يرى الناقد المصري أن قصص المجموعة قد غلفتها الرؤية الصوفية، الزاهدة في الدنيا، العاشقة للروح، والباحثة عن الذات، الهاربة من أدران المعيش. والعشق من العناصر الفارضة وجودها في المجموعة بقوة، فهو وثيق الصلة بالرؤية الصوفية، فقد وسم العشق الصوفية، كأحد سبلها وصولا للتوحد مع الذات العلية.

الهروب الصوفي في مشاهد أبو خنيجر

شوقي عبدالحميد يحيى

 

من أهم الحجج التي يُشرعها أنصار ما يسمي بالقصة القصيرة جدا، والتي أسميها ب"القصة بدون قصة"، هو أنها تساير العصر، فلم يعد لدي القارئ أن يقرأ المطولات، فتحولت (القصة) إلي حكمة، او لغز، أو أهزوجة، وباتت خالية من الإشباع، أو المتعة التي هي أحد العناصر الرئيسة في الإبداع.

إلا ان من يستمتع بقراءة أحدث مجموعات المبدع أحمد أبو خنيجر المعنونة "مشاهد عابرة لرجل وحيد" الصادرة عن هيئة قصور الثقافة، سيعلم كيف يتم نسف هذه الحجة من الأساس. حيث لاتتجاوز قصص المجموعة (القسم الأول) بضع سطور، غير أنها تحمل من الشاعرية والشفافية، ما يرسب في أعماق القارئ الإشباع والاستمتاع، ما يجاوز فترة قراءة المجموعة كاملة، وإن كان القارئ لن يستطيع قراءتها علي فترة واحدة، وإنما سيجعل منها جرعة يومية لفترة قد تطول.

حيث صِيغت القصص في عدد محدود من الكلمات، إلا انها تحمل في طياتها الحركة الفاعلة، التي تنشئ حدثا معينا، مصاغا بطريقة مركزة، دون تكثيف مُخِل، وبأريحية تجعل القارئ يقرأ وكأنه يستمع لصديق حميم في جلسة عصاري، فتمنحه الألفة. وعبر سرد خال من الإسراف، بلغة سلسة، تقدم للقارئ واقعة معينة، قد تبدو للوهلة الأولي أنها مشهد عادي، قد لا يثير الانتباه، وهو ما يدفع القارئ للتساؤل والدهشة، فتجبره علي التأمل والتفكير والبحث، وكأننا أمام سؤال يقدمه الكاتب، ويترك الإجابة للقارئ، فينشأ التفاعل. وهو ما يحافظ به أبو خنيجر علي روح القصة القصيرة. دون أن ينزلق في متاهة ما يسمي بالقصة القصيرة جدا.

تبدأ المجموعة بالإهداء {للأيام الطويلة الضائعة} لتعيدنا إلي روايته المبدعة "خور الجمال" الصادرة منذ نحو عشر سنوات، والتي كان أحد عناصر قراءتها (الزمن). فالأيام الطويلة الضائعة، تحمل حسرة وندما، وعدم رضي، وهو ما يدعو لنسيانها، أو لهجرها. وهو ما يعيدنا إلي "خور الجمال" التي خرج بها أبو خنيجر إلي الصحراء، في وقت كانت الرواية المصرية فيه تعج بالصخب والغضب، والرغبة في الثورة (بدايات القرن الجديد) وما أسميناه حينها ب"الهروب الاحتجاجي". وها هو يواصل الهروب، وإن اختلفت وسيلته ودوافعه، في أحدث مجموعاته، ينحتها من واقع البيئة المحلية التي آثر ألا يهجرها، فلم تبخل عليه بفيض من الإبداع الناطق بها، والمدهش المثير للتساؤل: كيف لإنسان يعيش وهج (أسوان)، وخشونة الصعيد، أن يبدع تلك الهمسات الحانية، الحاملة لذات حالمة، فيُمتِع بتلك المشاهد العابرة، وما هي بالعابرة؟.

