا، لوجود إشارات الى زمن النص وردت فيه، وقد مرَّ ذكر أمثلة منها، ولو أجري اختبار عملي على الرواية، يقوم على مسح التأريخ من العتبة الخبرية، فقد لا يتأثر المتن، بفصوله وأبوابه المؤرخة، أيَّ تأثر فني، وربما لن يلاحظ، ولا يحتاج قارئ النص الجديد، النص الخالي من التواريخ، اليها!! لكن البساطة تلك سوف توضح بمباشرة شبيهة بصيغة إشهار التأريخ، سوف توضح الحذوفات الكثيرة التي حصلت في زمن الرواية، مثلما سوف توضح ببساطة أكثر المسار الأفقي (الكرونولوجي) أو مسار الساعة، الذي استخدمته الرواية، كما يوضح الجدول التالي، الخاص بفصل رؤوف، فقط:

ت

العتبة

الصفحة

1.

13 شباط 2009

13

2.

5 آذار 2009

21

3.

11 أيار 2009

26

4.

30 تموز 2009

29

5.

19 آب 2009

32

6.

3 تشرين أول 2009

41

7.

31 كانون أول 2009

45

8.

6 شباط 2010

50

9.

26 شباط 2010

56

10.

11 آذار 2010

62

11.

25 آذار 2010

70

12.

26 آذار 2010

75

ويوضح الجدول أيضا أن مُدد الحذوفات ليست واحدة، بل مختلفة، وهي ظاهرة موجودة في الفصول كلها، باستثناء حالة واحدة لم يكن فيها حذف، إذ يفصل بين العنوان اللاحق وسابقه يوم واحد، في فصل وسام (الصفحات 162- 172)، لكن اختصار الجدول لم يمكِّنه من توثيق غيابات التواريخ؛ المتأتية عن غياب العتبات الخبرية، إذن التأريخ ملازم للعتبة، وغياب العتبة يؤدي الى غياب التأريخ، وهو ما حصل أكثر من مرة في فصل نور وفي فصل وسام، مما يعني أن التأريخ المُحلِّي للعتبة السابقة شامل للمتون اللاحقة، والمفصولة بالأرقام. لكن السؤال الذي يمكن أن يثيره التأريخ بيوم واحد، هل إن تلك الأحداث التي تضمنها المتن المؤرَّخ حدثت في يوم واحد؟ واذا خلا ذلك المتن من أية إشارة زمنية، مع كثرة الأحداث، خاصة عند وجود أبواب طويلة نسبيا، فهل يمكن أن تكون الأيام المحصورة بين تأريخ عتبة هذا الباب وتأريخ عتبة الباب اللاحق هي المسرح الزمني لتلك الأحداث؟ حتى لا يقال عن تلك الفراغات بين التواريخ حذوفات، وهذان الاحتمالان قائمان، لكن لا يمكن إثبات أو نفي أحدهما أو كليهما، كلٍّ على انفراد، حتى بعد قراءة المتون بتتبع ورصد للحركة الزمنية، فاذا تخلى النص، وهو ظاهرة فيه، عن الإشارات الزمنية المعتادة، وزهد عن، أو قلَّت فيه وندرت، القرائن الزمنية، فإن الأحداث وحدها ليست دليلا على تقدم زمني، وعدم وجودها ليست دليلا على وقوفه؛ لأن عدد الأحداث في يوم ما لا يرتبط حسابيا مع عددها في اليوم السابق أو اليوم التالي!

هل وجود الحذف وعدم وجوده عزز حالة الاستغناء عن ذلك التأريخ أم عزز الحاجة اليه؟ إن الألعاب الزمنية واحدة من أهم الألعاب في النص السردي، وإن كانت النظرة اليها لا تخلو من الذوق والاجتهاد الشخصي، لكن تخلي النص السردي عن الزمن قد يكون شيئا غير ممكن، بينما تخلي النص السردي عن الاشارات الزمنية، وعدم الاتكاء على القرائن، ممكن، وربما يعتبر لعبة سردية، وإن كانت الاستعانة بالقرائن التاريخية أكثر ظهورا في حالة الإستغناء عن الإشارات الزمنية المباشرة والبسيطة.

