يكشف الناقد المغربي في قراءته لرواية أمير تاج السر عن تحولات مصائر شخصية الراوية الأساسية للرواية في زمن يبدو من ناحية وكأنه زمن بعيد، زمن الثورة المهدية وفظائعها في السودان، ومن ناحية أخرى وكأنه زمننا الحاضر الملطخ بالدم والقمع والدمار. زمن السبايا والعنف الديني والعصف بالعقل والمستقبل معا.

الذئب والحمل

قراءة في رواية «زهور تأكلها النار» لأمير تاج السر

ميلود بنباقي

 

«زهور تأكلها النار»، (دار الساقي 2016) للكاتب أمير تاج السر، واحدة من الروايات الست المرشحة لنيل الجائزة العالمية للرواية العربية، 2018. ولعل أول ما يثير انتباه قارئ هذه الرواية، قبل تقليب صفحاتها، هو عنوانها الصادم. فالزهور، تلك الكائنات الأكثر جمالا في الكون، الأكثر رقة، ملهمة العشاق والحالمين، تجد نفسها ضحية صراع غاشم وغير متكافئ ولا نظيف بالمرة. لطالما اقترنت الزهور في أذهان البشر في كل الأزمنة والعصور، وفي كل بقعة من هذا الكوكب الأرضي، بعطرها الفواح، وبالنسيم العليل يداعب وريقاتها، وأشعة الشمس الحانية وهي تسمد ألوانها، ورحيقها العذب الذي يستهوي الفراشات، وقطرات الندى التي تحط "فوقها إكليلا" مع مطلع الفجر. لكنها في هذه الرواية تصبح موضوعا وضحية لعنصر من عناصر الطبيعة، لا يضاهيه في جبروته وقوة تدميره سوى الماء الجارف، والرياح العاتية، والكوارث الطبيعية الكبرى.

وفي إشارة إلى هذه المفارقة المستفزة، تقول بطلة الرواية إن الحرب التي اندلعت بشراسة في مدينة "السور"، لم تكن حربا بين طرفين متكافئين، بل "كانت التهاما شرسا بأسنان همجية، لحملان كانت ترعى في برية مزدهرة". وبهذا المعنى، يكون عنوان الرواية دعوة صريحة لذوي "القلوب المرهفة"، والأطفال دون سن الرشد، ولكل من لا يملك واقيا من الصدمات والهزات، بعدم القراءة، تجنبا لمضاعفات خطرة قد تصل حد الموت اختناقا بغصة الويلات والفظاعات. ويُعتبر العنوان بالنسبة للذين لا يعانون من موانع القراءة الجارحة تلك، تهييئا قبليا، وإعدادا ذهنيا ونفسيا قبل الخوض في أوحال الحرب ومياهها الآسنة القذرة.

بعد عتبة العنوان، ثم الصورة على ظهر الغلاف، وجملة الأسئلة الكثيرة جدا، تواجهنا الرواية بعتبة أخرى تعتبر ذريعة لكتابة الرواية. يقر الكاتب في هذه العتبة، بأنه كتب نصه الروائي، جوابا عن سؤال طرحته عليه قارئة اسمها: "سارة.ع"، تساءلت فيه عن وضعية المرأة السبية والجارية، في رواية سابقة له، هي رواية "توترات القبطي". فهل معنى هذا، أن "زهور تأكلها النار"، كُتبت تحت الطلب؟ قطعا لا. لأن القارئ-المتلقي، وإن كان يملك سلطة على الكاتب، على اعتبار أن القارئ هو من يمنح للنص الإبداعي حياته ووجوده بعد الانتهاء من صرخة الولادة، فإنما هي سلطة معنوية، لا تشبه السلطة بمفهومها القهري. السلطة التي تضع السيف فوق عنق الكاتب، أو توجه فوهة المسدس نحو رأسه مقرونا بأمر الكتابة. كما لا تشبه سلطة المال والامتيازات والإغراءات المختلفة.

تتألف الرواية من أربعة فصول، تحمل عناوين دالة، ترسم المنحى التسلسلي الذي اتخذته المأساة. ينفتح الفصل الأول على شغف الحياة، وحديث الحب والقلوب، والتعايش الطائفي والديني، قبل أن يهبط الليل في الفصل الثاني، ليل وارف الظلام يوفر ستارا للفجائع وبيئة مناسبة لها. ثم تندلع النار في الفصل الثالث، وتزداد ضراوة وتأججا في الفصل الرابع. تتكفل بمهمة السرد، واحدة من شخصيات الرواية، هي شخصية البطلة خميلة جماري. الشابة ذات العشرين ربيعا، وحيدة أمها وأبيها تاجر الذرة وجامع الثروات، العائدة من مصر بزاد معرفي في علم الجمال. جمال الحياة قبل أن تندلق فوقها قاذورات التطرف، ونفايات الفكر الظلامي وتفاهاته، فينقلب الجمال إلى قبح مقزز يرتسم فوق الوجوه والحيطان.