في نهاية "خور الجمال" أدخلنا أبو خنيجر في حيرة السؤال الداعي للشك، وعدم اليقين. وبتأمل تلك العناصر، التي أفرغها في عمله، ستقودنا إلي الدخول في عالم تلك "المشاهد"، ومعرفة سر ذلك "الرجل الوحيد"، خاصة أنه لم يضع حرف العطف (و) بين الحالتين، وإنما جاء العنوان "مشاهد عابرة لرجل وحيد" لينسب المشاهد لذلك الرجل. ومن هنا نستخلص أن ما يعطيه القسم الثاني "رجل وحيد" هو ما أدي إلي نظرته لتلك المشاهد، وجعلها عابرة. حيث عبرت المشاهد عن رؤي إنسانية دنيوية، وهي في رؤية الصوفي الذي خرج من القسم الثاني واعتبرها "عادية" اي يجب ألا يتوقف المرء عندها. ولذا كان الدخول للمجموعة بداية، هو التعرف علي ذلك الرجل الوحيد – حتي وإن كان قد خص به القسم الثاني من المجموعة، بينما وضع المشاهد في جزئها الأول. وسف نتبين أن تلك العناصر التي أشرنا إليها، هي مضمون الصوفية التي تتمثل في الهروب من دنس الدنيا وأدرانها، والبحث في ملكوت الخالق المعشوق، سعيا وراء الحقيقة وسط دهاليز الشك والحيرة واللايقين. وهو ما نستطيع تبيه في قصة "رجل الحمام" من القسم الثاني، والتي تبدأ «يطير الحمام ويحط ... ولم أكن أتصور أن لهذا علاقة بالزمن، أو السكين». الأمر الذي يثير حفيظتنا، فإذا ما كان من الممكن إيجاد علاقة بين الحمام و السكين.. فماهي العلاقة بين الحمام والزمن؟. لكنه سرعان ما يجيب عن سؤالنا، بما يدخلنا في الحيرة الأوسع {بالنسبة للزمن، لأنه لم يكن يسمح لنا بمراقبته، او حتي التكهن بعلاقته الخفية بالحمام، فبين الطيران والهبوط لم تكن سوي لحظة واحدة قصيرة} فيظل الإلغاز يلفنا حتي يمنحنا الإشارة في{قصيرة بطول حياة تمضي دون أن يدرك صاحبها أنها مضت، أو ولت منه وهو غير منتبه لها} لتتكشف لنا نظرة السارد للحياة التي تفر من بين أيدينا، ونحن عنها غافلون. غافلون في ماذا؟ {يولي انتباهه لأشيائه واحتياجاته الصغيرة التي تستهلكه تماما، فما ينتبه إلا والسكين قد جز رقبته، دون رحمة أو هوادة}. إذن هي تلك النظرة الزاهدة في الحياة الدنيا. ثم يُنشئ أبو خنيجر حوارا مقتضبا، دون أن يحدد طرفيه علي وجه اليقين. وقد نفترض أن أحد طرفيه هو السارد، بينما يظل الطرف الآخر مجهولا، لينفتح علي أفق الإنسان عموما. كما يجيئ السؤال عن رجل، دون أن نعلم أيضا من هو المقصود؟ ولينفتح هو الآخر علي المطلق.. الله :

  • ماذا قال هذا الرجل؟
  • قال: أنا رجل المجاز.

لكنه لم يخبرنا أي مجاز يقصد، أهو الحمام أم السكين، ام الزمن}.

ثم يختم القصة بالتداخل، او التطابق، او التناسخ – الذي عشناه في نهاية "خور الجمال". حيث يلتقي السارد برجل عجوز في الطريق، إلتقاه بلهفة غريبة { وأخذني في حضنه لدرجة أن عكازه سقط علي الأرض..} وقاده إلي مقهي قريب، وأخذ {يذكرني بأيام طفولتنا البعيدة، ولعبنا الشقي، ومطاردتنا للحمام ..... وانتبهت بشكل فاضح للعكاز الذي بيدي، والذي أميل عليه الآن، وأنا أسجل هذه الكلمات}. إذن هو التوحد أو التماهي ، والذي يصل حد الشفافية التي نجدها في آخر قصص المجموعة "مرآة الصباح" والتي تصل بالصوفي حد تلاشي الجسد، مسلحين برؤية الصوفي الذي يؤمن بأن للقلب منطقه كما للعقل. والصوفي يؤمن بقلبه لا بعقله، بروحه لا بجسده، حيث يتلاشي الجسد في "مرآة الصباح" الذي بدأ بإختفاء الرأس، حيث ينظر السارد في مرآة الصباح، فيري جسده بينما لا أثر لرأسه. يذهب للعمل ويعود، فيجد أن الجسد كله لم يعد له وجود – منظور – حيث يخف الوجود المادي للجسد، فيرسمه أبو خنيجر في نهاية القصة :{مررت يدي علي السطح الأملس للمرآة، فبدا لأصابعي كأنه لين أو رخو. ضغطت أصابعي قليلا فوجدتها تنزلق داخلة في المرآة، رغم دهشتي أحسست بيدي تسحبني خلفها لداخل المرآة، قربت وجهي وأنا أحس بخفة في جسدي الذي بدأ ينزلق داخلا المرآ’}. وكأنه في نهاية الرحلة (رحلة المجموعة) كان قد وصل لقمة الإحساس الصوفي .. وصل لخفة الجسد، حد تلاشيه، وكأننا طوال المجموعة كنا في رحلة صوفية متدرجة.