اللعبة الزمنية هنا، في: التأريخ المعنوِن للعتبة، والذي ربما لن يكون وجوده معقولا بدون العتبة، والذي تشير أرقامه الى حذوفات كثيرة، وعدم وجود إشارات وقرائن زمنية كثيرة في المتون، والحاجة الى المقارنة بين التأريخ/ العنوان وتواريخ أحداث المتن، لمعرفة المسار الزمني للنص، فضلا عن عدم حاجة القارئ الى كل ذلك.. فالمسار الزمني المؤرَّخ هو مسار الساعة، وهو يقود المتون في ذلك الإتجاه، ولكن المتون لا تخلو من استباقات واسترجاعات، تتناسب عدديا مع الحذوفات التي أظهرتها العناوين، في محاولة لإقامة علاقات تربط بين الفصول، أو بين أجزاء النص لجعله رواية، بالتعاون مع التواريخ الموجودة كعناوين للعتبات، مع التناقض في المسار، أو ربما بالتعاضد بين التعاقبية والسببية؛ مما يؤدي الى وحدة زمنية، أو الى وحدة فنية ساعد، أو جعلها الزمن كذلك!!

الألعاب الزمنية ومحاولة خلق العلاقات:
ثمة تصريح في إشارة بسيطة - لم تتطور، مما يحسب على آليات الكتابة النرجسية، أو مابعد الرواية، في الكتابة عن الكتابة – الى خارطة كتابة هذا النص، وإحالة ذلك على بطله، (وراويه) الأوسط: نور، هي: "سأبدأ برؤوف، بل برحيله"/ ص225، لتلك الإشارة محوران كتابيان، زمنيا وصيغيا، الأولى هي الصيغية، والتي ربما كانت عفوية: أن يكون الفصل الأول في الرواية عن رؤوف، والثانية هي الزمنية، حيث سيبدأ نور حكيه من انقطاع علاقته برؤوف، أو حسب تعبيره "رحيله"، فنقرأ: ""لم يعد رؤوف الى السكن منذ عدة أيام"/ ص83، باستخدام غير دقيق لأقواس التنصيص، فربما توجد في بداية عبارة ولا توجد في نهايتها، كما في الجملة السابقة، أو توجد في نهايتها ولم تكن موجودة في بداياتها، كما في الصفحة 160، أو تكون موجود في بداية ونهاية الجمل الحوارية مع وجود الفاصلة الشرطية في بداية الجملة! إذ تؤكد الجملة السابقة على وجود أحداث سابقة، علاقة بين نور الراوي ورؤوف، لكن تلك العلاقة كانت غائبة تماما في الفصل السابق، والذي ربما حتمت وجوده أولا في عملية ترتيب تعاقبية؛ بسبب العبارة/ الجملة السابقة، أو ان تلك الجملة كانت نتيجة لذلك الترتيب، في حين كان رؤوف قد بدأ من زمن آخر، ومع شخص آخر منقطعين عن الفصل التالي، فصل نور، فنقرأ في فصل رؤوف: "طوال حياتي كنت أظن ان المصائب والمآسي، أشياء تقع للآخرين، وليس لي، حتّى عرفتُ دنيا"/ ص13، وبتجاوز جماليات البداية من الوسط، أو من النهاية، التي تحققت في مفتتح فصل وحكي نور، فإن تلك البداية كانت محاولة لخلق وشيجة مع الفصل السابق، بواسطة الزمن، ولكن هذه اللعبة ليست مفارِقة زمنية، ولأن العلاقة بين نور ورؤوف لم يحصل أن ذكرها رؤوف في فصله، أو تعمد نور، في عملية تأليفه لهذا الكتاب، أن يغفل عنها في الفصل الأول! اذن هذه اللعبة الزمنية، التي تتعلق بطريقة كتابة الرواية، أو موقع الزمن الحقيقي للقصة في الزمن الكاذب للحكاية، هي ليست مفارقة!