خميلة القبطية، كانت مقبلة على الزواج من شاب من نفس عقيدتها، هو ميخائيل رجائي. وفي الوقت الذي كانا يخططان فيه لتفاصيل الزفاف، ويضعان جزئيات الحفلة، ويحلمان بطفلة قادمة، يسميانها مريا، وطفل يسميانه جماري، في هذا الوقت توقف الأمل وأجهِض الحلم، وتوقف الزمن أيضا وعاد قرونا إلى الوراء. حوصرت المدينة، وانتهكها أنصار "المتقي"، الثوار من غير ثورة، فألغيت بجرة عنف أعمى، أفراح كثيرة ومسرات، ضمنها زواج خميلة ورجائي.

"زهور تأكلها النار"، وكما ورد في مستهلها، هي رواية الأسئلة الكثيرة. الأسئلة المصيرية، الأسئلة الكبرى. أسئلة الحياة والموت، الأمل واليأس، والعنف والتطرف. بدأت الأسئلة تتقاطر على الشابة خميلة وهي مكدسة مع غيرها، في سرداب- ملجأ ساحة المجد قبيل الغزو. تقاسمتها مع المذهولين والخائفين مثلها. دارت في أذهانهم، وجرت على ألسنتهم، أسئلة الدم والسحل والخراب ونهاية الحياة الهادئة. وبعد ذلك، طُرح السؤال الكبير عن هوية "المتقي" زعيم الثورة المفترى عليها. هل هو حقيقة أم محض خيال؟ هل يملك أفكارا متطرفة فعلا، أم هو رجل صالح حرّف الناس دعوته، وأخرجوها عن سكتها، من فكرة صالحة، إلى فكرة شيطان؟ هل التطرف في حاجة إلى زعيم يؤلب الناس، أم هو فكرة يحملها البعض في أذهانهم، وبالتالي تتوجب محاربة الفكر الذي أنجبه، بدل محاربة أشخاص معينين؟

بعد الغزو، تحولت خميلة من شابة تحب الحياة، وتحلم بطفل وطفلة، شابة درست علم الجمال، وتستعد للاحتفال بزفافها في قاعة أفراح أرستقراطية، إلى سبية كافرة، شدتها يد قوية، وقادتها إلى بيت- معتقل ليتم "تطهيرها" وإعدادها وجبة شهية لأنياب شبقية ونزوات حيوانية هي غاية "الثورة" ومنتهاها. فقدت خميلة اسمها الذي حملته عشرين سنة، ومُنحت اسما فُصِّل على مقاس أفكار مرضية. من خميلة إلى النعناعة. هكذا، ودفعة واحدة، من اسم هادئ، وارف الظلال والخضرة، إلى اسم يذكِّر نطقه بقعقعة السلاح وصلصلة السلاسل وضحالة الفكر والذوق. وبانتقالها من اسم إلى اسم، انتقلت من هوية إلى هوية مغايرة.

لم يكن للسبايا مصير غير إرضاء نزوات كبيرة ومتوحشة، في المدينة المستباحة وخارجها، تحت ذريعة زواج قصير المدة أو بدون ذريعة، بالنسبة لمن اكتملت "طهارتهن". أما الأخريات، اللائي لم يتطهرن من الكفر والدنس، فـ"أخِذن كجواري تافهات، بلا مهور ولا كرامة، تم إدراجهن في الخدمة الشاقة لأيام، وأعدن للبيت من جديد، ليحكين بهمس أيضا". "ماريكار" التي تحول اسمهما إلى "مسبحة"، طُلِبت لأحد الأمراء، فرفضت، فكان مصيرها الجلد بسادية وقسوة. "رقية" التي أصبحت "طائعة"، حاولت الهرب، فلم تنجح. ألقوا القبض عليها، وحملوها إلى ساحة المجد، أو ما كان ساحة المجد، ردموها في حفرة وجزوا عنقها بضربة سيف متعطش للدم، أمام أنظار سبايا مذعورات حملوهن إلى الساحة ليتفرجن على المأساة. "ماريكار" وقعت بين أيدي "سامع خجيري" زاعما أنه سيحملها إلى أحد الأمراء، فأخذها لنفسه. اغتصبها في خرابة ثم قتلها وألقى جثتها في بئر. "أمبيكا بسواس" البوذية الحامل، ربما كانت أفضل حالا، لأن زوجها حررها متنكرا في هيئة "واسطة خير" جاء يطلبها لأحد الأمراء، مستغلا غباء "الثوار".