وإذا ما عدنا إلي أولي قصص القسم الثاني (الطويلة نسبيا) "الأبواب السرية المتشابهة" سيضعنا العنوان مباشرة داخل رؤية القصة، البحث والحيرة. ف"الأبواب" "سرية" وهو ما يدعونا للبحث –عن الشفرة - و "متشابهة" وهو ما يضعنا أمام الحيرة والسؤال – تري أيها باب الدخول - ؟. وحيث يجد ساردنا نفسه أمام "شيخه" والذي نري فيه "الخضر" الذي يقود موسي للمعرفة. وقد نري فيه "التاريخ" المعلم والعبرة، يقف أمامه السارد في حيرة، من أي الأبواب يدخل المدينة؟ فيجيبه "شيخه":{ أمامك المدينة بأبوابها المدهشة والمتطابقة، فاذهب إليها وتعرف علي ذاتك}. وليخرج أبو خنيجر في نهاية القصة، من بين السطور ليسأل:{ هل كنت واضحا بما يكفي، أم كان غموضي جارحا؟} وكأنه يطمئن علي قارئه، الذي يجيبه: بل كان غموضك واضحا.

ومن العناصر الفارضة وجودها في المجموعة بقوة، وهو أيضا وثيق الصلة بالرؤية الصوفية، العشق. فقد كان العشق هو ما تُعرف به بعض شخصياتها، مثل ابن الفارض، الذي لُقِب ب"سلطان العاشقين"، وعُرفت رابعة العدوية بعشقها الإلهي، ذلك العشق الذي وسم الصوفية، كأحد سبلها وصولا للتوحد مع الذات العلية، ذلك العشق الذي خلقه "أبو خنيجر" خلقا في " سيدة الأشجار الجميلة" التي أعاد بها أسطورة بجماليون، حيث يري السارد في منامه، تأتيه "حتحور" لتأمره بعمل تمثال لتلك التي بداخله، فيُجسم المحبوبة، وبعد أن سواها { وكانت الشمس علي وشك الإشراق، نظرت مرة أخيرة لما صنعت يدي، راضيا من الشبع، ومليئا بالنشوة}. غير أنه أفاق علي حرارة الشمس، بما يعني ظهور وجود الدنيا كان التمثال {يتسكر أمامي، وتتطاير أجزاؤه وتغمرني بالغبار}. ليظل ذلك العشق، شئ داخلي، داخل الإنسان.. لا يراه .. إلا العاشق. وما يمكن أن يقودنا لفهم أسباب تصور بعض الصوفية للمشاهد، أو الأشخاص، في أماكن بعيدة، أو في أزمنة غير محددة، لذا صنع أبو خنيجر الوسيلة التي يتحرر فيها الإنسان من الزمان والمكان.. الحلم. بل تلك الصنعة، أو ذلك الخلق للعشق هو ما نستطيع تبيه في القسم الأول من المجموعة في قصة "عاشق" حيث ذلك العاشق الذي تعود أن يسعي وراء البنات الصغيرات، في الصباح، محافظا علي مسافة المتر بينه وبين من يغازلها، ومحافظا علي {الجمال والشوق والعشق البرئ} ويهمس كي لا يزعجها – وكأنه يعبر عن تلك الذات الشفافة-. يكرر ذلك كل عصر، متزبنا معطرا، ولتصبح المسافة عشرين مترا، وقبل الغروب ينظر طويلا للنيل، دون أن يعير العابرات أي إلتفاف أو كلمة. فكما نستخرج منها الباحث عن العشق، نستخلص منها أيضا، ذلك اللغز الذي يواجه به الراعي "الجد" في قصة "رجل الحمام" والذي كان يسأل كل ضيوفه عن ذلك الذي يمشي في الصباح علي أربع، وفي الظهيرة يمشي علي إثنين، وعند المغرب، يمشي علي أربع. كما نلاحظ دقة استخدام الكلمات، لتوحي دون إسراف. ففي الصباح تكون المسافة بين العاشق والمعشوقة، مترا، حيث غنداعة الصبا. وفي الظهيرة يتزيا ويتعطر، وتصبح المسافة عشرين مترا. وعند الغروب، يكون الإنسان قد وصل مرحلة الزهد والتأمل، فيطيل النظر للنيل، الذي يعبر عن الجريان، المسافة والزمن. بينما تقل الرغبة أو الشهوة في الأشياء الدنيوية. وهو التعبير الذي يصعد به الكاتب للرؤية الأعلي، ويصبح هروبه لا من شئ محدد، ولكنه الهروب من الدنيا، لما هو أعلي، وليصبح الإبداع، غنسانيا خالصا.