الإستباق:
ليس بمستطاع الإستشراف، وهو الكشف عن أحداث قبل وقوعها، أن يخلق قصة، على الأرجح، وهو أيضا لا يتواتر بالكمّ نفسه الذي يتواتر فيه الإسترجاع! لكنه يمتلك كثيرا من القدرة على التشويق، وهو هنا قد يقوم بوظيفة أخرى، هي واحدة من مباحث هذه الدراسة، فالإستباق في جملة: "أدركت أمرا سيغدو مصيريا، أدركته على شكل سؤال محدد: "لماذا لم أقل شيئا لدنيا؟"/ 22، لا يوضح ما هو الأمر الذي سيغدو مصيريا، لكنه يتنبأ بشيء من ذلك، كما أنه يفترض وجودا قويا آتيا لدنيا، ربما يكون فصلا خاصا بها، تحكي هي فيه، وهو ما لم يتحقق، لكن وقائع الفصلين الآتيين ستوضح ذلك الشيء المصيري في العلاقة بين دنيا ورؤوف، شيء شبيه بحالة وجود دنيا في الرواية، هو: عدم حصول علاقة بينها وبين رؤوف، وكذلك غياب فصلها عن النص! في حين لم يحتج الإستباق في: "لمن أصبح فيما بعد ساقيا في بار مشهور في المدينة"/ ص40، الى كثير من البحث والتقصي، ولا الى فصول أو أبواب أو أشخاص آخرين في النص، وإن تواجد مثل ذلك؛ لأن مسافة صفحتين أو أقل هي الفاصلة بين ذلك الإستشراف والحدث، قصة عمل رؤوف في البار! الاستباقان أعلاه محاولة خلق علاقات نصية، البعيدة منها لم يضعفها بعدها، بل عدم اختلاق طرفها الأجمل، وانعدام أحداث تربط طرفيها، والقريبة لم تحتفظ بعذريتها مدة أطول، لتظلَ سؤالا يبحث عن جوابه.. الإستباقات قادرة على خلق علاقات، ولكن ما تتمخض عنه ليس مختلفا تماما عن ما في النص من ميزات بنائية!!

الإسترجاع:
إحدى أجمل ألعاب السرد، والتي تمتلك مواصفات ستضيف كثيرا من الجمال الى النص لو أُحسنَ استثمارها، فضلا عن قدرتها على صناعة قصة أخرى، ومن خلال ذلك وغيره تستطيع توشيج العلاقات بين أشياء النص: شخوصه وأحداثه غالبا، أو استحداثها، الفقرة: "منذ اللحظة التي ارتمى فيها على المقعد بجانبي في محاضرة القضية الفلسطينية، ....، دون أن أشعر بأي رفض أو تردد"([10])/ ص108، وهي قصة قصيرة جدا، توثق أول لقاء بين نور ورؤوف، يحكيها نور في الباب الرابع من فصله، بعد حكي كثير عن تلك العلاقة، حتى أنها ربما لم تعد تحتاج الى مبرر تذكُّر، فكل حركة استرجاع تحتاج الى محفِّز يستخرجها من مكمنها في الذاكرة، مع وجود المبرر منذ السطر الأول في الفقرة الثانية لهذه الباب، تلك الفقرة إضافات جمالية الى قصة نور، وإكمالات، وإملاء للفراغات التي سيشعر بها المتلقي، لكنها لم تستطع هنا أن تخلق أو توشِّج علاقة بين بعض أشياء النص؛ لأن أبسط أسباب ذلك: إنها حكي شخصية واحدة، وتُحكى في فصل واحد، خاص بشخصية واحدة!! والاسترجاع: "قبل عدة أشهر، عرّفني رؤوف بآرنو"/ ص101، مثل سابقه مواصفات، وأكثر توكيدا؛ لأن رؤوف لم يذكره في فصله، هكذا سيحرم المتلقي – في نص متعدد رواة، كما يفترض- من الخاصية الأهم وهي تعدد الحكي، الذي سيؤدي الى تعدد في وجهات النظر! أما الاسترجاع الواضح، الصريح، من خلال: "تذكرتُ ابنة عمي"/ ص66، الذي سيحتوي على قصة مستقلة - مثله مثل استرجاع نور، في الصفحات (85- 89) - خارج النص زمنيا، ولا علاقة بينهما وبين أي من متغيرات النص، باستثناء الموضوعات، فإنه سيكون إضافة جمالية للنص، لا شك في ذلك، ويقوم بوظائف سردية أخرى، لا سياق يستدعي البحث فيها، ولكنه لن يقيم علاقة، ولا يوشِّج أخرى!