ثم جاء الدور على خميلة "السبية الفاخرة"، التي ستُزف إلى "إمام المتقين". حملوها على ظهر حمار، إلى بيت- وكر من أوكار المتعة، لم يكن (أمام دهشتها) سوى بيتهم في حي كاهير، وقد صار "حطام بيت". في هذا البيت ستحلم خميلة. تحلم بالحرية، وباستعادة اسمها. "خميلة يا لولو، خميلة يا لولو". لم يكن حلما كاذبا، ولا أضغاث أحلام. جاء الخصي "الغازي- لول" متنكرا على هيئة خصي آخر اسمه "أصيل"، وهي ما تزال على فراش غيبوبة أخرجتها من دائرة الوعي. جاء ليفي بوعد سبق أن وعدها به، وعد الحرية. وجدت نفسها، مع "الغازي لولو"، على ظهر ناقة، توغلت بهما في الصحراء، بعيدا عن المدينة. لكن إلى أين؟ أي مصير لقيته وهي تتجاوز أسوار "السور"؟ سؤال تقف الرواية-الحلم، عند حافته تاركة مصير خميلة مفتوحا على كل الاحتمالات.

يتداخل الحلم مع الواقع، فيصبح تحرير البطلة حلما كأنه الواقع، أو واقعا كأنه الحلم. تجري أحداث الرواية في مدينة، اسمها "السور". يتعايش فيها المسلم مع القبطي واليهودي والبوذي. مجتمع السور- المدينة- الوطن، متعدد الطوائف والهويات. تقول البطلة إن السور كانت "وطنا يضم فئات المجتمع، وطوائفه كلها". ما نعرفه عن السور هو أنها تقع في غرب البلاد، وهي ليست مدينة كبيرة ومعقدة. لكن هذا الوصف، لا يزيل الغموض عن المكان الذي تجري فيه أحداث الرواية. ومن ثمة، فإن القارئ يسعى إلى التقاط الإشارات الدالة على هذا المكان الحاضن للأحداث، الذي يشكل "جغرافية " الرواية، والذي تأخذ منه البطلة خصوصياتها الثقافية والاجتماعية والنفسية. بالطبع هو مكان متخيل، حتى لو انطبقت أوصافه وملامحه على مكان حقيقي. لأنه مكان تصنعه اللغة لأغراض التخيل الروائي.

السور، مدينة في دولة مستبدة، تفرض رسوما وضرائب على الأنشطة التي يزاولها السكان، بما فيها رعي الغنم، وبما فيها حرف بسيطة لا تدر دخلا كثيرا، مثل بيع الطحين من قبل نساء بئيسات يبحثن عن سد الرمق. والسور مكان تعبره القوافل التجارية التي تصل السور بمصر، والسور وعاصمة البلاد البعيدة، ودول إفريقيا السوداء.

وأما زمن الرواية، فهو (ظاهريا)، زمن القوافل التجارية، والتنقل على ظهور الجياد، والعربات التي تجرها الدواب، في أحياء المدينة. زمن السلب والنهب والغارات التي تستهدف مخازن المواد الغذائية. زمن الأتراك الذين كانوا يحكمون المدن، زمن "البك" والقائمقام. زمن السيوف والحراب والنبال. زمن حكومة مركزية يرأسها لورد إنجليزي. لكن قارئ الرواية، لا تنطلي عليه حيّل الساردة أو حيل الكاتب، أو هما معا، عندما يحاولان إيهامه بأن مكان أحداث الرواية وزمانها، يدخلان في عداد التاريخ. لأن القارئ في النهاية، سيكتشف أن السور هي هذه الأمكنة الملطخة بالخزي والدم والدمار. الأمكنة التي تعج بها شاشات التلفزيون وصفحات الجرائد، وعيون اليتامى والأرامل والنازحين والمشردين والمعطوبين. وأن زمن الرواية، هو في النهاية، زمن الحرب. عندما تدفق القتلة إلى وسط مدينة السور، وبدأ الدمار، "بدأنا نتحسس زماننا، وخطوات المعنى في أدمغتنا المعطوبة. كان كل شيء قد انتهى، بمعنى أن كل شيء قديم مزهر، قد يبس، وثمة شيء جديد، غالبا ما يكون خرابا شاملا، قد ابتدأ". هكذا تحدد الرواية زمنها.