ويسري خط البحث عن العشق، بين ثانايا المجموعة، بقسميها. ذلك العشق الذي لم ينجرف مرة إلي العشق الحسي، وإنما تظل الروح هي التي تبحث عنه، في الحاضر والماضي.

ففي قصة "رجل وحيد يخشي الأحلام" تطارده في المنام، ويخشي الاقتراب، يطلب منها ألا تأتيه في الأحلام {لكن بسمة عينيها البهيتين قالتا: لأ} ورغم أنه بدونه (العشق) يعاني الضجر والكآبة يمرحان في روحه، لذا أصبح رجلا {يخشي الأحلام كما يخشي الحياة}، رغم ان أغنية النبع هي ما ينبعث منها – المعشوقة -.

فإذا ما عدنا إلي قصة "صوت" من القسم الأول، سنتعرف علي ذلك الذي يجلس في العربة حييا، لا ينظر للنساء، غير أن صوتا نسائيا يأتيه، تغيم ملامحها، وفي لحظة يتبين أن الجالسة قبالته هي التلميذة التي حفرت في كفه حفرة حين لامس نهدها كفه عفوا، حينما كانا بالمدرسة الإعدادية. ولا زال الحفر بيده. فالعشق، وإن بدا هنا حسيا، إلا أن الشخص الحيي، الذي يابي النظر إلي الجالسات، ولا يتلصص عليهن، أو يلامسهن، يحيل العشق إلي الروح، إلي الذكري، والزمن في ذات الآن. وهو ما يكشفه في ذلك العشق الآتي من غور بعيد أيضا. يأتي العشق لتلك الجالسة علي عتبة بيتها في قصة " دعاء" لتنتظر ذلك العاشق القديم الذي يمر كل يوم، وبينما هي منهمكة في أدعيتها متجهة ببصرها للسماء{يحط علي العاشق القديم الذي اصبح أمامها، يلقي التحية دون أن يتوقف مواصلا سيره المنهك نحو بيته، نرد التحية ببسمة يشع لها وجهها، تتابعه بعينيها قبل أن تسحب رجلها من الشارع .... قبل أن تدخل وترد الباب خلفها}.