ربما تمتلك الحركات الزمنية الثلاث: الإسترجاع والإستباق والحذف - هنا في هذا النص - مبررات وجودها في متناوبة الحضور والغياب، التي يمكن أن تكون ميزة رئيسة لهذا النص، فاذا كان الحذف - الذي ربما يعني، أو يدل على، عدم وجود أحداث تستحق السرد – عاملا للغياب، لفقدان أو افتقاد العلاقات بين مكونات النص، فإن الإسترجاعات والإستباقات لم تقم بخلق علاقات أيضا، ولم يستطع ذلك التقسيم الى ثلاثة فصول، وإطلاق أسماء أبطالها عليها، فضلا عن نقل أبواب من فصلي رؤوف ونور الى فصل وسام، الذي حكاه الراوي العليم، بعلم لم يتحدد دائما، ذلك كله لم يستطع أن يقدِّم نصا ترتبط أجزاؤه بعلاقات وشيجة، أما غياب دنيا، وغياب (ر. س)، وغياب العلاقة بين رؤوف ونور في حكي رؤوف، وانتقال الحكي الى ضمير الغائب في فصل وسام، تعمل، هنا تحديدا، على إضعاف العلاقات، والى استبعاد إيجاد علاقات سردية بين المكونات؛ مما يؤدي الى صعوبة النظر اليه كنص واحد، حتى وإن احتوته دفتان، إنه أقرب الى ثلاث قصص، ولكن رؤيته رواية، والعتبات المؤرخة كعنوانات، كانا سببا في الإفتقاد الى فهرست للنص.. مع الأخذ بنظر الاعتبار أن الملاحظات السابقة كلها، لا تنزع عن النص ثياب الجمال.

نتائج:

تتضح الإختلافات بين هذا النص وبين النصوص والروايات متعددة الرواة، بعد قراءة مدققة ومتفحصة، لكن المثير للإنتباه في هذا النص، كخصوصية، أنه حاول إيجاد أنساق معينة، أو الالتزام بأنساق روائية معروفة، ولكي يسمى النسق نسقا فإن ديمومته شرط أساسي، لكن الأنساق التي أبدعها هذا النص، أو السابقة التي التزم بها، لم تحافظ على ديمومتها، بقصدٍ أو بعفوية، لذا فإن النسق الأوضح في هذا النص هو: كسر/ الخروج على النسق، أو عدم الاستمرار في صيغة نموذجية لـ (تعدد الرواة)، ربما بسبب عدم الرغبة بالالتزام بالأنساق، أو للتجريب، واختراع نسق جديد.

وفي دراسة([11]) سابقة لي، تنظيرية وتطبيقية على (18) رواية، اتضح أن نموذج الرواية متعددة الرواة لم يكن واحدا، ولم تكن الروايات غير القليلة التي صيغت بذلك الشكل ملتزمة به، لكن قاسما مشتركا يمكن أن يتواجد دائما، وهو موجود هنا أيضا، ولكن في حدوده الدنيا، ربما في محاولة كتابة روائية جديدة، فالمؤلف والرواية متغيران قادران وراغبان دائما في التطوير والتجديد.

وقد يؤكد لنا ما سبق أن نموذج الرواية متعددة الرواة، وهو أحد نماذج الرواية الحداثية، قد يكون أكثرها دقة وحرفية، والتزاما بما لا يلزم! أي إن الرواية متعددة الرواة هي الشكل الأكثر التزاما بالأنساق، والأدق تمثيلا للرواية الحداثية، وهو، مع الأنساق الأخرى، التي ميزت الرواية الحداثية، فضلا عن عوامل أخرى خارجة عن موضوع هذه الدراسة، تسببت في كسر تلك الأنساق، والبحث عن حرية كتابية أوسع، فتلك الانظمة الدقيقة، والأشكال الهندسية، تحدد بعض الطاقات الكتابية، وثمة من المؤلفين من يحتاج الى فضاء أوسع، ومجالات تتيح له حرية الاختيار، وخيارات كثيرة، بعض منها هو ما يتفتق عنه ذهنه الآن! وهو ما تتكفل الرواية به.. اذن لماذا الاستمرار في كتابة نص متعدد رواة؟ بميزاته الدقيقة والمحددة لحرية الكتابة!

الإحالات:

 

([1]) الرجع البعيد، فؤاد التكرلي، دار ابن رشد للطباعة والنشر – بيروت، ط1، 1980.

([2]) ما يمكن أن يطلق عليه (بطولة الغائب)، مثل حالة أو بطولة وليد مسعود لرواية (البحث عن وليد مسعود) لجبرا ابراهيم جبرا، كان يمكن أن يتسبب غياب (ر. س) في الحكي عنها من قبل أصدقائها، ولكنها هنا لا أصدقاء لها، ولا أهل، إنها متجردة عن كل علاقة إلا علاقتها مع وسام، وهي علاقة مختصرة سرديا كثيرا جدا، لم تستطع (ر. س) أن تكون بطلة غائبة، ولم تتطور (جريمة في رام الله) الى رواية متعددة رواة، بسبب: افتقاد العلاقات بين شخوصها، عدم وجود علاقات بين الرواة، وبسبب ذلك، وأيضا: عدم وجود أحداث مشتركة، يؤدي، وأيضا: عدم وجود حكي متكرر عن الأحداث المشتركة، إلا في حالات نادرة مبتسرة، ذلك يؤدي الى إخراج هذه الرواية عن جنس الرواية متعددة الرواة.

([3]) ينظر: تعدد الرواة دراسات سردية في الرواية، محمد رشيد السعيدي، مؤسسة دار الصادق الثقافية، ط1، 2016، ص20.

([4]) م. ن، ص203.

([5]) م. ن، ص 22.

([6]) تراجع الروايات: الصخب والعنف، خمسة أصوات.

([7]) المبرر الذي لا يمكن إغفاله، هو التحقيق الجنائي مع نور، وما ترتب عليه، لكن ذلك مبني على صدفة وقوع الجريمة، بعد لقاء العاشقين قرب المطعم.

([8]) ينظر: الصخب والعنف، وليم فوكنر، ت: جبرا ابراهيم جبرا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت، ط3، 1983.

([9]) ينظر: المبعدون، هشام توفيق الركابي، وزارة الإعلام ـ بغداد، 1977.

([10]) ثمة حالات كثيرة مثل هذه، بل يمكن القول أنها ظاهرة منتشرة في النص، في مثل هذا السياق أو في غيره، وجود أقواس تنصيص في بداية الكلام، وعدم وجودها في نهايته، أحيانا مبرَّرٌ وجودها، وغالبا ليس لوجودها مبرِّر!

([11]) ينظر: تعدد الرواة دراسات سردية في الرواية، م. م.