وهو نفس العشق القادم، أيضا، من زمن بعيد، ذلك الذي يعانيه راكب العربة بجوار السارد في قصة "غروب" حينما استقرت يد السائق العابثة بمؤشر الراديو علي "احبابنا يا عين".. لتفجر الحنين في الجميع، ويرطب الجوب{نسائم خريفية مشبعة بطراوة شتاء قادم تنعش صدورنا}. حتي لم يستطع الجار عن التحكم في مشاعره التي اثارها وقع الأغنية فراحت { دمعات تنزل من عينيه وهو يخبط راسه خبطات خفيفة في المقعد} حين وصل الغناء إلي " رحنا وراحوا عنا". بينما العربة منطلقة نحو الغروب. وكأنها عربة الزمن الذي يمضي بأعمارنا، فنغادر العشق الذي كان يوما ما. لذا، كان السفر أحد معالم المجموعة، حتي لو إختلفت وسيلته، فمرة العربة، ومرة معدية الريس عبده التي تقل كلا من الخالة نفيسة والعم حسان في قصة "في انتظار الريح" بصحبة السارد، والذي يبدو أنه الشاب بينهما، بينما كان قطار الزمن قد سار بهم لمسافات بعيدة. ولكـنه يعبر بهم إلي البر الغربي، بينما روح كل منهم معلقة بأمل غاب، ولازالوا في انتظاره. وهو ما يقودنا أيضا إلي عنصر آخر تواجد بالمجموعة، وهو الزمن، والذي يلعب دورا رئيسا في حياة الصوفي، الذي يتلاشي الزمن لديه، فنراه يعيش مع أناس قد رحلوا من سنوات بعيدة، غير أنه يراهم، ويتعايش معهم. وهو ما فعله أبو خنيجر في قصة "غداء مع الجد" حيث يدخل السارد مَطْعَما، وهو جائع، وما ان يوضع أمامه الطعام، حتي يدخل رجل مسن، يشعر السارد أنه يعرفه، ليتأكد بعد ذلك بأنه جده، الذي يضع النادل أمامه الطعام، دون كلمة أو إشارة، وكانه معتاد عليه، يتوقف السارد عن الطعام، ويطلب الحساب، علي أن يضم النادل عليه حساب طعام الجد، في انتظار أن ينظر إليه ولو نظرة، غير أنه يخرج دون أن يحصل من جده ولو بنظرة، او كلمة. وهو ما يقودنا، إلي تصور الصوفي لرؤية أشخاص، ويحس وجودهم المادي، بينما لا يراهم غيره.

فإذا ما عدنا لتأمل مجموعة قصص القسم الأول، بعناوينه المقتصرة علي كلمة واحدة "المشاهد" فسنجد أنها لاتبتعد كثيرا عن مجموعة قصص القسم الثاني، حيث تنبع من ذات الرؤية الصوفية في أغلبها، والتي تري في الحياة، لحظات عابرة وتمر مرا سريعا، دون أن تترك اثرا. ففي قصة "في المقهي"، حيث المقهي، ملتقي تجمع، يتقابل فيه الناس ويعيشون بعضا من وقت مع الأصدقاء أو الرفقاء، او لإنهاء عمل ما أو صفقة ما، فكأنها ملتقي الحياة، وعندما يغيب شخص عنها، كان قد تعود المجئ، فلابد أن ذلك يعني أنه (ذهب) وكأننا في ساحة الحياة.

ففي قصة "المقهي" نتعرف علي شخص غير معروف للسارد، يأتيه في المقهي، ويجلس لجواره، بين دهشة واستغراب السارد، الذي يقع في الحيرة. وفي النهاية يخبره بأنه كان يعرفه، عندما كان صغيرا، وليخبره في النهاية { عمتك، الله يرحمها، مربياني، إنت يمكن ما تفتكرنيش، انا كنت صغير لما إنت كنت بتجي عندها}. وينفتح التأويل والتنقيب حول تلك الزيارة الغريبة، ولتنفتح النهاية علي عالم مر دون أن يترك أثرا، وكأنه لم يكن.

وفي قصة "في المقهي2" تَعَودَ شخص ما، أن يأتي إلي المقهي، يجلس مع أحدهم، يمسك مبسم الشيشة، ويخرج الدخان وهو يدور في أرجاء المقهي. ثم يأتي في يوم، يجلس علي نفس كرسيه، يأتيه النادل بالشيشة، فلا يقربها، يظل صامتا لا يكلم أحدا، ثم يمضي، ولا يعود بعدها، وكأن شيئا لم يكن.

فإذا كانت قصص المجموعة قد غلفتها الرؤية الصوفية، الزاهدة في الدنيا، العاشقة للروح، والباحثة عن الذات، الهاربة من أدران المعيش، فإن أبو خنيجر يظل في حالة هروب، غير أن الهروب هنا ليس إحتجاجيا، وإنما يمكن أن نسميه " الهروب الصوفي". وربما كان ذلك الذي أثر معه أن يظل بعيدا عن المركز بالعاصمة، وفضل أن يعايش الطبيعة والتاريخ في أسوان، التي منحته الفرصة ليُخرجَ.. ذلك الإبداع المُدهش.

 

Em:shyehia48@gmail.com